شيكسبير في عصره، وفي كل عصر

لطالما سنحت لي المناسبات — في مجال القول وفي مجال الكتابة — أن أعرض فكرةً أعتقد في صوابها، وهي أن الشرق العربي في مرحلته الوجدانية الراهنة، قد يجد في عصر النهضة الأوروبية — عصر شيكسبير — من قوة الإيحاء ما لا يجده في أي عصر آخر، قديم أو حديث، لما بين الموقفين من تشابُه شديد، فكلاهما قد جاء في أعقاب عصور فكرية وسطى، وعلى عتبة عصر علمي جديد، وكلاهما قد جاء والإنسان ينعم بإحساس من فُكَّت عنه الأغلال التي كانت تقيِّد خطاه، وكلاهما قد جاء في مرحلة من الإقدام والتطلع إلى المستقبل في ثقة ورجاء، وكلاهما جاء وأدوات المعرفة ونشرها في سواد الناس قد تهيأت أسبابُها، فهناك ظهرت المطبعة لأول مرة، وراح رجال الفكر يطبعون ويطبعون وينشرون وينشرون، وهنا مضت عزيمتنا لأول مرة أن نزيل عن أنفسنا الأمية الثقافية، فطفقنا نطبع ونطبع ثم ننشر وننشر، وهناك عصرٌ صادفَتْه كشوفٌ جغرافية جعلت تجوب له الأرض والبحر لتكشف عن المجهول، فاهتزَّ الإنسان بهذا الجديد كلِّه اهتزاز الفرحة النشوانة، وهنا عصرٌ دقَّ أبوابَ الفضاء الفسيح وفتَحَ النوافذَ على مصاريعها ليندفع الهواء النقي المنعِش من كل جانب، بعد أن غُلِّقت تلك الأبواب والنوافذ طوال قرون سادتها وسوَّدتها جهالةٌ كثيفة الظلمات.

ولئن كان هذا الرأي الذي يرى الشبهَ شديدًا بين عصرنا هنا وعصر النهضة الأوروبية هناك، صادقًا على إطلاقه وعمومه، فهو — إذن — أشدُّ صدقًا حين نخصِّصه لشاعر أرادته الأيام ليكون ترجمان عصره — عصر النهضة ذاك — وكل عصر جاء بعد ذلك أو يجيء؛ لأنه شاعر رسالته «الإنسان» كائنًا من كان.

كان عصر النهضة الأوروبية انطلاقةً جارفة من قيود كانت تقيِّد الفكر وتغلُّ السلوك؛ إذ لم يكن أمام مفكر العصور الوسطى إلا أن ينكبَّ على نصوص مكتوبة أورثها إياه مَن سبقوه، وكلُّ همِّه أن يفسر ويستنبط ويوفِّق بين قول هنا وقول هناك؛ ولذلك كان بمستطاعه أن يؤديَ مهمته الفكرية هذه، وهو بين جدران دير أو صومعة؛ إذ ماذا تُجديه الشمس الطالعة على المروج الخضر في توليده «كلامًا» من «كلام»؟ إن كلَّ عُدَّته صفحة ينشرها من كتاب، وقنديل إلى جانبه يضيء، وأمَّا الطبيعة التي تعجُّ من حوله بظواهرها، فقد أغمض عنها العين وصمَّ الأذن، حتى تركها تمضي تحت أنفه وهو لا يشعر.

فماذا يُخرج الناس من ذلك الحبس العقلي إلا ثورة فكرية تُخرجهم من ذلك المأزق المسدود، ولقد جاءت تلك الثورة على أيدي جماعة تحدَّت العلم الأرسطي الذي كانت له السيادة تحدِّيًا صريحًا، ونادت نداءً مدوِّيًا تدعو به إلى علم جديد يُقام على مشاهدات موثوق بها وتجارب، وتقسَّمت فيما بينها جوانب العمل، فهؤلاء هم زمرة العلماء: جاليليو، وكوبرنيق، وكبلر، ونيوتن — على تفرُّقهم زمانًا ومكانًا — يجوبون السماء وآفاقها، وهذان فرانسس بيكون في إنجلترا ورينيه ديكارت في فرنسا، يُمنهجان طريق السير العقلي بمنهج جديد، وهؤلاء هم جماعة «الإنسانيين» تنشط في نشر دعوتها أن يكون الإنسان وحياته في هذه الدنيا وعلى هذه الأرض مدار الاهتمام، فلمن — غير الإنسان — خُلقت الدنيا ومتعتُها، وخُلق الفكر وحريته؟ لماذا نُولَع بتحريم الحرام أكثر مما نُولَع بالنعمة الحلال؟ أليس من حق الناس أن يعيشوا لدنياهم كما يعيشون لآخرتهم على توازن وسواء؟ «على توازن وسواء» … ولكن ما أيسر القول وما أشقَّ العمل! ففي هذه العبارة الموجزة يكمن المثل الأعلى كما تصورته النهضة الأوروبية، ولكن فيها كذلك يكمن عجز الإنسان عن تحقيق مثلِه الأعلى، فأنَّى له الحكمة التي توازن وتسوي؟ لقد انجرف في عصور النسك والزهد نحو آخرته بكل قواه حتى أفلتت دنياه، فلما فُكَّت عنه القيود، لم يعرف لنفسه وسطًا، بل ترك حبل الدابة على غاربها، فاندفعت نحو الحياة الدنيا تعبُّ من أمواجها المتلاطمة ما يُشبع الغرائز، حتى ذهبت صرخات الضمير في جوفه أدراج الرياح، وها هنا جاءت رسالة الشاعر العظيم — وليم شيكسبير — أن يصبَّ الأضواء على عناصر هذه النفس الجموح، فجاءت هي الرسالة التي يقرؤها كلُّ إنسان في كل مكان وزمان.

رسالة شيكسبير — في عصره وفي كل عصر — هي تحليل هذا التعارض العجيب الذي كأنه هو لازمة من لوازم النفس البشرية، بين دواعي النجاح العملي من جهة ومقتضيات الأخلاق من جهة أخرى. إن هذه الأزمة الإنسانية قد بلغت حدَّها في عصر النهضة، وكنت أودُّ ألا أقول إنها كذلك قد بلغت ذلك الحد في عصرنا، وهي أن يتجاذبَنا القطبان: فمناشط الدنيا من ناحية، وقواعد الأخلاق من ناحية أخرى، فلا نستطيع أن نعادل بينهما على توازن وسواء، بل نندفع إمَّا إلى تطرُّفٍ هنا وإمَّا إلى تطرُّفٍ هناك. وإنه ليجوز لك أن تُسمِّيَ هذا التصارع بين القطبَين بأسماء عدة، لكنها في آخر التحليل مترادفة المعاني. فسمِّه إن شئت: صراعًا بين الفرد والمجتمع، أو سمِّه صراعًا بين الغريزة والحكمة، أو سمِّه صراعًا بين القومية والعالمية، فهذه كلُّها تسميات تعني في حقيقة الأمر شيئًا واحدًا، هو ما جعله شاعرُنا موضوعَ رسالته الكبرى. ونسوق فيما يلي أمثلة توضح ما نريد.

•••

وأول مثلٍ نسوقه لهذا الصراع في نفس الإنسان بين ما يرغب فيه بشهوة وغريزة، وبين ما كان ينبغي له أن يكون بحكم الأخلاق المثلى؛ ثلاثية مسرحية يحسن النظرُ إليها جملة واحدة لما في أحداثها من تعاقب يربط لاحقَها بسابقها، وتلك هي مسرحيتَا «هنري الرابع» الجزء الأول والجزء الثاني، ثم مسرحية «هنري الخامس». ففي هنري الرابع نرى هذا الملك وقد تربَّع على العرش بعد اغتصابه من سلفه رتشارد الثاني، ثم اغتياله تجبُّرًا وعسفًا، فهل استراح له ضميرٌ بعد أن حقَّق هذا النجاح العملي الذي حقَّقه؟ كلَّا، ألم يكن النبلاء هم الذين عاونوه؟ فماذا لو استعانهم عليه سواه فأعانوا؟ إذن فلا بد من سعي جديد يجتثُّ به هذا الشر قبل أن ينقضَّ عليه، وسرعان ما اهتدى إلى خطة ظنَّ فيها الخلاص بكل معانيه؛ الخلاص من هؤلاء النبلاء الذين هم مصدر الخطر، والخلاص من تأنيب ضميره على ما اقترفته يداه ظلمًا في ملك بريء كان كل عيبه هو أن له طبيعةَ الشاعر الحالم لا طبيعة السياسيِّ اليقظان، وتلك الخطة المزدوجة الهدف، هي أن يدعوَ نبلاءَه للمشاركة في حرب صليبية إلى بيت المقدس، ولو تحققت الخطة لكان له منها ربحان: عرش مستقر في الداخل، وشرف الجهاد الديني في الخارج، وبهذا يخلص جسدًا وروحًا، لكن أكانت جريمة هنري الرابع لتذهب هكذا بغير قصاص؟ كلَّا، فلا بد للفعل أن تنموَ شجرته وتورق وتُثمر ثمرة من جنسه؛ ولذلك لم يكد يهمُّ بتنفيذ خطته حتى أسرعت إليه أنباء فوادح من ويلز عن حركة عصيان من النبلاء الذين ما عاونوه إلا ليخدموا مصالحهم، أما أن يستغلَّهم ثم يحاول أن يفرض عليهم سلطانه، فذلك ما لم يرضوه لأنفسهم، وأطبقت الرزايا على الملك الذي حسب أنه قد أفلت من حكم الضمير بعرش مغتصب، فراح يتمنَّى لنفسه الخلاص، نادمًا على الذي كان متمنِّيًا أن لم يكن، فاسمع إليه — وهو في ذلة المحسور — يقول: «آه يا رباه، لو أتيح للإنسان أن يُطالع كتاب القدر، ليرى صروف الدهر وهي تهدُّ الجبال هدًّا، وتلزم يابس الأرض أن يُذيب نفسه في ماء البحر كأنما ملَّت الأرض صلابة صخرها، وتجعل البحر يطغى على حوافيه كأنما إله البحر لم يكفِه البحر العريض ليستقرَّ مطمئنًّا على رَدْفَيه! آه لو طالع الإنسان كتابَ القدر ليشهد الحوادث العوابر كيف تَدهمه وتسخر، وتصاريف العيش كيف تترع له الكأس علقمًا بعد علقم، ألا إن أملأ الشباب بوثبة المرح، لو أتيح له وهو بعدُ في سنِّ الشباب أن يُطالع كتاب القدر، ليرى على تعاقب صفحاته إلى أين يكون المصير، أيُّ الرزايا يفاجئه وأي المخاطر يخوض، إذن لأغلق الكتاب، وجلس حيث هو ليموت …» تلك إذن هي عبرة الإنسان في عراكه، حين ينحاز إلى طرف من طرفَي الحياة السوية دون طرف، فيعميه النجاح في ميدان العمل والسياسة، عن مراعاة الضمير وأحكامه.

أتكون السياسة والأخلاق ضدَّين لا يجتمعان في نفس واحدة، فإمَّا هذا وإمَّا تلك؟ لعل ذلك هو ما أراد شيكسبير أن يوضِّحه بمسرحيته الثالثة، وهي «هنري الخامس»؛ فقد صارح هذا الرجل نفسه منذ اعتلائه العرش أنه لا مندوحة له عن التفرقة الحاسمة بين الجانبين، فإذا أراد لنفسه سياسة ناجحة، فلا أخلاق ولا ضمير، وإذا آثر الأخلاق والضمير فلا سياسة. إن الأخلاق المرعية تقتضيه ألا يقف ضد أبيه، ولكن هل يمضي في أداء هذا الواجب البنويِّ إلى آخر شوطه؟ كلَّا، بل إلى النقطة التي لا تعارضَ عندها بين حق الوالد وحق الولد الطموح، وإنه لطامح، فلماذا يكذب على نفسه وما هو إلا إنسان من الناس، يشمُّ البنفسجة كما يشمُّها سائرُ الناس، وتتحدد حواسُّه بما يحدُّ الحواس عند سائر الناس، إنه إذا كان ملكًا فبالوشاح الذي يرتديه، فانزع عنه الوشاح وانضُ عنه الثياب يظهرْ لك في عريه واحدًا مثل كافة الآحاد، وإذا رأيته ذا جناحين يُحلِّق بهما في الأجواء العالية، فبنفس الجناحين يهوي إلى أسفل القاع، وإذن فالناس ملوك ورعايا على السطح وفوق القشرة، وأما ما دون السطح من أغوار وما تحت القشرة من لُباب، فالناس هم الناس ملوكًا كانوا أم رعايا.

وتلك هي المأساة، وتلك هي أزمة النفس البشرية حين تقع صريعةً طريحة بين وهدة الواقع كما يقع، وبين ذروة المثل الأعلى كما يراود الأحلام. ولقد تعمَّد شاعرنا العظيم أن يُدخل في المسرحية الثلاثية شخصية مازحة في جدٍّ وجادة في مزاح، هي شخصية فولستاف، ليقف عند شاطئ هذه المأساة البشرية متفرجًا، كي يُتاحَ له أن ينقد وأن يطعن، كما تهديه فطرةُ النفس السليمة، يرى أصحاب الجاه يملؤهم الزهو فيهزأ، ويسمعهم يتشدقون بكلمة «الشرف» فيسخر من هذا النفاق، يقولونها كلمة جوفاء، فتحفز لهم الأتباع السذَّج، على التضحية بأنفسهم، من أجل مطامع هؤلاء المنافقين. ولقد كان فولستاف يقول هذا وهو شاب في الجزء الأول من مسرحية هنري الرابع، حتى إذا ما تقدمت به السنُّ في الجزء الثاني، وعرك الدهر وعركه الدهر، راح يقول القول نفسه ولكن بعد إضافة أضافتها خبرة السنين، فقد كان وهو شاب يحسب أن في وسع المزيفين ألا يزيفوا، فأصبح في كهولته يرى الزيف جزءًا من طبيعة الإنسان. إن الهُوَّة بين السياسة والأخلاق أخذت تتسع أمام عينيه، حتى بلغت مداها في ثالثة الثالوث، «هنري الخامس» حين تنكَّر هذا الملك لصفيِّه فولستاف، خشيةَ أن تفسد النظرة الساخرة من هذا، أحكام التدبير في ذاك، فطرده من ساحته قائلًا له في غير حياء ولا خجل: «لست أعرفك أيها العجوز.» «لا تحسبنَّ أني اليوم ما كنته بالأمس.» واختفى فولستاف ليُغيَّب وشيكًا في ظلمة السجن، وبخروجه خرج من مسرح الحوادث صوت الضمير الإنساني ليخلوَ الجو كلُّه للكفاح السياسي الذي يستهدف النجاح العملي في الحكم وفي الحرب، غير مقيد بهذا الوسواس، وسواس الفضيلة والشرف.

ونسوق مثلًا آخر أرفع وأروع لأزمة الإنسان، كما رآها شيكسبير في عصره، وكما ألقى عليها الضوء لكل العصور، وأعني مسرحية «الملك لير».

إن مظاهر السلوك خادعة، فهل ثمة مفرٌّ من هذا الخداع؟ إن باطن الإنسان وظاهره متناقضان، ألا يكون أمامنا طريقٌ للنجاة من هذا التناقض؟ إنَّا نعيش في عالم تستبدُّ به صروفُ الدهر استبدادًا يمسكنا من رقابنا، فهل في مستطاعنا أن نلتمس في هذا الخضمِّ المجنون مرفأً مأمونًا هو قِيَم الأخلاق؟ ها هو ذا ملك شاخ وهو ملهوف النفس على إنسان يقول له عبارة تنمُّ عن حبٍّ، وفي سبيل استماعه إلى هذه الكلمة تقال، جمع بناته الثلاث: ريحان وجونريل وكورديليا، يعدهن بملكه لو عرف كم يحببنه، مع أنه والدٌ وهنَّ بناته فلذات كبده! لكن هل ينخدع شيكسبير بالمتواتر بين الناس من حنان الولد على الوالد؟ لا، فكأنما هو يقول لنا: تعالَوا معي نغُصْ في هذا التيه — الذي هو النفس البشرية — لنرى هل نعود منه بالدرِّ أو نعود بالحصى؟

أخذت ريحان وأخذت جونريل تكيلان لأبيهما عباراتِ الحب كيلًا بغير حساب، والمسكين مخدوع بظاهر اللفظ، فيصدِّق، ويمنح كُلًّا منهما ثلثَ ملكه، ويقول وكأن شيئًا في نفسه يدعوه إلى القلق: «لقد نُبِّئت أنني أنا كل شيء.» ويطرح السؤال نفسَه على صغرى بناته كورديليا فلم تزِدْ على قولها إنها تحبه كما تحب البنتُ أباها، لا أكثر ولا أقل، فيستقل المخدوع هذه البساطة المخلصة، ويقضي بحرمانها من نصيبها، ليقسمَه بين الأُخريَين، شرطيةَ أن تُنفقَا عليه وعلى حاشيته ما بقيَ حيًّا، لكن سرعان ما ضاقت الأُختان بأبيهما وشردتاه بعد أن ظفرتَا بملكه.

نعم إن الفجوة بين باطن الإنسان وظاهره واسعةٌ عميقة، لكن هذه الفجوة تبلغ أفجعَ صورها حين تكون في الولد إزاء الوالد! لم يكن «لير» أول الأمر على وعي بهذا التفاوت الفظيع في طبيعة الإنسان بين ظاهر وباطن، حتى أرغمته الأحداثُ أن يعيَ، لم يكن قد أدرك ما أدركه «إدمند» الابن غير الشرعي لجلوستر، حين قال: «إنك أيتها الطبيعة معبودتي.» «إنني أقبل أي شيء يصلني بأهدافي.» والطبيعة التي هي معبودته هي طبيعة الخبث والشر … يهيم «لير» على وجهه في العواصف الهوج والمطر الهتون، جنَّ جنونه من شدة ما تمزق المسكين لبُعد ما بين القطبين: الظواهر من ناحية والحقائق من ناحية، فيصرخ: «ألا من يدلَّني مَن أنا؟» ويلتقي وهو يضرب على غير هدًى في الأحراش المهجورة بعابر سبيل تعرَّى جسدُه بؤسًا هو الفقير توم، ليس له من ثوب يكسوه ولا من مأوًى يئوِيه، ويقف منه «لير» في جنونه وجهًا لوجه، ليسأل كأحكم الحكماء: أتكون يا إلهي تلك هي حقيقة الإنسان إذا ما نضونا عنه الأردية الفاخرة والعاطف ذات الفراء؟ أتكون هذه هي حقيقة الإنسان إذا ما تخلَّت عنه الظواهر الكذوب؟ إنك يا رفيقي لم تسلب دودة القز حريرها، ولا الوحش فراءه، إنك لم تحرم الخراف صوف جلودها … إنك أنت هو حقيقة الإنسان وهي مجردة من حُليِّها … ألا بُعدًا لك يا ثيابي المستعارة! تعالَ فانضُ عني هذه الثياب!

فوا عجباه أن تجريَ حكمة الحياة على لسان مجنون! لماذا لم يدركها حين كانت به مسكة عقل؟ وكذلك فعل جلوستر — والد إدمند — حين فقد بصره؛ إذ تعلَّم في عماه أن يكون أصفى رؤية لحقائق الأشياء منه عندما كان مبصرًا، فيقول وهو في محنة العمى: لم يعُد أمامي طريقٌ، فما حاجتي إلى عين ترى؟ لقد تعثرت خطاي حين كانت لديَّ عينان.

أرأيت نظرة أحلك سوادًا من هذه النظرة السوداء إلى طبيعة البشر؟ إنسان تُفقأ له عيناه فيبصر الحق أنصع مما يبصره وهو ذو عينين؟ وإنسان يمسُّه الجنون فيُدرك الحقيقة التي لم يدركها وهو عاقل؟ أهذه هي حقيقة الإنسان عندما تنزاح عنه الأقنعة المضللة؟ كلَّا، فهنالك وجه آخر مشرق مضيء، هنالك الطبيعة الإنسانية في امرأة صافية السريرة مثل كورديليا أحبَّت أباها بغير زيف ولا خداع، حتى انطبق باطنُها على ظاهرها، فنفر منها الوالد الذي أضلته الحياةُ الفاسدة سواء السبيل، لكنها لبثت على حبِّها الخالص المخلص إلى آخر حياته، فهي إنسانة جاءت لتمثل طبع «الإنسان» بصورة أخرى، غير الصورة التي تصورها «إدمند» حين خاطب الطبيعة بقوله: أيتها الطبيعة أنت معبودتي، فلئن كانت أختاها جونريل وريجان بعقوقهما طبيعة إنسانية، فكذلك كورديليا طبيعة إنسانية في جانبها المشرق المضيء الملائكي الصافي، ألا إن الإنسان ليعرج إلى السماء بجناح ويميل نحو الأرض بجناح، ورسم الصورة مقصورة على أحد الجناحَين دون الآخر خيانة وضلال، نعم ما تزال في جعبة الإنسانية كورديليا ومثيلاتها، التي شهدت أباها في محنته فسفحت عبراتها وهي باسمة: أرأيت ضياء الشمس مع المطر في آنٍ؟ تلك هي بسماتها وعبرتها في آنٍ معًا، أليست الطبيعة فيها شتاء وفيها ربيع؟ وكذلك طبيعة الإنسان فيها الخبيث والطيب، وإنه لمما يميِّز شيكسبير هذه العين الفاحصة التي لا تسهو ولا تغفل ولا تتغاضى، فهو يغوص تحت الموج ليطفوَ وملء يديه الحصى ممزوجًا بالدرِّ، يخرج من أغوار النفس خبيثها وطيبها على السواء، وكلَا الجانبين طبيعي على حدٍّ سواء، فمن طبيعة الإنسان أن يخفيَ نكرانًا للجميل وقسوة وأنانية وتعطشًا للقوة والجاه والمال لا يطفئه شيء، كما كانت الحال مع «جونريل» و«ريجان» من بنات لير، لكن من طبيعة الإنسان كذلك أن يخفيَ الحب الخالص المخلص والورع والتقوى وخشية الضمير، كما هي الحال مع الأخت الصغرى «كورديليا»، فحبُّها لأبيها لم يكن تجارةً تُبادل به ضيعة ومالًا وتشترط له الشروط، بل إنها لتمنح أباها الحب خالصًا، فبرغم حرمانه إياها حقَّها في ملكه جزاء ما أمسكت عن التدفق في سبيل من النفاق كما فعلت أختاها، لم تنسَ أنه أبوها، واستمعْ إلى هذا الحوار بينها وبينه بعد أن انتصرت له من الشياطين الذين سلبوه الملك ثم شرَّدوه هائمًا على وجهه مفقودَ العقل يمزِّقه الندم، استمع إلى هذا الحوار بين كورديليا وأبيها وهو حوار يمسُّ من القلب شغاف الشغاف، فهي البنت البارة الرحيمة بأب ذاهل اللب يطلب الغفران:

كورديليا : ارفع بصرك إليَّ يا أبت، وامسح بيديك على رأسي ليباركني الله، لا يا سيدي، لا ينبغي لك أن تجثوَ لي على ركبتَيك …
لير : نشدتُكِ الله لا تسخري مني، إنني رجل بلغ من الحمق مداه، جاوزت من عمري ثمانين عامًا، ولكي أصارحك بحقيقة أمري، فإني لأخشى ألا أكون مالكًا لعقلي في كامل زمامه، أغلب ظني أنني أعرفك وأعرف هذا الرجل إلى جوارك، لكني مع ذلك لا أخلو من شكٍّ يساورني؛ لأنني في الحق لا أدري أين أنا الآن، وبكل ما قد بقيَ لي من الذاكرة فلستُ أذكر هذه الثياب التي أرتديها، بل إني لا أذكر أين قضيتُ ليلتي الماضية، لا، لا تسخري مني، فإني لأكاد أوقن الآن أنكِ أنت ابنتي كورديليا.
كورديليا : نعم هي ابنتك كورديليا!
لير : أهذه عبرات ترقرقت في عينيكِ؟ نشدتُكِ الله لا تبكي، ولو قدمت لي زعاف السم لجرعته، إنني لأعلم أنكِ لا تحبينني؛ لأن أختَيكِ قد أساءتَا إليَّ فيما أذكر، ولو أسأتِ إليَّ أنتِ لكان لديكِ ما تسوغين به الإساءة، أمَّا هما فلم يكن لإساءتهما ما يُسوِّغها.
كورديليا : لا مسوغات، لا مسوغات.
لير : أأنا الآن في فرنسا؟
كورديليا : بل أنت في مملكتك يا مولاي.

هذه هي مسرحية تضع أمام أبصارنا كم يكون الإنسان بحاجة إلى حب وعطف وحنان، لكنه محال أن يُشبع حاجته تلك بحب يشتريه بالمال، بل لا بد أن يجيئَه منبثقًا عن أصالة وصدق، فلما توهم «لير» بادئ الأمر أنه قد اشترى حبَّ ابنتَيه بملكه لم يزدد إلا قلقًا وتوتُّر نفس؛ إذ ازداد إلى الحب جوعًا على جوع، وأمَّا حين جاءه من معينه الصافي، اطمأنَّ نفسًا وزالت محنتُه.

لقد حلل شيكسبير أزمة الإنسان في عصره، فحلَّل بذلك أزمة الإنسان في كل عصر، اللهم إلا عصورًا قلائل، سادها إمَّا إيمان صرف كالعصور الدينية، وإمَّا عقل صرف، كما كانت أثينا في عصر سقراط، وفرنسا في عصر التنوير، فعندئذٍ لا يكون صراع، وأمَّا في عصور كعصر النهضة الأوروبية، وكعصرنا هذا الذي نعيش اليوم فيه، حيث يدهم الإنسانَ فيضٌ من العلم يفاجئه، وهو ما يزال نابضَ القلب بالإيمان المستسلم لقدر مجهول، فهنا يكون التجاذب عنيفًا بين ما يريده العقل بعلمه، من سيطرة على الطبيعة أو على رقاب البشر، وبين ما ينزع إليه القلب من حب وعطف وإخلاص. ولقد تصدَّى شيكسبير لتصوير هذه النفس المصطرعة بين عقلها وقلبها، تصويرًا يستهدف به الحق كما يقع، ولا يستهدف به دعوة الناس إلى شيء بعينه؛ فهو لم يكن بالشاعر الذي يجعل النبوة مدار شعره، بل كان من شعراء الغوص والكشف عن مكنون الضمائر؛ ذلك أن الشاعر العظيم إنما يكون أحدَ رجلين: فإمَّا هو شاعر يبشر بقِيَم للحياة جديدة، يستبق بها سير التاريخ، ويهدي بها بناة الحضارة، فكأنما هو مشرِّع يستنُّ للطامحين إلى العُلا سنن السير، ليسيروا على هداها، وفي هذا يقول أبو تمام:

ولولا خلال سنَّها الشعر ما درى
بناة العلا من أين تُؤتى المكارم

أو كأنما الشاعر في هذه الحالة يستلهم السماء طريق الهداية إلى المستقبل المنشود، ثم يقوم بدوره فيرسم أمام الناس معالمَ الطريق، فيكون الشعر عندئذٍ كما وصفه العقَّاد بقوله:

والشعر من نفَس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بين الناس رحمن

وهذا هو ما أُسمِّيه بشعر النبوة، الذي يحاول به صاحبُه أن يستبدل بالقديم جديدًا، حتى ليقولها صراحةً شاعرُنا المرهف الحساس «أدونيس» (الأستاذ علي أحمد سعيد) حين يقول:

أقبل في هاوية مليئهْ
بفرحة المنبئ والنذير؛
فرحة أن تصير
أغنيتي أغنية سواها،
تقود هذا العالم الضرير.

وأعود فأقول إن الشاعر إمَّا أن يكون من هذا الطراز، الذي يريد أن يقود ويهدي، وإمَّا أن يجيء وفي يده مجهر، يسلِّطه على الطبيعة الإنسانية كما هي كائنة لا كما ينبغي لها أن تكون. وقد كان شيكسبير من هذا الفريق الثاني، وبصحبته شعراء من أمثال زهير بن أبي سُلمى، وأبي العلاء المعري، وسوفوكليز، ودانتي، وغيرهم. فقد كان شاعرًا كاشفًا الغطاء عن طبيعة الإنسان كما فُطرت، متعقبًا إياها إلى جذورها التي تضرب في الأغوار العميقة، تلك الأغوار التي لم تخرج بعدُ إلى مستوى الإفصاح باللفظ، فظلت خلجات يحسُّها الإنسان، ولا يجد لها العبارة التي تصوغها فتجلِّيها، إلا أن يسعفَه الشاعر، وإنه لمن شأن الشاعر من هؤلاء الكاشفين — على خلاف أصحاب النبوة الشعرية — أقول إن من شأنه أن يكون في بحثه وفحصه وسبره لحالات الإنسان منزَّهًا عن الهوى، فليس هو مع هذا النمط أو ذاك من أنماط الدوافع والسلوك. إنه يقف من شخوصه على حياد تام، وللمشاهد أو للقارئ أن يختار ويميل؛ ففي مسرحية واحدة، مثل «ترويلس وكرسدا» مجموعة من أفراد تنافرت نزعاتُها: ترويلس عاطفي في سذاجة، وهكتور فارس أريحي مقدام، ويولسيز محنك متمرس بشئون الحياة، وكاسندرا ترى الدنيا مليئةً بالقسوة خالية من الرحمة، وهلن وكرسدا في ربيع عمرهما لا يريان حولهما إلا الحب … فهل يقول لنا أيَّ هؤلاء الناس يُفضِّل؟ كلَّا، لأن ذلك ليس من شأنه، إنما هو يكشف لك الغطاء عن هذا وهذا وهذه، ويقول: هاك حقائق الأنفس البشرية، فارْضَ عمن شئت واسخط على من شئت.

وهو إذ يجسِّد صراع النفس الذي تأزَّم به عصرُه بين عوامل النجاح العملي من جهة ودواعي الأخلاق والضمير من جهة أخرى، لا يفوته أن من الناس من يعلو — حتى في هذا العصر المأزوم — يعلو على الروح العالمية السائدة، فيتفق فيه ظاهر مع باطن؛ إذ يلتئم فيه عقل مع ضمير، فتراه يفعل الفعلة مستمليًا منطق العقل ومستوحيًا صوت الضمير في آنٍ معًا، وإن تاريخ الفلسفة ليقدم لنا أروع مثَل لهذا النمط من الرجال في شخص سقراط، وقد قدَّمه لنا شيكسبير في بروتس الذي يمثل لنا المفكر العقلاني الذي يختار لنفسه المذهب السياسي مستندًا إلى حجة العقل، ثم هو إذا تصرَّف بناءً على إملاء ذلك العقل، كان في الوقت نفسه يُرضي ضميره في طوية نفسه، فلا ظاهر يناقض باطنًا، ولا باطن يتستر ويتخفَّى وراء ظاهر، أو قُل إنه قد سدَّ الفجوة بين الفرد والمجتمع؛ لأنه حين يسلك السلوك الذي يُشبع فرديته، تراه كذلك يسلك السلوك للذي يصلح أن يكون كفاحًا في سبيل المجتمع. ولقد كانت هذه الرفعة الخلقية فيه هي التي حدت بالمتآمرين أن يكسبوه إلى جانبهم مؤيدًا لهم في قضيتهم، وإنه لمن المفارقات العجيبة أن يرتفع بروتس إلى ذروة الإحساس بالكرامة والشرف في اللحظة التي قرَّر فيها أن يقتل قيصر؛ فقيصر صديقه الذي يحبُّه بدوره ويقدِّره، ولكن هل تسمح معاييرُ الأخلاق عند بروتس أن يُضحِّيَ بالواجب من أجل الصداقة؟ هل يستبيح لنفسه أن يغضيَ عن واجبه إزاء المجتمع وإزاء الضمير ليُرضيَ هواه؟ يسأله كاسيوس هل يقبل أن يُنصِّب قيصر نفسه ملكًا؟ فيجيبه بروتس:

لا، لستُ أرضى يا كاسيوس، برغم أني أحبُّه جمَّ الحب.
ولكن فيمَ أمسكتني معك هذه الساعات الطوال؟
ماذا تريد أن تنقل إليَّ من نبأ؟
إنه لو كان أمرًا يتعلق بالصالح العام،
فضع شرفي في عين والموت في الأخرى،
وستراني أنظر إلى كليهما في حياد،
وليسدِّد الله خطاي بقدر حبي
للشرف، وهو حبٌّ يزيد على خشيتي من الموت.

وإذا سمعنا بروتس يتحدث عن الشرف، فإنما نُدرك أنه يتحدث عنه بعقل الفيلسوف لا بنزوة العاطفي المنفعل عن غير بصيرة، وهو في تكوينه هذا شبيه بهاملت، كأنهما معًا أخوان من أسرة واحدة؛ فبروتس هو الجنين الذي نما وتطوَّر وتمَّ تشكيله فأصبح هاملت. إنه لا يفعل الفعل بدفعة غريزته، ولا بضغطة العرف، بل يفعله صادرًا عن عقل محض لا يميل مع الهوى، كأنما الأمر لا يخصُّه، فإذا كان الصالح العام يقتضي قتلَ قيصر، فليُقتل قيصر، دون نظرٍ إلى ما بينهما من صداقة وحب.

لكن هذه الوحدانية في تكوين الشخصية نادرٌ في الطبيعة، ونادر — بالتالي — عند شيكسبير، وأمَّا الغالبية التي يصورها في شتى أشكالها، فهي التي تنحلُّ فيها الشخصية شطرين: ظاهر يخدع، وباطن خبيث، وهذه هي ليدي ماكبث تحفِّز زوجها على قتل الملك، مصطنعًا وسائل المداهنة والخداع، فتقول له: «كن كالزهور البريئة تُخفي تحت أوراقها أفعى.» تلك هي حقيقة الإنسان حين تتنازعه مجموعتان متضادتان من القِيَم. وهكذا كانت الحال في عصر النهضة، عصر شيكسبير، وإنه لمما يَردُ في هذا السياق أن نذكر كتاب «الأمير» لماكيافلي. فهو وإن يكن قد كتبه في أوائل القرن السادس عشر على حين جاء شيكسبير بمسرحياته في أواخر ذلك القرن، إلا أن القرن كلَّه بطرفَيه واقع في عصر النهضة، تسوده روحٌ واحدة، هي هذا التعارض بين القِيَم الجديدة والقِيَم الموروثة. فكما تقول ليدي ماكبث: «كن كالزهور البريئة تُخفي تحت أوراقها أفعى.» فكذلك يقول ماكيافيلي لأميره: «إن الأمير الذي يريد حفظ كيان دولته، لا بد له في كثير من الأحيان أن يخالف الذمة والمروءة والإنسانية والدين.» إن روح العصر كله علمية الطابع، تستكشف الحق في تجرُّد عن الهوى. ولقد قال شيكسبير الحق في طبيعة الحكم والسياسة، وأحسب أن الذين يوجهون النقد إلى ماكيافلي قائلين إنه أقام السياسة على الخسَّة والخيانة والغدر، هم أولئك الذين كانوا يودون أن تجريَ السياسة على ما وصفها ماكيافلي، لكن في نفاق يكتم السر عن عامة الناس.

على أنه مما يُطمئن الإنسان على قِيَمه الخلقية الموروثة، أن نجد شيكسبير في نزاهته المحايدة، التي تُصوِّر الطبائع كما هي واقعة بغير تدخُّل منه يُزوِّق به القبيح ويتمم الناقص، قد كشف لنا فيما كشفه من تلك الطبائع، أن الفعل يبيض ويفرخ فراخًا من جنسه إن شرٌّ فشرٌّ وإن خيرٌ فخيرٌ. فها هو ذا ماكبث تدفعه الرغبة الجامحة العمياء نحو قوة السلطان، وكلما وهنت عزيمته شدَّت من أزره زوجة قدَّت من حجر لا قلب له ولا شعور، فماذا وجد في نفسه بعد أن اعتلى عرشًا كان يشتهيه ويقترف الفظائع ليعتليَه، اسمعه يقول بعد أن بلغ شيخوخته وهو حطام كسير:

إنه لم يعد يجوز لي أن أطمع بعد اليوم
فيما كان من شأنه أن يصحب الشيخ في شيخوخته،
كالشرف، والحب، والطاعة، وزمرة الأصدقاء،
فبدل هؤلاء جميعًا، تنصبُّ عليَّ اللعنات …

ويقول:

ما الحياة إلا ظلٌّ يمشي على الأرض، هي ممثل عاجز.
يقضي على المسرح ساعته مختالًا،
ثم يصمت فلا يسمعه أحد، إنها حكاية
يحكيها مأفون امتلأت نفسُه بالصخب والغضب،
لكنها بغير مغزًى.

فإذا كان ماكبث قد كابد وعانى مدفوعًا بأوهام القوى والجاه، ثم استخلص من خبرته الحية أن نصيبه في شيخوخته لعنات، وأنه كان كالظل يمشي على الأرض، وأن حكاية الحياة تنتهي إلى غير مغزًى، إذن فقد حصد من جهده المبذول في دنيا الجريمة والدسيسة حسكًا وشوكًا.

•••

جاء شيكسبير في عصر امتدت فيه الآفاق والأبعاد، فشدَّت أبصار الناس إلى بعيد وإلى عميق؛ إلى بعيد في أرجاء المكان بحرًا وأرضًا وسماءً، وإلى بعيد في ماضي الزمان، بالعودة إلى أبطال اليونان والرومان، وإلى عميق في سبر أغوار العقل على يدي لوك، وفي الغوص إلى أعماق النفس على يدي شيكسبير، ولم يكن عجيبًا أن نرى رجال الفن عندئذٍ يتأثرون بهذا الإيغال في شتى الأبعاد، فيضيفون إلى فنِّ التصوير بُعدًا ثالثًا يعمق بالصورة إلى بعيد، بعد أن كان التصوير تسطيحًا على طول وعرض بغير عمق، وكان هؤلاء وأولئك جميعًا يهتدون في تجوابهم بروح العلم الوليد، فجاء الطابع السائد رغبةً في الكشف عما هنالك كشفًا موضوعيًّا منزَّهًا عن تعصُّب الإنسان لنفسه، متجردًا عن ضلالات الرغبة والميل والهوى.

فلا فرق بين ما أدَّاه شيكسبير في توضيحه لطابع النفس الإنسانية، وما يؤديه العالم من حيث موضوعية البحث وحياده، ويبقى بينهما فارق الفنان الذي يجسد الحقائق في أشخاص ومواقف متعينة متفردة، من العالم الذي يجرد الحقائق ويعمم الأحكام، ولقد أدى الشاعر العظيم رسالته الإنسانية أداءً أمينًا صادقًا، لم يقتصر على نمط من الناس دون سائر الأنماط، بل تناول الإنسان في تنوع طبيعته حيثما كان وكيفما كان؛ تناوله رجالًا ونساءً وأطفالًا، تناوله أفرادًا وجماعات، تناوله ملوكًا تسود ورعية تُساد، تناوله طيبًا وخبيثًا، وصريحًا وغامضًا، وطامعًا وقانعًا، فما أحسبك واجدًا حالة إنسانية — على تنوع هذه الحالات — إلا وجدتها وقد تجسَّدت أمام عينيك في شخص من أشخاص شيكسبير، إنه يعرض لك النفس سويَّة والنفس منحرفة مريضة، ويقدم لك النفس تقية والنفس فاجرة، ثم لا يكتفي بذلك كلِّه فيضيف إلى عالم الأناسيِّ عالم الأرواح والأشباح والجن والمردة وسائر ما يُبدعه الخيال، صنع كل هذا حتى استكثر بعضُ الناقدين أن يصدر من قريحة واعية بما تصنع، فقالوا إنه من قبيل ما يهندس النحل خلاياه، وينسج العنكبوت خيوطه، وتبني العصافير أعشاشها، لكن هذا القول لا يغيِّر من الأمر شيئًا؛ فإن صدر في خلقه الفني عن بصيرة واعية فهي بصيرة فذَّة فريدة، وإن صدر عن فطرة غير واعية بما تصنع، فهي كذلك فطرة فذة فريدة؛ فالرجل معجز على أي الحالتين.

أمَّا بعد، فإن هذه الآية وحدها لكافية للدلالة على أن الفنَّ إذ يرتفع إلى ذروته، يلتقي عنده الناسُ جميعًا، لا فرق بين شرق وغرب. نعم إن هنالك رأيًا نشازًا عرَضه كاتب هندي هو «رانجي شاهاني» في كتاب أطلق عليه عنوان «شيكسبير في أعين الشرقيين»، يقول فيه إن الشرقيين — وهو يقصد أهل الهند — لا يحسُّون بالفجيعة في مآسي شيكسبير؛ لأنه يجعل الموت فجيعة كبرى مع أن الموت عند البرهميين والبوذيين خلاص وليس هو بالفجيعة. ويعلِّق ناقد غربي على هذا الرأي بقوله إنه لينطبق كذلك على المسيحية؛ لأنها هي الأخرى لا ترى كل هذه الفجيعة في الموت، وإذن فلا فرق بين شرقي وغربي في هذا، وفي ظني أن الرجلين كليهما قد خلطَا بين طبيعة الإنسان في واقعها، وطبيعة الإنسان كما تريد لها الديانات أن تكون، ولم يكن شيكسبير معنيًّا بما ينبغي، بل عنايته كلُّها — مسايرًا لروح عصره في شتى جوانبه ومختلف نواحيه — منصبَّة على الواقع كما يقع.

وأمَّا نحن في البلاد العربية فإنه لمن شواهد نهوضنا الأدبي ذات الدلالة البعيدة، أن قامت الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية تحت إشراف الدكتور طه حسين، بترجمة كاملة، روعيت فيها أمانة النقل ودقته بقدر المستطاع. ولما كان قد سبق ذلك ترجمات متناثرة لمسرحيات مختلفة، لعل من أهمها وأجدرها بالذكر، ترجمة خليل مطران لماكبث وعطيل وتاجر البندقية، فقد أصبح لبعض المسرحيات أكثر من ترجمة واحدة.

وإن ذلك ليدل على يقظتنا الأدبية من ناحية، وعلى أننا أحسسنا — من ناحية أخرى — أننا من شيكسبير إزاء شاعر ألقى الأضواء القوية على حقيقة الإنسان، فكان بحقٍّ شاعرًا لعصره ولكل عصر جاء ويجيء، وبهذه الترجمة العربية الوافية لمسرحياته ولكثير من قصائده، بل ولطائفة من أمهات كتب النقد التي عالجت أدبَه، بات في مقدورنا أن نقول للقارئ العربي ما قاله بوشكين حين درس شيكسبير بعد أن ألمَّ بغيره من آداب العالمين، ثم وازن وقوَّم، وأراد أن يُسديَ النصح مستخلصًا إياه من ذوقه ومن خبرته، فلخَّص هذا النصح في عبارة قصيرة مؤلَّفة من كلمتين، ألا وهي «اقرأ شيكسبير».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤