الفصل الثالث

الحقيقة والوهم في فيلم «استعادة كاملة»

مقدمة

نظرية المعرفة هي دراسة المعرفة والمفاهيم المرتبطة بها مثل الشك واليقين والتبرير والبرهان والتسويغ. تُهيمن ثلاثة أسئلة على هذا المجال: ما هي المعرفة؟ ما الذي يمكن معرفته؟ كيف نعرف ما نعرفه (إذا كنا نعرف أي شيء على الإطلاق)؟ ربما تبدو تلك الأسئلة مملة نوعًا ما رغم كونها مهمة وتستحق الطرح، لكن الأمور تزداد إثارة مع مجيء المتشككين. المتشكك هو من يُنكر المعرفة؛ في وسعه إنكار أننا نعرف ما نظن أننا نعرفه، أو في وسعه إنكار أن واحدًا أو أكثر من المناهج التي نستخدمها لاكتساب المعرفة قادرٌ فعليًّا على تحصيل المعرفة. المتشكك في عقول الآخرين، على سبيل المثال، يُنكر أننا نعرف أي شيء عن عقول الآخرين، أو حتى ما إذا كان لدى الآخرين عقولٌ. ينكر المتشكك في الأديان أننا نعرف أي شيء عن الله، بما في ذلك وجوده. ربما كان النوع الأعلى طموحًا من المتشككين هو ما عبَّر عنه الفيلسوف الفرنسي العظيم رينيه ديكارت في القرن السابع عشر، وهو المتشكك المطلق، الذي يزعم أننا لا نعرف شيئًا سوى أننا موجودون. (أنا أعرف أنني موجود لأنني لا أستطيع الشك في وجودي شكًّا مترابطًا من الناحية المنطقية. فعندما أفكر مليًّا في سؤال «هل أنا موجود أم لا؟» فذلك يعني حتمًا وجود من يفكر؛ وهو أنا في هذه الحالة. لخص ديكارت ذلك في عبارته «أنا أشك، إذن أنا موجود».)

أحد أكثر أنواع المتشككين إثارة للاهتمام هو المتشكك في المعرفة الحسية، الذي ينكر أننا نعرف أي شيء على الإطلاق بناءً على ملاحظتنا للعالم؛ فهو ينكر أن حواسنا هي مصدر للمعرفة؛ لأنها غير مضمونة ولا يقينية بما يكفي لإمدادنا بالمعرفة عن العالم. العلوم كافةً، باستثناء الرياضيات، قائمة على معلومات جمعتها حواسُّنا، وهكذا إذا لم تكن حواسُّنا تنتج معرفة، فإن العلم لا ينتج معرفة بدوره. يستنتج بعض المتشككين في المعرفة الحسية أننا لا نستطيع حتى أن نعرف ما إذا كان العالم الخارجي موجودًا! إلى هذا الحد تصل الشكوكية في المعرفة الحسية! لتبسيط الأمور، سنستخدم مصطلح «المتشككين» للإشارة إلى هذا النوع تحديدًا من الشكوكية، لكن على القارئ تذكر أننا نتحدث عن نوع واحد من مجموعة محيرة ومتنوعة من المتشككين.

ينبع قدر كبير من أفضل ما تمخضت عنه عقول المشتغلين بنظرية المعرفة المعاصرة، من محاولات تفنيد مزاعم المتشككين في المعرفة الحسية، وهي محاولات جديرة بالجهد؛ لا لأن المتشكك شخص مزعج ومستفز فحسب، بل لأننا عندما نفنِّد مزاعمه نُلقي ضوءًا نحن في أمسِّ الحاجة إليه على طبيعة المعرفة. فيتضح أن المعرفة أمر معقَّد ومثير للجدل. ونخوض معركة علم المعرفة المعاصر مع المتشككين مسترشدين بفيلم أرنولد شوارتسنيجر «استعادة كاملة» (١٩٩٠). كثير من الأفلام الرائعة تستحضر الشكوكية وتستكشف جوانبها بطريقة أو بأخرى، لكن فيلم «استعادة كاملة» هو حالة خاصة على الأقل من منظور متخصص علم المعرفة المعاصر.1 وسرعان ما سنعرف أسباب ذلك.

تدور أحداث فيلم «استعادة كاملة» عام ٢٠٤٨ على كوكب الأرض، حيث يحلم دوجلاس كويد بكوكب المريخ. يتوق كويد إلى السفر إلى هناك كي يزور مستعمرة المريخ، لكن زوجته لوري ترفض الفكرة كليًّا؛ ومن ثَمَّ عوضًا عن السفر يوافق على خوض رحلة افتراضية إلى المريخ، تعرضها شركة مريبة تُدعى ريكال. تَعِد الشركة بزرع ذكريات داخل دماغه عن إجازة على كوكب المريخ بدلًا من قضاء إجازة فعلية هناك، تتسم رغم كل شيء بكونها طويلة وشاقَّة، ومليئة بلحظات الملل. (الافتراض السائد في الفيلم هو أن الإجازات الحقيقية ليست سوى طريقة غير مريحة لجمع الذكريات السعيدة. وهو افتراض سخيف قطعًا، لكن دعونا نقبله.) يوافق كويد على شراء عرض أفضل من العرض العادي فيختار مغامرة من الدرجة الأولى على كوكب المريخ تُدعى «سماء زرقاء فوق المريخ»، حيث يلعب دور عميل سري يخوض أخطر مغامرة في حياته تُتوج بفوزه بفتاة أحلامه (وهي الفتاة التي كانت تظهر فعليًّا في أحلامه) وإنقاذه للكوكب. لكن بينما يخضع لعملية زرع الذكريات، يحدث خطأٌ مروِّع.

يقاطع كويد سير عملية زرع الذكريات صارخًا بشيء ما يتَّهمهم من خلاله بكشف هويته السرية، فيُقيَّد ويُخدَّر ويُلقى في سيارة أجرة تأخذه إلى منزله حيث يتعرض لمحاولة قتلٍ على يد زوجته، التي يتضح أنها لا تمتُّ له بصلة؛ ثم يحاول مجموعة أشخاص آخرين قتله كذلك، ثم تصله بعد ذلك حقيبة غامضة يستعين بها كي يهرب إلى كوكب المريخ حيث يقابل ميلينا (واحدة من المتمردين الذين يقاتلون حاكم المريخ المستبد كوهاجين). يخوض كويد وميلينا سلسلة من المغامرات الجامحة تتمخض في النهاية عن تحويل الغلاف الجوي لكوكب المريخ ليماثل غلاف كوكب الأرض.2 (وبفضل تقنية قديمة ابتكرتها كائنات فضائية يستغرق التحول الكامل لغلاف المريخ الجوي دقيقة واحدة و٤٥ ثانية تقريبًا، إنها حقًّا تقنية رائعة!) ذلك ملخَّص مختصَر لأحداث الفيلم، يتخطى تقريبًا جميع التطورات والتحولات المفاجئة في تلك الحبكة السخيفة والمُسلِّية لدرجة استثنائية، لا سيما التعقيدات المتعلقة بأزمة الهوية لدى كويد ودوره غير المتعمَّد في مؤامرة تهدف إلى تدمير قيادة المتمردين المرِّيخيين.3 لكننا نرغب في تحليل مشهد واحد محوري.

في هذا المشهد (الذي يبدأ في الدقيقة ٥٨) يجلس كويد مسترخيًا في غرفته بالفندق (ليس أي فندق، بل هيلتون المريخ الفاخر) حيث يتلقى زيارة من د. إدجمار من شركة ريكال. ويدور بينهما هذا الحوار بينما يُصوِّب كويد مسدسه إلى رأس محدِّثه:

إدجمار : أخشى أن ما سأقوله سيكون من الصعب عليك قبوله يا مستر كويد، أنت لا تقف الآن هنا حقًّا.
كويد : ها، أتظن أنك تستطيع خداعي؟
إدجمار : أتحدَّث جدِّيًّا، أنت لست هنا ولا أنا أيضًا.
كويد (يضحك، بينما يفتش إدجمار بحثًا عن أسلحة) : مدهش، أين نحن إذن؟
إدجمار : نحن في شركة ريكال، أنت مُقيَّد إلى كرسيِّ زَرْع الذكريات، وأنا أراقبك من جهاز تحكُّم متصل بمِسبارٍ نفسيٍّ.
كويد : آه، فهمت، تقصد أني أحلم، وأن ذلك كله جزء من الإجازة الممتعة التي باعتْها لي شركتُك.
إدجمار : ليس بالضبط، أنت تعيش الآن وهمًا مرتجَلًا مستمَدًّا من شرائط الذكريات الخاصة بالشركة لكنك تخترع الأحداث بينما تستمر في الحُلم.
كويد : حسنًا، إذا كان ذلك وهمًا اخترعتُه بنفسي، فمن دعاك إذن؟
إدجمار : لقد تم زرعي اصطناعيًّا في البرنامج كإجراء طارئ. للأسف أنت تعاني من انسداد دموي فصامي. ونحن عاجزون عن إخراجك من أوهامك. لقد أُرسلتُ هنا كي أحاول إقناعك.
كويد : كم دفع لك كوهاجين كي تلعب هذا الدور؟
إدجمار : فكِّر في الأمر. لقد بدأ حُلمك وسط عملية زرع الذكريات. كل الأمور التي أعقبت ذلك — المطاردات ورحلتك إلى المريخ وهذا الجناح الذي تُقيم به في فندق هيلتون — ليس سوى عناصر في قصة الإجازة والرحلة التي اخترتها في ريكال. لقد دَفعت لنجعل منك عميلًا سِرِّيًّا.
كويد : هُراء، تلك مجرد مصادفة.

بعد ذلك (بعدما تنضم لوري إلى المشهد في محاولة أخيرة لإقناع كويد بفرضية الحُلم) يلخص إدجمار المسألة تلخيصًا بارعًا.

إدجمار : أيهما أقرب للهُراء يا مستر كويد؟ هل أنت تعاني من نوبة جنون اضطهاد ناتجة عن التعرض لصدمة عصبية كيميائية حادة، أم أنك في الحقيقة عميل سري لا يُقهر، أتى من المريخ يقع ضحية لمؤامرة كوكبية تسعى لجعله يظن أنه مجرد عامل بناء وضيع؟

يبدو كما لو أن على كويد الاقتناع بحُجج إدجمار، لكنه يكتشف الخدعة في النهاية عندما يلمح نقطة عَرق تنحدر على جبينه. إذا كان وجود إدجمار مجرد وجود افتراضي، فإن المسدس المصوَّب إليه ليس حقيقيًّا ولا يوجد تهديد حقيقي موجَّه إليه. فلما إذن يشعر بتوترٍ بالغٍ؟ وعلى الفور ودون الخوض في المزيد من المناقشات النظرية، يُطلق كويد الرصاص على إدجمار في منتصف جبهته، وتستعيد حبكة الفيلم زخمها.

بالطبع كان استنتاج كويد القائم على نقطة العَرق استنتاجًا ضعيفًا نسبيًّا. فهناك الكثير مما قد يبرِّر توتُّر إدجمار؛ ربما كانت وظيفته على المحك؛ ومن ثَم أثَّر توتره أثناء مراقبته لكويد عبر جهاز التحكم على صورته الافتراضية في وهم كويد المرتجل. على الأقل تبدو تلك احتماليةً كان على كويد استبعادها كي يتيقَّن من صحة استنتاجه. (ربما نبرر تصرُّف كويد بأن إطلاق الرصاص على صورة إدجمار الافتراضية لن تضر أحدًا سوى كويد نفسه، في حين أن إطلاق النار على إدجمار الكاذب ربما يُعتبر دفاعًا عن النفس.)

ما الأدلة التي استطاع كويد استنتاجها كي يتمكن من استبعاد فرضية الوهم التي يطرحها إدجمار؟ لا يبدو أنه يملك أدلة حاسمة. إذا كان الانسداد الدموي الفصامي، المعزَّز بشرائط الذكريات الخاصة بشركة ريكال، قادرًا على تعزيز وهمٍ محكَم بما يكفي — وهمٍ معقول حقًّا ومُتَّسقٌ تمامًا (حيث تتتابع الأحداث في ترتيب منطقي ولا تتغير أشكال الأشياء والأشخاص اعتباطيًّا، إلى آخره) ويعجُّ بالتفاصيل؛ ما يُصعِّب تمييزه عن حالة اليقظة — فلن يكون كويد قادرًا على استبعاد احتمالية أنه يعيش حالة من الوهم. من ناحية أخرى، نحن، في موقع المشاهدين، نعرف قطعًا أن كويد لا يتوهم ما حدث، ويرجع ذلك إلى أن جزءًا كبيرًا من الفيلم مرويٌّ من منظور شخص ثالث لا من منظور كويد الشخصي. في بعض الأحيان نتابع الحدث من وجهة نظر كويد، لكن في أحيان أخرى نشهد أحداثًا لا يشهدها كويد نفسه. (إذا كانت تلك الأحداث جزءًا من حلم، فمن يحلم إذن؟ لا يمكن أن يكون كويد؛ فهو لا يعلم بها من الأساس.) في عالم «استعادة كاملة» الخيالي، كويد عميل سري بالفعل، وهو حقًّا على وشك إنقاذ المريخ.4 في هذا العالم الخيالي، جميع افتراضات كويد الأساسية حقيقية. لكن هل يعرف هو أنها حقيقية؟ يتطلب امتلاك المعرفة، أكثر مما يتطلَّبه، امتلاك إيمان صادق.

في المشهد الأخير من الفيلم (الدقيقة ٤٤ من الساعة الثانية) بينما يحدق كويد وميلينا في ذهول في سماء المريخ الجديدة التي وُلدت لتوِّها (سماء زرقاء بالطبع)، يقع كويد من جديد فريسة للحَيرة على المستوى المعرفي.

ميلينا : لا أصدق ما أراه، أنه أشبه بحُلم … ماذا دَهاك؟
كويد : لقد خطرتْ لي الآن فكرة فظيعة، ماذا لو كان هذا كله حُلمًا؟
ميلينا : حسنًا، قبلني سريعًا إذن قبل أن تستيقظ.

يبدو أن كويد واقع في مأزق تشككي؛ فعلى الرغم من صحة معتقداته (صحتها في عالم «استعادة كاملة» الخيالي)، كما يتضح لنا، هو على ما يبدو لا يعرف حقًّا ما إذا كانت صحيحة. ربما كان جالسًا بالفعل على جهاز زرع الذكريات يعاني آثار الانسداد الدموي الفصامي (وذلك مصطلح رائع بالمناسبة، لا يعني شيئًا في واقع الأمر، لكن هذا لن يمنعنا من استخدامه قدر وُسعنا). بالتأكيد يفسر المتشكك ورطة كويد على هذا المحمل. وسيصر على أننا جميعًا نخوض نفس الموقف المعرفي الذي يمر به كويد. نحن نكتسب جميع معتقداتنا تقريبًا عن العالم من حواسنا، ويؤمن المتشكك أنه «حتى في حالة صحة تلك المعتقدات كلها (وهو لا يسلِّم ها هنا بأنها حقيقية)، فإنها لا تعتبر معرفة.» على أي أساس يدعي المتشكك ذلك؟ فرغم كل شيء، كويد هو بطل فيلم يروي قصة عجيبة؛ يوجد ما يبرر المأزق التشككي الذي يقع فيه. لكن ماذا عنا؟

الحُجة الشكوكية

يزعم المتشكك أنه إذا كانت حواسنا تُخبرنا بالحقيقة؛ فنحن إذن لا نعاني من انسداد دموي فصامي (يتسبب في جعلنا نخوض تجارِب ونؤمن بمعتقدات وهمية). لكننا لا نعرف ما إذا كنا نعاني من انسداد دموي فصامي أم لا. إذن نحن لا نعرف ما إذا كانت حواسنا تُخبرنا بالحقيقة أم لا. يعتقد المتشكك أن هذه الحجة تنطبق علينا جميعًا، في جميع الأوقات (لا استنادًا فحسب إلى احتمالية إصابتنا بانسداد دموي فصامي، فتلك مجرد أداة؛ فأيُّ مأزق تشككي مشابه سيَصلُح). ربما يبدو واضحًا أن كويد لا يستطيع أن يعرف ما إذا كانت فرضية الانسداد الدموي الفصامي صحيحة أم لا. فأمامه العديد من الأدلة التي تثبت صحتها، وحتى إذا كنا «نحن» نعرف أن هذه الأدلة مضللة، فإنه «هو» لا يعرف. ومحاولته تفنيد الفرضية (الاستنتاج القائم على قطرة العرق) تفشل فشلًا ذريعًا عند فحصها عن قرب. كويد عالق في مأزقه إذن. لكن هل يمكننا نحن استبعاد هذا النوع من الفرضيات؟5 يتذكر كويد أنه ذهب إلى شركة ريكال؛ لقد وقع ضحية لفضوله وطبيعته الواثقة. لكننا لم نرتكب بعدُ فعلًا أحمق كهذا، على الأقل بقدر ما نستطيع التذكر. حسنًا ربما خضنا بالفعل مغامرة أشبه بمغامرة ريكال، لكن جميع ذكرياتنا عنها قد مُحيت من عقولنا. إذا كان ذلك قد «حدث»، فليس بوسعنا الجزم بحدوثه؛ ومن ثَمَّ تصبح الحُجة كالتالي: إذا كان هذا الحدث «لم يحدث» لنا، فإننا لا نستطيع الجزم بأنه «لم يحدث». وسواء حدث أم لم يحدث لنا، لن نعرف في أيٍّ من الحالتين. تلك هي السمة العامة للفرضيات التشككية. لا نستطيع إثبات زيفها على نحو حاسم؛ لأن جميع المعلومات التي قد نستخدمها لإثبات زيفها هي معلومات من المحتمل أنها زُرعت في رءوسنا كجزء من الفرضية. الفرضيات التشككية هي الشكل الأوضح من نظريات المؤامرة.

هذا هو النهج التعليلي الذي نجده لدى المتشككين: لا يمكننا الجزم بزيف الفرضيات التشككية لأننا عاجزون عن الوصول إلى المعلومات التي تُثبت لنا زيفها، وبما أننا ندرك أنه كي تعمل حواسنا كما ينبغي، لا بد من إثبات زيف تلك الفرضيات، فإننا لن نعرف أبدًا ما إذا كانت حواسنا تعمل على نحو سليم. بعبارة أخرى، نحن لا نكتسب أي معرفة من حواسنا (مطلقًا).

كيف نرد على حُجةٍ كتلك؟ علينا أولًا شرحها بمزيد من الدقة، بحيث نفصل بين المقدمات المنطقية المتنوعة والاستنتاج. ستظل فرضيتنا التشككية ها هنا هي الوهم الناتج عن انسداد دموي فصامي، ولو أن فرضيات تشككية أخرى تصلُح كذلك للغرض نفسه. (سوف نلخِّص هذه الفرضية في الزعم التالي: «أنا أحيا في وهم».)

  • (١)

    أنا لا أعرف ما إذا كنت غير موهوم (ولا أعرف كذلك ما إذا كنت أحيا في الوهم أيضًا، لكن تلك مسألة أخرى).

  • (٢)

    أعرف أنه إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة، فإنني لست موهومًا.

  • (٣)

    إذن أنا لا أعرف ما إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة.

حسنًا، ربما كانت القوة المنطقية لهذه الحُجة غير واضحة تمامًا؛ لذا دعونا نُفصِّلها بعض الشيء:
  • (١)

    أنا لا أعرف ما إذا كنت غير موهوم (المقدمة المنطقية الأولى).

  • (٢)

    أعرف أنه إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة، فإنني لست موهومًا (المقدمة المنطقية الثانية).

  • (٣)

    فلنفترض أني أعرف «بالفعل» أن حواسي تنقل لي الحقيقة (هذه ليست مقدمة منطقية جديدة، إنها مجرد افتراض. نذكره كي نفنده بعد ذلك).

  • (٤)

    عندئذٍ سأعرف أنني لست موهومًا. (نستنتج ذلك من رقم (٢) و(٣).)

  • (٥)

    لكننا قد اتفقنا بالفعل في رقم (١) على أنني لا أعرف هذا؛ ومن ثم لا بد أن الافتراض رقم (٣) خاطئ.

  • (٦)

    لذا أنا لا أعرف ما إذا كانت حواسي تنقل لي الحقيقة.

يعتمد هذا النوع من الحُجج على طرح فرضية نظرية (في هذا النموذج رقم (٣)) واستخدامها، مع مقدمات منطقية أخرى لاستنتاج تناقض. كلما تمكَّنَّا من استنتاج تناقض، فذلك يعني وجود خطأ ما؛ خطأ الافتراض النظري أو خطأ واحدة أو أكثر من المقدمات المنطقية. يعتقد المتشكك أن الافتراض النظري هو مَكمن الخطأ الواضح في الحُجة وأن بقية المقدمات المنطقية لا يمكن عقلانيًّا إنكارها.6 لكن الحُجة لن تكون سليمة إلا إذا كانت الاستنتاجات كافةً التي طُرحت خلالها صحيحة منطقيًّا، فهل هي كذلك؟

البدائل ذات الصلة ومبدأ الإغلاق

هل هذه الحُجة صحيحة منطقيًّا؟ بعبارة أخرى، هل الاستنتاج الذي تطرحه نشأ عن المقدمات عبر المنطق فحسب؟ الإجابة هي لا. هذه الحُجة هي ما يُطلق عليها علماء المنطق «قياسًا مضمرًا»؛ أي قياسًا يعتمد على مقدمة غير مصرَّح بها، مقدمة ليست صحيحة حسب المنطق وحده. تُعرف المقدمة المفقودة باسم «مبدأ إغلاق المعرفة» (أو اختصارًا مبدأ الإغلاق). في النموذج الأطول من الحُجة، استخدمنا رقمَي (٢) و(٣) كي نستنتج رقم (٤). أعرف أن حواسي تخبرني بالحقيقة (٣). وأعرف أنه إذا كانت حواسي تخبرني بالحقيقة فأنا لست موهومًا (٢). نستنتج من هذا أنني أعرف أنني لست موهومًا (٤) (وبما أن رقم (٤) استنتاج خاطئ، فرقم (٣) أيضًا خاطئ). يبدو الأمر معقولًا جدًّا. لكنه يعتمد بالفعل على مبدأ يتعلق بآلية عمل مفهوم المعرفة. إنه يعتمد على فكرة انتقال المعرفة عبر الاستلزام المنطقي. فيما يلي تعبير بسيط عن هذا المبدأ، باستخدام الرمزين «أ» و«ب» للدلالة على أي فرضيات:

مبدأ إغلاق المعرفة

إذا كان أحد الأشخاص يعرف «أ» ويعرف أيضًا أن «أ» يستلزم منطقيًّا «ب»، فإن ذلك الشخص يعرف «ب» أيضًا.

بدون هذا المبدأ، تعجِز حُجة المتشككين عن أداء وظيفتها. ربما تتساءل عن وجه الخطأ في الأمر، فمبدأ الإغلاق يبدو صحيحًا دون شك. إذا كان المرء يعرف شيئًا، ويعرف أن هذا الشيء يستلزم منطقيًّا شيئًا آخر، فكيف إذن لا يعرف هذا الشيء الآخر؟ يبدو من الصعب الجدل بشأن مبدأ الإغلاق. لكن هذا هو تحديدًا ما سنفعله. (وهذه طريقة واحدة فحسبُ من طرق الرد على المتشككين. يوجد العديد من المناهج الأخرى، لكننا سنتناول في هذا الفصل محاولات تفنيد حُجة المتشككين عبر إنكار مبدأ الإغلاق.)

كان فريد دريتسكي أول من طور هذا النهج المضاد لمنطق المتشككين، والذي يُعرف عامةً بحُجة «البدائل ذات الصلة» التي ترد على المتشككين (سنعرف عما قريب لماذا سُميت بذلك الاسم). يزعم دريتسكي أن مبدأ الإغلاق ليس صحيحًا في جميع الأحوال. ولتوضيح فكرته، سنعود إلى أحداث الفيلم. في المشهد الأخير من الفيلم، يتساءل كويد ما إذا كانت مغامرته تلك حُلمًا. هو لا يحلم، لكنه غير متأكد من ذلك. والآن فلنتأمل حالة ميلينا، هي ليست حائرة مثل كويد، ولا هي نتاج خياله.7 هي حقيقية، وتعرف أنها حقيقية. هي على كوكب المريخ، وتعرف أنها على كوكب المريخ (لقد قضت حياتها كلها عليه). هي تعرف أن كوهاجين طاغية (لقد تعاملت معه من قبل) … إلخ. هل تعرف أنها لا تحلم بكل هذا؟ هل تعرف أنها لم تقع في يد كوهاجين الذي زرع في دماغها ذكريات زائفة، ثم وضعها داخل ديكور زائف لفيلم تدور أحداثه على كوكب المريخ بصحبة ممثل يشبه أرنولد شوارتسنيجر كثيرًا؟ ربما لا تعرف ذلك، رغم كونها تعرف العديد من الأشياء الأخرى عن حياتها. كيف يمكن ذلك إذن؟
لكي نستوضح ذلك علينا تأمُّل طبيعة المعرفة. (ربما بدأت تفكر بالفعل أن الوقت قد حان لذلك.) ماذا نعني عندما ننسب المعرفة إلى شخص ما؟ نوع المعرفة الذي نتناوله ها هنا هو معرفة افتراضية؛ أي معرفة أن افتراضًا ما صحيحًا. كي نمتلك هذا النوع من المعرفة علينا أن نؤمن بافتراضٍ ما، وبأن هذا الافتراض صحيح. لكن هذا لا يكفي كي نكتسب «معرفة» حقيقية. ماذا نحتاج بالإضافة إلى ذلك؟ يرد دريتسكي بأننا نحتاج لأن نكون قد توصلنا إلى الاعتقاد في هذا الافتراض بطريقة موثوق بها. لكي يُنظر إلى اعتقادنا الصحيح بأنه معرفة، لا يمكن أن يكون إيماننا به قد حدث مصادفةً أو لمجرد أننا قد خمَّنَّاه أو لأنه قد غُرس في أذهاننا. ويقترح دريتسكي الاختبار التالي: لو كان هذا الافتراض خاطئًا، هل كنا سنظل مؤمنين به؟ إن أجبنا على هذا السؤال بنعم، فإن معتقدنا لا يتبع الحقيقة بما يكفي كي يُنظر إليه باعتباره معرفة. وإن أجبنا بلا، فإن معتقدنا الصحيح سيُعتبر معرفة.

اختبار دريتسكي للمعرفة

هل كنت سأومن بهذا الافتراض لو كان خاطئًا؟

الخصم الأهم لرؤية دريتسكي للمعرفة (وللكثير من تنويعاتها) هو نموذج «الاعتقاد الصحيح المبرر» للمعرفة. حسب نموذج الاعتقاد الصحيح المبرَّر، لا يُعتبر الاعتقاد الصحيح معرفة إلا إذا كان لدينا مبرِّر لاعتناقه. يبدو نموذج الاعتقاد الصحيح المبرَّر معقولًا للغاية، وقد شاع في الفلسفة لوقت طويل. لكن ثمة شائبة تشوبه. تأمَّل الحالة التالية: هبْ أنك نظرتَ إلى الساعة على حائط غرفة نومك، ووجدتَها تشير إلى العاشرة. وهبْ علاوةً على ذلك أن الساعة بالفعل العاشرة، وأنك تعتقد اعتقادًا مبرَّرًا تمامًا بأن الساعة تعمل كما ينبغي (لقد عملتْ بكفاءة منذ أن امتلكتَها، ولم يمضِ على تغييري بطاريتها سوى أسبوعين)؛ ومن ثَمَّ تصبح رؤية الساعة مبرِّرًا للاعتقاد بأن الساعة العاشرة. وإذا كانت الساعة العاشرة بالفعل، يصبح لديك اعتقاد صحيح مبرَّر بأن الساعة العاشرة. لكن هل تعرف أن الساعة العاشرة؟ فلتفترض أن الساعة قد توقفت دون علمك منذ ثلاثة أيام عند الساعة العاشرة بالضبط. في هذه الحالة، يمكننا القول إنه بالرغم من أن لديك اعتقادًا مبررًا بأن الساعة هي العاشرة، وأنها بالفعل كذلك، فإنك لا تعرف أنها العاشرة. لم يظهر لديك هذا الاعتقاد الصحيح المبرَّر سوى مصادفة. وذلك ينفي، على ما يبدو، زعم المعرفة. (الأمثلة المناقضة من هذا النوع تُعرف باسم «أمثلة جيتيه المناقضة» لأنها برزت إلى حيز الاهتمام للمرة الأولى في بحث شهير كتبه إدموند جيتيه (١٩٦٣).) لدى دريتسكي إجابة جاهزة على أمثلة جيتيه المناقضة. أنت لا تعرف أن الساعة العاشرة لأنه اتضح أنك لم تكتسب اعتقادك بأن الساعة العاشرة عبر سبل موثوق بها. إذا لم تكن الساعة العاشرة، هل ستظل تعتقد في هذه الحالة بأنها كذلك؟ نعم ستظل تعتقد بذلك؛ فالساعة ستظل تشير إلى العاشرة. لكنها ستكون خاطئة هذه المرة؛ ومن ثَمَّ لا تجتاز هذه الحالة اختبار دريتسكي للمعرفة. في هذا المثال، أنت لا تعرف كم الساعة الآن رغم كل شيء. تبدو هذه هي الإجابة الصحيحة بداهةً.

فلنتأمل اختبار دريتسكي عن كثب. هل تعرف ميلينا أنها على كوكب المريخ؟ هي تؤمن حقًّا أنها كذلك، لكن هل هي قادرة على اجتياز الاختبار؟ يبدو الاختبار سهلًا حقًّا. اعتقاد ميلينا بأنها على كوكب المريخ اعتقاد صحيح. لكن في حال كونه اعتقادًا خاطئًا، هل كانت ستستمر في الإيمان به؟ كيف نحكم على سؤال كهذا؟ إنه يطلب منا الحكم على صحة نوع خاص من الادعاء يُعرف باسم «شرط مناقض للواقع». يطرح هذا الشرط سيناريو افتراضيًّا خالصًا (سيناريو نعتقد أنه خاطئ، أو بعبارة أخرى مناقض للحقائق) ثم يقدِّم زعمًا حول ما كان سيحدث في هذا السيناريو الافتراضي. تأمَّل مثالًا آخر على الشرط المناقض للواقع: «لو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تقصف مدينتَي هيروشيما وناجازاكي، فإنها كانت ستنتصر رغم ذلك في الحرب العالمية الثانية.» هل هذا الزعم صحيح أم لا؟ كيف يُفترض بنا تفسير ذلك؟ إن الشرط المناقض للواقع يقدم زعمًا حول ما كان سيحدث في حالة عدم حدوث القصف، «مع بقاء العوامل الأخرى كافة في الحرب على حالها». من العبث الرد على هذا الشرط عبر تخيُّل احتمالات عجيبة (كأن نتخيل أن الولايات المتحدة تعفو عن هيروشيما، ثم في اليوم التالي تهبط كائنات فضائية من كوكب المشتري على المدينة، وتمنح الجيش الياباني سلاحًا خارقًا يمكِّنهم من الانتصار في الحرب، وتأسيس أسرة حاكمة تدوم لألف عام). الاحتمالات العجيبة غير ذات أهمية. يطرح الشرط المناقض للواقع زعمًا حول ما كان سيحدث إذا تغيَّر عامل واحد فقط (عدم حدوث القصف قطُّ) مع بقاء العوامل الأخرى كافةً كما هي باستثناء تلك العوامل التي نتجت عن هذا العامل المتغير. سيُطلق الفلاسفة على هذا الموقف المحتمل العالم الأقرب احتمالًا الذي لم يقع فيه قصف هيروشيما وناجازاكي. إنه عالم محتمل حيث ظل مسار الحرب وصولًا إلى نقطة الهجوم على هيروشيما وناجازاكي كما هو. ومن ثَم ظلت جميع العوامل التي أدت إلى هزيمة اليابان محتفظة بتأثيرها. كان الجيش الياباني في موقف محفوف بالمخاطر قبل القصف مباشرة، ودون توفُّر سبيل محتمل للانتصار لديه؛ ومن ثم كانت اليابان ستلقى، في الوقت المناسب، الهزيمة. بعبارة أخرى، كانت اليابان ستلقى هزيمة في العالم الأقرب احتمالًا حيث لم تقع الهجمات على هيروشيما وناجازاكي. إذا كان هذا صحيحًا، فإن الشرط الذي طرحناه صحيحًا كذلك. وإذا لم يكن هذا صحيحًا، فإن الشرط يصبح خاطئًا.

فلننظر كيف نطبق هذا على حالة ميلينا. تعتقد ميلينا اعتقادًا صحيحًا، كما يتضح في النهاية، أنها على كوكب المريخ. هل كانت ستظل تعتقد أنها على المريخ حتى لو لم تكن هناك؟ ما هو العالم الأقرب احتمالًا لوجودها فيه إذا لم تكن توجد ميلينا على كوكب المريخ؟ هل هو العالم الذي تكون فيه على كوكب الأرض، الذي سافرت إليه عبر مكوك فضائي؟ هل هو العالم الذي اختطفتْها فيه عصابة كوهاجين، وقيَّدتْها إلى جهاز زرع الذكريات، وغرست في ذهنها عَنوةً وهمًا يجعلها تظن أنها على كوكب المريخ؟ أيٌّ من تلك العوالم تعتقد أنه العالم الأقرب احتمالًا؟ بعبارةٍ أخرى؛ أيُّ سيناريو ينحرف بأقل قدرٍ ممكن عن العالم الواقعي؟ (تذكَّر، هذا العالم الواقعي هو العالم الذي تعيش فيه ميلينا بالفعل على كوكب المريخ، ويسجل الفيلم الأحداث وقتَ حدوثها تقريبًا.) من الواضح (أليس كذلك) أن سيناريو المكوك الفضائي الممل ينحرف عن العالم الواقعي إلى حدٍّ يقل كثيرًا من المنظور الدرامي عن السيناريو التشككي. في هذه الحالة، في وسع ميلينا أن تكتشف بسهولة أنها على كوكب الأرض، وليست على كوكب المريخ (ليس من الصعب اكتشاف الفرق بين الكوكبين). وهكذا أصبح لدينا إجابة عن سؤال الاختبار. لن تعتقد ميلينا أنها على كوكب المريخ لو لم تكن هناك. ومن ثَم تجتاز اختبار دريتسكي، هي تعرف أنها على كوكب المريخ.

حتى الآن تبدو الأمور جيدة. لكن ماذا عن مبدأ الإغلاق؟ كيف يؤدي بنا منظور دريتسكي للمعرفة إلى رفض مبدأ الإغلاق؛ ومن ثم رفض حُجة المتشككين؟ ميلينا تعرف أنها على كوكب المريخ. لكن هل تعرف أنها لم تتعرض للخداع على يد كوهاجين وشركائه كي تظن أنها على المريخ بينما هي ليست هناك؟ ذلك سؤال مختلف. ربما تعتقد أنها لم تتعرض للخداع، وربما تكون على حق في ذلك. لكن هل «تعرف» أنها لم تتعرض للخداع؟ دعونا نطبق اختبار دريتسكي مرة ثانية؛ هذه المرة على اعتقاد ميلينا بأنها «لم تتعرض للخداع على يد كوهاجين وشركائه.» يعجِز هذا الافتراض عن اجتياز اختبار دريتسكي. فإذا كانت ميلينا قد تعرضت للخداع في إطار مؤامرة دفعتها إلى الاعتقاد بأنها على المريخ، فإنها ستظل تعتقد أنها على المريخ (فذلك هو هدف المؤامرة في النهاية). بالطبع إذا فكرت ميلينا في هذه الفرضية التشككية فإنها ستنبذها على الأرجح باعتبارها فرضية زائفة. رغم ذلك فإن نبذها للفرضية، رغم كونه صحيحًا، ليس قويًّا ولا موثوقًا به بما يكفي لاعتباره معرفة. النتيجة النهائية لهذا كله هي أن مبدأ الإغلاق سيُخفق في تفسير حالة ميلينا. هي تعرف أنها على كوكب المريخ، وتعرف أنها إذا كانت على المريخ، فهي إذن لم تقع فريسة لمؤامرة كوهاجين الرامية لخداعها كي تظن أنها على كوكب المريخ في حين أنها ليست هناك. لكن رغم ذلك، هي لا تعرف أنها ليست ضحية لهذه المؤامرة، وحقيقة أنها لا تستطيع استبعاد الفرضية التشككية على نحو موثوق به لا تعني أنها لا تستطيع الاعتقاد على نحو موثوق به بمجموعة كاملة من الأشياء الحقيقية، من بينها أنها على كوكب المريخ مع كويد، وأنهما قد أنقذا الكوكب لتوِّهما. حسب تعبير دريتسكي، البديل الذي يرغب المتشكك في أن ننظر إليه بجدِّية هو بديلٌ غير ذي صلة فيما يتعلق بتقييم ما إذا كانت معتقدات ميلينا اليومية تُعتبر معرفة أم لا.

تتبُّع الحقيقة وتعقُّب المبرِّرات

مع ذلك توجد مشكلة. (بالطبع توجد مشكلة؛ فلا يمكن أن توجد فلسفة دون مشكلة.) يحقق تحليل دريتسكي على ما يبدو نجاحًا مبهرًا في حالة ميلينا، لكنه يتمخض على ما يبدو عن نتيجة سلبية في حالة كويد. لقد ذكرنا منذ لحظات أن كويد عالق في مأزق تشككي. حسب رؤية دريتسكي، ذلك غير صحيح. باستثناء التذبذب الذي يبديه في نهاية الفيلم — والمشهد القصير حيث أوشك الدكتور إدجمار على هزيمته — هو يعتقد أنه على كوكب المريخ. وهو على حق كما سيتضح لاحقًا. هل كان سيستمر في اعتقاده هذا لو لم يكن صحيحًا؟ لاحظ أن السؤال هنا ليس: «هل كان سيظل يعتقد ذلك لو كان على كوكب الأرض يعاني انسدادًا دمويًّا فصاميًّا؟» ذلك سؤال لا يمتُّ للموضوع بصلة؛ نحن نسأل عما إذا كان إيمانه ﺑ «ظروفه الفعلية» يتبع مسار الحقيقة على نحو موثوق. حسب الفيلم، فإن الظروف الفعلية التي تحيط بكويد تؤكد أنه على كوكب المريخ، يكافح في سبيل إنقاذه. والإجابة عن هذا السؤال الأخير — هل كان كويد سيظل معتقدًا أنه على كوكب المريخ إذا كان قد رجع إلى الأرض يباشر حياته الطبيعية؟ — هي لا. إذا كان كويد قد رجع إلى كوكب الأرض فلن يواجه أي صعوبة في اكتشاف الفارق بين الكوكبين؛ وهو ليس بفارق تصعب ملاحظته في النهاية. إذن، حسب نظرية دريتسكي، يعرف كويد تمامًا أنه على كوكب المريخ، وأن شكوكه في غير موضعها. لكن بالطبع، لا يمكن نعت شكوكه بالتفاهة. لقد أُعد فيلم «استعادة كاملة» إعدادًا بارعًا كي يعرض كيف يتتبَّع المرء الحقيقة على نحو موثوق، ورغم ذلك تكتنفه شكوك مشروعة تمامًا. يبدو أنه «يجب» على كويد التشكك في أنه على كوكب المريخ بالنظر إلى التجارِب التي خاضها على مدار البضعة الأيام الماضية، لا مثلما يتشكك المتشككون على نحوٍ غامض في كل شيء تقريبًا، بل يتشكك تشككًا جدِّيًّا. (بالتأكيد ذلك ما يفعله تحديدًا في أجزاء عدة من الفيلم؛ وربما لو كان أكثر ذكاءً بعض الشيء لزاد معدل تشككه.) يبدو من الغريب القول بأن شخصًا ما يعرف شيئًا لكن ينبغي له التشكك جدِّيًّا في كونه حقيقيًّا أو لا. «أنا أعرف «أ»، لكن ينبغي لي التشكك جدِّيًّا في كونه حقيقيًّا.» يبدو الأمر متناقضًا نسبيًّا.

إذن أين يكمن الخطأ؟ نقترح التفسير التالي: يحقق اختبار دريتسكي نجاحًا كبيرًا في أوقاتٍ كثيرة، رغم ذلك هو حل ذو إطار واحد لا يمكن تعديله ليناسب شتى المواقف. ولا يقيس على نحو وافٍ الطريقة التي لا يتتبع بها الأشخاص الحقيقة فحسب (مثلما تتتبَّع أزهار عباد الشمس قرص الشمس) وإنما طريقة تتبُّعهم للمبررات كذلك. قد يتتبع شخصان الحقائق تتبُّعًا موثوقًا بالدرجة نفسها، ورغم ذلك يختلفان تمامًا فيما تدفعهما مبرراتهما إلى الاعتقاد به. ربما يجد أحدهما مبررًا للشك في حقيقة التجرِبة التي مرَّا بها (كما في حالة كويد)، في حين لا يجد الشخص الآخر مبررًا لذلك (كما في حالة ميلينا). ينبغي أن تتبع عملية نسب المعرفة المبررات التي تدفع الناس إلى التشكك في معتقداتهم أو عدم التشكك فيها. ولا ينبغي لها الاكتفاء بتتبُّع الوضع الخارجي لأدائهم بوصفهم فاعلين بَشَريين يسعَون لاكتساب المعرفة.

نحن لا نرغب في استبعاد اختبار دريتسكي بعيوبه ومحاسنه على حدٍّ سواء. هل ثمة طريقة لتعديله بحيث يُسفر عن نتائج صحيحة في الحالات المشابهة لحالة ميلينا وتلك المشابهة لحالة كويد أيضًا؟ نقترح المحاولة التالية التي تتضمن سؤالين لا بد من الإجابة عنهما بالنفي كي يُنظر إلى أي اعتقاد حقيقي باعتباره معرفة:
تتبع الحقيقة: هل كنت سأظل معتقدًا في «أ» إذا كان زائفًا؟
الاستجابة للمبررات: هل لديَّ مبرر جيد لعدم الاعتقاد في «أ»؟
إن الاعتقاد الصحيح الذي يتعقَّب الحقيقة بفعالية ويستجيب للمبررات بكفاءة على النحو الذي يحدده هذا الاختبار يمكن اعتباره معرفة.8 بالطبع لن يسعنا التقدم أكثر دون وصفٍ لطبيعة «المبرر الجيد». وتلك مسألة لا يمكننا بحثها ها هنا. من منظور بديهي، لدى كويد مبررات جيدة للاعتقاد بأنه ليس على كوكب المريخ (جميع المصادفات التي دفعته دفعًا إلى مغامرته؛ حقيقة أنه دفع مقابلًا ماديًّا لقاء مغامرة تُدعى «سماء زرقاء على كوكب المريخ» وكيف انتهت به الحال لينظر إلى سماء المريخ التي أصبحت زرقاء … إلخ). من ناحية أخرى، ميلينا لا تملك مبررًا جيدًا يدفعها للاعتقاد بأنها ليست على كوكب المريخ. والمؤلف لا يملك مبررًا جيدًا يدفعه للاعتقاد بأن يده التي يراها أمامه (تَخيَّل أحد مؤلفي الكتاب يُلوِّح بيده أمام وجهه) ليست حقيقية.9 إن النقطة المحورية في صراعنا مع الشكوكية هي أن الاحتمالات التشككية لا تمنحنا، في الظروف العادية، مبررات جيدة للتشكك في المعتقدات المعتادة. كل ما في الأمر أن الظروف التي مر بها كويد لم تكن طبيعية على الإطلاق.

أسئلة

  • «أنا أفكر إذن أنا موجود» هذا هو استنتاج ديكارت الأشبه بنقطة ارتكاز أرخميدس. زعم أرخميدس (وكان محقًّا) أنه إذا توفرت نقطة ارتكاز ثابتة (لا تتحرك أبدًا) ورافعة صلبة تمامًا ذات طول مناسب (لا بد أن تكون طويلة)؛ ففي وسع المرء تحريك الكرة الأرضية مستعينًا بقوته فقط. هل استطاع ديكارت دفع المتشككين بعيدًا عبر نقطة ارتكازه الخاصة، وباستخدام قدراته العقلية ليس إلا؟ ماذا ستُسفر عنه المعرفة اليقينية الكاملة بوجود المرء سوى معرفة يقينية كامله بوجوده؟ إذا كان كل ما تعرفه هو أنك موجود، كيف تعرف أنك «كائن مفكر»؟ ما الذي يجعل ديكارت واثقًا من هذا؟ ما الأشياء الأخرى التي قد يثق بها أيضًا؟

  • هل كنا على حق في زعمنا أن كويد موجود حقًّا على كوكب المريخ (في الفيلم)؟ هل يوجد ما يدعم تفسيرًا أكثر غموضًا للفيلم؟ لقد زعمنا أن الفيلم مرويٌّ من منظور طرف ثالث نظرًا لوجود الكثير من المَشاهِد؛ حيث نرى أحداثًا منفصلة تمامًا عن منظور كويد. إذا كانت القصة كلها وهمًا، فإلى أي جزء من الوهم تنتمي هذه الأجزاء؟ هل يمكن للمرء عيش وهم من منظور طرف ثالث؟ وهل سيظل وهمًا فعالًا في هذه الحالة؟

  • معظم الأفلام التشككية (أي الأفلام التي تُجسِّد أفكارًا رئيسيةً تشككية) تحقق تأثيرها عبر وضع المشاهدين في مأزق تشككي (يتوحد الجمهور مع بطل الفيلم فيصير لا يعرف ما الحقيقي أكثر مما يعرفه البطل). يتبنى فيلم «استعادة كاملة» عكس هذا الأسلوب؛ إذ يعرض بطلًا لا يعرف ما الحقيقي — بطلًا ينبغي أن تكتنفه الشكوك، وينبغي أن ينبذ معتقداته حول ما هو حقيقي، أو على الأقل يقبل أنه لا يعرف — بينما يعرض للجمهور ما هو حقيقي في الواقع (في الفيلم). لقد زعمنا أن هذا السيناريو أكثر إثارة للاهتمام بمراحل في مجال دراسة المعرفة والشكوكية مقارنة بالسيناريو المعتاد للأفلام التشككية. هل نحن مُحِقُّون في هذا؟ ولماذا؟

  • في هذا الفصل، ركزنا على حجة تشككية واحدة، وزعمنا أنها تقتضي ضمنًا مبدأ الإغلاق. إذا استطعنا التغلب على مبدأ الإغلاق، يمكننا استبعاد الحُجة التشككية. هل نجح دريتسكي في تفنيد مبدأ الإغلاق؟ لقد طرح منظورًا للمعرفة يدفع بأن مبدأ الإغلاق لا ينطبق على نحو دائم. لكن أهذا منظور مقبول للمعرفة؟ انتقدنا منظور دريتسكي للمعرفة في هذا الفصل أيضًا. (بالتأكيد تكمن القيمة الكبرى للفيلم في أنه يهدد صحة منظور دريتسكي.) هل يعني هذا أن الحجة التشككية قد استعادت قوتها؟ (ربما لا. يعتمد هذا على أيٍّ من جوانب نظرية دريتسكي نجت من هجومنا النقدي، أو بالطبع على ما إذا كان نقدنا نجح من الأساس.)

  • في نهاية هذا الفصل، نقترح منظورًا هجينًا للمعرفة: تتطلب المعرفة تتبُّع الحقيقة والاستجابة للمبررات على حدٍّ سواء. وقد ابتكرنا هذا المنظور لتناول حالة «استعادة كاملة»، بينما نحتفظ في الوقت نفسه بأكبر قدر ممكن من مزايا منظور دريتسكي. يقتصر عامل الاستجابة للمبررات في هذا المنظور على الحد الأدنى. إنه لا يتطلب إلا عدم امتلاك المرء مبررات تكفي لرفض الاعتقاد قيد البحث. هل ينبغي منح هذا العامل مزيدًا من القوة؟ أينبغي أن نملك مبررًا إيجابيًّا يدفعنا للاعتقاد في افتراض ما كي يعتبر اعتقادنا معرفة؟ ما نقاط القوة والضعف التي قد تترتب على هذا التنقيح؟

  • يوجد العديد من الرؤى المختلفة للمعرفة في الفلسفة المعاصرة. لقد ناقشنا رؤيتين (رؤية دريتسكي وتعديلنا الهجين لها). تعتمد بعض الرؤى الفلسفية الأخرى للمعرفة على فكرة أن المعتقد الذي يعتبر معرفة هو مفهوم يختلف من سياقٍ لآخر. إذا سألك صديق هل تعرف أين ركنت سيارتك، ربما تستطيع الإجابة عن سؤاله إجابة صحيحة بأنك تعرف. (أنت تتذكر أنك ركنتها.) إذا سألك فليسوف شكوكي، فسيصعب التكهن بنتيجة هذا الموقف. هذا النوع من نظرية المعرفة يُعرف باسم «السياقية»، وله تنويعات عديدة. هل تعتقد أن مزاعم المعرفة تختلف من سياق لآخر كما يبدو في هذا المثال؟ ما الذي يمكن فعله فيما يتعلق بالنظريات التي ناقشناها كي نجعلها متوافقة مع السياقية؟

هوامش

(1) Other films with interesting skeptical themes include The Usual Suspects (1995), Open Your Eyes (1997) and its US remake Vanilla Sky (2001), The Truman Show (1998), Dark City (1998), The Matrix (1999), The Thirteenth Floor (1999), and Inception (2010). (As you can see from our list, the late 1990s were a high-water mark for films about skepticism.)
(2) Terraformation is a process of transforming the atmosphere, climate, and surface of a planet so that it becomes habitable by humans. The terratransformation of Mars has been suggested quite seriously. See Fogg (1995).
(3) Mark Rowland exploits this crisis to argue, rather persuasively, for the psychological continuity theory of personal identity. (See our discussion of personal identity in chapter 8.)
(4) The filmmakers themselves appear rather confused on this issue. In the audio commentary to the 2005 Universal DVD release of the film, both the film’s director, Paul Verhoeven, and its star, Arnold Schwarzenegger, insist that the film is completely open to two interpretations: a dream interpretation and a realist interpretation. They appear not to appreciate the full significance of their film’s third-person perspective.
(5) Perhaps the most famous skeptical argument of this kind is Descartes’ dreaming argument, introduced in his Meditations on First Philosophy. Descartes asks us whether there are any certain marks by which we can tell that we are awake rather than dreaming. Any criterion we might try to use (we pinch ourselves; we try turning on a light-switch) could be one we are dreaming, so it can’t be used to definitively mark out dreaming from waking experience. Eventually (in Meditation Six), Descartes tries to show that there are criteria for distinguishing waking from dreaming that we can be completely certain about, but when he first introduces the argument (Meditation One) there seems to be no grounds at all for such optimism.
(6) Some philosophers have attempted to reject premise (1). (1) says that we don’t know that we are not the victim of a skeptical scenario. We don’t know that we aren’t having a schizoid-embolism. Or we don’t know that we are not now dreaming. Or we don’t know that we are not what philosophers call “a brain in a vat” being fed signals from a computer (as depicted in The Matrix (1999)). Putnam (1981) argues that we can prove we aren’t a brain in a vat. Using philosophy!
(7) In spite of the fact that her last line in the film makes her sound like a dream-figment. She says (at 1:44) “Then kiss me before you wake up.” She should have said, “Then kiss me before I wake up.” Apart from being an exercise in sexism, Melina’s dialogue is an attempt by the filmmakers to press the schizoid-embolism interpretation. As we have seen, however, they completely undermine all such attempts by shooting much of the film from a non-Quaid perspective.
(8) Philosophers distinguish between internalist and externalist accounts of knowledge. Internalists tie knowledge to some condition accessible to the believer (for example, justification). Externalists don’t do this. They tie knowledge to some condition that need not be accessible to the believer (e.g. reliability of belief-forming processes). This account is internalist because whether or not one has a good reason to believe something looks like a condition we should potentially be aware of.
(9) This example is based on G. E. Moore’s famous proof that an external world exists. See Moore (1959, chapter 7).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤