الفصل الثاني

تركة ديكارت

ما هو العقل على وجه التحديد؟ ذاك سؤالٌ اشتبكَ معه الفلاسفةُ وغيرُ الفلاسفة طوال التاريخ المسجَّل. يرى البعضُ أن العقولَ كياناتٌ روحيةٌ تُقِيم في الأجساد بصفةٍ مؤقتة، فتدخلها عند الإخصاب أو الميلاد، وتغادرها عند الموت، وما الموتُ في حقيقة الأمر إلا ارتحالُ روحِ الجسد. ويتصور البعضُ الآخرُ أن العَلاقةَ بين العقول والأجسام أكثرُ الْتصاقًا، ويرَون أن العقولَ ليست كيانات، فالعقولُ تُماثِلُ القبضةَ والحِجر؛ يوجد العقلُ عندما ينتظم جسمٌ ما بطريقةٍ معينة، ويغيب فيما دون ذلك. وهناك، بَعدُ، مَن يذهبون إلى أن العقول هي حقًّا كيانات، كياناتٌ فيزيقية، فما العقولُ سوى الأدمغة.

وهدفُ هذا الفصلِ هو الشروع في تصنيف بعض هذه الدعاوَى١ المتنافسة، ومن ثم توضيح ماذا نريد على وجه التحديد عندما نسأل ما هي العقول. وسوف نرى أن الأمور قلما تكون محدَّدة. ولا غَروَ، فالأحاجي التي يطرحها بحثُ العقول هي بعضٌ من أعمق الأحاجي في الفلسفة. وفي النهاية قد لا نجد أي حل من الحلول المعروضة مُرضيًا تمامًا. غير أننا على الأقل سيكون لدينا فهمٌ أفضلُ للمحاسن والعيوب المتأصلة في الطرائق المختلفة من تصور العقول.

وبَعدُ، فإني أود أن أبادر باعتراض خطٍّ طبيعي من الاستجابة في هذا الصدد؛ فثمة موقفٌ عام في الفلسفة مُؤداه أن الفلاسفة لا يجيبون عن أسئلةٍ قَط، بل يضعونها فحسب، ومهمة العلماءِ، في المقابل، هي تقديم أجوبة. أما الأسئلة التي تندُّ عن العِلم، الأسئلة التي تبدو غير قابلة للإجابة علميًّا، فإنها كثيرًا ما تُنبَذ بوصفها «مجرد أسئلة فلسفية». وقريبٌ جدًّا من هذه الصورة الانتقاصية للفلسفة فكرةُ أنه إذا كان المَقامُ مَقامَ فلسفةٍ فليس ثمة حقائق مستقرة راسخة، وسيانِ أيُّ رأيٍ وأيُّ رأيٍ آخر.

هذا التصور عن الفلسفة وعلاقتها بالعلم تصورٌ قاصرٌ وساذج. فما يمتنع على العلم ليس بالضرورة غيرَ محسوم. فحالةُ العالَم، على سبيل المثال، قُبَيلَ وبُعَيدَ الانفجار العظيم، قد تمتنع على المعرفة إلى الأبد؛ إذ من المؤكد أننا مقطوعون عن هذه الحالة. غير أن من الباطل أن نستنتج من ذلك أنه لم تكن ثمة مثل هذه الحالة، أو أن أي دعوى عن صفة هذه الحالة كأي دعوى أخرى. وبالمثل فإن حقيقةَ أنه لم يوجد اتفاقٌ يُذكَر بين الفلاسفة حول وضع العقول لا يَلزم عنها أن العقول ليس لها وضعٌ محدَّد.

وكما سوف نرى في الفصول القادمة فإن الأسئلة التي تَطرَح نفسَها في فلسفة العقل قَلَّما تكون قابلةً للتحقيقِ التجريبي المباشر. والسؤال التجريبي (الإمبيريقي) هو ذلك السؤال الذي يمكن البتُّ فيه، من حيث المبدأ على الأقل، بواسطة التجربة. ورغم أن النتائج التجريبية تَشهَد ضد بعض التصورات عن العقل، فإن معظم التصورات التقليدية عن العقل تتسق مع الأدلة التجريبية التي نمتلكها الآن، أو التي يُتصوَّر أن نمتلكها في المستقبل، أيًّا ما تكن هذه الأدلة. وها هنا لا يمكن أن يكون مُرشِدنا هو العلم، فالعلمُ يقدم إطارًا فضفاضًا لتمثيل النتائج التجريبية، ولكن ليس ثمة مبادئ علمية صارمة تبين لنا كيف نؤوِّل تلك النتائجَ أو نسبغ عليها المعنى. من أجل ذلك يجب علينا أن نتجه إلى «الحس المشترك» common sense وإلى الفلسفة. وهذا لا يعني أن علينا تقديم نظريات فلسفية على وجه الخصوص في عملية فرز الأدلة التجريبية، بل يعني بالأحرى أن عملية فرز النتائج العلمية، والتوفيق بينها وبين الخبرة المعتادة، وبينها وبين جملة الاعتقادات التي اتخذناها على أساس هذه النتائج؛ هذه العملية هي نوعٌ من التفلسف، فالفلاسفة المعتمَدون ليسوا وحدَهم الفلاسفة، إنْ هم إلا أولئك الذين يمارسون تفلسفَهم عن وعيٍ ودراية.

الثنائية الديكارتية

ولنأخذْ كنقطةِ بدءٍ التصورَ الجَهيرَ عن العقل الذي قدمه رينيه ديكارت René Descartes (١٥٩٦–١٦٥٠). ذهب ديكارت إلى أن العقول والأجسام هي «جواهر» substances من صنفين متمايزين، صنفين اتفق لهما في حالة الكائنات الإنسانية الحية أن يكونا وثيقَي الصلة. هذه الثنائية في الجواهر (والتي صارت تُسمَّى فيما بعدُ الثنائية الديكارتية Cartesian dualism) أصبحت في هذه الأيام صادمةً لمعظم الفلاسفة والعلماء المهتمين بالعقل كتصورٍ مضلل على نحوٍ ميئوسِ منه. وأصبح يُفترَض على نطاقٍ عريض، حتى وقتٍ قريبٍ جدًّا، أن مشكلة العقل-الجسم المُشهَّرة تنجم عن قبول الصورة الديكارتية، قد يكون حلًّا للمشكلة أن نرفض الثنائية، ولكن هذا التشخيص كما سوف نرى لم يحالفه التوفيق. غير أن بوسعنا أن نبدأ في تأسيس فهمٍ لمشكلة العقل-الجسم بأن نفحص مقاربة ديكارت للعقل.
ولنلحظْ، بادئَ ذي بدء، بعض الفروق البادية للوهلة الأولى بين الموضوعات والحالات العقلية من جهة، والموضوعات والحالات المادية من جهة أخرى. فالأشياء المادية «مكانية» spatial. إنها تشغل موضعًا في المكان، وتُبدِي أبعادًا مكانية. أما الأشياء العقلية — الأفكار والإحساسات على سبيل المثال — فمن الواضح أنها غير مكانية. ما هو حجم، أو شكل، رغبتك في شطيرة بِرجَر كِنج؟! وهل تفكيرُكَ في فِيِنَّا مثلثُ الشكل؟! يبدو هذان السؤالان لا معنى لهما.
ربما تتصور الإحساساتِ، أو بعضَها على الأقل، على أن لها مواضعَ مكانية. فالألم الذي في إبهام قدمِكَ اليُسرَى هو، بعد كل شيء، في إبهام قدمك اليسرى. (هل يعني ذلك أنه ألمٌ على شكل إبهام قدم؟) ولكنْ هل هذا صحيحٌ تمامًا؟ انظرْ إلى ظاهرة «الألم الشَّبحي» phantom pain، وهي ظاهرة كانت معروفةً جيدًا لدى ديكارت ومعاصريه. فأولئك المبتورةُ أطرافُهم كثيرًا ما يَخبُرون آلامًا في أطرافهم المبتورة. ومن الجائز أن تكون إبهامُ قدمِك مبتورةً وأنت لا تزال رغم ذلك تحس نفس النوع من الألم النابض الذي كنتَ تحسه قبل بترها، وقد يبدو لك هذا الألمُ في الموضع الكائن في نهاية قدمك، والذي كانت تشغله إبهامُ قدمِك فيما مضى. إن ذلك يومئ إلى أننا، وإن كنا نَخبُر الآلامَ والإحساساتِ الأخرى على أنها تحدث في مواضعَ جسميةٍ شتَّى، فليس معنى ذلك أن خبرات الألم تحدث في هذه المواضع. وبِوُسعنا أن نقول مع ديكارت إن خبرة ألم في إبهام قدمك اليسرى هي نوعٌ من الخبرة، نوعٌ يختلف كيفيًّا عن خبرة ألم في إبهام قدمك اليمنى. وليس ثمة ما يبرر الاعتقاد (بل ثمة حقًّا ما يبرر عدم الاعتقاد) بأن مثل هذه الخبرات لا بد أن تكون قائمة في المواضع التي نحسُّ بأنها قائمةٌ فيها.

الحالات العقلية إذن، بخلاف الحالات المادية، تتميز فيما يبدو بأنها لا مكانية. هذا على أية حال هو ما خلَصَ إليه ديكارت. وثمة فرقٌ آخر بين العقلي والمادي، هو فرقٌ كيفي. انظرْ إلى كيفيات خبرتِك بألمٍ في إبهام قدمِك. قد تجد هذه الكيفيات عصيةً على الوصف، غير أن هذا لن يؤثر على درايتِكَ بها، فانظرْ هل بِمُكنتِكَ أن تتوقع أن تصادف هذه الكيفيات في شيءٍ مادي؟ إن عالِمَ الأعصاب الذي يلاحظ جهازَك العصبي وأنت تكابد خبرةَ الألم لن يلاحظ شيئًا مشابهًا، كيفيًّا، لِأَلمِك. بل إن إمكان ذلك يبدو أمرًا لا معنى له.

يمكن تلخيص المسألة كما يلي: تبدو كيفياتُ خبراتِنا الواعية مغايرةً تمامًا لكيفيات الأشياء المادية، بل مُغايِرةً لكيفياتِ أيِّ شيءٍ مادي يمكن تصورُه. والنتيجة الطبيعية هي أن الكيفيات العقلية ليست كيفياتِ أشياء مادية، الكيفياتُ العقليةُ تختلف في النوع عن الكيفيات المادية.

وثمة فرقٌ ثالثٌ بين العقلي والمادي، وهو فرقٌ إبستمولوجيٌّ٢ بعضَ الشيء، أي يتعلق بطريقةِ معرفتِنا بهذه الأشياء. إن المعرفةَ التي لديك عن حالاتِ عقلِك ذاتِها هي معرفةٌ مباشرةٌ ولا تقبل الاعتراضَ، كشأنِ معرفتِك بالأشياء المادية. يصوغ الفلاسفةُ هذا الأمرَ بقولهم إن لدينا «مَنفَذًا ذا امتياز» privileged access إلى حالات عقلِنا الخاصة. وكان ديكارت نفسُه يعتقد أن هذه المعرفة «لا تقبل التصويب» incorrigible؛ فأفكارُكَ عن حالات عقلِك الراهنة لا يمكن أن تكون كاذبة. وكان يعتقد أيضًا أن محتويات عقولِنا مكشوفةٌ لنا، ومن ثم فإنك إذا كنتَ في حالةٍ ذهنيةٍ معينة فأنت إذن تعرف أنك في هذه الحالة، وإذا اعتقدتَ أنك في حالةٍ ذهنية معينة فأنت إذن في هذه الحالة.
إن الفكرة الديكارتية القائلة بأن العقل شفافٌ على هذا النحو لَتصدِمُنا في هذه الأيام كفكرةٍ فيها شَطَط. فقد أقنعَنا فرويد منذ زمن طويل بأن الكثيرَ مما هو في العقل قد يكون خَفيًّا. وقد ذهب العلماءُ المعرفيون (الإدراكيُّون)٣ الأحدثُ إلى أن معظم الحالات والعمليات العقلية هي دون مَنال الوعي. غير أن بِمُكنتِنا أن نقبل هذا كلَّه دون أن نطَّرِح الاستبصارَ الديكارتي المحوري. فالمَنفَذ الذي لدينا إلى حالاتنا العقلية الخاصة هو مَنفَذ مميَّز حتى لو لم يكن معصومًا. فأنت تُضمِر أفكارَك وتُكابد آلامَك عن وعيٍ ذاتي، أما أنا فلا يمكنني إلا أن «أستدل» infer على حدوث هذه المجريات فيك. إن مَنفَذك إلى حالات عقلِك الخاصة مَنفَذ مباشرٌ وغيرُ مُتوسَّطٍ فيه، أما منفذي أنا إلى حالاتِ عقلِك فهو غير مباشر في جميع الأحوال.
بِوُسعنا أن نَصوغَ هذا بأن نقول إن حالات العقل «خصوصية» private. فهي غير قابلة للملاحظة المباشرة إلا من جانب الشخص (أو الكائن) الذي يحوزها. وليس بِمُكنَة الأغيارِ إلا الاستدلالُ عليها من نتائجها المادية. إن بإمكانك أن تُنبِئَني بما تفكر فيه، أو بإمكاني أن أُخمِّن ذلك من تعبير وجهِك. وقد يأتي يومٌ يتمكن فيه علماءُ الأعصاب من الاستدلال على ما تفكر فيه بملاحظةِ أنماطِ الأنشطة العصبية. إلا أن ملاحظاتنا لحياتِك الذهنية ليست على الإطلاق مباشِرةً بالطريقة التي تبدو بها لديك.
أما في صَدَد الأشياء المادية وحالاتِها فالأمرُ جِد مختلف. فإذا كانت المفرداتُ العقليةُ خصوصيةً بالضرورة، فإن الأشياءَ الماديةَ عموميةٌ بالضرورة. فإذا كنا بإزاءِ شيءٍ مادي أو حالةِ شيءٍ مادي، وكنتَ في موقعٍ يُهيِّئ لك ملاحظتَه، فإن بإمكان أي شخصٍ آخر أن يلاحظه بالمثل إذا ما اتخذ موقعَك في الملاحظة. ولا وجود البتة ﻟ «عدم تماثل»٤  asymmetry المَنفَذ الذي نجده في حالة العقول. يشير هذا، مرةً ثانيةً، إلى أن العقول والأجسام المادية نمطان مختلفان تمامًا من الأشياء. ويُقدِّم ديكارت تفسيرًا لهذا الاختلاف؛ فالعقول والأجسام المادية نوعان متمايزان من الجوهر. يمتلك الجوهرُ العقليُّ خَواصَّ لا يمكن أن يمتلكها أيُّ جوهر مادي، ويمتلك الجوهرُ المادي خواصَّ لا يمكن لأي جوهر عقلي امتلاكُها. والحق أنه وَفقًا لديكارت، فليس ثمة أي تداخل في الخواص التي يمتلكها الجوهران العقليُّ والمادي.
ولنرسمْ، قبل أن نتناول رأيَ ديكارت بتفصيلٍ أكبر، مُخَططًا للفروق الثلاثة، التي استخلصناها من فورنا، بين المادي والعقلي (انظر شكل ٢-١). ولَسوف نستأنف عرضَ هذه التمييزات في فصولٍ لاحقة، أما الآن فلنَقبلْها على عِلاتها، وننظرْ ما يترتب عليها.
fig2
شكل ٢-١

الجواهر، والصفات، والحالات

يفترض ديكارت أن العالَم مكوَّنٌ من جواهر. و«الجوهر» substance ليس يَعنِي، كما قد تُوحِي اللفظةُ، نوعًا من الخامة كالماء أو الفحم أو الطلاء. فديكارت، مُتبِعًا للتراث، يعتبر الجواهرَ أشياء أو كيانات فردة. فالطاولة التي أكتب عليها الآن هي، بهذا المعنى التقليدي، جوهر، مثلما هو القلم الذي أمسك به في يدي، ومثلما هي الشجرة الكائنة خارج شرفتي، والطائر الذي يعشش في فروعها. وهذه الجواهرُ مُعقَّدة؛ فهي مكوَّنةٌ من جواهرَ أخرى، من أجزائها. طاولتي، مثلًا، مصنوعةٌ من قِطَع من الخشب، منظَّمةٍ بطريقةٍ معينة، وكل قطعة من هذه القطع الخشبية (وكل بُرغيٍّ من البراغِي التي تُمسِكها معًا) هي جوهرٌ بِحقِّها الشخصي. كذلك القلم، والشجرة، والطائر، كلها مجبولةٌ من أجزاء هي ذاتُها جواهر. وبالطبع هذه الجواهر هي ذاتُها مجبولةٌ من جواهر متميزة. (والسؤالُ الطبيعي المطروح هنا هو ما إذا كان كلُّ جوهرٍ مكوَّنًا من أجزاءٍ، كلُّ واحدٍ منها هو جوهرٌ مميز. إن هذا يبدو بعيد الاحتمال. وسوف نعود إلى هذا السؤال في الفصل السادس.) لاحِظ أن الجواهر هي أفراد — «جزئيات» particulars، في رطانةِ الفلاسفة — كشيءٍ مختلف عن الفئات أو أنواع الأشياء، فهذا الطائر وهذه الشجرة جوهران، ولكنَّ فئةَ الطيورِ هي فئةٌ وليست جوهرًا، والزان والسنديان جنسانِ من الجوهر وليسا جوهرين.
تنبغي التفرقةُ بين الجواهر والأفراد غير الجوهرية من جهة، وبينها وبين الخواص من جهةٍ أخرى. فالأفرادُ غيرُ الجوهرية تحتوي على وحداتٍ «عيانية» concrete،٥ مثل الأحداث events، وكيانات «مجردة» abstract، مثل المجموعات sets والأعداد. قد يُعَد الحدثُ (عبور دجاجةٍ للطريق مثلًا) جزئيًّا مؤرَّخًا غيرَ قابلٍ للتكرار. ومن هذه الوجهة تُماثِل الأحداثُ الجواهرَ. وبالضبط كما أن حَبتَي بازلاء متشابهتين تمامًا في قرنةٍ هما رغم ذلك حبتان منمازتان، فإن قراءتَك هذه الجملةَ الآن هو حدثٌ، وقراءتَكَ عينَ الجملةِ غدًا هو حدثٌ آخرُ منفصل. غير أن الأحداثَ ليست جواهر، بل هي تغيراتٌ تَعتوِر الجواهر. كما أن الأحداث جزئياتٌ عينيةٌ، كشيءٍ متميز عن الكيانات المجردة، مثل مجموعة البقر، أو العدد ٢.
والخواص properties تمتلكها الجواهر. تأملْ جوهرًا معتادًا، وليكنْ كرة بلياردو حمراء معينة. إننا نميز بين حُمرة الكرة وبين كرويتها وكتلتها، ونحن في ذلك ننظر في ثلاث خواص للكرة. ولكن بوسعنا أيضًا أن نميز بين الكرة، بوصفها ما يملك هذه الخواص، وبين خواصها. وبحسب وجهة الرأي التي أنسبها لديكارت، فإن هذه الكرة هي جوهر يمتلك عددًا من الخواص تشمل الحمرة والكروية وكتلة معينة. والخواص لا تقبل الانفصال عن الجواهر. فليس بِمُكنَتك أن تقشر خواص شيء ما تاركًا الجوهرَ العاري، ولا بمُكنةِ الخواص أن تَهِيم آبِقةً من الجواهر. وقد ذهب بعضُ الفلاسفة إلى أن الجواهر ما هي إلا تجمعاتٌ أو حُزَم من الخواص، إلا أن هذا ليس رأيَ ديكارت، ولا هو بالرأي الذي يروقني أن أدافع عنه.
لقد تحدثتُ عن الجواهر والخواص، أما ديكارت فهو لا يتحدث عن خواص، بل عن «صفات» attributes و«حالات» modes. الخاصة هي ما يجعل جوهرًا ما ذلك النوعَ من الجوهر. والجوهر «المادي» material (أو «الجسمي» physical، وسوف أستخدم هذين اللفظين على التعاوض) هو الجوهر الذي يملك صفةَ الامتداد. و«الامتداد» extension هو، على التقريب، المكانية. ومن ثم فالجوهر المادي هو ذلك الجوهر الذي يَشغَل موضعًا في المكان، ويمتلك شكلًا وحجمًا معينين. هذا الشكل وهذا الحجم المعينان اللذان تملكهما الجواهر المادية هما «حالتان» modes، طريقتان في كون الشيء ممتدًّا. إن ما نميل عادةً إلى اعتباره خواص الأشياء المادية اليومية هو عند ديكارت حالات الامتداد.

وفقًا لهذا التصور فإن كرويةَ كرةِ البلياردو هي حالةٌ من حالات الامتداد، فكرويتُها هي الطريقةُ التي هي مُشكَّلة بها. وماذا عن لونِ الكرة؟ هنا يؤكد ديكارت أن الخبرةَ البصرية المميزة التي لدينا عندما ننظر إلى كرة بلياردو حمراء ليست مماثلةً لمَلمَح الكرة الذي يُنتِج هذه الخبرة فينا. قد يكون هذا الملمحُ هو نسيج سطحِ الكرة، ذلك النسيج الذي يعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة. هذا النسيج — أي ترتيب الجُسَيمات الدقيقة التي تكوِّن سطحَ الشيء — هو حالةٌ من حالات الامتداد.

ميتافيزيقا الثنائية

فعَّل ديكارت تمييز الصفة/الحالة attribute/mode بأن افترضَ أن كل نوع من الجوهر يمتلك صفةً مميزة. فالجوهر المادي هو جوهر يمتلك صفة الامتداد، أما الجوهر العقلي فهو جوهر يمتلك صفةً مختلفة تمامًا، هي صفة «الفكر». يُضفِي ديكارت على لفظة «الفكر» معنًى أعرضَ مما نُضفيه عليه اليوم. فأيُّما شيءٍ نَعُدُّه في حياتنا اليومية حالةً عقلية — إحساس، تخيل، انفعال، اعتقاد، رغبة — فإن ديكارت يعتبره حالةً من حالات الفكر، طريقة من طرق الفكر.٦
يمكننا الآن أن نبدأ في فهم ثنائية ديكارت. الأجسام جواهرُ ماديةٌ تمتلك صفةَ الامتداد. والعقول أيضًا جواهر، ولكنْ ليست جواهرَ مادية. تمتلك العقولُ صفةَ الفكر. ثمة خطوةٌ إضافيةٌ مطلوبةٌ من أجل إنتاج الثنائية. فكل جوهر يمتلك صفةً واحدةً وحيدة. فإذا كان جوهرٌ ما يمتلك صفةَ الامتداد (وبالتالي يمتد بطرائق معينة)، فمن المتعذر أن يمتلك صفةَ الفكر. وإذا كان جوهرٌ ما يمتلك صفةَ الفكر (ويمتلك من ثم حالاتٍ شتى للفكر؛ المشاعر، الخيالات، الاعتقادات)، فإنه لا يمكن أن يمتلك صفةَ الامتداد. الفكرُ والامتدادُ متخارِجان ينفي أحدُهما الآخر. يترتب على ذلك أنه ليس ثمة جوهر ممتد يفكر، ولا جوهر مفكر يمتد. العقولُ جواهرُ مفكرةٌ، والأجسام جواهر ممتدة؛ فالعقولُ من ثم مُنمازةٌ٧ عن الأجسام.

هذا ما خلَصَ إليه ديكارت واعتنَقَه، ولكنه لا ينكر أن العقول والأجساد، مثلما تبدو بوضوح، على علاقةٍ وثيقة. فَكِّر لحظةً، مثلما يفعل ديكارت، في العقل بصفتِه الأنا أو النفس. أنت مرتبطٌ بطريقةٍ جِدِّ وثيقةٍ بجسدٍ معين، هو جسدُك. عندما تقترب إصبعُك اقترابًا زائدًا بلهب شمعة فأنت تشعر بالألم، أما إذا اقتربَت إصبعي أنا من اللهب فأنت لا تستشعر ألمًا. وعندما تقرر أن تقوم وتمشي عبرَ الحجرة، فإن جسمَك هو الذي يتحرك وليس جسمي. وإن بِوُسعِك، بالمناسبة، أن تتحكم في جسمي؛ فيمكنك أن تطلب مني أن أقوم وأسير في الحجرة، أو أن تأمرني أن أفعل ذلك تحت تهديد السلاح، أو أن تربطني بحبل وتجرني عبر الحجرة. غير أنك إذ تفعل ذلك إنما تؤَثِّر في جسمي تأثيرًا غيرَ مباشر فحسب، من خلال بعضِ الحركةِ لِجِسمي لا أكثر. أما حركاتُ جسمِك (لسانك وأحبالك الصوتية، أو أطرافك) فتبدو، على خلاف ذلك، تحت سيطرتك الإرادية المباشرة بدرجةٍ كبيرة.

ولْنتلبَّث لحظةً نُبلوِر فيها ما قلناه. يذهب ديكارت إلى أن العالَم يتكوَّن من نوعين من الجوهر؛ جواهر مادية وجواهر عقلية. الجواهر المادية ممتدة وغير مفكرة، والجواهر العقلية تفكر ولكنها غير ممتدة. وكل جوهر عقلي يحمل علاقةً وثيقةً جدًّا بجوهرٍ مادي معين. (أو، وفقًا لديكارت، يمكن لجوهرٍ عقلي أن يبقى بعد وفاة الجوهر المادي الذي كان مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا: قد تبقى النفسُ بعد موت الجسد.) ورغم التمايز التام بين الجوهر العقلي والجوهر المادي فإنهما يتفاعلان عِليًّا. فجسدُك يستجيب لِخُطَطِك وقراراتك، وعقلك يستقبل الإشارات من جسدك في هيئة خبراتٍ حسية تزودك بمعلوماتٍ عن حالات جسمِك، وبشكلٍ غير مباشر عن حالةِ العالمِ خارجَ جسدِك. إن العالَمَ يرتطمُ عِليًّا بعقلك عن طريق حواسك؛ عينيك وأذنيك وأنفك وحاسة لمسِك.

ومن السهل تبيان الصورةِ الديكارتية ببساطةٍ ووضوح. هبْ أنك جلستَ على مسمارٍ صغير زرعَه في مقعدِك ممازحٌ خبيث؛ إن جلوسَك على المسمار (وهو حدثٌ مادي يشمل شيئين ماديين، هما المسمار وجسمك) يؤدي إلى إحساسٍ مميز بالألم. هذا الإحساس أو الشعور بدورِه يولِّد حدثًا عقليًّا آخر، هو الميل إلى الوُثُوب إلى أعلى، وهذا الميل يُفضِي إلى حركةٍ جسميةٍ واثبةٍ ملائمة (انظر شكل ٢-٢).

تنسجم الثنائيةُ الديكارتيةُ انسجامًا جيدًا مع الحس المشترك، فنحن نرى إلى أنفسنا على أن لدينا أجسامًا، غير أننا متميزون عن أجسامنا بالمعنى التالي على الأقل: من الواضح أن بوسعنا أن نتصور أجسامَنا تتغير تغيرًا دراماتيكيًّا، أو لا تعود موجودةً على الإطلاق، بينما نَبقى موجودين. صحيح أننا نتحدث عن أنفسنا على أن لدينا عقولًا، ومن ثم نتحدث عن تغير عقولنا. ولكن في حين أن بوسعك، ربما، أن تتخيل جسدَك يهلك بينما أنت باقٍ لا تزال، فليس من الواضح كيف يتسق لك أن تتخيل أنك تبقى بعد هلاك عقلك أو نفسك. إن بوسعك أن تتخيل نفسك أو عقلك لا يعود موجودًا.

fig3
شكل ٢-٢

بينما جسدُك مستمر في الوجود (ربما في حالة نباتية)، ولكن هذا شأنٌ آخر. كما أنك قد يسعك أن تتخيل حالاتٍ تُقايِض (تتبادل) فيها الأجسام، ولا يندر أن يحدث ذلك في روايات الخيال العلمي. ولكن يبدو أنه لا معنى لافتراض أن بمُكنتِك مقايضةَ العقول أو النفوس. فتغير عقلك ليس مسألة استبدال عقلٍ بآخر، بل مسألة تغير اعتقاداتك. عندما يصبح بخيلٌ متطهِّر (في رواية ديكنز) «شخصًا جديدًا» فإنه لا يقايض أنفسًا، بل يغير مواقفَه.

بالإضافة إلى انسجام الثنائية الديكارتية مع تصور الحس المشترك عن أنفسنا، فإنها تُبشِّر بتوافقٍ بين صورتنا العلمية عن العالم، وبين خبرتنا المعتادة. يُنبِئنا العلم — أو تنبئنا الفيزياء على أي حال — بأن العالم يتكون من جُسَيماتٍ لا لون لها مختلطةٍ معًا لتكوِّن أشياء متوسطة الحجم. أما خبرتُنا بالعالم فمختلفة عن ذلك تمام الاختلاف؛ فخبرتُك البصريةُ بِكُرةِ البلياردو الحمراء ليست خبرةً بخليطٍ كروي لا لون له. والأصوات هي اهتزازاتٌ في وَسَط (الهواء مثلًا أو الماء)، ولكن خبرتَك بحفلٍ موسيقِي لافتتاحية Offenbach، تختلف اختلافًا كيفيًّا عن أي شيء عسى العلمُ أن يكتشفَه في بحثه للعالم الفيزيائي. إن الثنائية لَتُضفي معنًى على هذه الازدواجية الظاهرية، فالأجسام المادية لا تعدو أن تكون أشياء لا لون لها تتفاعل في المكان، غير أن هذه التفاعلات تُنتِج في العقل خبراتٍ ذات كيفياتٍ تختلف عن كيفياتِ أي شيء مادي.
إن كيفياتِ خبراتِنا (جوهريًّا: حالات الفكر)٨ لَتبدو مختلفةً اختلافًا دراميًّا عن كيفياتِ الأجسامِ المادية (حالات الامتداد). ولكن برغم هذه الاختلافات الظاهرة يرى ديكارت أن الكيفيات الخبروية مرتبطة بالكيفيات المادية. والمحصلة هي ارتباط correlation أو تَشاكُل٩  isomorphism بين العالَم وخبراتِنا بالعالَم. ووجود هذا التشاكل هو ما يُمكِّن كيفيات الخبرات أن تعمل كعلاماتٍ لكيفياتِ العالمِ المادي.

تفاعل العقل-الجسم

يبدو إذن، وفقًا لديكارت، أننا في وضعٍ يسمح لنا أن نُعلِّل للفروق الكيفية الظاهرة بين خبراتنا والأشياء التي نخبرها، ولقدرتنا على أن نستشف كيفيات العالم من خلال كيفيات خبراتنا. كما يمكننا، فضلًا عن ذلك، أن نستوعب نظرتنا اليومية عن أنفسنا على أننا نقيم في أجسادنا وإن كنا متميزين عنها بطريقةٍ ما. كل هذا حسنٌ وجميل، ولكن لسوء الحظ فإن الثنائية الديكارتية تأتي بثمن. وهو ثمنٌ يندر من الفلاسفة مَن هو مستعدٌّ لدَفعه.

الصعوبة١٠ هنا هي صعوبةٌ كانت واضحةً لمُعاصري ديكارت منذ اللحظة الأولى. وكان ديكارت نفسُه على إدراكٍ شديدٍ لها؛ ذلك أنه في القلب من وجهة نظر ديكارت الفكرة القائلة بأن العقول والأجسام تتفاعل عِليًّا. ولكنْ إذا كانت العقولُ والأجسامُ صنفين متمايزين من الجوهر، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن أن يحدث مثلُ هذا التفاعل العِلِّي. إن العقول أو الأنفُس، كما تذكرون، هي جواهرُ غيرُ مادية تمتلك صفةَ الفكر، بينما تفتقر إلى صفة الامتداد. والأجسام المادية، على خلاف ذلك، ممتدة بينما تفتقر إلى الفكر، فكيف يمكن لكيانين من نوعين على هذا الاختلاف التام أن يؤَثِّر أحدُهما في الآخر تأثيرًا عِليًّا؟ كيف يمكن لحدثٍ في عقلٍ لا مادي أن يغيِّر في شيءٍ مادي؟ كيف يتأتَّى لحدثٍ فيزيقي أن يولِّد تغيرًا في عقلٍ لا مادي؟ إن البَونَ الميتافيزيقي الذي يفرضه ديكارت بين العقول والأجسام المادية لَيحُول، فيما يبدو، دون تفاعلها عِليًّا.
قد يتماسكُ الديكارتيُّ هنا ويقول إن العلاقات العِلِّية بين الجوهر العقلي والجوهر المادي علاقاتٌ «فريدة في نوعِها» sui generis، أي إن العِلِّية العقلية-المادية ليست جنسًا من العِلِّية كالذي نصادفه في العالم المادي، بل هي شيءٌ فريدٌ فذٌّ. هذه الاستراتيجية تجعلنا كالمستغيث من الرمضاء بالنار. فالعِلم الحديث يقوم على افتراض أن العالَم المادي منظومةٌ «مغلقةٌ عِليًّا» causally closed. يَعنِي ذلك على التقريب أن كل حدثٍ في العالَم المادي يُسبِّبه حدثٌ ما ماديٌّ آخر (إن كان مُسبَّبًا بِحدثٍ على الإطلاق)، وليس لديه كمعلولاتٍ إلا أحداثٌ مادية. (وهذه الإضافة بين القوسين تتيح لنا أن نترك مُتسَعًا لاحتمال وجود أحداثٍ بلا عِلَّة.) ويمكننا إعادةُ صياغةِ هذه الفكرة بلغة التفسير فنقول: إن التفسيرَ الذي يُورِد جميعَ العِلَل المادية لحدثٍ ماديٍّ هو تفسيرٌ عِلِّي تام لهذا الحدث.

ترتبط فكرةُ أن العالَم المادي مغلقٌ عِليًّا بتصورنا للقوانين الطبيعية. إن القوانين الطبيعية تَحكُم العلاقاتِ العِلِّيةَ بين الأحداث المادية. ومثل هذه القوانين تختلف عن القوانين التي تَسنُّها الهيئاتُ التشريعية. فالقانون الطبيعي لا استثناءَ له؛ فمن المتعذِّر انتهاكُه بالطريقة التي قد يُنتهَك بها قانون المرور. وحتى الشيءُ الذي يسلك بطريقةٍ غريبةٍ أو غير متوقَّعة، إنما يُذعِن لِقانونِ الطبيعة إذعانًا تامًّا. والدليل على أن سلوك شيءٍ ما ينتهك قانونًا طبيعيًّا مُعينًا إنما هو دليلٌ على أن ما كنا نظنه قانونًا ليس (في الحقيقة) كذلك.

ولنَعُد الآن لافتراضِ ديكارت بأن العقول هي جواهرُ لا ماديةٌ بِوُسعِها أن تُحدِثَ أحداثًا في العالَم المادي. هذا الافتراضُ يَضطرُّنا إلى التخلي عن فكرة أن العالم المادي مُكتفٍ بذاتِه عِليًّا. ولكي تَرى كيف يكون ذلك، تخيل التفاعلَ العِلِّي بين الجوهرين العقلي والمادي، وكيف عساه أن يعمل. افترِضْ أن عقلَك يعمل على بدنك بأن يَحُث تغيراتٍ في منطقةٍ معينةٍ من دماغك. وقد كان ديكارت نفسُه يعتقد أن العقولَ متصلةٌ بالأجسام عن طريق الغدة الصنوبرية،١١ ذلك المكوِّن الصغير بالقرب من مركز الدماغ، وأن تغيراتٍ دقيقةً في حركات الجزيئات في الغدة الصنوبرية تنتشر خلال الجسم عبر الجهاز العصبي، مُنتِجةً انقباضاتٍ عضليةً تُفضِي في النهاية إلى حركاتٍ جسمية. ولْنمضِ مع ديكارت في زَعمِه ونفترضْ صِحَّتَه: إن غدتَك الصنوبرية مكوَّنةٌ من جُسَيماتٍ دقيقةٍ تعمل وفقًا لقانونٍ فيزيائي. فإذا كان على عقلك أن يبدأ سلسلةً عِلِّيةً في غدتك الصنوبرية، فسيكون عليه إذن أن يؤثر بطريقةٍ ما على سلوك هذه المكوِّنات الدقيقة. غير أن تَدخُّله في سلوك المكوِّنات الدقيقة سيتطلب فيما يبدو انتهاكَ القوانين التي تحكمها، وهو أمرٌ مستحيلٌ إذا اعتبرنا العالَمَ المادي مكتفيًا بذاتِه عِليًّا، وقوانينَ الطبيعة منيعةً لا تُنتهَك.

وقد يعنُّ لَك أن العقل يمكنه أن يمارس فعلًا على الجسم دون أن ينتهك القوانين التي تحكم مكوِّناته المادية. فربما تكون القوانين (كما تُومِئ نظريةُ الكوانتم) التي تحكم هذه المكونات هي في صميمها قوانين احتمالية أو إحصائية الطابع. تَخَيَّلْ أن كائنًا ذا منظومةٍ دقيقةٍ في حالةٍ معينة، س١، يُسَبِّب أن تمضي المنظومة إلى الحالة س٢ ولكن باحتمالٍ معين فحسب، فثمة احتمال ٣٥٪ أن منظومةً دقيقةً معينةً في حالة س١ ستذهب إلى حالة س٢. تَخَيَّل الآن أنك (الجوهر العقلي) تقرر أن تُلَوِّح لِصديقٍ لك. إنك تَشرَع في تَغَيُّرٍ معين في جسمك بأن تجعل منظومةً دقيقةً معينة في حالة س١ في غُدَّتِك الصنوبرية تمضي إلى حالة س٢. (قد نتخيل أنه إذا اصطَفَّت مكوِّناتُ مثلِ هذه الحالات بهذه الطريقة تكون المحصلة هي إشارة تُرسَل إلى ذراعِك اليمنى تُسَبِّب سلسلةً من الانقباضات العضلية، وفي النهاية إلى حركة تلويحٍ لِذراعِك. إنك ها هنا قررتَ أن تلوِّح، ومن ثم لَوَّحتَ.) وبهذه الطريقة فأنت (الجوهر العقلي) تبدو قادرًا على أن تجعل نفسَك مُحَسًّا في العالَم المادي دون أي انتهاك بأي معنًى من المعاني لقوانينَ تحكم الأجسام المادية.

تأمَّلْ سلسلةً من الرميات لِعُملةٍ سليمة، تلك التي ترسو على «الكتابة» في نصف الرميات تقريبًا. عندما ترمي العملة في مرةٍ معينةٍ من المرات فأنت تَنقُفُ إبهامَك بطريقة مميزة قاذفًا العملةَ تتقلب في الهواء في مسارٍ يؤدي بها إلى أن ترسو أرضًا ووجهُ «الكتابة» إلى أعلى. يمكننا أن نفترض أن ثمة أساسًا حتميًّا تمامًا لِرُسُوِّ العملةِ على ما رَسَت عليه هذه المرة، مفادُه التالي: باعتبار ملامح العملة، وطبيعة حركة إبهامك، وموضع وتركيب السطح الذي ترسو عليه العملة … إلخ، فإن من المقدَّر على العملة أن ترسو «كتابة». نحن بالطبع نجهل كل هذه العوامل، ولا نملك إلا أن نخمن كيف سترسو العملة في كل رمية، ونحن نُعَبِّر عن جهلنا هذا بقولِنا إن احتمالية رُسُوِّ العملةِ على «الكتابة» في أية حالة مُعطاةٍ هي ٥٠٪.

تخيَّل الآن شخصًا دخيلًا يتدخل أحيانًا في المنظومة بأن يُرَكِّز شعاعًا كهرومغناطيسيًّا قويًّا على العملة لكي يضمن رُسُوَّها على «الكتابة». قد يفعل الدخيلُ ذلك مراتٍ قليلةً وبطريقةٍ غير مكشوفةٍ إحصائيًّا، وعندما نقدِّر المعدل النسبي لِرُسُوِّ العملة «كتابة» لسلسلةٍ طويلةٍ من الرميات، فإن هذا المعدل يقترب من اﻟ ٥٠٪. الدخيلُ إِذَن يتدخل ولكن بطريقةٍ لا تغير الاحتمالَ الإحصائي بأن العملةَ سترسو «كتابة» كلما رُمِيَ بها، ولا تكشف نفسَها عندما نتفحص سلوكَ العملة. ربما تكون هذه هي الطريقة التي يؤثر بها العقلُ على الجسم.

هذا المثالُ يخطئ الهدف. إنه يسيء فهمَ طبيعة العِلِّيةِ الإحصائية أو الاحتمالية كما نحسب انطباقَها على المكوِّنات الأساسية للعالم المادي. إذا كانت الاحتمالات مكتوبةً في القوانين الأساسية للطبيعة، فإن هذه الاحتمالات ليست نتاجًا لِجَهلِنا أمام تعقيد المنظومات الفيزيائية، ولا هي ببساطةٍ تُعَبِّر عن معدلاتٍ إحصائية. فالاحتمالات، كيفما كانت، متأصِّلةٌ في الكيانات الأساسية. وفي الحالة المُتَصَوَّرة التي نحن بصددِها فإنه مَلمَح باطن، أيْ مُتَأَصِّل، للمنظومة الدقيقة س١ أنه يُحتمَل بنسبة ٣٥٪ أن تذهب إلى س٢. وإنه لَشيءٌ مُتَّسِقٌ مع قانوننا المتخيَّل أن المعدل النسبي لتحولات س١ إلى س٢ أقل كثيرًا أو أكثر كثيرًا من ٣٥٪. والحق أنه من الممكن، وإن يكن بالطبع بعيد الاحتمال جدًّا، ألا تذهبَ أيُّ منظومة س١ على الإطلاق إلى حالة س٢.

إذا تخيلنا قوةً من الطبيعة الخارجية تتدخل في تفاعل فيزيائي محكوم بقانونٍ إحصائي، فلا بد إذن من أن نتخيل القوة على أنها تغيِّر بطريقةٍ ما الاحتمالاتِ القائمةَ للمنظومة الفيزيائية المَعنِيَّة: فإذا كانت الاحتمالاتُ غيرَ متأثرة، فإن من الصعب إذن أن نفهم مَبلَغ التدخل المزعوم. ولكن إذا كانت هذه الاحتمالاتُ متأصِّلةً في المنظومة، فإن تغييرها يبلغ أن يكون «انتهاكًا» للقانون الفيزيائي.

لكي نستوعب هذه النقطة فإن من المهم أن نرى أن القانون الإحصائي الذي نذهب إلى أنه يحكم المكوِّنات الأولية للعالم يستبعد ما يُسَمَّى «المتغيرات الخفية» hidden variables، أي إن الطابع الاحتمالي لهذه القوانين ليس بسبب «تدخل» عاملٍ ما قد نجهل طبيعتَه. إنما هو غير قابل للرد ولا للاستبعاد، وقائم في طبيعة الكيانات الأولية نفسها. فإذا كان العقل يتدخل في تشغيل العالم المادي بطريقة لا يمكن كشفها إحصائيًّا، فلن يترتب على ذلك أنْ ليس ثمة «انتهاك» للقانون الفيزيائي قد وقع. يتطلب التدخلُ الحقيقي عقولًا لكي تؤثر على نحوٍ ما في نزوع منظومات س١ معينة إلى أن تذهب إلى حالة س٢. وقد يستوجب هذا بالضرورة تغيرات في طبيعة منظومات س١، تغيرات قد يشكل حدوثها «انتهاكات» للقانون الطبيعي.
وهنا احتمالٌ آخر: رغم أن الأحداث العقلية لا تغير س٢، فإن بإمكانها عند الاقتضاء أن تمنع س١ من إظهار نفسِها بالذهاب إلى س٢ بالطريقة التي يمكنك أن تمنع بها وعاءً هشًّا من الانكسار وهو يُضرَب بمطرقة بأن تلفَّ الوعاءَ بغلافٍ فقاعي. إن «انسدادات» انتقائية من هذا الصنف، إذا ما تبلورت بِرَهافةٍ ووُضِعَت بِتخطيط، قد تقدم تفسيرًا لِتأثيرات الأفكار على المجريات الجسمية. إلا أن من الصعب أن نرى كيف يمكن أن يتم ذلك دون انتهاك تصورنا للعالم المادي كعالمٍ مكتفٍ ذاتيًّا. (سوف نتناول «الميول» propensities، أو «الاستعدادات» (النزوعات dispositions كما أُفَضِّل التعبير)، والمظاهر، بتفصيلٍ أكبر في فصولٍ لاحقة.)

يجوز بالطبع أن العقول اللامادية تتدخل بالفعل في العالم. فمن الممكن أن يكون العالم المادي غير مغلق عِليًّا في حقيقة الأمر، وأن يكون القانونُ الطبيعي عُرضةً للانتهاك. فالحجة ضد الثنائية الديكارتية ليست أن العقول لا تتدخل فتكون الثنائية زائفةً بالضرورة، فمثل هذه الحجة قد تُصادِر على المطلوب ضد ديكارت. إنما تقوم الحجةُ ضد ديكارت على اعتبارات المقبولية: إذا قَبِلنا الثنائية الديكارتية لَتَوَجَّب علينا بالتالي أن نفترض أن العقول اللامادية تتدخل أحيانًا في شُغل العالَم المادي، وهذا يتضارب مع افتراضٍ أساسي للعلم الحديث، افتراضٍ لدينا كلُّ سببٍ لِقبولِه. وبقدر ما نعتبر تدخلَ العقول اللامادية في العالم المادي شيئًا غيرَ معقول، يجب علينا أن نعتبر الثنائية الديكارتية غير معقولة.

إن حجةً مثل هذه قلما تكون حاسمة، وكذلك شأن الحجج الميتافيزيقية. على أن من حقنا أن نسأل مَن الذي يَحمل عِبءَ البرهان١٢ هنا. تقدم لنا الثنائيةُ الديكارتيةُ وصفًا لعقل ينسجم جيدًا مع كثيرٍ مما نعتقده عن عالمنا ومع خبرتنا اليومية. ويَعِيبُ هذا الوصفَ أنه يتضمن شيئًا ما ليس لدينا سببٌ يدعونا إلى الاعتقاد به، ولدينا أسبابٌ كثيرةٌ للشك فيه. وللديكارتي من ثم أن يُثبِت لنا أن الوصفين المتنافسين للعقل يعانيان على التساوي عيوبًا خطيرة. وسوف نكون في موقعٍ أفضل لتقييم دلائل نجاح الديكارتي عندما نفرغ من فحص بدائل الثنائية الديكارتية.

تعديل الثنائية الديكارتية

الصعوبة المركزية لدى ديكارت تدور حول تفاعل العقل-الجسم. مِن الجَلِيِّ البَيِّن أن العقول والأجساد تتفاعل عِلِّيًّا. إن قراراتك تؤدي بك إلى أن تفعل، ومن ثم أن تحرك جسدَك بطرائق معينة، وإن المجريات في جسدك تؤدي إلى خبراتٍ حسية واعية. إلا أنه من الصعب، مثلما تَكَشَّفَ لنا، أن نرى كيف يمكن أن يحدث هذا التفاعل إذا كانت العقولُ جواهرَ غيرَ مادية، والأجسامُ جواهرَ مادية.

ربما يكون بوسعنا أن نُعَدِّل الثنائية الديكارتية بطريقةٍ ما بحيث نحافظ على ما يبدو صحيحًا فيها. فإذا كانت المشكلة تتعلق بالتفاعل العِلِّي بين الجوهر المادي والجوهر غير المادي، فماذا عساه أن يحدث إذا نحن أسقطنا ببساطةٍ متطلَّبَ التفاعل العِلِّي؟ ونحن إذ نفعل ذلك ننتقل إلى مذهب يُطلَق عليه «مذهب التوازي السيكوفيزيقي» psychophysical parallelism أو، باختصار، «مذهب التوازي» parallelism. ولعل جوتفريد فيلهلم فون لَيبِنِتز G. W. von Leibniz (١٦٤٦–١٧١٦) هو أشهر نصير لمذهب التوازي. على أن تركيزي لن ينصبَّ على وجهة نظر ليبنتز، بل على بديلٍ أبسط منها.

نظرية التوازي

يُسَلِّم نصيرُ مذهب التوازي بِقِسمةِ ديكارت الازدواجية للعالم إلى جواهر مادية ممتدة، وجواهر عقلية غير ممتدة. ورغم ذلك، فإن أصحاب مذهب التوازي ينكرون أن الجواهر العقلية والجواهر المادية تتفاعل عِليًّا. وهذا يبدو متنافرًا مع الخبرة المعتادة. فالمجريات في عقلك يبدو بالتأكيد أنها تؤثر في جسمك، ومن خلال جسمك في العالم المادي خارج جسمك. وليس أقل من ذلك وضوحًا أن الأحداث والأشياء في العالم لديها تأثير على عقلك عن طريق تأثيراتها على جسمك.

تأملْ مرةً أخرى جلوسَك على مسمارٍ زرَعَه ممازِحٌ عملي. إنك تجلس على المسمار، وتَخبُر إحساسًا مؤلمًا حادًّا، وتدرك مصدرَ انزعاجك، وتَثِب من الكرسي. هذا التعاقب من الأحداث يتضمن معًا أحداثًا عقلية ومادية مرتبطة عِلِّيًّا بشكلٍ واضحٍ تمامًا. ومَن يدافع عن مذهب التوازي فلا بد له من أن يقول إن كل هذا وهم. والصورة يحصرها الشكل ٢-٣ (قارن الشكل ٢-٢).
fig4
شكل ٢-٣

يذهب القائلون بالتوازي إلى أن العقول تظهر متفاعلةً مع العالَم المادي، ولكن المظهر هنا لا يعدو أن يكون مجرد مظهر. فسلسلة الأحداث التي تشمل العقول (الأحداث العقلية) وسلسلة الأحداث المادية تجريان متوازيتين: إن جلوسَك على المسمار (حدث مادي) يسبق إحساسك بالألم (حدث عقلي)، وإن لديك بغير شك الانطباع الواضح بأن السابق يُحدِث اللاحق، غير أنك في هذا على خطأ. وبالمثل عندما تقرر أن تَثِب عاليًا، وبالتالي تثب، يُخَيَّل لك كما لو أن قرارك سَبَّبَ وثبَك، إلا أنه لم يُسَبِّبْه. فالأحداث في العقل تتغير مع تغير الأحداث في العالم المادي، ولكن ليس ثمة روابط عِلِّية بين الأحداث العقلية والأحداث المادية.

نحن نعرف أن A’s يمكن أن تتصاحب في التغير مع B’s دون أن يكون من الحق أن A’s تُسبِّب B’s. غير أنه إذا كان التغير المتصاحب شاملًا ومنظمًا فإننا نلتمس تفسيرًا عِلِّيًّا: فربما يكون A’s وB’s مُسَبَّبَين ﺑ C’s. إذا كان صريرٌ منبعثٌ من تحت غطاء (كبُّوت) سيارتي متبوعًا لا مَحالةَ بتوقُّفٍ للمحرك، فإن تَوَقُّفَ المحرك يتصاحب في التغير مع الصرير، ولكنه غير مُسبَّبٍ به، وإنما وجهُ الأمر أن حالةً ميكانيكيةً معينة تُنتِج كُلًّا من الصريرِ وتوقُّفِ المحرك.١٣
ما التفسيرُ الذي يَتَعَيَّن على القائل بالتوازي أن يُقَدِّمه لواقعةِ أن سلاسلَ الأحداث العقلية تتغير مع سلاسل الأحداث المادية على نحوٍ منظَّمٍ وعمومي؟ أحد الاحتمالات أن هذه واقعةٌ عجماءُ بحتٌ عن عالَمِنا، شيءٌ لا يقبل مزيدًا من التفسير. غير أن هذا الجواب قلما يُقنِع أحدًا. فهو في سياقنا هذا يبدو جوابًا تحايليًّا١٤  ad hoc على نحوٍ مُريب. صحيحٌ أن كل تفسيرٍ له بالطبع نهايةٌ ما في نقطةٍ ما، ولكن فكرةَ أن النمط الدقيق للتغاير المشترَك (التغير المتصاحِب co-variation) للعقلي والمادي لا يقبل مزيدًا من التفسير، هي فكرةٌ تبدو في هذه الحالة مدفوعةً برغبةٍ في إنقاذ النظرية لا أكثر، ولا سيما أن بَحَوزتِنا فيما يبدو تفسيرًا مستقيمًا، وهو أن الأحداث العقلية تتصاحب في التغير مع الأحداث المادية؛ لأن الجواهر العقلية والجواهر المادية تتفاعل عِلِّيًّا. وهذا التفسير، بالمناسبة، يُلزِمنا بالتخلي عن نظرية التوازي، ولكن هذه مشكلةُ القائلِ بالتوازي وليست مشكلتَنا.

ثمةَ دفاعٌ آخرُ عن مذهب التوازي يستدعِي الله. فالله يتدخل لكي يضمن أن السلاسل العقلية والمادية تجرِي على التوازي. وقد يَعِن لك أن الإهابةَ بالله لكي يُعَلِّل للتغير المتصاحب للأحداث العقلية والمادية هي محاولة مُخفِقة بشكلٍ واضح؛ فالله ليس جوهرًا ماديًّا. والحق أن الله، وفقًا لديكارت، ليس جوهرًا عقليًّا أيضًا: الله جوهرٌ من صنفٍ ثالث. ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف، بأي حال، يكون أَيسَرَ لنا أن نفهم كيف يمكن أن يؤثر الله في مسار الأحداث المادية من أن نفهم كيف يمكن لِجواهرَ ماديةٍ متناهيةٍ أن تفعل ذلك؟ يبدو أن المصاعب المرتبطة بمذهب التفاعل الديكارتي تَبرُز بِرُمَّتِها مرةً ثانية.

ليس عليكَ أن تكون حليفًا لمذهب التوازي لكي ترى أن هذا الاعتراض مضلل. فصاحب مذهب التوازي ليس مضطرًّا إلى أن يصوِّر الله على أنه يكيِّف مسارَ الأحداثِ العقلية والمادية على نحوٍ متواصل. فقد يكون وجهُ الأمر أن الله قد خلق، مرةً وإلى الأبد، عالَمًا يشتمل على جواهرَ ماديةٍ خاضعةٍ لِقانونٍ طبيعي ثابت وجواهرَ عقليةٍ خاضعةٍ، ربما، لِقوانينَ سيكولوجية، والعالَم مصمَّم بحيث إن الأحداث في العالَم العقلي تتغير مع تغير الأحداث في العالم المادي. والنموذج هنا هو نموذجُ صانعِ الساعات، الذي يصنع ساعتين متزامنتين تمامًا، تتصاحب تغيراتُهما، لا لأنهما متصلتان عِلِّيًّا، بل لأن الانضباطاتِ الداخليةَ في إحداهما تعكس تمامًا الانضباطاتِ الداخليةَ في الأخرى.

وحتى بهذه الصورة، فإن تَذَرُّعَ نصيرِ مذهب التوازي بالله لا يبدو تَحَسنًا كبيرًا على رواية الواقعة العجماء. الحق أن الإهابة بالله هي مجرد طريقةٍ متأنقةٍ للقول بأن التغير المتصاحب للعقلي-المادي هو واقعةٌ عجماء. فإذا كان لَدينا أسسٌ مستقلةٌ للاعتقاد بأن الله يعمل بالطريقة التي يتطلبها مذهبُ التوازي لَكان للأمور أن تختلف. أما في غياب هذه الأسس المستقلة فإن التذَرُّعَ بالله هو تذَرُّعٌ ﺑ «ديوس إكس ماكينا»١٥  dues ex machina، بِحَلٍّ مفتعلٍ لمشكلةٍ مستعصية.

مذهب المناسبة

يُقَيِّضُ «مذهبُ المناسبة» occasionalism، وهو من تنوعات مذهب التوازي، يُقَيِّض لله دورًا نَشِطًا أكبرَ في العالَم. ويرتبط مذهبُ المناسبة في الأغلب الأعم بكتابات نيقولاس مالبرانش N. Malebranche (١٦٣٨–١٧١٥). وسأُرَكِّز في عرضي على مذهب المناسبة كمذهبٍ فلسفي، وأضرب صفحًا عن التفاصيل والدقائق التاريخية. تُومِئُ نظريةُ المناسبة إلى وجود منظومتين تعملان باستقلالٍ، ولكنْ جنبًا إلى جنب، بنفس الطريقة التي تسير بها سيارةٌ على الطريق الرئيسي مُتَعَقِّبةً قطارًا. ومذهب المناسبة يجعل اللهَ مسئولًا عن وجود سلاسل الأحداث وطابعِها. فعندما تجلس على مسمارٍ فإن الله يشاء حدوثَ إحساس الألم في عقلك (انظر شكل ٢-٤). وإنَّ عملَ اللهِ في هذا المثال يشبه، وإن اعتُبِرَ مختلفًا عن، العِلِّية.
fig5
شكل ٢-٤

من الصعب أن نرى مذهبَ المناسبة تقدمًا على مذهب التوازي، ومن الصعب أن نرى أيًّا منهما تَحَسُّنًا على الصيغة الديكارتية الأصلية للثنائية. إن النقطة المنغِّصة لديكارت هي صعوبةُ فهمِ كيف يمكن للجواهر العقلية غير الممتدة أن تتفاعل عِلِّيًّا مع الجواهر المادية الممتدة. ومذهب التوازي ومذهب المناسبة يُسَلِّمان بهذه الصعوبة، ويحاولان التغلبَ عليها بالتسليم بأن الجوهرين العقلي والمادي لا يمكن أن يتفاعلا عِلِّيًّا، وبتقديم تفسيرٍ لمظهر التفاعل. تلك استراتيجيةٌ تبدو غيرَ واعِدة، وتبدو مجردَ ترحيلٍ للمشكلة الأصلية دون حَلِّها.

العِلِّيَّة١٦

ربما تكون هذه الشكوى ظالمة. فمذهب المناسبة مدفوعٌ، جزئيًّا، بِدَعوَى عامةٍ عن العِلِّيَّة. ولنفترضْ، كما يفعل معظمُ الفلاسفة، أن العِلِّية هي علاقةٌ تربط بين حَدَثَين؛ حدث، هو العِلة cause، يسبب حدثًا آخر، هو المعلول effect. فَضَرْبُكَ كرةَ بلياردو بعصا البلياردو (حدث) يسبِّب تدحرجَ كرة البلياردو في اتجاهٍ معين (حدثٌ ثانٍ). والمشكلة هي أن نفهم ماذا يكون «التسبيب» وما مبلغُه. نحن في المعتاد نميِّز بين الحالات التي فيها حدثٌ يتبع حدثًا آخر أو يصحبه لا أكثر، وبين تلك الحالات التي فيها حدثٌ يُحَتِّم حدثًا آخر عِلِّيًّا. ولكن ما هو أساس هذا التمييز؟ هذه هي مشكلة الرابطة العِلِّية: عندما تتصل أحداثٌ عِلِّيًّا، فما هي طبيعةُ هذه الصلة؟
أحد الأجوبة الممكنة هو أنه ليس ثمة روابط حقيقية بين الأحداث. إنْ هي إلا تَعاقُبات أحداث لا أكثر. فنحن نعتبر حدثين في وضع علاقةٍ عِلَّية، لا لأننا نشهد الأول يُحدِث أو يحتِّم الثاني، بل لأن تَعاقُبَ الحدثين يشابه التعاقبات التي شهدناها فيما مضى. كثيرًا ما يرتبط مثلُ هذا الرأي بديفيد هيوم David Hume (١٧١١–١٧٧٦).

لاحظْ أنه لَيكون من المضلِّل، وإن يكن مُغرِيًا، أن تصف هذا الرأي على أنه رأي ينكر أن الأحداثَ مرتبطةٌ عِلِّيًّا. إنما تعني الفكرةُ أن العلاقات العِلِّية المعينة لا تعدو الآتي: التعاقب العِلِّي هو ببساطة مثالٌ لاطِّرادٍ ما. فضربُكَ كرةَ البلياردو الآن (حدثٌ متزمِّن معين) يجعلها تتدحرج عبر الطاولة (حدث معين آخر)، في حالة ما إذا كان حقًّا أنه كلما وقع حدثٌ من صنفٍ مماثل للأول وقع أيضًا حدثٌ من صنفٍ مماثل للثاني.

لم يكن هيوم قائلًا بمذهب المناسبة، إلا أن ملاحظاته الجهيرة عن العِلِّية لها أثرُها على فرضية المناسبة (الحق أن مالبرانش، أشهر القائلين بمذهب المناسبة، قَدَّم حججًا «هِيومية» قبل أن يقدمها هيوم بكثير). فإذا تبخرت العلاقاتُ العِلِّية إلى مجرد اطرادات، إلى تغير متصاحب لأحداثٍ من صنفٍ معين، يكون من الخطأ أن نَعُدَّ غيابَ ميكانزم أو غياب وَصلةٍ عِلِّية بين الأحداث العقلية والأحداث المادية مشكلةً تُذكَر. وعلى العكس، ليس ثمة مثل هذه الوصلات حتى بين أحداث العالم المادي. ونحن بالمناسبة كثيرًا ما يتملكنا الانطباعُ بأننا قد شهدنا روابطَ بين الأحداث. إلا أن هذا وفقًا لهيوم هو مجرد «إسقاط» لقناعتنا بأنه عندما يحدث حدثٌ من صنفٍ معين (ضرب كرة بلياردو بعصا بلياردو) فإن حدثًا من صنفٍ آخر (تحرك الكرة في اتجاه معين) سوف يتبع. هذه القناعة تنشأ فينا بعد أن نكون قد تهيأنا لذلك بفعل مشاهدات سابقة لتعاقباتٍ مماثلة من الأحداث.

فإذا كانت العلاقات العِلِّية لا تعدو أن تكون اطِّراداتٍ بين أنواعٍ من الأحداث، فليس ثمة ما هو مُشكِلٌ أو غامضٌ في أحداثٍ عقليةٍ تُسَبِّب أحداثًا مادية. وينجم مظهرُ المشكلةِ عن الافتراض الضمني بأن العلاقات العِلِّية تتطلب ميكانِزمًا أو وصلةً مُعترِضة. فإذا تعذر اكتشاف مثل هذه الوصلات فلا عجب في ذلك؛ فهي غائبةٌ أيضًا من السلاسل المعتادة للأحداث المادية. ومن هذه الجهة من الرأي فلا فرق بين الصورة الديكارتية لِلعِلِّية وصورة مذهب التوازي.

أين يَفترِق هذا عن مذهب المناسبة؟ قد يُحاجُّ أصحابُ مذهب المناسبة بأنه في غياب رابطةٍ عِلِّية، أيْ ميكانزم رابط أو وصلة بين العِلَل والمعلولات، يَلزمنا تفسيرٌ ما لِنَمَط الاطرادات بين ضروب الأحداث التي نجدها في العالَم. هذه الاطرادات تضم سلاسلَ أحداثٍ ماديةٍ خالصة، وتضم أيضًا سلاسلَ تشتمل على مكوناتٍ عقلية ومادية. فإذا كان هناك حدثٌ من صنفٍ ما متبوعًا دائمًا وأبدًا بحدثٍ من صنفٍ آخر، فليس هذا بسبب أن أحداث الصنف الأول تُحَتِّم على نحوٍ ما أو تسبِّب أحداثَ الصنفِ الثاني. فالأحداثُ مجرياتٌ منفصلة، وليس لِأي حدثٍ قوةٌ على أن يُحدِثَ حدثًا آخر. كيف لنا إذن أن نفسر الحقيقةَ الواضحة، حقيقةَ أن سلاسلَ الأحداثِ مُشَيَّدةٌ ومُطَّرِدةٌ ومنتظمةٌ بإحكام؟ إن انتظامها تَحصُرُه نظرياتٌ علميةٌ تُسَلِّم بوجود قوانينَ طبيعية، وهو مَذخورٌ في التعميماتِ العِلِّية اليومية.

ها هنا تجد صاحبَ مذهب المناسبة يستدعِي اللهَ، فإذا كانت الأحداثُ وقائعَ مُنمازةً ومكتفيةً بذاتِها تمامًا، فإن حدوثَ حدثٍ لا يمكن بذاته أن يفسِّر حدوثَ أي حدثٍ لاحِق. فحدوثُ كلِّ حدثٍ هو، بمعنًى مهم، شيءٌ مُعجِزي. الله يخلق كلَّ حدثٍ «من عدم» ex nihilo. ويمكنك لكي تتصور رأيًا كهذا أن تتخيل أن العالم مقسَّمٌ إلى مراحلَ أو حلقاتٍ زمنية لحظية (انظر شكل ٢-٥).
fig6
شكل ٢-٥

بوسعنا، اختياريًّا، أن نتصور العالَم عبر الزمن مشتملًا على تَعاقُبٍ من العوالم، كلُّ عالمٍ منها مختلفٌ اختلافًا طفيفًا عن سابقِه بطريقةٍ تشبه الطريقةَ التي تختلف فيها كلُّ لقطةٍ على فِيلمٍ سينمائي عن اللقطة السابقة لها. وفي مثالنا لكرة البلياردو، فإن ضرب العصا للكرة ينتمي إلى حلقةٍ زمنيةٍ (أحد العوالم)، والتدحرج اللاحق للكرة إلى حلقةٍ زمنيةٍ لاحقة (عالمٍ مختلف). ولا بد لكل حلقةٍ في التعاقُبِ الذي يشكِّل ما نَعُدُّه جميعًا عالَمَنا أن تُخلَق «من عَدَم».

من المعتقَد بعامةٍ أنه لا يمكن لِحَدَثٍ في العالم أن يعلِّلَ وجود العالم (وجود عالمٍ يحتوي هذا الحدثَ كجزءٍ منه). وإذا كان ما نسميه العالَم متصوَّرًا على نحوٍ أدق كتعاقبٍ من عوالمَ مستقلةٍ ميتافيزيقيًّا لَتَرَتَّبَ على ذلك أنه لا حدثَ في أي عالَمٍ في السلسلة يمكن أن يُعَلِّلَ لأي حدثٍ في عالمٍ لاحِق. إن لدينا خيارًا فيما يبدو؛ يمكننا أن نقبل وجود كل عالم في السلسلة كواقعةٍ صماء غير قابلة للتفسير، أو أن نفسر وجود السلسلة بأن نُسَلِّم بإلهٍ خَيِّرٍ. فالله يريد مجدَّدًا كلَّ عالَمٍ في سلسلة العوالم وفقًا لِخُطةٍ إلهية. بوسعنا أن نَركَن قانعين بأن التعاقب سوف يحفظ صنفَ النظام المعقد الذي نجده عندما ننخرط في البحث العلمي؛ لأن بوسعنا أن نثق بأن من طبيعة الرب أن يفعل ذلك (الشكل ٢-٦).
fig7
شكل ٢-٦
بِوُسعِ صاحبِ مذهب المناسبة أن يُبَيِّن أن تسليم العالِم بأن وجود عالَمٍ مفردٍ هو، ببساطة، واقعةٌ صماء (واقعة ليس لها من تفسير)، هذا التفسيرُ شيءٌ، وشيءٌ آخرُ تمامًا أن تذهب إلى أن كل فرد من سلسلةٍ مُنَمَّطةٍ١٧ من عوالمَ مستقلةٍ ميتافيزيقيًّا، أو من مراحل عالم هو واقعة صماء. فإذا لم يكن ثمة حدث في أي مرحلة يفسر حدوث هذه المرحلة أو حدوث أي حدث في أي مرحلة أخرى، فإن كلَّ واقعة إذن هي، فيما يبدو، واقعةٌ صماء.
افترضْ أنك تجد هذه النتيجةَ غيرَ جذابة، وافترضْ أنك تَقبَل تصورَ صاحب مذهب المناسبة للعالَم كسلسلةٍ من المراحل اللحظية. إنك إذن تبدو بإزاء اختيار؛ فإما أن كل واقعة هي واقعة عجماء غير مفسَّرة وغير قابلة للتفسير (شكل ٢-٥)، وإما أن الله موجود ويقدم تفسيرًا لكون الأشياء على ما هي عليه (شكل ٢-٦). وفي هذه الحالة، وبخلاف حالة مذهب التوازي، فإن الله يُدفَع به كتفسيرٍ معقولٍ لموقفٍ محيِّر بذاته. يمكنك بالطبع أن تشك في مأخذ صاحب نظرية التوازي للعِلِّية، وأن تشك أيضًا في فكرة أن العالم سلسلةٌ من الحلقات اللحظية المستقلة ميتافيزيقيًّا، ولكن عليك إذ ذاك أن تقدِّم بديلًا مقبولًا.

بِحَسْبِ هذه التأملات أنها توضح أننا لا يمكننا أن نأمل في أن نقيِّم دعاوي حول العقول والعالم المادي دون أن نشتبك أولًا مع مجموعة من المسائل الميتافيزيقية الأساسية. فَأَيُّما قدرٍ من المعقولية يملكه مذهبُ المناسبة إنما يعتمد على تصورٍ ميتافيزيقي معين للعِلِّية. غير أننا لن يتسنَّى لنا تقييمُ صنفِ الثنائية التي لدى صاحب نظرية المناسبة قبل أن نعزِّز فهمَنا للخيارات الميتافيزيقية.

المثالية

يذهب مذهب التوازي ومذهب المناسبة إلى أن انطباعنا بأن العقولَ والأجسام موصولةٌ عِليًّا هو وهم. أنت تقرر أن تُلَوِّح بيدك، وبالتالي تلوِّح بها، فيبدو لك أن قرارَك أحدَثَ تلويحَك. ولكن الأمر ليس كذلك، أو، إذا كان كذلك، فإنما هو لأن الرب يتكفل لك، في حلقةِ العالمِ اللاحقةِ لحلقةِ العالم التي تقرر فيها أن تلوِّح، بأن تُلَوِّح.

ولكن افترِضْ أننا نمضي أبعدَ من ذلك، افترِضْ أننا نسلِّم بأنه ليس انطباع التفاعل العِلِّي بين العقل والجسم هو وحده الوهم، بل بأن العالم المادي هو نفسه وهم! إن لدينا خبرات علينا أن نَصِفها كخبراتٍ لِأشياء وأحداث مادية موجودة خارج عقولنا، غير أن هذه لا تعدو في الحقيقة أن تكون أحلامًا أو هلاوسَ مركَّبةً وممتدة. صحيح أن الأنشطةَ اليومية تفتقد الطابعَ الحُلمِيَّ المميزَ للأحلام، ولكن ما ذلك إلا لأن الخبراتِ اليوميةَ أكثرُ انتظامًا واطِّرادًا، وأقل هَوادة.

هذه الوجهة من الرأي، «المثالية» idealism، ترى إلى العالم على أنه مكوَّنٌ حصرًا من العقول ومحتوياتها. (ثمة ضربٌ من المثالية، يُسمَّى «الأناوَحْدِية»١٨  solipsism، يرى أن العالم هو مجرد عقلٍ واحد — عقلي أنا — ومحتوياته.) ليس هناك أشياء أو أحداث مادية غير عقلية، ومن ثم ليس هناك تفاعلات عِلِّيَّة مزعجة بين العقول وبين أشياء مادية غير عقلية، ليس هناك توازٍ غامض بين عالمين، عقليٍّ وماديٍّ، مستقلين. ونحن نفسر الاطِّراد والنظام الذي نجده في خبراتنا لا بالإحالة إلى عالم مادي مطَّرِد ومنتظم، بل بالإحالة إلى الطبيعة الباطنة للعقول (شكل ٢-٧)، أو بافتراض أن النظام يكفله ربٌّ خَيِّرٌ يضمن أن تحدث أفكارُنا في أنماطٍ منتظمة، وبالتالي قابلة للتنبؤ (شكل ٢-٨). (الفيلسوف الأيرلندي والكاهن الأنجليكاني جورج باركلي George Berkeley (١٦٨٥–١٧٥٣) هو أشهر نصير للرأي الأخير.)
fig8
شكل ٢-٧
fig9
شكل ٢-٨
تتحلَّى المثالية بميزة إنقاذ المظاهر١٩  saving the appearances. فإذا صَحَّت المثالية فلن تختلف خبراتنا بأي حال عما كانت قمينةً أن تكونه إذا ما كان العالَمُ مأهولًا بأشياء مادية. فالمثالية لا تتضمن أن ما يبدو لنا أشياء مادية ممتدة صلبة ستتخذ هيئة شبحية، بل ستكون لنا، على العكس، خبرات بأشياء ممتدة صلبة وامتدادات مكانية تمامًا مثلما نفعل أحيانًا في الأحلام.
هَبْ أنك شَرَعتَ في تفنيد المثالية بإجراء تجارب مصمَّمة لكي تثبت وجود أجسامٍ مادية مستقلة عن العقل. قد تكون هذه التجاربُ فِجَّة — كما في حالة رَكْلِ دكتور جونسون حجرًا مُعلِنًا: «هكذا أُفَنِّد باركلي»٢٠ — وقد تكون متطورة، كأن تنشر مِجَسَّاتٍ مُكَلِّفةً لكي تتعرف على الجسيمات المادية التي يُنبِئنا العلمُ بأنها اللَّبِناتُ البنائية لِواقعٍ مستقل عن العقل.
هنا سيُبَيِّنُ المثاليُّ أن التجريب (إجراء التجارب experimentation) عبارة عن تنظيم موادَّ من أجل أن تُنتِج ملاحظات معينة. فَرَكلُكَ الحجرَ يقدِّم دليلًا ملاحظاتيًّا ناصعًا جدًّا على أن الحجر موجود. وملاحظةُ العالِم لخطٍّ معين في غرفة بخار يقدِّم دليلًا غير مباشر بعض الشيء على أن أحد جسيمات ألفا قد مَرَّ خلال الغرفة. غير أن الملاحظات هي خبرات واعية، ومن ثم، فهي لا تحملنا خارج العقل. كما أن أدواتنا التجريبية — الأحجار وغرف البخار وما شابه — ليست، إذا كان المثالي على حق، ليست أقل عقلية. فماذا يكون الحجر أو غرفة البخار غير شيء يبدو بطريقة معينة، ويُحَسُّ بطريقةٍ معينة، ويُسمَع بطريقة معينة … إلخ. ولكن الأشكال والإحساسات والأصوات لا تعدو أن تكون حالات حسية. يَخلُص المثاليُّ من ذلك إلى أن التجربة لا يمكن أن تقدم لنا أسسًا لاستنتاج وجود أي شيءٍ غير عقلي.
من المؤكد أن المثالية تُغَطِّي الأُسُس، فهي تزيل المشكلات المتعلقة بالتفاعل العِلِّي بين العقول والعالَم المادي. وهي تفعل ذلك بطريقةٍ تجتنب متاعبَ مرتبطةً بمذهب التوازي ومذهب المناسبة. فالمثاليةُ إذا فُهِمَت على نحوٍ صحيح متسقةٌ مع كل الأدلة التي يمكن أن نمتلكها، فضلًا عن أنها تتمتع بنوعٍ من البساطة الأنيقة٢١ من الصنف الذي يَحظَى بالتقدير في العلوم. لا تُسَلِّم المثاليةُ إلا بالعقول ومحتوياتها، وتفسِّر جميعَ الظواهر بالاحتكام إليها (أي إلى العقول ومحتوياتها) دون اللجوء إلى أسئلة مضطربة عن أشياء وأحداث مادية خارج العقل.

وحتى باعتبار ذلك، فإن معظمنا يجد المثاليةَ صعبةَ الابتلاع. قد يعود ذلك جزئيًّا إلى أن المثالية فيما يبدو تتخذ المَخرَج السهل. فالمثالية تفسر المظاهرَ بأن تُوَحِّد المظاهرَ مع الواقع. إلا أن معظمنا يُعرِب عن أمله باحتمال وجود طريقةٍ ما لإبقاء التمييز، وتوفيق عقولنا ومحتوياتها مع عالمٍ مادي غير عقلي. قد نكون في النهاية مضطرين لقبول المثالية، ولكنْ إلى أن نُضطَر لقبولها، فإن بوسعنا أن نستمر في الْتماسِ بدائلَ أقلَّ درامية.

العقل والمعنى

بعد أن قلتُ هذا، ينبغي أن أشير إلى أن المثاليين في العادة لم يقدموا المثاليةَ ببساطة كبديلٍ للثنائية الديكارتية. في القلب من معظم ضروب المثالية تَقبَع نظرةٌ عن معنى ومحتويات أفكارنا. يُحاجُّ المثاليون بأن الآراء المتعارضة، الآراء التي تميز تمييزًا حادًّا بين العقول ومحتوياتها من جهة، والعالَم المستقل عن العقل من جهةٍ أخرى، هي آراء غير مترابطة بكل معنى الكلمة. وهي بالطبع لا تَجبَهُنا بانعدام ترابطِها للتو واللحظة، ولكننا ما إن نفهم ما هو متضمَّن في عملية امتلاك فكرة معينة حتى يتَسَنَّى لنا أن نرى أن مثل هذه الآراء هي لغوٌ لا معنى له، وأنها لا يمكن التفكير بها أصلًا. وصفوةُ القولِ أنه ليس ثمة من خيار، وليس ثمة من بديلٍ عن المثالية.

هذه دعوى شديدة. ولو صَحَّت لَكانَت المثاليةُ منيعةً لا تُنال. ولكنْ ليس هذا مكان فحص حجج المثالي بالتفصيل. فلننظر بالأحرى إلى صيغةٍ انسيابية لنوع الحجة التي قد يُهِيب بها المثاليون.

وخَطُّ الحجةِ الذي في ذهني هو ما قدَّمه باركلي. لم يكن باركلي مهتمًّا بإثبات أنه ليس هناك في الحقيقة عالمٌ ماديٌّ بل هناك عقولٌ ومحتوياتُها، أو بإثبات أن المثالية تتمتع بمزايا ميتافيزيقية معينة فوق منافِساتِها الثنائية. فهدفُ باركلي هو أن يُثبِتَ أنه في التحليل النهائي ليس ثمة منافِسات خطيرة للمثالية. يذهب باركلي إلى أنه عندما يتظاهر الفلاسفةُ بالحديث عن عالَمٍ مادي فإنهم يحاولون الحديثَ عن شيءٍ لا يمكن تصورُه البتة، بل إن الحديث الفلسفي عن عالمٍ مادي مستقل عن العقل ليس حديثًا عن أي شيء على الإطلاق. ومن ثم فإن الفرضيات الثنائية ليست زائفة فحسب أو غير مقبولة، بل هي عديمة المعنى تمامًا.

يقول باركلي انظرْ فيما نتحدث (أو نفكر) عنه عندما نتحدث عن أشياء مألوفة؛ الموائد، الأحجار، القطط. إننا نتحدث (أو نفكر) عن أشياء تبدو وتُسمَع وتُذاق وتُشَم وتُحس على نحوٍ معين. ولكن هيئةَ الأشياء وصوتَها ومذاقَها ورائحتَها وملمسَها؛ ليست خارجنا، ليست خارج عقولنا. فهي، ببساطةٍ، خبراتٌ من أصنافٍ مميزة معينة. نحن بطبيعة الحال نميز، بصفة عامة، بين خبراتنا بالأشياء وبين الأشياء، إلا أن باركلي ينبري ليبيِّن لنا أن هذا تمييزٌ فارغ.

هَبْ أنك الآن تدرك ثمرةَ طماطم ناضجة في ضوء الشمس الساطع. إن لديك خبرةً بصريةً معينة من صنفٍ مستديرٍ أحمر. وإذا أمسكتَ بالطماطمة وقَطَمتَها فستكون لديك خبرةٌ إضافية لمسية وشمية وذوقية وسمعية؛ إذ إن لها ملمسًا ورائحة، ولها عند قطمك إياها مَذاقًا معينًا وصوتًا معينًا. يُحاجُّ باركلي بأن أفكارك عن الطماطمة لا تزيد على هذه المظاهر الحسية. فأنت إذ تفكر في الطماطمة فإن فكرك يتعلق بشيءٍ يبدو ويُحَس ويُشَم ويُذاق ويُسمَع على نحوٍ معين. ولكن الهيئة والملمس وما إلى ذلك لا تعدو، حين نفهمها على وجهها الصحيح، أن تكون كيفياتِ خبراتٍ واعية، والخبرات الواعية ظواهر عقلية.

أفكارُنا عن الطماطم إذن ليست في النهاية أكثر من أفكار عن أحداث عقلية مميزة. ولكن ليس ثمة معنًى لأن تفترض أن الأحداث العقلية (يسميها باركلي «الأفكار» ideas) يمكن أن توجد خارج العقل. أفكارُنا عن الطماطم إذن هي في الحقيقة أفكارٌ عن مجريات عقلية؛ خبرات واعية من صنفٍ معين وقعت لنا أو قد تقع لنا تحت الشروط الصحيحة. يُنبِئُنا الفلاسفةُ أن هذه الخبرات تُطابِق (تُناظِر)، وتتسبَّب عن، طماطمة مستقلة عن العقل قائمة «هناك». إلا أننا حين نفحص فكرتنا عن الطماطم لا نجد غير خبرات، ولا نجد أي شيء يضاهِي تعبير «طماطم مستقل عن الذهن». إذن تعبير «طماطم مستقل عن الذهن» فارغ من الدلالة، شأنه في ذلك شأن «أفكار خضراء لا لون لها». بوسعك أن تقول هذه الكلمات، ولكنها لا تدل على شيء. بوسعك أيضًا أن تُضمِر فكرةً قد تصفها بأنها فكرة عن أفكارٍ خضراء لا لون لها، إلا أنك بفعلك هذا إنما تضمر فكرةً فارغةً، فكرةً بلا مضمون.

ربما يخطر لك أن هناك جوابًا واضحًا عن هذا الخط من الاستدلال. ستقول إن بوسعنا طبعًا أن نفكر في طماطمة مستقلة عن الذهن، ولا أسهل من ذلك. فالطماطم المستقل عن الذهن يماثل خبراتنا بالطماطم؛ فهو أحمر وكروي وحمضي. وبإمكاننا أن نفكر في طماطمةٍ مستقلة عن الذهن بأن نضمر أفكارًا عن ضروب الخبرة الواعية التي تقع لنا عادةً في وجود الطماطم، ونضيف إلى هذه الأفكار فكرةَ أن هذه أفكارٌ عن شيءٍ ما خارج العقل، شيء خارج خبراتنا.

يرفض باركلي هذه النقلة. ويُحاجُّ بأن الخبرات لا يمكن أن تماثلَ إلا خبرات. فحين أَشرَعُ في تَخَيُّلِ طماطمةٍ مستقلة عن الذهن فأنا أستدعي أولًا إلى الذهن خبرات معينة، ثم أطرح منها أنها خبرات. يحاج باركلي بأن هذا لا معنى له، وأنه أشبه بأن نستدعي في الذهن فكرة مثلث، ثم نطرح من هذه الفكرة أنه ذو ثلاثة أضلاع، فلا تبقَى لدينا إلا فكرةٌ فارغة. صحيح أن لدينا، بعدُ، ألفاظًا: «طماطم غير مدرَك»، «مثلث بلا أضلاع ثلاثة»؛ ألفاظًا خِلوًا من الدلالة. ولكن الفلاسفة، في الحالة السابقة على الأقل، لم يلاحظوا ذلك. لقد ثرثروا حول عالمٍ مستقل عن الذهن بنفس الطريقة التي قد يثرثر بها طفلٌ حول مثلث غير ثلاثي الأضلاع.

رغم أن النتيجة (عالَمٌ من الأشياء المادية قائم خارج العقل هو شيء غير متصوَّر على الإطلاق) تبدو شَطَطًا، فإن باركلي يُصِر على نقطةٍ سبق ذكرُها من شأنها أن تهوِّن الصدمة. هَبْ أن المثاليةَ حقٌّ، وأن كل ما يوجد هو العقول ومحتوياتها. فماذا عساه أن يختلف في خبراتنا اليومية عما تكونه هذه الخبرات لو أن المثالية كانت باطلًا؟ الجواب عند باركلي وغيره من المثاليين هو أن لا شيء سوف يختلف اختلافًا ملموسًا. فإذا صَحَّ ذلك، فمن الصعب أن نتهم المثاليين بدحض التوقعات المعتادة. فالذي ينكره المثاليون هو، ببساطة، تأويلٌ فلسفي معين لهذه التوقعات، فالمثاليون إذ ينكرون الأشياءَ المادية يؤكدون أنهم لا ينكرون الموائد والأشجار والمجرات وما شابه، بل يرفضون فكرة أن «مائدة» و«شجرة» و«مَجَرَّة» تُسمَّى أشياء مادية مستقلة عن الذهن، فهذه الحدود في حقيقة الأمر تُسمَّى مجموعات من الخبرات الحقيقية والممكنة.

رغم غرابتها الظاهرية، فإن المثالية مشهورة بأنها عنيدة يصعب التصدي لها. وبدلًا من ترديد الحجج المضادة للمثالية بالتفصيل، فإنني أقترح أن نمضي قُدُمًا ونعرض آراءً بديلة، فقد يتبين لنا أن ثمة وجهًا لتفضيل رأي منها أو أكثر على المثالية، رغم عدم وجود صدوعٍ واضحةٍ في درع المثالية. ووجهة نظري الخاصة هي أن المثالية تمثل نوعًا من الكَلال، فالمثالي إذ يعجز عن التوفيق بين العقول والعالَم المادي ينسحب من المباراة، ويضع العالَمَ المادي داخلَ العقل.

مذهب الظاهرة الثانوية (المصاحِبة)

يُصَوِّر ديكارت العقولَ على أنها متفاعلةٌ عِلِّيًّا مع العالم المادي؛ فالأحداث في العالم المادي تُنتِج خبراتٍ في العقول، والأحداث العقلية تُنتِج حركاتٍ جسمية. وقد رأينا أن هذا النوع من التفاعل العِلِّي ذي الاتجاهين يصعب التوفيقُ بينه وبين القناعة بأن العالَم المادي مكتَفٍ بذاته عِلِّيًّا؛ فَعِلَلُ كلِّ حدثٍ مادي هي عِلَلٌ ماديةٌ حصريًّا. افترضْ رغم ذلك أننا نسلِّم بأن العالم المادي «مغلق عِلِّيًّا» causally closed ولكنه يسمح بإمكانية أن تكون للأحداث المادية نواتجُ عقلية. فتكون الأحداث العقلية موجودة، وهي معلولات لِعِلَلٍ مادية معينة، ولكن ليس لأي حدث عقلي معلولٌ مادي؛ فليس ثمة حدث عقلي يعطِّل السلاسلَ العِلِّيَّة في العالَم المادي. فالأحداثُ العقلية هي «ظواهرُ ثانويةٌ» (مصاحِبة) epiphenomena، أفرعٌ أو «آثارٌ جانبية» للظواهر المادية، أما هي ذاتها فلا تُنتِج أيَّةَ معلولاتٍ من أي نوع (انظر شكل ٢-٩).
fig10
شكل ٢-٩
يرى أصحاب مذهب الظاهرة الثانوية epiphenomenalism، إذن، أن الظواهر العقلية (الخبرات الواعية مثلًا) هي نواتج ثانوية أو آثار جانبية لمنظوماتٍ جسمية معقدة. وهي في هذا الشأن تشبه دخانًا تُنتِجُه قاطرة، أو تشبه الظل الذي تلقيه كرة بلياردو تتدحرج عبر طاولة بلياردو، أو تشبه الصَّرِيرَ الذي يُحدِثه زوجٌ جديد من الأحذية. إن الدخان، والظل، والصرير، لا تلعب أيَّ دورٍ عِلِّيٍّ في عمل المنظومات التي تُنتِجها. الدخان والظل والصرير هي بالطبع ظواهر مادية، ولها بالتالي بعض التأثيرات الفيزيقية؛ فالدخان يجعل عينيك تحتقنان، والظل يغيِّر توزيعَ إشعاع الضوء في المنطقية التي يسقط عليها، والصرير يُنتِج ذبذباتٍ دقيقةً في طبلة أذن العابرين. أما الظواهر العقلية فهي، على النقيض، لا معلولات لها من أي نوع، مادية أو عقلية.

يبدو مذهب الظاهرة الثانوية متحديًا للخبرة العامة. إن من المؤكد أن شعورك بالألم حين تقرِّب يدَك من النار هو ما يتسبَّب في سَحبِك إياها. ومن المؤكد أن تفكيرك وقرارك اللاحق بالحصول على شطيرة برجر كنج هو ما يقودك إلى أن تَهوِي إلى برجر كينج. ورغم ذلك، فوفقًا لمذهب الظاهرة المصاحبة، فإن كل الفعل العِلِّي في هذه الحالات تفعله أحداثٌ في جهازك العصبي. قد يكون لِهذه الأحداث نتاجٌ من خبرات شعورية معينة، كنتاجٍ ثانوي، إلا أن الخبراتِ الشعوريةَ خاملةٌ عِلِّيًّا. وهي إن تَزَيَّت في الظاهر بثوبٍ عِلِّيٍّ فَلِأَنها مسبَّبة ﺑ — وبالتالي مصاحِبة دائمًا ﻟ — أحداثٍ مادية هي ذاتها تُحدِث معلولاتٍ مختلفة. افترِضْ أن ارتخاءَ حزامِ المروحة قد تَسَبَّب في سخونة سيارتي وفي حدوث صريرٍ مميَّز في آنٍ معًا. إن الصرير يصاحِب، ولا يسبِّب، السخونة. هكذا الأمر في الظواهر العقلية بعامةٍ وفقًا لمذهب الظاهرة المصاحبة.

إذن واقعة (إذا كانت واقعة) أنك يُخَيَّل لك كأن حالات عقلك تُحدِث فارقًا عِلِّيًّا، هي واقعة متسقة تمامًا مع صدق نظرية الظاهرة المصاحبة. فحين تقرر أن تحوز على شطيرة برجر كنج، ثم تحوز لاحقًا عليها، يكون لديك الانطباع المحدد بأن قرارك قد سَبَّبَ حيازتَك (أو على كل حال، أنه أسهم في حدوث هذا الحدث المادي). إن بوسعك بالتأكيد أن تعتمد، اعتمادًا لا يخيب، على تَحَرُّك جسمِك بطريقةٍ تعكس قراراتك. وسيكون حقًّا أنك لو لم تقرر أن تحوز على شطيرة برجر كنج لما كنتَ فعلتَ ذلك، إلا أنه لا يترتب على ذلك أن قراراتك — وهي ضروب من الحدث العقلي — تحرِّك أي شيء. فإذا صَحَّت نظريةُ الظاهرة المصاحبة فإن سبب تَحَرُّكِ جسمِك هو حدثٌ عصبيٌّ ما. هذا الحدثُ العصبي لديه، كمعلولٍ مساعِدٍ محتوم، قرارٌ، تمامًا مثلما أنه في شكل ٢-٩ يُنتِج الحدثُ العصبي E كلًّا من الميل إلى الوثب والوثب اللاحق.

وقد وجد علماءُ الأعصاب مذهبَ الظاهرة الثانوية جذابًا في بعض الأحيان؛ ذلك أن بوسعنا في دراسة عمل الدماغ، إذا سلمنا بمذهب الظاهرة الثانوية، أن نضرب صفحًا عن كيفيات الظواهر العقلية تمامًا، ونركز حصريًّا على الآليات والعمليات الجسمية. فإذا كانت الظواهرُ العقلية ظواهرَ ثانوية، فهي إذن غير قابلة للكشف (اللهم إلا مِن جانب مَن تقع لهم)، ولا يمكنها أن تُحدِث فارقًا لأي شيء يحدث في العالم المادي. من شأن ذلك أن يُطلِق يدَ علماءِ الأعصاب في استكشافِ أسرارِ الدماغ دون أن يكرثوا أنفسَهم بالتفاصيل المضطربة للخبرة الشعورية.

إلا أن مذهب الظاهرة المصاحبة يواجه عددًا من المصاعب؛ فأولًا: طبيعة العلاقات العِلِّية من المادي إلى العقلي ليست تامةَ الوضوح بحال. يُسَلِّم معظمُ الفلاسفة بفكرة قيام علاقاتٍ عِلِّيَّة بين الأحداث، ويؤكد صاحب مذهب الظاهرة الثانوية أن بعضَ الأحداثِ المادية يُسبِّب أحداثًا عقلية، بينما لا تُسَبِّب الأحداثُ العقليةُ شيئًا. قد يخطر للمرء أنه لا ضير في إجازةِ أن يكون بإمكان الأحداث العقلية أن تُسَبِّب أحداثًا عقليةً أخرى، فالأحداث العقلية بعد كل شيء (وفقًا لصاحب مذهب الظاهرة الثانوية) ليس لها معلولات مادية، ومن ثم فالعلاقات العِلِّية بين الأحداث العقلية لن تشكِّل تهديدًا للتكامل العِلِّي للعالم المادي. إلا أن هذا الاحتمالَ ناشزٌ عن الصورة الأعرض لدى صاحب مذهب الظاهرة الثانوية. فإذا كان بِمُكنَةِ الأحداث العقلية نفسِها أن تُسَبِّب أحداثًا عقليةً لأمكن لبعض الأحداث العقلية، إذن، أن تكون لها حياةٌ خاصةٌ بها. إلا أنه من صميم مذهب الظاهرة الثانوية أن الأحداث العقلية نواتجُ ثانويةٌ للأحداث المادية.

علينا إذن أن نفترض أن الأحداث العقلية، وإن تكن هي ذاتُها خاملةً عِلِّيًّا، مسبَّبة بالأحداث المادية. إلا أن مثل هذه العلاقات العِلِّية المسدودة تختلف عن العلاقات العلية الاعتيادية. ففي حالة العِلِّية المادية الاعتيادية تكون الأحداثُ معلولاتٍ (لِأَحداثٍ سابقةٍ) وعِلَلًا (لِأَحداثٍ لاحقة)؛ لذا فإن التفاعلات العِلِّية التي تتضمن أحداثًا عقليةً تبدو مختلفةً جدًّا عن تلك التي نصادفها في مكانٍ آخر من العالم. ليس هذا في حد ذاته اعتراضًا على مذهب الظاهرة الثانوية، إنه مجردُ نتيجةٍ مترتبةٍ على تصور صاحب مذهب الظاهرة الثانوية للأحداث العقلية. ورغم ذلك، فمن الواضح أنه إذا أُتِيحَت لنا وجهةُ نظرٍ بديلةٌ تفسر ما فسَّرَته نظرةُ الظاهرة الثانوية دون لُجُوءٍ إلى صنفٍ خاص من العلاقة العِلِّية، فستكون هذه الوجهةُ من الرأي مفضَّلةً عليها.

هذه الطريقةُ من التفكير تستحضر «مبدأ الاقتصاد» principle of parsimony أو «نَصل أوكام» Ockham’s Razor (نسبة لِوِليام الأوكامي William of Ockham ١٢٨٥–١٣٤٧). يناشدنا نَصلُ أوكام «ألا نُكثِر من الكيانات دون ضرورة».٢٢ والفكرة هي أن التفسيرات الأبسط والأكثر اقتصادًا للظواهر، تلك التي تُحجِم عن إدخال أنواعٍ جديدةٍ من الكيانات أو العمليات، مفضَّلة على منافِساتِها الأقل بساطة. إن فكرة «البساطة» simplicity العاملة هنا مشهورة بأنها صعبة التِّبيان. وليس ثمة ضمان، بطبيعة الحال، بأن العالَم مكانٌ بسيط. على أن مثل هذه الأمور ينبغي ألا تحتبِسَنا. لقد قُدِّرَ علينا أن نحكم على النظريات المتنافسة وفقًا لمناقبها. وبوسعنا أن نأخذ نصل أوكام لا كمبدأ يُخبرنا كيف ينتظم العالَم، بل كمبدأ يَحُثُّنا على أن نضع عبءَ البرهان burden of proof على أنصار النظريات «الأقل بساطة». فإذا كان ثمة بديلٌ لمذهبِ الظاهرة الثانوية يجتنب العلاقات العليةَ المسدودة، فإن عبءَ البرهان يقع مِن ثم على نصير مذهب الظاهرة الثانوية لكي يُقنِعَنا بأن مذهب الظاهرة الثانوية يقدم لنا رغم كل شيء تفسيرًا أفضلَ للظواهر.

الثنائية اللاديكارتية

تتضمن الثنائية الديكارتية، كما وَصَّفتُها، عددًا من المكوِّنات؛ أولا: العقول والأجسام المادية تؤخذ على أنها جواهر متميزة. ثانيًا: العقول والأجسام المادية يُفتَرَض أنها تتفاعل عِلِّيًّا، وهذا التفاعل يمضي في كلا الاتجاهين؛ فالأحداثُ العقليةُ تُسبِّب الأحداثَ الماديةَ وتتسبَّب بها. وقد رأينا أن بوسعنا أن نبدأ بالثنائية الديكارتية ونُعَدِّل عناصرَ معينةً لكي ننتِج تصوراتٍ جديدةً للعقول وعلاقتها بالعالم المادي، فأصحاب مذهب التوازي ومذهب المناسبة ينكرون أن العقول تتفاعل مع الأجسام المادية. والمثاليون يرفضون الجوهرَ المادي ومعه فكرة تفاعل العقل-الجسم. وأصحاب مذهب الظاهرة الثانوية ينكرون الجواهرَ العقليةَ ولكنهم يَقبَلون الأحداثَ العقليةَ كنواتجَ ثانويةٍ خاملةٍ عِلِّيًّا لِأَحداثٍ تتضمن جواهرَ مادية.

على أن هناك مكوِّنًا ثالثًا لِوجهةِ النظر الديكارتية. إذ تتميز الجواهرُ العقلية والمادية بصفاتٍ فريدة؛ فالعقولُ جواهرُ مفكرة، والأجسامُ جواهرُ ممتدة. فليس ثمةَ جسمٌ ماديٌّ يفكر، ولا عقلٌ ممتدٌّ مكانيًّا. افترِضْ أننا أبقينا على مكوِّنين للثنائية الديكارتية ورفضنا هذا المكوِّنَ الثالث. وفقًا لمثل هذه الوجهة من الرأي ستُعَدُّ العقولُ والأجسامُ جواهرَ مُنمازةً قادرةً على التفاعل العِلِّي، إلا أن العقول قد تمتلك خواصَّ كان ديكارت خليقًا أن يَقصُرَها على الأجسام المادية.

لماذا ينجذب الجميعُ بالضرورةِ لمثل هذه الوجهة من الرأي؟ أحد أسباب ذلك أنه بقبول أن العقول يمكن أن تكون ممتدةً مكانيًّا تغدو فكرةُ أنها تتفاعل عِلِّيًّا مع الأجسام المادية أقلَّ غموضًا. ويمكننا أن نشرَع في فهم ما هو على المِحَك هنا بأن ننظر أولًا بتمعنٍ أكثر في المبادئ التي نتخذها في تمييز الجواهر.

تصوَّرْ قاربًا مصنوعًا من ألواحٍ خشبية؛ كيف يتعلق القاربُ بمجموعة الألواح؟ من المُغرِي أن تفكر أن القارب ما هو إلا مجموعة الألواح (لا أكثر). فالقارب بعد كل شيء يمضي حيثما تمضي مجموعةُ الألواح، ويَزِنُ ما تَزِنُه مجموعةُ الألواح، فإذا ما اشتريتَ القارب فأنت بذلك تكتسب مجموعةَ الألواح. ثمة تقليدٌ طويلٌ في الفلسفة يبدأ من أرسطو Aristotle (384–322 BC) يرفض هذه الصورة. تتميز الجواهر المعتادة أحدها عن الآخر بشرطَي التفرد والدوام. يخبرنا هذان الشرطان في الحقيقة بما يُعَد شيئًا أو جوهرًا معينًا، وأي صنوف من التغير يمكن أن يمر بها دون أن يتوقف عن الوجود. انظرْ في مجموعة الألواح التي تشيِّد القارب، افترضْ أنك تُزيل لوحًا من المجموعةِ وتحرقه وتستبدل به لوحًا جديدًا (مثلما قد تفعل حين تجدد القارب). إذ ذاك لا تعود المجموعةُ موجودةً، فقد حَلَّت مَحَلَّها مجموعةٌ تختلف عن المجموعة الأصلية في أحد الألواح، مجموعة جديدة. غير أن القارب يبقى بعد هذا التحوُّل، لقد غَيَّرتَ القاربَ ولم تدمرْه. تَخَيَّل الآن أنك تفك القاربَ وتستخدم الألواحَ في بناء تسقيفةٍ خَلَوِية، فتَبقَى المجموعةُ ولا يبقَى القارب.

هذا الخط من الاستدلال يتطلب فهمًا صارمًا لما يشكِّل مجموعة. فالمجموعات، بهذا المعنى الصارم، لا يمكن أن تكسب أو تخسر أجزاءً ثم تظل موجودة؛ فالمجموعةُ هي بالضبط مجموعُ أعضائها (أو ربما مجموع أعضائها في علاقةٍ معينة). أما فهمنا اليومي المعتاد للمجموعات فهو أقل تصلبًا، فيمكنك أن تضيف إلى مجموعتك من بطاقات أو طوابع البسبول، أو تستبدل بعضًا منها ببعض، وتَبقَى المجموعة (وسوف نعود إلى هذه المسائل في الفصل السادس).

قد نفسر هذه الحقائق عن القارب ومجموعة الألواح التي تُشَيِّده بأن نقبل أن شَرطَي التفرد والدوام بالنسبة للقارب غيرُهما بالنسبة لمجموعة الألواح. ونأتي الآن إلى النقطة الدقيقة: فما دام القارب لا يعود موجودًا عندما لا تعود مجموعة الألواح التي تشيده الآن موجودة؛ إذن فالقارب لا يمكن أن يكون متماهيًا مع مجموعة الألواح التي تُشَيِّده في وقتٍ مُعطًى. وبتعبيرٍ أكثر تعميمًا: إذا كان بإمكان «أ» أن يوجد عندما لا يعود «ب» موجودًا، إذن «أ» و«ب» لا يمكن أن يكونا نفسَ الشيء. يمكن لِقاربٍ ولمجموعة ألواحٍ أن يتواجدا مكانيًّا خلال فترةٍ من الزمن، ويكون القارب خلال تلك الفترة مُشَيَّدًا من مجموعة الألواح. الحق أن وجود القارب في زمنٍ معين يعتمد على وجود مجموعة الألواح، غير أن ذلك لا يثبت إلا أن التركيب المادي والاعتماد لا ينضافان إلى الهوية.

لقد كنتُ أُراوِحُ بين عددٍ من الأفكار التكنيكية غير المألوفة؛ الجوهر substance، التركيب composition، الهوية identity، الاعتماد dependence. وأفضل طريقة (الطريقة الوحيدة في حقيقة الأمر) لاستيعاب هذه الأفكار هي أن ترى كيف تعمل في النظريات الميتافيزيقية. غير أن بوسعنا أن نقول كلمةً عن كلٍّ منها في البداية، وبذلك نتجنب إمكانية الخلط.

لقد مررنا بالفعل بالفكرة التقليدية للجوهر، فكرة شيءٍ معين؛ طاولة البلياردو هذه، الشجرة التي بالساحة، أذنك اليسرى. ومن الممكن أن تكون الجواهرُ مكوَّنةً من جواهر. فطاولة البلياردو والشجرة وأذنك اليسرى مكونة من أجزاء دقيقة منتظمة بطريقة معينة، وهذه الأجزاء هي ذاتها جواهر. ومن الممكن التمييز بين الجواهر البسيطة والجواهر المركبة؛ فالجواهر المركبة لديها جواهر بسيطة كأجزاء، أما الجواهر البسيطة، في المقابل، فلا أجزاء لها.

هذه الدعوى الأخيرة تحتاج إلى تحديد؛ فالجواهر البسيطة لا يمكن أن تكون لديها أجزاء هي ذاتها جواهر، أي أجزاء جوهرية. والجوهر البسيط رغم ذلك قد يكون له أجزاء غير جوهرية مكانية أو زمانية. افترضْ مثلًا أن جوهرًا بسيطًا هو مربع، إن له إذن نصفًا علويًّا ونصفًا سفليًّا، وإذا كان ضلعُ المربع ٤ بوصات، فإن مساحته إذن تتكون من ١٦ قطعة محددة، كل قطعة منها هي بوصة مربعة. ولكن المربع، إذا كان بسيطًا، ليس مركبًا أو مكونًا من هذه المناطق بالطريقة التي تتكون بها الساعة من تروس ولوالب وعلبة. فالتروس واللوالب والعلب يمكن أن توجد عندما لا توجد ساعة، ولكن المناطق المكانية للمربع لا يمكن أن توجد بمَعزِل عن المربع.

وماذا عن التركيب؟ علاقة التركيب تقوم بين جواهر، والجواهر العديدة تركِّب أو تشيِّد جوهرًا مركبًا عندما تتجمع معًا على نحوٍ ملائم. وما يشكِّل تجميعًا ملائمًا سوف يعتمد على طبيعة المجموعة. فالخلايا التي تشيد أذنَك اليسرى مُرَزَّمةٌ معًا بكثافةٍ، ولها حَدٌّ محدَّدٌ تقريبًا. وفي المقابل، فإن الذرات التي تشيِّد المنضدةَ مبعثرةٌ على نحوٍ واسع على المستوى الميكروسكوبي. وليس كل تجمُّع من الجواهر يشيد جوهرًا. انظرْ في مجموعة الجواهر المتكونة من أذنك اليسرى وكرة البلياردو هذه والشجرة التي خارج نافذتي. مثل هذه المجموعة لا تُفضِي إلى جوهر، فالجواهر المركبة هي مجموعاتٌ من الجواهر التي انتظمت على نحوٍ ملائم حيث ينشأ المبدأُ المنظِّمُ من طبيعةِ الجوهرِ المعنِيِّ. فالمبدأ المُنَظِّم للألواح المشيِّدة لِقاربٍ خشبي يختلف عن المبدأ المنظِّم للخلايا التي تشيد أذنك اليسرى في وقتٍ مُعطًى.

عندما سألنا هل القارب لا يعدو أن يكون مجموعةَ الألواح كنا نسأل هل القارب ومجموعة الألواح متماهيان (في هوية). ففكرة الهوية التي نحتكم إليها بذلك هي فكرة الذاتية (selfsameness). بهذا فإن «أ» تتماهى مع «ب» بهذا المعنى في حالة كون «أ» و«ب» هما الفرد ذاته. وفكرة الهوية هذه، أي الهوية الصارمة، يجب أن نفرق بينها وبين الفكرة العامية الأضعف. فقد نقول إن ثوبين متماهيان، لا بمعنى أنهما ثوبٌ واحدٌ بعينِه، بل أنهما متشابهان تمامًا. ومن الآن فصاعدًا، عندما أتحدث عن الهوية فسوف أعني الهوية الصارمة، الذاتية (selfsameness). أما في الحالات التي أقصد بها المعنى الأضعف فسوف أتحدث عن التشابه أو التشابه الدقيق.

أما فكرة الاعتماد، أو الاعتماد الميتافيزيقي، فهي أن وجود شيءٍ ما يستلزم بالضرورة وجودَ شيءٍ آخر: «أ» يعتمد ميتافيزيقيًّا على «ب» عندما يستحيل أن يوجد «أ» ما لم يوجد «ب». وعلينا أن نفرق بين الاعتماد الميتافيزيقي والاعتماد العِلِّي. أنت لا يمكنك أن توجد في غياب الأوكسجين، ومن ثم فإن وجودك يعتمد على وجود الأوكسجين. غير أن هذا الاعتماد هنا عِلِّيٌّ لا ميتافيزيقي. فربما تكون قد بقيتَ (ولو لِفترةٍ قصيرة) في غياب الأوكسجين. قارن الاعتماد من هذا الصنف بالاعتماد الميتافيزيقي للكل (القارب الخشبي مثلًا) على أجزائه في وقتٍ معطًى. فرغم أن بإمكاننا أن نتخيل القاربَ يبقَى بعد استبدال أجزاء مفردة عبر الزمن، فليس بإمكاننا أن نتصور القاربَ يظل موجودًا في وقتٍ لا توجد فيه أجزاؤه.

يمكننا إذ نتسلح بهذه المفردات أن نَشرَع في أن نرى كيف أن ثنائية جواهر لا يلزمها أن تتضمن ثنائيةً على الطريقة الديكارتية. ولنفترض أن القارب جوهر متميز عن مجموعة الألواح التي تُشَيِّده في وقتٍ مُعطًى. إن القارب يعتمد ميتافيزيقيًّا، في ذلك الوقت، على مجموعة الألواح. والقارب، فضلًا عن ذلك، رغم تميزه عن مجموعة الألواح، ليس جوهرًا لا ماديًّا. والحق أن القارب في أي لحظة معطاة يشارك الألواحَ التي تشيِّده عددًا من الخواص؛ فالقارب ومجموعة الألواح لديهما نفس الكتلة، ونفس الأبعاد المكانية، ويَشغَلان نفس المَحَلِّ من المكان-الزمان.

افترض الآن أننا نمد هذه النقطةَ إلى العلاقة التي تحملها العقول إلى الأجسام. تَخيَّل أن العقول — أو الأنفس باتِّباعِ ديكارت — كانت تُعتبَر جواهر مميزة عن، ولكن معتمدة على، الجواهر المادية التي تتجسد فيها. يمكن للأنفُس حين تؤخَذُ هذا المَأخَذَ أن تمتلك الخواص المادية المعتادة؛ الكتلة والحجم والحيز المكاني على سبيل المثال. وهي في هذا ستختلف عن الأنفس الديكارتية.

وقد دافع إ. ج. لو E. J. Lowe عن مثل هذا الرأي دفاعًا بليغًا. مَيَّزَ لُو الأنفسَ من أجسامِها بالطريقة التي ميزنا بها قاربًا من مجموعة الألواح التي تُشَيِّده. النفس لديها جسد، جوهر مادي معقَّد، عليه تعتمد من أجل وجودها. وعندما تُعَرِّف نفسَك فأنت تُعَرِّف جوهرًا لديه جسدٌ ويعتمد على جسد، ولكن لا يتماهى مع هذا الجسد، ولا أنت تتماهَى مع أي جزء من جسدك (دماغك مثلًا). عند هذه النقطة ينهار تشبيهُ القارب، فرغم أن النفس تشارك الجسدَ بعضَ خواصِّه، فهي ليست مشيَّدةً من الجسد أو أجزاء الجسد مثلما يُشَيَّد القارب، في لحظةٍ معطاةٍ، من مجموعة ألواح.

للأجسام والأنفس شروطُ دوامٍ مختلفةٌ جدًّا؛ لذا فأنت لستَ متماهيًا مع جسمك. وتُفضِي اعتباراتٌ مماثلةٌ إلى نتيجة أنك لستَ متماهيًا مع أيِّ جزءٍ من جسمك (دماغِك على سبيل المثال). إن جسمك هو جوهرٌ بيولوجي مركَّب يحتوي جواهر مركَّبة كأجزاء له. ودماغك أحد هذه الأجزاء الجوهرية. يمكن لدماغك أن يوجد عندما لا تعود أنت موجودًا. كما أن لك طولًا معينًا وكتلة معينة، مع هذين (الطول والكتلة) أنت تشارك جسمَك، لا مع دماغك أو مع أي جزء آخر من جسمك.

حتى لو قَبِلنا ذلك كله، حتى لو سلمنا بأن النفس جوهر، متميز من البدن ولكن يشارك البدنَ بعضَ خواصه، فلماذا يتوجب علينا أن نتخيل أن النفس جوهر بسيط، جوهر بلا أجزاء جوهرية؟ يقلب لُو السؤال: ماذا عساها أن تكون أجزاء النفس؟ إذا سلمنا بأن النفس ليست الجسم أو جزءًا من الجسم، إذن أجزاء الجسم لا يمكن أن تكون أجزاء النفس ما لم تكن لدى النفس أجزاء غير جسمية أيضًا. ولكن ماذا عساها أن تكون هذه الأجزاء؟ ثمة احتمالان واضحان.

الاحتمال الأول أن للنفس أجزاءً سيكولوجية. من الشائع هذه الأيام (مثلما كان الحال في أيام ديكارت) افتراض أن العقول تحتوي على «مَلَكات» faculties أو «وحدات» modules محددة. لديك مثلًا ملكاتٌ إدراكية مختلفة، ومَلَكة للذاكرة، وملكة التخيل. هل يمكن اعتبار هذه المَلَكات أجزاءً للنفس؟ يرى لُو مرةً ثانية أن هذا بعيد الاحتمال، فبالمعنى الذي قد تُعَد به الملكات أجزاءً للأنفس فهي ليست أجزاء جوهرية، ليست جواهر بحقها الشخصي قادرة على الوجود بمعزل عن النفس بالطريقة التي يكون بها دماغٌ أو قلبٌ قادرًا على الوجود بمعزل عن الجسم الذي هو جزء منه.

دعنا نفترض أن لُو صائبٌ في هذا: النفس جوهرٌ بسيطٌ متميز من الجسم ومن أي جزء جوهري من الجسم، فما هي الخصائص التي تمتلكها الأنفس؟ أنت (أي نفسُك) تمتلك بعضَ الخصائص على نحوٍ اشتقاقي فحسب. فامتلاكُك أذنًا يسرى مثلًا لا يَعدو أن يكون امتلاكك جسمًا لديه أذنٌ يسرى. ولكنك أيضًا لديك طولٌ وكتلةٌ معينان، هاتان الخاصتان هما، بالإضافة إلى كونهما خاصتين لِجسمِك، هما خاصتان لك، لنفسك. ها هنا يفترق لُو وديكارت؛ فوفقًا لديكارت، تمتلك الأنفسُ، وليس الأجسام، خصائص عقلية، وتمتلك الأجسام، وليس الأنفس، خصائص مادية.

لماذا التمييز بين الخصائص المادية التي تمتلكها، وبين تلك التي تمتلكها فقط في امتلاكك جسدًا يمتلك تلك الخصائص؟ إذا كانت النفس بسيطة فهي إذن لا يمكن أن تمتلك إلا الخصائص التي يمكن لجوهر بسيط امتلاكها. ولأن الآذان لها أجزاء جوهرية فالآذان لا يمكن أن تمتلكها إلا جواهر مركَّبة. أما كونك ذا طول معين أو كتلة معينة فهو، في المقابل، لا يتضمن تَرَكُّبًا جوهريًّا.

إلى جانب امتلاكها قطاعًا من الخصائص المادية، تمتلك الأنفس خصائصَ عقلية. فأفكارك ومشاعرك تنتمي لا إلى جسمك أو إلى جزء من جسمك (دماغك)، بل إليك. وبتعبيرٍ أَعَم، فالأنفس، وليس أجسادها، تمتلك خصائص عقلية.

ولأن الأنفس، وفقًا لِمثلِ هذه الوجهة من الرأي، لا تُعتبَر جواهرَ لا مادية، فإن مشكلة ديكارت الخاصة بالتفاعل بين الأنفس والجواهر المادية لا تَبرز. ولكن ما زال علينا أن نتساءل كيف يمكن للنفس، التي ليست متماهية مع الجسم أو مع أي جزء من الجسم، أن تؤثر على العالم. أنت تقرر أن تتمشَّى، ثم لا تلبث أن تحرك جسمَك بطريقةٍ معينة، فكيف يمكن ذلك؟ إن السوابق العِلِّيَّة لِتَمَشِّيكَ لا تتضمن إلا أحداثًا جسمية وعِلَلًا خارجية لِأَحداثٍ جسمية.

يذهب لُو إلى أن نموذج السببية العقلية الموروث من ديكارت غير ملائم. يتخيل ديكارت الأنفس تبدأ سلاسلَ عِلِّيَّة في الدماغ. ومن المصاعب المُحدِقة بمثل هذا الرأي أنه ينتهك فيما يبدو قناعتَنا العميقة بأن العالم المادي مكتفٍ بذاته عِلِّيًّا. ربما تكون هذه القَناعة في النهاية مجرد تحيز، أو، بإنصافٍ أكثر، افتراضًا يمكن أن نجد سببًا وجيهًا لِنَبذِه. غير أن علينا، حتى نصادف هذا السبب، أن نتذرَّع بالشك في أولئك الذين ينكرونه لا لِشيءٍ إلا للإبقاء على دعوى مفضَّلة.

يُحاجُّ لُو بأن هناك على أية حال صعوبةً أشد تواجه النموذج الديكارتي. تأملْ تقريرَك أن تتمشَّى، وبالتالي تحريكك رجلَك اليمنى كنتيجةٍ لهذا القرار. يفترض الديكارتي أن قرارك، وهو حدثٌ عقلي، يبدأ سلسلةً عِلِّيَّة تُفضِي في النهاية إلى تحريكِك رجلَك اليمنى، وهو حدث جسمي. هذه الصورة مبيَّنة في الشكل ٢-١٠ (M1 هو قرارك أن تتمشَّى، B1 هو تحريك رجلك اليمنى، E1 وE2 هما حدثان عارضان في جهازك العصبي، to هو توقيت القرار، t1 توقيت تحرك رجلك اليمنى).
fig11
شكل ٢-١٠
يرى لُو أن الصورة الديكارتية تتضمن تشويهًا. تَخَيَّل اقتفاءً للسلسة العِلِّية يمضي عَودًا من الانقباضات العضلية المتضمنة في حركة رجلك اليمنى. من المفترض أن هذه السلسلة تمضي رُجُعًا إلى أحداثٍ في دماغك، غير أنها تتخطى ذلك إلى أحداثٍ أقدم، وفي النهاية إلى أحداث تقع قبل ميلادك. فضلًا عن ذلك وأكثر دلالة، فعندما نتعقب إلى الخلف السلسلة العِلِّية التي تبلغ ذروتها في B1، نكتشف أنها سرعان ما تصبح مشتبكة في سلاسل عِلِّيَّة أخرى لا نهاية لها، تنتهي في تشكيلة من الحركات الجسمية المميزة تمامًا (انظر شكل ٢-١١).
fig12
شكل ٢-١١
هنا B1 هو تحريك رجلك اليمنى، وB2 وB3 هما حركات جسمية مختلفة. قد تكون B2 هي تحريك ذراعك اليسرى إذ تُحَيِّي عابرًا تعرفه، وقد تكون B3 حركة لا إرادية لأحد الجفون. ويجب أن تؤخذ السلسلة العِلِّيَّة المتفرعة على أنها تمتد أعلى الصفحة امتدادًا لا متناهيًا في الماضي.
والآن، فرغم أن قرارك بأن تتمشَّى يُفترَض أنه مسئول عن B1 وليس عن B2 وB3، فإن التواريخ العلية لهذه الأحداث الجسمية مشتبكة اشتباكًا لا حل له. فقبل اللحظة to ليس ثمة سلسلة أحداث يمكن تحديدها مسئولة عِلِّيًّا عن B2 أو B3. إن من الصعب أن نرى في الشبكة المعقدة من العلاقات العِلِّية الحادثة في جهازك العصبي أين عسى حدثٌ عقلي ما أن يكون قد بدأ B1.
يذهب لُو إلى أن بوسعنا أن نتخلى عن النموذج الديكارتي للعلية العقلية (التسبيب العقلي)، ونستبدل به نموذجًا يذكِّر بنموذج اقترحه إيمانويل كانت Immanuel Kant (١٧٢٤–١٨٠٤). تؤثر النفسُ في العالم المادي، ولكن ليس بالشروع في سلاسل عِلِّية. الحق أنه، من جانبٍ مهم من الجوانب (وباستثناء الأحداث غير المسبَّبة)، لا شيء في العالم يبدأ سلسلةً عِلِّية. وإنما وجه الأمر (بتعبير غامض بعض الشيء، غموضًا لا مفر منه) أن النفس تخلق حالةً يتضمن العالم بمقتضاها نمطًا من السلاسل العِلِّية تنتهي في حركةٍ جسميةٍ معينة. فالحدث العقلي (تقريرك أن تتمشَّى مثلًا) يُحدِث حدثًا ماديًّا (تحريكك رجلك اليمنى) لا بحفز سلسلة أحداث تبلغ ذروتها في تحريكك رجلك اليمنى، بل بخلق حالة ينوجد فيها صنف معين من الأنماط العِلِّية.

تأملْ عنكبوتًا تتحرك في شبكتها جيئةً وذهابًا. رغم أن الشبكة معتمدة عِلِّيًّا على العنكبوت، فهي جوهر منماز بحقه الشخصي، لا يمكن المماهاة بينه وبين جسم العنكبوت. وفضلًا عن ذلك، فإن الشبكة تؤثر في حركات العنكبوت، لا بأن تبدأها، بل بأن «تُمَكِّن» لها أو «تسهِّلها». ولنا أن نقول إن الشبكة تخلق أمرًا يجعل العالم يتضمن حركات من صنفٍ معين لا من صنفٍ آخر. وبنفس القياس، فإن النفس قد تُعتبَر نتاجًا لعمليات جسمية (واجتماعية فيما يرى لُو) معقدة، نتاجًا لا تمكن مماهاتُه مع جسدها أو مع جزء من جسدها. النفس تعلِّل طبيعة الحركات الجسمية لا بأن تبدأ سلاسل عِلِّية، بل بأن تخلق أمرًا يجعل لتلك السلاسل العِلِّية الشكل المعين الذي لها.

لستُ أزعم أن أيًّا من هذا واضح أو مقنع تمامًا. إلا أن هدفي لم يكن أن أقدم خلاصةً بالأصالة عن الثنائية اللاديكارتية، بل أن أقترحها فحسب كخيارٍ جديرٍ بأن يُؤخَذ بجدية في الاعتبار. (ثمة رأي بديلٌ في نفس المجال مقدم في الفصل السادس.) وبالنظر إلى الطبيعة الاختبارية (tentative) لفهمنا للعقول وعلاقاتها بالأجسام، فلن يكون من الحكمة التسرع في رفض مثل هذه الخيارات على نحوٍ متسرع.

مُجمَل

في الفصول القادمة سوف أعود إلى كثير من الثيمات الميتافيزيقية المقدمة هنا، منقِّحًا فهمَنا لهذه الموضوعات وتأثيرها على الأسئلة حول العقول وعلاقتها بالعالم المادي، لعلنا في النهاية أن نكون في وضع أفضل لتقييم الخيارات المفتوحة لنا.

لقد رأينا حتى الآن أن الثنائية من الصنف الذي أيَّده ديكارت، أي ثنائية الجواهر، يمكن أن يصرَّح بها تصريحًا، ويمكن أن تحوَّل، وأن تُضبَط بطرقٍ عدة. يذهب ديكارت نفسه إلى أن العقول — أو الأنفس — والأجسام نوعان متميزان تمامًا من الجوهر. ورغم ذلك يمكن للجوهرين العقلي والمادي أن يحملا علاقاتٍ جِد وثيقة أحدهما بالآخر. وعلى أقل تقدير فإن الجوهرين العقلي والمادي يتفاعلان عِلِّيًّا.

لم يفسر ديكارت قط تفسيرًا كاملًا كيف يتأتى لجوهرٍ مفكر غير مكاني وغير ممتد أن يؤثر أو يتأثر بجوهر ممتد غير مفكر. من ناحية، بالطبع، فإن «تفسير» علاقاتٍ عِلِّية هو أمر عسير على أي شخص، ويتطلب الكثير من العَنَت. ومن هذه الجهة لم يكن ديكارت في حالٍ أسوأ من حال نقاده الماديين العصريين. ولكن من جهة أخرى، فمن الواضح أن الصورة التي يرسمها ديكارت تصطرع مع اعتقادِنا المتجذرِ بعمقٍ بأن العالم المادي «مغلق عِلِّيًّا». صحيح أننا بعيدون عن معرفة إن كان هذا الاعتقاد صحيحًا، أو حتى إن كان مبرَّرًا، غير أن هناك شيئًا ما مقلِقًا بغير شك في قبول الصورة الديكارتية إذا كانت هناك خيارات متاحة لا تضطرنا إلى اعتبار العالم متشعبًا عبر خطوطٍ عقلية-فيزيقية.

يسلِّم أصحاب مذهب التوازي ومذهب المناسبة بثنائية ديكارت، ويحلُّون مشكلةَ التفاعل العِلِّي بإنكار حدوثه. أما مظهر التفاعل العِلِّي بين العقل والجسم فإنهم يُقصونه إذ يفترضون، كما يفعل أنصار التوازي، أن سلاسل الأحداث في العالم العقلي مترابطة تمامًا مع سلاسل الأحداث المادية، أو أن الله يشاء إيجاد الأحداث العقلية وملازِماتها المادية.

أما المثاليون، فيوافقون أصحابَ مذهب التوازي والمناسبة في أن التفاعلات العِلِّيَّة الملاحظة بين العقول والأجسام وهمية. لكن المثاليين يجتنبون المقدمة الثنائية بأن العالم يحتوي كلا الجوهرين العقلي والمادي، فالكل عقلي. والحق أن فكرة أشياء موجودة بمعزِل عن العقول تُعَد (عندهم) فكرةً غير قابلة للفهم.

وقد نحاول أن نحتفظ بالتفاعل العِلِّي بين العقول والأجسام، ونظل نعتبر أن العقول والأجسام جواهر منفصلة، بأن نرفض المذهب الديكارتي القائل بأن الجواهر العقلية تفتقر إلى الخصائص المادية. فالعقول أو الأنفس تمتلك خصائص لا تمتلكها الأجسام (فهي تحس خبرات مثلًا)، ولكن العقول يمكن أن تمتلك خصائص يقصرها ديكارت على الجواهر غير المفكرة. هذه الأرضية المشتركة تترك، فيما يبدو، الاحتمال مفتوحًا للتفاعل العِلِّي بين العقول والأجسام.

إن ثنائيةً من هذا النوع تبقى لديها مشكلة. لقد شجع العلمُ الحديث، كما لاحظنا آنفًا، التزامًا بالاستقلال العِلِّي للعالم المادي. وإذا كانت الجواهر العقلية تتدخل عِلِّيًّا في الشئون المادية، فقد يتطلب منا هذا، فيما يبدو، أن نتخلى عن فكرة أن العالم المادي مكتفٍ بذاتِه عِلِّيًّا، وذلك حتى لو كانت تلك الجواهر العقلية تمتلك خصائص فيزيقية بالإضافة إلى الخصائص العقلية.

افترِضْ مع ذلك أننا نرفض تصور التسبيب العقلي المتضمَّن في الصورة الديكارتية، فربما تؤثر العقول عِلِّيًّا على الأجسام ولكن ليس ببدء سلاسل من الأحداث المادية. فكل حدث في مثل هذه السلسلة مسبَّب بحدثٍ مادي آخر. وهذه هي بالضبط دعوى الاستقلال العِلِّي للعالم المادي. إلا أنه يتسق مع الاستقلال العِلِّي أن العقول «تُشَكِّل» السلاسل العِلِّيَّة، لا بواسطة تغيير اتجاهات حركة الجسيمات الأولية، كما افترض ديكارت، بل بضبط السلاسل بالطريقة التي تضبط بها شبكةُ العنكبوت حركاتِ العنكبوت.

إلا أن علينا قبل اعتناق أيٍّ من هذه الآراء أن نبذل وسعَنا في تأمل البدائل. وهذا ما سوف نفعله في الفصول القادمة. وليس الهدف أن أدعم أحدَ الأوصاف للعقل والمادة، بل أن أزودك أيها القارئ بالأدوات التي تكوِّن بها اختيارًا مستبصِرًا.

قراءات مقترَحة

Substance dualism is given scant consideration in contemporary philosophy of mind. The focus has been, instead, on “property dualism”, a view according to which the mental and the physical are not distinguishable kinds of substance, but distinct families of properties. Dualisms of this sort have troubles of their own, and have been much discussed in recent years. I have elected to dwell on substance dualism partly in the hopes of encouraging a fresh look at a range of well-worn issues. Thus, I have tried to present versions of traditional dualism in a favorable light. I have not said all that I might have said, and I have ignored many details; my goal has been only to introduce a range of issues. Readers interested in pursuing these should consider the readings discussed below. (A complete bibliography appears at the end of this volume). (Descartes’s views on the mind are developed in his Meditations on First Philosophy (1986/1641)). This edition of the Meditations includes selections from the ‘‘Objections and Replies” that illuminate certain of Descartes’s positions.
Hume’s discussion of causation occurs in his A Treatise of Human Nature “(1978/1739) i, 3, §§ 1–6, 11, 12, 14, 15; and in Enquiry Concerning Human Understanding (1748/1975), §§ 4, 7. Malebranche’s account of occasionalism can be found in Dialogues on Metaphysics and Religion (1688/1997). Leibniz advances a version of parallelism in his Monodology (1787/1973). Berkeley’s idealism is discussed at length and defended in his Treatise Concerning the Principles of Human Knowledge (1713/1983); and in Three Dialogues between Hylas and Philonous (1710/1979). John Foster brings idealism up to date in The Immaterial Self (1991).
Epiphenomenalism is described and defended by T. H. Huxley in his Methods and Results: Essays (1901). See also C. D. Broad’s The Mind and Its Place in Nature “(1925) chap. 3. Nowadays, epiphenomenalism is most often taken to concern, not mental events, but mental properties: an object’s possession of mental properties makes no non-mental difference. Frank Jackson’s defense of property epiphenomenalism in “Epiphenomenal Qualia” (1982) has been widely influential.
E. J. Lowe’s defense of non-Cartesian dualism is developed in his Subjects of Experience (1996). Lowe’s depiction of the self has much in common with that advanced by P. F. Strawson in his Individuals: An Essay in Descriptive Metaphysics “(1959) chap. 3. Lowe’s “Substance” (1988) provides an especially readable account of the traditional conception of substance introduced in this chapter. Lowe’s view of the nature of mind-to-body causation is reminiscent of Kant’s in his discussion of the “third antinomy”, see The Critique of Pure Reason (1787/1964).
Peter van Inwagen’s Metaphysics (1993) includes a discussion of composites (which van Inwagen calls “collections”), although his conclusions differ from those defended here.
١  تُجمَع «الدعوَى» على «الدعاوَى»، بفتح الواو، و«الدعاوِي» بكسرها. (المترجم)
٢  الإبستمولوجيا epistemology (نظرية المعرفة): هي المبحث الفلسفي الذي يتناول ما هي المعرفة، وما أصلها وتكوينها ومناهجها وأدواتها، وكيف نكتسبها، وكيف نختبر صحتَها. (المترجم)
٣  cognitive scientists.
٤  symmetry (تماثل): كلمةٌ تصف علاقةً إذا صَحَّت بين الطرف الأول والثاني فلا بد أن تصح بين الثاني والأول. تُعَد «علاقة التساوي» أهم الأمثلة على علاقة التماثل. أما علاقات من قبيل «أصغر من»، «أكبر من»، «أطول من»، «أقصر من» … إلخ، فهي «غير متماثلة» asymmetrical؛ إذ من المحال إذا افترضنا صحتها بين أ، ب أن تصح بين ب، أ. (المترجم)
٥  concrete (عياني، عيني): مصطلحٌ يُستخدَم ليعني ذلك الذي له موضعٌ مكاني-زماني محدد، شأن الأشياء المادية العادية. وعكسه «المجرد» abstract. (المترجم)
٦  من جهةٍ أخرى، كان تصوُّرُ ديكارت للفكر أضيقَ من تصورنا؛ إذ يبدو أن ديكارت لم يؤيِّد وجودَ أفكارٍ لاشعورية. (المؤلف)
٧  انمازَ الشيءُ: انفصلَ عن غيرِه وانعزَل (المعجم الوسيط). (المترجم)
٨  modes of thought.
٩  يُقال إن نسقًا (أو نظامًا) «مُشاكِل» isomorphic لنسقٍ آخر إذا كان ثمة تمثيلُ واحدٍ لواحد لخواصه يربطها بخواص النسق الآخر. أن تقول، إذن، إن ثمة «تشاكُلًا» isomorphism بين نسقين (أو نظامين)، هو أن تقول إنهما يشتركان في نفس البِنية. (المترجم)
١٠  تتلخص الصعوبة في أنه من المحال أن يتأتى للعقل (اللامادي) أن يؤثر في الجسم (المادي) دون أن ينطوي ذلك على انتهاكٍ لقوانين الطبيعة. (المترجم)
١١  pineal gland.
١٢  burden of proof; onus probandi.
١٣  عندما يخلط العقل بين «المَعِيَّة والسببية»، أو «الارتباط والعِلِّيَّة»، ويجعل مجرد الارتباط بين حدثين دليلًا على أن أحدَهما سببٌ للآخر، دون أي بَيِّنةٍ أبعدَ من ذلك؛ يكون قد وقع في فرعٍ من مغالطة «السبب الزائف» أو «العِلَّة الزائفة» non causa pro causa يُقال له «المعلول المزدوج» joint effect، أو «إغفال سببٍ مشترَك» ignoring a common cause؛ إذ قد يكون هناك سببٌ مشترك للحدثين كليهما، أي حين يكون الحدثان ناتجين عن حدثٍ ثالث، أو معلولين لِعِلَّةٍ مشتركة. (لمَزيدٍ من التفصيل والأمثلة انظر كتابنا «المغالطات المنطقية»، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة ٢٠٠٧م، ص١٣٦–١٣٩.) (المترجم)
١٤  يعني التعبير اللاتيني ad hoc حرفيًّا: «من أجل ذلك» أي «لهذا الغرض»، أو «خصوصًا لهذا الغرض بعينه». والفرضية التحايلية (أو العينية) هي تلك الفرضية التي تُختلَق لتحصين نظريةٍ ما تَكَشَّف وجودُ شواهد مضادة لها. وتُقَدُّ «الفرضيةُ التحايلية» ad hoc hypothesis دائمًا على مَقاس الشواهد المضادة أو الشذوذات بغرض استيعابها داخل النطاق التفسيري للنظرية. ورغم أن الفروض التحايلية تُستخدَم أحيانًا في العلم، وتؤدي إلى نجاحات كشفية كبيرة، إلا أنها في أغلب الأحيان لا تعدو أن تكون ترقيعًا نظريًّا وإطالةً لِعُمر الخطأ، وبخاصة إذا كانت مجرد خُدَع تحصينية immunization stratagem تتفادى تقويض النظرية بأن تجعل تكذيبَها أمرًا محالًا من حيث المبدأ. (المترجم)
١٥  يعني التعبير اللاتيني dues ex machina حرفيًّا: إلهٌ من الآلة (أيْ إله خارج من الآلة). فقد دأب التراجيديون اليونانيون على اللجوء إلى إلهٍ يَبرز من آلة على المسرح صاعدًا من أسفل أو هابطًا من عَلٍ، لكي يحل عقدةً مستحكمة للمسرحية ليس لها أي حل آخر. ويُستخدَم التعبير للإشارة إلى اللجوء إلى أية وسيلة مصطنعة أو بعيدة الاحتمال من أجل حل مصاعب حبكة، أو حل أي مشكلة مستعصية. وفي كتابه «فن الشعر» Ars Poetica، يوصي هوراس الشعراء بألا يلجَئوا، بصفة عامة، إلى ديوس إكس ماكينا لحل حَبكَتِهم. (المترجم)
١٦  حرفيًّا: «التسبيب» causation. (المترجم)
١٧  أي ذات نمط أو هيئة أو شكل (patterned). (المترجم)
١٨  الأناوَحدِية (مذهب الذات الوحيدة) solipsism: هي أقصَى تطرف للمثالية الذاتية، ومفادُها أنْ ليس بِمُكنةِ العقل أن يعرفَ إلا خبراته الخاصة؛ ومن ثم لا يمكنه إثبات الوجود الموضوعي لأي شيء خارج العقل. والصيغة الميتافيزيقية لهذا المذهب هي أنه لا توجد إلا ذاتي وحدها (أي عقلي وحده) وإدراكاتها وحالاتها الواعية. فكل الأشياء المادية، فضلًا عن كل الأشخاص الآخرين، يتوقف وجودها على وعيي. (المترجم)
١٩  تعود فكرة «إنقاذ المظاهر» إلى شرح سيمبليسيوس في القرن السادس لكتاب أرسطو «في السموات» De Caelo. وبشيءٍ من التبسيط يعني إنقاذ المظاهر أن الفرضيات hypotheses التي تفسر المظاهر ليست من أجل هذا السبب صادقةً بالضرورة. ووفقًا لهذا التصور، فإن من الجائز لفرضيتين متناقضتين أن تفسر، أي تنقذ، كلٌّ منهما المظاهرَ، مثلما فعلت كل من نظريتَي بطليموس وكوبرنيقوس في الكون. ولا ننسَ أنه حتى زمن الثورة الكوبرنيقية كان الفهم السائد للفرضية على نطاق عريض هو «قضية، لا يهم أكانت صادقة أم كاذبة، قُصِدَ بها أن تنقذ المظاهر. كل ما يهم هو أيتهما هي الأبسط والأكثر ملاءمةً للأغراض العملية» (David Lavery, Encyclopedia Barfieldiana, Owen Barfield, entry: saving the appearances). (المترجم)
٢٠  في كتابه «رسالة في مبادئ المعرفة البشرية»، يذهب جورج باركلي إلى أن العالم المادي ليس له وجود مستقل عن العقل الذي يدركه، وأن العقول وما تشتمل عليه من أفكار هي وحدها الحقيقة. فوجود العالم الخارجي متوقف على وجود العقل الذي يدركه، فإن لم يكن عقلٌ مدرِك لما كان هناك عالم مادي. إن وجودَ الشيء هو كونُه مدرَكًا esse is percipi. يقول باركلي إن ما يُقال عن الوجود المطلق لأشياء غير مفكرة، وبلا أي علاقة بكونها مدرَكة، هو بالنسبة لي شيء لا يمكن فهمه على الإطلاق، ولا هو بممكن أن يكون له أي وجود خارج العقول أو الأشياء المفكِّرة التي تدركها. إن الرأي السائد بأن المنازل والجبال والأنهار وكل الموضوعات المحسَّة لها وجود واقعي بمعزل عن كونها مدرَكة إنما ينطوي على تناقض واضح. فماذا عساها أن تكون تلك الموضوعات غير الأشياء التي ندركها بالحس؟ وماذا تُرانا ندرك غير أفكارنا نحن وإحساساتنا؟ كل أشياء الوجود ليس لها ديمومة بدون عقلٍ يُدرِكها. والقارئ يكفيه للاقتناع بذلك أن يتأمل، ويحاول في فكره أن يفصل وجودَ شيء محسوس عن كونه مدرَكًا. مما سبق يتضح أنه لا يوجد أي جوهر سوى الروح أو ذلك الذي يدرِك. ولإكمال البرهان على هذه النقطة، دعونا ننظر في الكيفيات المحسَّة مثل اللون والشكل والحركة والرائحة والطعم … إلخ، أي الأفكار المدرَكة بالحواس. والآن، أن توجد فكرة ما في شيء لا يدرِك هو تناقضٌ واضح؛ لأن امتلاك فكرة هو إدراك. إذن حيثما وُجِد اللون والشكل … إلخ فثم بالضرورة مَن يدركه. وعليه، فمن الجلي أنه لا يمكن أن يكون هناك جوهر غير مفكر تتعاقب عليه هذه الأفكار. ولعلك تقول: حسن، ولكن رغم أن الأفكار نفسها لا توجد بدون العقل، فليس ما يمنع أن تكون هناك أشياء شبيهة بها، أشياء تكون هذه الأفكار نسخًا أو تمثيلات لها، وأن هذه الأشياء موجودة بمعزل عن العقل في جوهر غير مفكِّر. وللرد على ذلك أقول إن الفكرة لا تشبه إلا فكرة، اللون أو الشكل لا يمكن أن يشبه إلا لونًا آخر أو شكلًا آخر. فإذا أنعمنا النظر في أفكارنا فسنجد أن من المحال علينا أن نتصور تشابهًا إلا فيما بين أفكارنا. وإنني لأتساءل مرة ثانية فيما يتعلق بالأشياء الأصلية أو الخارجية التي يُفترَض أن هذه الأفكار تمثيلات لها: هل هذه الأشياء ذاتها قابلة للإدراك أم لا؟ فإذا كانت كذلك فقد صح قولي بأنها أفكار، أما إذا قلت بأنها غير قابلة للإدراك فإنني أناشدك بالله كيف يكون هناك معنًى لأن نقرر أن لونًا ما يشبه شيئًا لا تمكن رؤيته، أو أن شيئًا صلبًا أو لينًا يشبه شيئًا لا يمكن لمسه … إلخ. وحتى الصفات الأولية، كالامتداد والشكل والحركة والسكون والصلابة وعدم قابلية الاختراق والعدد، تلك الصفات التي يفرقونها عن الصفات الثانوية الذاتية، ويرَون أنها صور أو نماذج للأشياء موجودة بمعزل عن العقل في جوهر غير مفكِّر يسمونه «المادة»؛ حتى هذه الأفكار الأولية ليست، في ضوء ما أثبتناه سابقًا، غير أفكار موجودة في العقل، والفكرة لا يمكن أن تشبه إلا فكرة أخرى؛ وبالتالي فلا هي ولا نماذجها الأصلية يمكن أن توجد في جوهر غير مدرِك. وعليه فمن الواضح أن الفكرة ذاتها الخاصة بما يُسمَّى «المادة» أو «الجوهر الجسمي» تنطوي في داخلها على تناقض. (المترجم)
٢١  سوف نَعرِض لمبدأ البساطة، والاقتصاد، ونصل أوكام، بتفصيل مناسب في موضعه. ويكفي القارئَ الآن أن يعلم أن معظم الفلاسفة والعلماء «يُسَلِّمون» بأنه بافتراض تساوي بقية الأشياء (ceteris paribus)، فإن النظريات الأبسط هي الأفضل. أما البساطة التراكيبية، أو «الأناقة» elegance، فتقيس عدد، ووجازة، المبادئ الأساسية للنظريات. وأما البساطة الأنطولوجية، أو «الاقتصاد» parsimony، فيقيس عدد أنواع الكيانات التي تفترضها النظرية (موسوعة ستانفورد الفلسفية، مادة «بساطة» simplicity). (المترجم)
٢٢  Entities should not be multiplied beyond necessity (entis non sunt multiplicanda praeter necessitatem). هذا ما ينص عليه «نصل أوكام» الشهير. وسوف نأتي للحديث عنه بتفصيل مناسب عندما نَعرِض ﻟ «نظرية الهُوية» في الفصل القادم. (المترجم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤