تركة ديكارت
ما هو العقل على وجه التحديد؟ ذاك سؤالٌ اشتبكَ معه الفلاسفةُ وغيرُ الفلاسفة طوال التاريخ المسجَّل. يرى البعضُ أن العقولَ كياناتٌ روحيةٌ تُقِيم في الأجساد بصفةٍ مؤقتة، فتدخلها عند الإخصاب أو الميلاد، وتغادرها عند الموت، وما الموتُ في حقيقة الأمر إلا ارتحالُ روحِ الجسد. ويتصور البعضُ الآخرُ أن العَلاقةَ بين العقول والأجسام أكثرُ الْتصاقًا، ويرَون أن العقولَ ليست كيانات، فالعقولُ تُماثِلُ القبضةَ والحِجر؛ يوجد العقلُ عندما ينتظم جسمٌ ما بطريقةٍ معينة، ويغيب فيما دون ذلك. وهناك، بَعدُ، مَن يذهبون إلى أن العقول هي حقًّا كيانات، كياناتٌ فيزيقية، فما العقولُ سوى الأدمغة.
وبَعدُ، فإني أود أن أبادر باعتراض خطٍّ طبيعي من الاستجابة في هذا الصدد؛ فثمة موقفٌ عام في الفلسفة مُؤداه أن الفلاسفة لا يجيبون عن أسئلةٍ قَط، بل يضعونها فحسب، ومهمة العلماءِ، في المقابل، هي تقديم أجوبة. أما الأسئلة التي تندُّ عن العِلم، الأسئلة التي تبدو غير قابلة للإجابة علميًّا، فإنها كثيرًا ما تُنبَذ بوصفها «مجرد أسئلة فلسفية». وقريبٌ جدًّا من هذه الصورة الانتقاصية للفلسفة فكرةُ أنه إذا كان المَقامُ مَقامَ فلسفةٍ فليس ثمة حقائق مستقرة راسخة، وسيانِ أيُّ رأيٍ وأيُّ رأيٍ آخر.
هذا التصور عن الفلسفة وعلاقتها بالعلم تصورٌ قاصرٌ وساذج. فما يمتنع على العلم ليس بالضرورة غيرَ محسوم. فحالةُ العالَم، على سبيل المثال، قُبَيلَ وبُعَيدَ الانفجار العظيم، قد تمتنع على المعرفة إلى الأبد؛ إذ من المؤكد أننا مقطوعون عن هذه الحالة. غير أن من الباطل أن نستنتج من ذلك أنه لم تكن ثمة مثل هذه الحالة، أو أن أي دعوى عن صفة هذه الحالة كأي دعوى أخرى. وبالمثل فإن حقيقةَ أنه لم يوجد اتفاقٌ يُذكَر بين الفلاسفة حول وضع العقول لا يَلزم عنها أن العقول ليس لها وضعٌ محدَّد.
الثنائية الديكارتية
الحالات العقلية إذن، بخلاف الحالات المادية، تتميز فيما يبدو بأنها لا مكانية. هذا على أية حال هو ما خلَصَ إليه ديكارت. وثمة فرقٌ آخر بين العقلي والمادي، هو فرقٌ كيفي. انظرْ إلى كيفيات خبرتِك بألمٍ في إبهام قدمِك. قد تجد هذه الكيفيات عصيةً على الوصف، غير أن هذا لن يؤثر على درايتِكَ بها، فانظرْ هل بِمُكنتِكَ أن تتوقع أن تصادف هذه الكيفيات في شيءٍ مادي؟ إن عالِمَ الأعصاب الذي يلاحظ جهازَك العصبي وأنت تكابد خبرةَ الألم لن يلاحظ شيئًا مشابهًا، كيفيًّا، لِأَلمِك. بل إن إمكان ذلك يبدو أمرًا لا معنى له.
يمكن تلخيص المسألة كما يلي: تبدو كيفياتُ خبراتِنا الواعية مغايرةً تمامًا لكيفيات الأشياء المادية، بل مُغايِرةً لكيفياتِ أيِّ شيءٍ مادي يمكن تصورُه. والنتيجة الطبيعية هي أن الكيفيات العقلية ليست كيفياتِ أشياء مادية، الكيفياتُ العقليةُ تختلف في النوع عن الكيفيات المادية.
الجواهر، والصفات، والحالات
وفقًا لهذا التصور فإن كرويةَ كرةِ البلياردو هي حالةٌ من حالات الامتداد، فكرويتُها هي الطريقةُ التي هي مُشكَّلة بها. وماذا عن لونِ الكرة؟ هنا يؤكد ديكارت أن الخبرةَ البصرية المميزة التي لدينا عندما ننظر إلى كرة بلياردو حمراء ليست مماثلةً لمَلمَح الكرة الذي يُنتِج هذه الخبرة فينا. قد يكون هذا الملمحُ هو نسيج سطحِ الكرة، ذلك النسيج الذي يعكس الضوءَ بطريقةٍ معينة. هذا النسيج — أي ترتيب الجُسَيمات الدقيقة التي تكوِّن سطحَ الشيء — هو حالةٌ من حالات الامتداد.
ميتافيزيقا الثنائية
هذا ما خلَصَ إليه ديكارت واعتنَقَه، ولكنه لا ينكر أن العقول والأجساد، مثلما تبدو بوضوح، على علاقةٍ وثيقة. فَكِّر لحظةً، مثلما يفعل ديكارت، في العقل بصفتِه الأنا أو النفس. أنت مرتبطٌ بطريقةٍ جِدِّ وثيقةٍ بجسدٍ معين، هو جسدُك. عندما تقترب إصبعُك اقترابًا زائدًا بلهب شمعة فأنت تشعر بالألم، أما إذا اقتربَت إصبعي أنا من اللهب فأنت لا تستشعر ألمًا. وعندما تقرر أن تقوم وتمشي عبرَ الحجرة، فإن جسمَك هو الذي يتحرك وليس جسمي. وإن بِوُسعِك، بالمناسبة، أن تتحكم في جسمي؛ فيمكنك أن تطلب مني أن أقوم وأسير في الحجرة، أو أن تأمرني أن أفعل ذلك تحت تهديد السلاح، أو أن تربطني بحبل وتجرني عبر الحجرة. غير أنك إذ تفعل ذلك إنما تؤَثِّر في جسمي تأثيرًا غيرَ مباشر فحسب، من خلال بعضِ الحركةِ لِجِسمي لا أكثر. أما حركاتُ جسمِك (لسانك وأحبالك الصوتية، أو أطرافك) فتبدو، على خلاف ذلك، تحت سيطرتك الإرادية المباشرة بدرجةٍ كبيرة.
ولْنتلبَّث لحظةً نُبلوِر فيها ما قلناه. يذهب ديكارت إلى أن العالَم يتكوَّن من نوعين من الجوهر؛ جواهر مادية وجواهر عقلية. الجواهر المادية ممتدة وغير مفكرة، والجواهر العقلية تفكر ولكنها غير ممتدة. وكل جوهر عقلي يحمل علاقةً وثيقةً جدًّا بجوهرٍ مادي معين. (أو، وفقًا لديكارت، يمكن لجوهرٍ عقلي أن يبقى بعد وفاة الجوهر المادي الذي كان مرتبطًا به ارتباطًا وثيقًا: قد تبقى النفسُ بعد موت الجسد.) ورغم التمايز التام بين الجوهر العقلي والجوهر المادي فإنهما يتفاعلان عِليًّا. فجسدُك يستجيب لِخُطَطِك وقراراتك، وعقلك يستقبل الإشارات من جسدك في هيئة خبراتٍ حسية تزودك بمعلوماتٍ عن حالات جسمِك، وبشكلٍ غير مباشر عن حالةِ العالمِ خارجَ جسدِك. إن العالَمَ يرتطمُ عِليًّا بعقلك عن طريق حواسك؛ عينيك وأذنيك وأنفك وحاسة لمسِك.
تنسجم الثنائيةُ الديكارتيةُ انسجامًا جيدًا مع الحس المشترك، فنحن نرى إلى أنفسنا على أن لدينا أجسامًا، غير أننا متميزون عن أجسامنا بالمعنى التالي على الأقل: من الواضح أن بوسعنا أن نتصور أجسامَنا تتغير تغيرًا دراماتيكيًّا، أو لا تعود موجودةً على الإطلاق، بينما نَبقى موجودين. صحيح أننا نتحدث عن أنفسنا على أن لدينا عقولًا، ومن ثم نتحدث عن تغير عقولنا. ولكن في حين أن بوسعك، ربما، أن تتخيل جسدَك يهلك بينما أنت باقٍ لا تزال، فليس من الواضح كيف يتسق لك أن تتخيل أنك تبقى بعد هلاك عقلك أو نفسك. إن بوسعك أن تتخيل نفسك أو عقلك لا يعود موجودًا.
بينما جسدُك مستمر في الوجود (ربما في حالة نباتية)، ولكن هذا شأنٌ آخر. كما أنك قد يسعك أن تتخيل حالاتٍ تُقايِض (تتبادل) فيها الأجسام، ولا يندر أن يحدث ذلك في روايات الخيال العلمي. ولكن يبدو أنه لا معنى لافتراض أن بمُكنتِك مقايضةَ العقول أو النفوس. فتغير عقلك ليس مسألة استبدال عقلٍ بآخر، بل مسألة تغير اعتقاداتك. عندما يصبح بخيلٌ متطهِّر (في رواية ديكنز) «شخصًا جديدًا» فإنه لا يقايض أنفسًا، بل يغير مواقفَه.
تفاعل العقل-الجسم
يبدو إذن، وفقًا لديكارت، أننا في وضعٍ يسمح لنا أن نُعلِّل للفروق الكيفية الظاهرة بين خبراتنا والأشياء التي نخبرها، ولقدرتنا على أن نستشف كيفيات العالم من خلال كيفيات خبراتنا. كما يمكننا، فضلًا عن ذلك، أن نستوعب نظرتنا اليومية عن أنفسنا على أننا نقيم في أجسادنا وإن كنا متميزين عنها بطريقةٍ ما. كل هذا حسنٌ وجميل، ولكن لسوء الحظ فإن الثنائية الديكارتية تأتي بثمن. وهو ثمنٌ يندر من الفلاسفة مَن هو مستعدٌّ لدَفعه.
ترتبط فكرةُ أن العالَم المادي مغلقٌ عِليًّا بتصورنا للقوانين الطبيعية. إن القوانين الطبيعية تَحكُم العلاقاتِ العِلِّيةَ بين الأحداث المادية. ومثل هذه القوانين تختلف عن القوانين التي تَسنُّها الهيئاتُ التشريعية. فالقانون الطبيعي لا استثناءَ له؛ فمن المتعذِّر انتهاكُه بالطريقة التي قد يُنتهَك بها قانون المرور. وحتى الشيءُ الذي يسلك بطريقةٍ غريبةٍ أو غير متوقَّعة، إنما يُذعِن لِقانونِ الطبيعة إذعانًا تامًّا. والدليل على أن سلوك شيءٍ ما ينتهك قانونًا طبيعيًّا مُعينًا إنما هو دليلٌ على أن ما كنا نظنه قانونًا ليس (في الحقيقة) كذلك.
وقد يعنُّ لَك أن العقل يمكنه أن يمارس فعلًا على الجسم دون أن ينتهك القوانين التي تحكم مكوِّناته المادية. فربما تكون القوانين (كما تُومِئ نظريةُ الكوانتم) التي تحكم هذه المكونات هي في صميمها قوانين احتمالية أو إحصائية الطابع. تَخَيَّلْ أن كائنًا ذا منظومةٍ دقيقةٍ في حالةٍ معينة، س١، يُسَبِّب أن تمضي المنظومة إلى الحالة س٢ ولكن باحتمالٍ معين فحسب، فثمة احتمال ٣٥٪ أن منظومةً دقيقةً معينةً في حالة س١ ستذهب إلى حالة س٢. تَخَيَّل الآن أنك (الجوهر العقلي) تقرر أن تُلَوِّح لِصديقٍ لك. إنك تَشرَع في تَغَيُّرٍ معين في جسمك بأن تجعل منظومةً دقيقةً معينة في حالة س١ في غُدَّتِك الصنوبرية تمضي إلى حالة س٢. (قد نتخيل أنه إذا اصطَفَّت مكوِّناتُ مثلِ هذه الحالات بهذه الطريقة تكون المحصلة هي إشارة تُرسَل إلى ذراعِك اليمنى تُسَبِّب سلسلةً من الانقباضات العضلية، وفي النهاية إلى حركة تلويحٍ لِذراعِك. إنك ها هنا قررتَ أن تلوِّح، ومن ثم لَوَّحتَ.) وبهذه الطريقة فأنت (الجوهر العقلي) تبدو قادرًا على أن تجعل نفسَك مُحَسًّا في العالَم المادي دون أي انتهاك بأي معنًى من المعاني لقوانينَ تحكم الأجسام المادية.
تأمَّلْ سلسلةً من الرميات لِعُملةٍ سليمة، تلك التي ترسو على «الكتابة» في نصف الرميات تقريبًا. عندما ترمي العملة في مرةٍ معينةٍ من المرات فأنت تَنقُفُ إبهامَك بطريقة مميزة قاذفًا العملةَ تتقلب في الهواء في مسارٍ يؤدي بها إلى أن ترسو أرضًا ووجهُ «الكتابة» إلى أعلى. يمكننا أن نفترض أن ثمة أساسًا حتميًّا تمامًا لِرُسُوِّ العملةِ على ما رَسَت عليه هذه المرة، مفادُه التالي: باعتبار ملامح العملة، وطبيعة حركة إبهامك، وموضع وتركيب السطح الذي ترسو عليه العملة … إلخ، فإن من المقدَّر على العملة أن ترسو «كتابة». نحن بالطبع نجهل كل هذه العوامل، ولا نملك إلا أن نخمن كيف سترسو العملة في كل رمية، ونحن نُعَبِّر عن جهلنا هذا بقولِنا إن احتمالية رُسُوِّ العملةِ على «الكتابة» في أية حالة مُعطاةٍ هي ٥٠٪.
تخيَّل الآن شخصًا دخيلًا يتدخل أحيانًا في المنظومة بأن يُرَكِّز شعاعًا كهرومغناطيسيًّا قويًّا على العملة لكي يضمن رُسُوَّها على «الكتابة». قد يفعل الدخيلُ ذلك مراتٍ قليلةً وبطريقةٍ غير مكشوفةٍ إحصائيًّا، وعندما نقدِّر المعدل النسبي لِرُسُوِّ العملة «كتابة» لسلسلةٍ طويلةٍ من الرميات، فإن هذا المعدل يقترب من اﻟ ٥٠٪. الدخيلُ إِذَن يتدخل ولكن بطريقةٍ لا تغير الاحتمالَ الإحصائي بأن العملةَ سترسو «كتابة» كلما رُمِيَ بها، ولا تكشف نفسَها عندما نتفحص سلوكَ العملة. ربما تكون هذه هي الطريقة التي يؤثر بها العقلُ على الجسم.
هذا المثالُ يخطئ الهدف. إنه يسيء فهمَ طبيعة العِلِّيةِ الإحصائية أو الاحتمالية كما نحسب انطباقَها على المكوِّنات الأساسية للعالم المادي. إذا كانت الاحتمالات مكتوبةً في القوانين الأساسية للطبيعة، فإن هذه الاحتمالات ليست نتاجًا لِجَهلِنا أمام تعقيد المنظومات الفيزيائية، ولا هي ببساطةٍ تُعَبِّر عن معدلاتٍ إحصائية. فالاحتمالات، كيفما كانت، متأصِّلةٌ في الكيانات الأساسية. وفي الحالة المُتَصَوَّرة التي نحن بصددِها فإنه مَلمَح باطن، أيْ مُتَأَصِّل، للمنظومة الدقيقة س١ أنه يُحتمَل بنسبة ٣٥٪ أن تذهب إلى س٢. وإنه لَشيءٌ مُتَّسِقٌ مع قانوننا المتخيَّل أن المعدل النسبي لتحولات س١ إلى س٢ أقل كثيرًا أو أكثر كثيرًا من ٣٥٪. والحق أنه من الممكن، وإن يكن بالطبع بعيد الاحتمال جدًّا، ألا تذهبَ أيُّ منظومة س١ على الإطلاق إلى حالة س٢.
إذا تخيلنا قوةً من الطبيعة الخارجية تتدخل في تفاعل فيزيائي محكوم بقانونٍ إحصائي، فلا بد إذن من أن نتخيل القوة على أنها تغيِّر بطريقةٍ ما الاحتمالاتِ القائمةَ للمنظومة الفيزيائية المَعنِيَّة: فإذا كانت الاحتمالاتُ غيرَ متأثرة، فإن من الصعب إذن أن نفهم مَبلَغ التدخل المزعوم. ولكن إذا كانت هذه الاحتمالاتُ متأصِّلةً في المنظومة، فإن تغييرها يبلغ أن يكون «انتهاكًا» للقانون الفيزيائي.
يجوز بالطبع أن العقول اللامادية تتدخل بالفعل في العالم. فمن الممكن أن يكون العالم المادي غير مغلق عِليًّا في حقيقة الأمر، وأن يكون القانونُ الطبيعي عُرضةً للانتهاك. فالحجة ضد الثنائية الديكارتية ليست أن العقول لا تتدخل فتكون الثنائية زائفةً بالضرورة، فمثل هذه الحجة قد تُصادِر على المطلوب ضد ديكارت. إنما تقوم الحجةُ ضد ديكارت على اعتبارات المقبولية: إذا قَبِلنا الثنائية الديكارتية لَتَوَجَّب علينا بالتالي أن نفترض أن العقول اللامادية تتدخل أحيانًا في شُغل العالَم المادي، وهذا يتضارب مع افتراضٍ أساسي للعلم الحديث، افتراضٍ لدينا كلُّ سببٍ لِقبولِه. وبقدر ما نعتبر تدخلَ العقول اللامادية في العالم المادي شيئًا غيرَ معقول، يجب علينا أن نعتبر الثنائية الديكارتية غير معقولة.
تعديل الثنائية الديكارتية
الصعوبة المركزية لدى ديكارت تدور حول تفاعل العقل-الجسم. مِن الجَلِيِّ البَيِّن أن العقول والأجساد تتفاعل عِلِّيًّا. إن قراراتك تؤدي بك إلى أن تفعل، ومن ثم أن تحرك جسدَك بطرائق معينة، وإن المجريات في جسدك تؤدي إلى خبراتٍ حسية واعية. إلا أنه من الصعب، مثلما تَكَشَّفَ لنا، أن نرى كيف يمكن أن يحدث هذا التفاعل إذا كانت العقولُ جواهرَ غيرَ مادية، والأجسامُ جواهرَ مادية.
نظرية التوازي
يُسَلِّم نصيرُ مذهب التوازي بِقِسمةِ ديكارت الازدواجية للعالم إلى جواهر مادية ممتدة، وجواهر عقلية غير ممتدة. ورغم ذلك، فإن أصحاب مذهب التوازي ينكرون أن الجواهر العقلية والجواهر المادية تتفاعل عِليًّا. وهذا يبدو متنافرًا مع الخبرة المعتادة. فالمجريات في عقلك يبدو بالتأكيد أنها تؤثر في جسمك، ومن خلال جسمك في العالم المادي خارج جسمك. وليس أقل من ذلك وضوحًا أن الأحداث والأشياء في العالم لديها تأثير على عقلك عن طريق تأثيراتها على جسمك.
يذهب القائلون بالتوازي إلى أن العقول تظهر متفاعلةً مع العالَم المادي، ولكن المظهر هنا لا يعدو أن يكون مجرد مظهر. فسلسلة الأحداث التي تشمل العقول (الأحداث العقلية) وسلسلة الأحداث المادية تجريان متوازيتين: إن جلوسَك على المسمار (حدث مادي) يسبق إحساسك بالألم (حدث عقلي)، وإن لديك بغير شك الانطباع الواضح بأن السابق يُحدِث اللاحق، غير أنك في هذا على خطأ. وبالمثل عندما تقرر أن تَثِب عاليًا، وبالتالي تثب، يُخَيَّل لك كما لو أن قرارك سَبَّبَ وثبَك، إلا أنه لم يُسَبِّبْه. فالأحداث في العقل تتغير مع تغير الأحداث في العالم المادي، ولكن ليس ثمة روابط عِلِّية بين الأحداث العقلية والأحداث المادية.
ثمةَ دفاعٌ آخرُ عن مذهب التوازي يستدعِي الله. فالله يتدخل لكي يضمن أن السلاسل العقلية والمادية تجرِي على التوازي. وقد يَعِن لك أن الإهابةَ بالله لكي يُعَلِّل للتغير المتصاحب للأحداث العقلية والمادية هي محاولة مُخفِقة بشكلٍ واضح؛ فالله ليس جوهرًا ماديًّا. والحق أن الله، وفقًا لديكارت، ليس جوهرًا عقليًّا أيضًا: الله جوهرٌ من صنفٍ ثالث. ولكن إذا كان الأمر كذلك فكيف، بأي حال، يكون أَيسَرَ لنا أن نفهم كيف يمكن أن يؤثر الله في مسار الأحداث المادية من أن نفهم كيف يمكن لِجواهرَ ماديةٍ متناهيةٍ أن تفعل ذلك؟ يبدو أن المصاعب المرتبطة بمذهب التفاعل الديكارتي تَبرُز بِرُمَّتِها مرةً ثانية.
ليس عليكَ أن تكون حليفًا لمذهب التوازي لكي ترى أن هذا الاعتراض مضلل. فصاحب مذهب التوازي ليس مضطرًّا إلى أن يصوِّر الله على أنه يكيِّف مسارَ الأحداثِ العقلية والمادية على نحوٍ متواصل. فقد يكون وجهُ الأمر أن الله قد خلق، مرةً وإلى الأبد، عالَمًا يشتمل على جواهرَ ماديةٍ خاضعةٍ لِقانونٍ طبيعي ثابت وجواهرَ عقليةٍ خاضعةٍ، ربما، لِقوانينَ سيكولوجية، والعالَم مصمَّم بحيث إن الأحداث في العالَم العقلي تتغير مع تغير الأحداث في العالم المادي. والنموذج هنا هو نموذجُ صانعِ الساعات، الذي يصنع ساعتين متزامنتين تمامًا، تتصاحب تغيراتُهما، لا لأنهما متصلتان عِلِّيًّا، بل لأن الانضباطاتِ الداخليةَ في إحداهما تعكس تمامًا الانضباطاتِ الداخليةَ في الأخرى.
مذهب المناسبة
من الصعب أن نرى مذهبَ المناسبة تقدمًا على مذهب التوازي، ومن الصعب أن نرى أيًّا منهما تَحَسُّنًا على الصيغة الديكارتية الأصلية للثنائية. إن النقطة المنغِّصة لديكارت هي صعوبةُ فهمِ كيف يمكن للجواهر العقلية غير الممتدة أن تتفاعل عِلِّيًّا مع الجواهر المادية الممتدة. ومذهب التوازي ومذهب المناسبة يُسَلِّمان بهذه الصعوبة، ويحاولان التغلبَ عليها بالتسليم بأن الجوهرين العقلي والمادي لا يمكن أن يتفاعلا عِلِّيًّا، وبتقديم تفسيرٍ لمظهر التفاعل. تلك استراتيجيةٌ تبدو غيرَ واعِدة، وتبدو مجردَ ترحيلٍ للمشكلة الأصلية دون حَلِّها.
العِلِّيَّة١٦
لاحظْ أنه لَيكون من المضلِّل، وإن يكن مُغرِيًا، أن تصف هذا الرأي على أنه رأي ينكر أن الأحداثَ مرتبطةٌ عِلِّيًّا. إنما تعني الفكرةُ أن العلاقات العِلِّية المعينة لا تعدو الآتي: التعاقب العِلِّي هو ببساطة مثالٌ لاطِّرادٍ ما. فضربُكَ كرةَ البلياردو الآن (حدثٌ متزمِّن معين) يجعلها تتدحرج عبر الطاولة (حدث معين آخر)، في حالة ما إذا كان حقًّا أنه كلما وقع حدثٌ من صنفٍ مماثل للأول وقع أيضًا حدثٌ من صنفٍ مماثل للثاني.
لم يكن هيوم قائلًا بمذهب المناسبة، إلا أن ملاحظاته الجهيرة عن العِلِّية لها أثرُها على فرضية المناسبة (الحق أن مالبرانش، أشهر القائلين بمذهب المناسبة، قَدَّم حججًا «هِيومية» قبل أن يقدمها هيوم بكثير). فإذا تبخرت العلاقاتُ العِلِّية إلى مجرد اطرادات، إلى تغير متصاحب لأحداثٍ من صنفٍ معين، يكون من الخطأ أن نَعُدَّ غيابَ ميكانزم أو غياب وَصلةٍ عِلِّية بين الأحداث العقلية والأحداث المادية مشكلةً تُذكَر. وعلى العكس، ليس ثمة مثل هذه الوصلات حتى بين أحداث العالم المادي. ونحن بالمناسبة كثيرًا ما يتملكنا الانطباعُ بأننا قد شهدنا روابطَ بين الأحداث. إلا أن هذا وفقًا لهيوم هو مجرد «إسقاط» لقناعتنا بأنه عندما يحدث حدثٌ من صنفٍ معين (ضرب كرة بلياردو بعصا بلياردو) فإن حدثًا من صنفٍ آخر (تحرك الكرة في اتجاه معين) سوف يتبع. هذه القناعة تنشأ فينا بعد أن نكون قد تهيأنا لذلك بفعل مشاهدات سابقة لتعاقباتٍ مماثلة من الأحداث.
فإذا كانت العلاقات العِلِّية لا تعدو أن تكون اطِّراداتٍ بين أنواعٍ من الأحداث، فليس ثمة ما هو مُشكِلٌ أو غامضٌ في أحداثٍ عقليةٍ تُسَبِّب أحداثًا مادية. وينجم مظهرُ المشكلةِ عن الافتراض الضمني بأن العلاقات العِلِّية تتطلب ميكانِزمًا أو وصلةً مُعترِضة. فإذا تعذر اكتشاف مثل هذه الوصلات فلا عجب في ذلك؛ فهي غائبةٌ أيضًا من السلاسل المعتادة للأحداث المادية. ومن هذه الجهة من الرأي فلا فرق بين الصورة الديكارتية لِلعِلِّية وصورة مذهب التوازي.
أين يَفترِق هذا عن مذهب المناسبة؟ قد يُحاجُّ أصحابُ مذهب المناسبة بأنه في غياب رابطةٍ عِلِّية، أيْ ميكانزم رابط أو وصلة بين العِلَل والمعلولات، يَلزمنا تفسيرٌ ما لِنَمَط الاطرادات بين ضروب الأحداث التي نجدها في العالَم. هذه الاطرادات تضم سلاسلَ أحداثٍ ماديةٍ خالصة، وتضم أيضًا سلاسلَ تشتمل على مكوناتٍ عقلية ومادية. فإذا كان هناك حدثٌ من صنفٍ ما متبوعًا دائمًا وأبدًا بحدثٍ من صنفٍ آخر، فليس هذا بسبب أن أحداث الصنف الأول تُحَتِّم على نحوٍ ما أو تسبِّب أحداثَ الصنفِ الثاني. فالأحداثُ مجرياتٌ منفصلة، وليس لِأي حدثٍ قوةٌ على أن يُحدِثَ حدثًا آخر. كيف لنا إذن أن نفسر الحقيقةَ الواضحة، حقيقةَ أن سلاسلَ الأحداثِ مُشَيَّدةٌ ومُطَّرِدةٌ ومنتظمةٌ بإحكام؟ إن انتظامها تَحصُرُه نظرياتٌ علميةٌ تُسَلِّم بوجود قوانينَ طبيعية، وهو مَذخورٌ في التعميماتِ العِلِّية اليومية.
بوسعنا، اختياريًّا، أن نتصور العالَم عبر الزمن مشتملًا على تَعاقُبٍ من العوالم، كلُّ عالمٍ منها مختلفٌ اختلافًا طفيفًا عن سابقِه بطريقةٍ تشبه الطريقةَ التي تختلف فيها كلُّ لقطةٍ على فِيلمٍ سينمائي عن اللقطة السابقة لها. وفي مثالنا لكرة البلياردو، فإن ضرب العصا للكرة ينتمي إلى حلقةٍ زمنيةٍ (أحد العوالم)، والتدحرج اللاحق للكرة إلى حلقةٍ زمنيةٍ لاحقة (عالمٍ مختلف). ولا بد لكل حلقةٍ في التعاقُبِ الذي يشكِّل ما نَعُدُّه جميعًا عالَمَنا أن تُخلَق «من عَدَم».
بِحَسْبِ هذه التأملات أنها توضح أننا لا يمكننا أن نأمل في أن نقيِّم دعاوي حول العقول والعالم المادي دون أن نشتبك أولًا مع مجموعة من المسائل الميتافيزيقية الأساسية. فَأَيُّما قدرٍ من المعقولية يملكه مذهبُ المناسبة إنما يعتمد على تصورٍ ميتافيزيقي معين للعِلِّية. غير أننا لن يتسنَّى لنا تقييمُ صنفِ الثنائية التي لدى صاحب نظرية المناسبة قبل أن نعزِّز فهمَنا للخيارات الميتافيزيقية.
المثالية
يذهب مذهب التوازي ومذهب المناسبة إلى أن انطباعنا بأن العقولَ والأجسام موصولةٌ عِليًّا هو وهم. أنت تقرر أن تُلَوِّح بيدك، وبالتالي تلوِّح بها، فيبدو لك أن قرارَك أحدَثَ تلويحَك. ولكن الأمر ليس كذلك، أو، إذا كان كذلك، فإنما هو لأن الرب يتكفل لك، في حلقةِ العالمِ اللاحقةِ لحلقةِ العالم التي تقرر فيها أن تلوِّح، بأن تُلَوِّح.
ولكن افترِضْ أننا نمضي أبعدَ من ذلك، افترِضْ أننا نسلِّم بأنه ليس انطباع التفاعل العِلِّي بين العقل والجسم هو وحده الوهم، بل بأن العالم المادي هو نفسه وهم! إن لدينا خبرات علينا أن نَصِفها كخبراتٍ لِأشياء وأحداث مادية موجودة خارج عقولنا، غير أن هذه لا تعدو في الحقيقة أن تكون أحلامًا أو هلاوسَ مركَّبةً وممتدة. صحيح أن الأنشطةَ اليومية تفتقد الطابعَ الحُلمِيَّ المميزَ للأحلام، ولكن ما ذلك إلا لأن الخبراتِ اليوميةَ أكثرُ انتظامًا واطِّرادًا، وأقل هَوادة.
وحتى باعتبار ذلك، فإن معظمنا يجد المثاليةَ صعبةَ الابتلاع. قد يعود ذلك جزئيًّا إلى أن المثالية فيما يبدو تتخذ المَخرَج السهل. فالمثالية تفسر المظاهرَ بأن تُوَحِّد المظاهرَ مع الواقع. إلا أن معظمنا يُعرِب عن أمله باحتمال وجود طريقةٍ ما لإبقاء التمييز، وتوفيق عقولنا ومحتوياتها مع عالمٍ مادي غير عقلي. قد نكون في النهاية مضطرين لقبول المثالية، ولكنْ إلى أن نُضطَر لقبولها، فإن بوسعنا أن نستمر في الْتماسِ بدائلَ أقلَّ درامية.
العقل والمعنى
بعد أن قلتُ هذا، ينبغي أن أشير إلى أن المثاليين في العادة لم يقدموا المثاليةَ ببساطة كبديلٍ للثنائية الديكارتية. في القلب من معظم ضروب المثالية تَقبَع نظرةٌ عن معنى ومحتويات أفكارنا. يُحاجُّ المثاليون بأن الآراء المتعارضة، الآراء التي تميز تمييزًا حادًّا بين العقول ومحتوياتها من جهة، والعالَم المستقل عن العقل من جهةٍ أخرى، هي آراء غير مترابطة بكل معنى الكلمة. وهي بالطبع لا تَجبَهُنا بانعدام ترابطِها للتو واللحظة، ولكننا ما إن نفهم ما هو متضمَّن في عملية امتلاك فكرة معينة حتى يتَسَنَّى لنا أن نرى أن مثل هذه الآراء هي لغوٌ لا معنى له، وأنها لا يمكن التفكير بها أصلًا. وصفوةُ القولِ أنه ليس ثمة من خيار، وليس ثمة من بديلٍ عن المثالية.
هذه دعوى شديدة. ولو صَحَّت لَكانَت المثاليةُ منيعةً لا تُنال. ولكنْ ليس هذا مكان فحص حجج المثالي بالتفصيل. فلننظر بالأحرى إلى صيغةٍ انسيابية لنوع الحجة التي قد يُهِيب بها المثاليون.
وخَطُّ الحجةِ الذي في ذهني هو ما قدَّمه باركلي. لم يكن باركلي مهتمًّا بإثبات أنه ليس هناك في الحقيقة عالمٌ ماديٌّ بل هناك عقولٌ ومحتوياتُها، أو بإثبات أن المثالية تتمتع بمزايا ميتافيزيقية معينة فوق منافِساتِها الثنائية. فهدفُ باركلي هو أن يُثبِتَ أنه في التحليل النهائي ليس ثمة منافِسات خطيرة للمثالية. يذهب باركلي إلى أنه عندما يتظاهر الفلاسفةُ بالحديث عن عالَمٍ مادي فإنهم يحاولون الحديثَ عن شيءٍ لا يمكن تصورُه البتة، بل إن الحديث الفلسفي عن عالمٍ مادي مستقل عن العقل ليس حديثًا عن أي شيء على الإطلاق. ومن ثم فإن الفرضيات الثنائية ليست زائفة فحسب أو غير مقبولة، بل هي عديمة المعنى تمامًا.
يقول باركلي انظرْ فيما نتحدث (أو نفكر) عنه عندما نتحدث عن أشياء مألوفة؛ الموائد، الأحجار، القطط. إننا نتحدث (أو نفكر) عن أشياء تبدو وتُسمَع وتُذاق وتُشَم وتُحس على نحوٍ معين. ولكن هيئةَ الأشياء وصوتَها ومذاقَها ورائحتَها وملمسَها؛ ليست خارجنا، ليست خارج عقولنا. فهي، ببساطةٍ، خبراتٌ من أصنافٍ مميزة معينة. نحن بطبيعة الحال نميز، بصفة عامة، بين خبراتنا بالأشياء وبين الأشياء، إلا أن باركلي ينبري ليبيِّن لنا أن هذا تمييزٌ فارغ.
هَبْ أنك الآن تدرك ثمرةَ طماطم ناضجة في ضوء الشمس الساطع. إن لديك خبرةً بصريةً معينة من صنفٍ مستديرٍ أحمر. وإذا أمسكتَ بالطماطمة وقَطَمتَها فستكون لديك خبرةٌ إضافية لمسية وشمية وذوقية وسمعية؛ إذ إن لها ملمسًا ورائحة، ولها عند قطمك إياها مَذاقًا معينًا وصوتًا معينًا. يُحاجُّ باركلي بأن أفكارك عن الطماطمة لا تزيد على هذه المظاهر الحسية. فأنت إذ تفكر في الطماطمة فإن فكرك يتعلق بشيءٍ يبدو ويُحَس ويُشَم ويُذاق ويُسمَع على نحوٍ معين. ولكن الهيئة والملمس وما إلى ذلك لا تعدو، حين نفهمها على وجهها الصحيح، أن تكون كيفياتِ خبراتٍ واعية، والخبرات الواعية ظواهر عقلية.
ربما يخطر لك أن هناك جوابًا واضحًا عن هذا الخط من الاستدلال. ستقول إن بوسعنا طبعًا أن نفكر في طماطمة مستقلة عن الذهن، ولا أسهل من ذلك. فالطماطم المستقل عن الذهن يماثل خبراتنا بالطماطم؛ فهو أحمر وكروي وحمضي. وبإمكاننا أن نفكر في طماطمةٍ مستقلة عن الذهن بأن نضمر أفكارًا عن ضروب الخبرة الواعية التي تقع لنا عادةً في وجود الطماطم، ونضيف إلى هذه الأفكار فكرةَ أن هذه أفكارٌ عن شيءٍ ما خارج العقل، شيء خارج خبراتنا.
يرفض باركلي هذه النقلة. ويُحاجُّ بأن الخبرات لا يمكن أن تماثلَ إلا خبرات. فحين أَشرَعُ في تَخَيُّلِ طماطمةٍ مستقلة عن الذهن فأنا أستدعي أولًا إلى الذهن خبرات معينة، ثم أطرح منها أنها خبرات. يحاج باركلي بأن هذا لا معنى له، وأنه أشبه بأن نستدعي في الذهن فكرة مثلث، ثم نطرح من هذه الفكرة أنه ذو ثلاثة أضلاع، فلا تبقَى لدينا إلا فكرةٌ فارغة. صحيح أن لدينا، بعدُ، ألفاظًا: «طماطم غير مدرَك»، «مثلث بلا أضلاع ثلاثة»؛ ألفاظًا خِلوًا من الدلالة. ولكن الفلاسفة، في الحالة السابقة على الأقل، لم يلاحظوا ذلك. لقد ثرثروا حول عالمٍ مستقل عن الذهن بنفس الطريقة التي قد يثرثر بها طفلٌ حول مثلث غير ثلاثي الأضلاع.
رغم أن النتيجة (عالَمٌ من الأشياء المادية قائم خارج العقل هو شيء غير متصوَّر على الإطلاق) تبدو شَطَطًا، فإن باركلي يُصِر على نقطةٍ سبق ذكرُها من شأنها أن تهوِّن الصدمة. هَبْ أن المثاليةَ حقٌّ، وأن كل ما يوجد هو العقول ومحتوياتها. فماذا عساه أن يختلف في خبراتنا اليومية عما تكونه هذه الخبرات لو أن المثالية كانت باطلًا؟ الجواب عند باركلي وغيره من المثاليين هو أن لا شيء سوف يختلف اختلافًا ملموسًا. فإذا صَحَّ ذلك، فمن الصعب أن نتهم المثاليين بدحض التوقعات المعتادة. فالذي ينكره المثاليون هو، ببساطة، تأويلٌ فلسفي معين لهذه التوقعات، فالمثاليون إذ ينكرون الأشياءَ المادية يؤكدون أنهم لا ينكرون الموائد والأشجار والمجرات وما شابه، بل يرفضون فكرة أن «مائدة» و«شجرة» و«مَجَرَّة» تُسمَّى أشياء مادية مستقلة عن الذهن، فهذه الحدود في حقيقة الأمر تُسمَّى مجموعات من الخبرات الحقيقية والممكنة.
رغم غرابتها الظاهرية، فإن المثالية مشهورة بأنها عنيدة يصعب التصدي لها. وبدلًا من ترديد الحجج المضادة للمثالية بالتفصيل، فإنني أقترح أن نمضي قُدُمًا ونعرض آراءً بديلة، فقد يتبين لنا أن ثمة وجهًا لتفضيل رأي منها أو أكثر على المثالية، رغم عدم وجود صدوعٍ واضحةٍ في درع المثالية. ووجهة نظري الخاصة هي أن المثالية تمثل نوعًا من الكَلال، فالمثالي إذ يعجز عن التوفيق بين العقول والعالَم المادي ينسحب من المباراة، ويضع العالَمَ المادي داخلَ العقل.
مذهب الظاهرة الثانوية (المصاحِبة)
يبدو مذهب الظاهرة الثانوية متحديًا للخبرة العامة. إن من المؤكد أن شعورك بالألم حين تقرِّب يدَك من النار هو ما يتسبَّب في سَحبِك إياها. ومن المؤكد أن تفكيرك وقرارك اللاحق بالحصول على شطيرة برجر كنج هو ما يقودك إلى أن تَهوِي إلى برجر كينج. ورغم ذلك، فوفقًا لمذهب الظاهرة المصاحبة، فإن كل الفعل العِلِّي في هذه الحالات تفعله أحداثٌ في جهازك العصبي. قد يكون لِهذه الأحداث نتاجٌ من خبرات شعورية معينة، كنتاجٍ ثانوي، إلا أن الخبراتِ الشعوريةَ خاملةٌ عِلِّيًّا. وهي إن تَزَيَّت في الظاهر بثوبٍ عِلِّيٍّ فَلِأَنها مسبَّبة ﺑ — وبالتالي مصاحِبة دائمًا ﻟ — أحداثٍ مادية هي ذاتها تُحدِث معلولاتٍ مختلفة. افترِضْ أن ارتخاءَ حزامِ المروحة قد تَسَبَّب في سخونة سيارتي وفي حدوث صريرٍ مميَّز في آنٍ معًا. إن الصرير يصاحِب، ولا يسبِّب، السخونة. هكذا الأمر في الظواهر العقلية بعامةٍ وفقًا لمذهب الظاهرة المصاحبة.
وقد وجد علماءُ الأعصاب مذهبَ الظاهرة الثانوية جذابًا في بعض الأحيان؛ ذلك أن بوسعنا في دراسة عمل الدماغ، إذا سلمنا بمذهب الظاهرة الثانوية، أن نضرب صفحًا عن كيفيات الظواهر العقلية تمامًا، ونركز حصريًّا على الآليات والعمليات الجسمية. فإذا كانت الظواهرُ العقلية ظواهرَ ثانوية، فهي إذن غير قابلة للكشف (اللهم إلا مِن جانب مَن تقع لهم)، ولا يمكنها أن تُحدِث فارقًا لأي شيء يحدث في العالم المادي. من شأن ذلك أن يُطلِق يدَ علماءِ الأعصاب في استكشافِ أسرارِ الدماغ دون أن يكرثوا أنفسَهم بالتفاصيل المضطربة للخبرة الشعورية.
إلا أن مذهب الظاهرة المصاحبة يواجه عددًا من المصاعب؛ فأولًا: طبيعة العلاقات العِلِّية من المادي إلى العقلي ليست تامةَ الوضوح بحال. يُسَلِّم معظمُ الفلاسفة بفكرة قيام علاقاتٍ عِلِّيَّة بين الأحداث، ويؤكد صاحب مذهب الظاهرة الثانوية أن بعضَ الأحداثِ المادية يُسبِّب أحداثًا عقلية، بينما لا تُسَبِّب الأحداثُ العقليةُ شيئًا. قد يخطر للمرء أنه لا ضير في إجازةِ أن يكون بإمكان الأحداث العقلية أن تُسَبِّب أحداثًا عقليةً أخرى، فالأحداث العقلية بعد كل شيء (وفقًا لصاحب مذهب الظاهرة الثانوية) ليس لها معلولات مادية، ومن ثم فالعلاقات العِلِّية بين الأحداث العقلية لن تشكِّل تهديدًا للتكامل العِلِّي للعالم المادي. إلا أن هذا الاحتمالَ ناشزٌ عن الصورة الأعرض لدى صاحب مذهب الظاهرة الثانوية. فإذا كان بِمُكنَةِ الأحداث العقلية نفسِها أن تُسَبِّب أحداثًا عقليةً لأمكن لبعض الأحداث العقلية، إذن، أن تكون لها حياةٌ خاصةٌ بها. إلا أنه من صميم مذهب الظاهرة الثانوية أن الأحداث العقلية نواتجُ ثانويةٌ للأحداث المادية.
علينا إذن أن نفترض أن الأحداث العقلية، وإن تكن هي ذاتُها خاملةً عِلِّيًّا، مسبَّبة بالأحداث المادية. إلا أن مثل هذه العلاقات العِلِّية المسدودة تختلف عن العلاقات العلية الاعتيادية. ففي حالة العِلِّية المادية الاعتيادية تكون الأحداثُ معلولاتٍ (لِأَحداثٍ سابقةٍ) وعِلَلًا (لِأَحداثٍ لاحقة)؛ لذا فإن التفاعلات العِلِّية التي تتضمن أحداثًا عقليةً تبدو مختلفةً جدًّا عن تلك التي نصادفها في مكانٍ آخر من العالم. ليس هذا في حد ذاته اعتراضًا على مذهب الظاهرة الثانوية، إنه مجردُ نتيجةٍ مترتبةٍ على تصور صاحب مذهب الظاهرة الثانوية للأحداث العقلية. ورغم ذلك، فمن الواضح أنه إذا أُتِيحَت لنا وجهةُ نظرٍ بديلةٌ تفسر ما فسَّرَته نظرةُ الظاهرة الثانوية دون لُجُوءٍ إلى صنفٍ خاص من العلاقة العِلِّية، فستكون هذه الوجهةُ من الرأي مفضَّلةً عليها.
الثنائية اللاديكارتية
تتضمن الثنائية الديكارتية، كما وَصَّفتُها، عددًا من المكوِّنات؛ أولا: العقول والأجسام المادية تؤخذ على أنها جواهر متميزة. ثانيًا: العقول والأجسام المادية يُفتَرَض أنها تتفاعل عِلِّيًّا، وهذا التفاعل يمضي في كلا الاتجاهين؛ فالأحداثُ العقليةُ تُسبِّب الأحداثَ الماديةَ وتتسبَّب بها. وقد رأينا أن بوسعنا أن نبدأ بالثنائية الديكارتية ونُعَدِّل عناصرَ معينةً لكي ننتِج تصوراتٍ جديدةً للعقول وعلاقتها بالعالم المادي، فأصحاب مذهب التوازي ومذهب المناسبة ينكرون أن العقول تتفاعل مع الأجسام المادية. والمثاليون يرفضون الجوهرَ المادي ومعه فكرة تفاعل العقل-الجسم. وأصحاب مذهب الظاهرة الثانوية ينكرون الجواهرَ العقليةَ ولكنهم يَقبَلون الأحداثَ العقليةَ كنواتجَ ثانويةٍ خاملةٍ عِلِّيًّا لِأَحداثٍ تتضمن جواهرَ مادية.
على أن هناك مكوِّنًا ثالثًا لِوجهةِ النظر الديكارتية. إذ تتميز الجواهرُ العقلية والمادية بصفاتٍ فريدة؛ فالعقولُ جواهرُ مفكرة، والأجسامُ جواهرُ ممتدة. فليس ثمةَ جسمٌ ماديٌّ يفكر، ولا عقلٌ ممتدٌّ مكانيًّا. افترِضْ أننا أبقينا على مكوِّنين للثنائية الديكارتية ورفضنا هذا المكوِّنَ الثالث. وفقًا لمثل هذه الوجهة من الرأي ستُعَدُّ العقولُ والأجسامُ جواهرَ مُنمازةً قادرةً على التفاعل العِلِّي، إلا أن العقول قد تمتلك خواصَّ كان ديكارت خليقًا أن يَقصُرَها على الأجسام المادية.
لماذا ينجذب الجميعُ بالضرورةِ لمثل هذه الوجهة من الرأي؟ أحد أسباب ذلك أنه بقبول أن العقول يمكن أن تكون ممتدةً مكانيًّا تغدو فكرةُ أنها تتفاعل عِلِّيًّا مع الأجسام المادية أقلَّ غموضًا. ويمكننا أن نشرَع في فهم ما هو على المِحَك هنا بأن ننظر أولًا بتمعنٍ أكثر في المبادئ التي نتخذها في تمييز الجواهر.
هذا الخط من الاستدلال يتطلب فهمًا صارمًا لما يشكِّل مجموعة. فالمجموعات، بهذا المعنى الصارم، لا يمكن أن تكسب أو تخسر أجزاءً ثم تظل موجودة؛ فالمجموعةُ هي بالضبط مجموعُ أعضائها (أو ربما مجموع أعضائها في علاقةٍ معينة). أما فهمنا اليومي المعتاد للمجموعات فهو أقل تصلبًا، فيمكنك أن تضيف إلى مجموعتك من بطاقات أو طوابع البسبول، أو تستبدل بعضًا منها ببعض، وتَبقَى المجموعة (وسوف نعود إلى هذه المسائل في الفصل السادس).
قد نفسر هذه الحقائق عن القارب ومجموعة الألواح التي تُشَيِّده بأن نقبل أن شَرطَي التفرد والدوام بالنسبة للقارب غيرُهما بالنسبة لمجموعة الألواح. ونأتي الآن إلى النقطة الدقيقة: فما دام القارب لا يعود موجودًا عندما لا تعود مجموعة الألواح التي تشيده الآن موجودة؛ إذن فالقارب لا يمكن أن يكون متماهيًا مع مجموعة الألواح التي تُشَيِّده في وقتٍ مُعطًى. وبتعبيرٍ أكثر تعميمًا: إذا كان بإمكان «أ» أن يوجد عندما لا يعود «ب» موجودًا، إذن «أ» و«ب» لا يمكن أن يكونا نفسَ الشيء. يمكن لِقاربٍ ولمجموعة ألواحٍ أن يتواجدا مكانيًّا خلال فترةٍ من الزمن، ويكون القارب خلال تلك الفترة مُشَيَّدًا من مجموعة الألواح. الحق أن وجود القارب في زمنٍ معين يعتمد على وجود مجموعة الألواح، غير أن ذلك لا يثبت إلا أن التركيب المادي والاعتماد لا ينضافان إلى الهوية.
لقد مررنا بالفعل بالفكرة التقليدية للجوهر، فكرة شيءٍ معين؛ طاولة البلياردو هذه، الشجرة التي بالساحة، أذنك اليسرى. ومن الممكن أن تكون الجواهرُ مكوَّنةً من جواهر. فطاولة البلياردو والشجرة وأذنك اليسرى مكونة من أجزاء دقيقة منتظمة بطريقة معينة، وهذه الأجزاء هي ذاتها جواهر. ومن الممكن التمييز بين الجواهر البسيطة والجواهر المركبة؛ فالجواهر المركبة لديها جواهر بسيطة كأجزاء، أما الجواهر البسيطة، في المقابل، فلا أجزاء لها.
هذه الدعوى الأخيرة تحتاج إلى تحديد؛ فالجواهر البسيطة لا يمكن أن تكون لديها أجزاء هي ذاتها جواهر، أي أجزاء جوهرية. والجوهر البسيط رغم ذلك قد يكون له أجزاء غير جوهرية مكانية أو زمانية. افترضْ مثلًا أن جوهرًا بسيطًا هو مربع، إن له إذن نصفًا علويًّا ونصفًا سفليًّا، وإذا كان ضلعُ المربع ٤ بوصات، فإن مساحته إذن تتكون من ١٦ قطعة محددة، كل قطعة منها هي بوصة مربعة. ولكن المربع، إذا كان بسيطًا، ليس مركبًا أو مكونًا من هذه المناطق بالطريقة التي تتكون بها الساعة من تروس ولوالب وعلبة. فالتروس واللوالب والعلب يمكن أن توجد عندما لا توجد ساعة، ولكن المناطق المكانية للمربع لا يمكن أن توجد بمَعزِل عن المربع.
وماذا عن التركيب؟ علاقة التركيب تقوم بين جواهر، والجواهر العديدة تركِّب أو تشيِّد جوهرًا مركبًا عندما تتجمع معًا على نحوٍ ملائم. وما يشكِّل تجميعًا ملائمًا سوف يعتمد على طبيعة المجموعة. فالخلايا التي تشيد أذنَك اليسرى مُرَزَّمةٌ معًا بكثافةٍ، ولها حَدٌّ محدَّدٌ تقريبًا. وفي المقابل، فإن الذرات التي تشيِّد المنضدةَ مبعثرةٌ على نحوٍ واسع على المستوى الميكروسكوبي. وليس كل تجمُّع من الجواهر يشيد جوهرًا. انظرْ في مجموعة الجواهر المتكونة من أذنك اليسرى وكرة البلياردو هذه والشجرة التي خارج نافذتي. مثل هذه المجموعة لا تُفضِي إلى جوهر، فالجواهر المركبة هي مجموعاتٌ من الجواهر التي انتظمت على نحوٍ ملائم حيث ينشأ المبدأُ المنظِّمُ من طبيعةِ الجوهرِ المعنِيِّ. فالمبدأ المُنَظِّم للألواح المشيِّدة لِقاربٍ خشبي يختلف عن المبدأ المنظِّم للخلايا التي تشيد أذنك اليسرى في وقتٍ مُعطًى.
أما فكرة الاعتماد، أو الاعتماد الميتافيزيقي، فهي أن وجود شيءٍ ما يستلزم بالضرورة وجودَ شيءٍ آخر: «أ» يعتمد ميتافيزيقيًّا على «ب» عندما يستحيل أن يوجد «أ» ما لم يوجد «ب». وعلينا أن نفرق بين الاعتماد الميتافيزيقي والاعتماد العِلِّي. أنت لا يمكنك أن توجد في غياب الأوكسجين، ومن ثم فإن وجودك يعتمد على وجود الأوكسجين. غير أن هذا الاعتماد هنا عِلِّيٌّ لا ميتافيزيقي. فربما تكون قد بقيتَ (ولو لِفترةٍ قصيرة) في غياب الأوكسجين. قارن الاعتماد من هذا الصنف بالاعتماد الميتافيزيقي للكل (القارب الخشبي مثلًا) على أجزائه في وقتٍ معطًى. فرغم أن بإمكاننا أن نتخيل القاربَ يبقَى بعد استبدال أجزاء مفردة عبر الزمن، فليس بإمكاننا أن نتصور القاربَ يظل موجودًا في وقتٍ لا توجد فيه أجزاؤه.
يمكننا إذ نتسلح بهذه المفردات أن نَشرَع في أن نرى كيف أن ثنائية جواهر لا يلزمها أن تتضمن ثنائيةً على الطريقة الديكارتية. ولنفترض أن القارب جوهر متميز عن مجموعة الألواح التي تُشَيِّده في وقتٍ مُعطًى. إن القارب يعتمد ميتافيزيقيًّا، في ذلك الوقت، على مجموعة الألواح. والقارب، فضلًا عن ذلك، رغم تميزه عن مجموعة الألواح، ليس جوهرًا لا ماديًّا. والحق أن القارب في أي لحظة معطاة يشارك الألواحَ التي تشيِّده عددًا من الخواص؛ فالقارب ومجموعة الألواح لديهما نفس الكتلة، ونفس الأبعاد المكانية، ويَشغَلان نفس المَحَلِّ من المكان-الزمان.
افترض الآن أننا نمد هذه النقطةَ إلى العلاقة التي تحملها العقول إلى الأجسام. تَخيَّل أن العقول — أو الأنفس باتِّباعِ ديكارت — كانت تُعتبَر جواهر مميزة عن، ولكن معتمدة على، الجواهر المادية التي تتجسد فيها. يمكن للأنفُس حين تؤخَذُ هذا المَأخَذَ أن تمتلك الخواص المادية المعتادة؛ الكتلة والحجم والحيز المكاني على سبيل المثال. وهي في هذا ستختلف عن الأنفس الديكارتية.
للأجسام والأنفس شروطُ دوامٍ مختلفةٌ جدًّا؛ لذا فأنت لستَ متماهيًا مع جسمك. وتُفضِي اعتباراتٌ مماثلةٌ إلى نتيجة أنك لستَ متماهيًا مع أيِّ جزءٍ من جسمك (دماغِك على سبيل المثال). إن جسمك هو جوهرٌ بيولوجي مركَّب يحتوي جواهر مركَّبة كأجزاء له. ودماغك أحد هذه الأجزاء الجوهرية. يمكن لدماغك أن يوجد عندما لا تعود أنت موجودًا. كما أن لك طولًا معينًا وكتلة معينة، مع هذين (الطول والكتلة) أنت تشارك جسمَك، لا مع دماغك أو مع أي جزء آخر من جسمك.
حتى لو قَبِلنا ذلك كله، حتى لو سلمنا بأن النفس جوهر، متميز من البدن ولكن يشارك البدنَ بعضَ خواصه، فلماذا يتوجب علينا أن نتخيل أن النفس جوهر بسيط، جوهر بلا أجزاء جوهرية؟ يقلب لُو السؤال: ماذا عساها أن تكون أجزاء النفس؟ إذا سلمنا بأن النفس ليست الجسم أو جزءًا من الجسم، إذن أجزاء الجسم لا يمكن أن تكون أجزاء النفس ما لم تكن لدى النفس أجزاء غير جسمية أيضًا. ولكن ماذا عساها أن تكون هذه الأجزاء؟ ثمة احتمالان واضحان.
دعنا نفترض أن لُو صائبٌ في هذا: النفس جوهرٌ بسيطٌ متميز من الجسم ومن أي جزء جوهري من الجسم، فما هي الخصائص التي تمتلكها الأنفس؟ أنت (أي نفسُك) تمتلك بعضَ الخصائص على نحوٍ اشتقاقي فحسب. فامتلاكُك أذنًا يسرى مثلًا لا يَعدو أن يكون امتلاكك جسمًا لديه أذنٌ يسرى. ولكنك أيضًا لديك طولٌ وكتلةٌ معينان، هاتان الخاصتان هما، بالإضافة إلى كونهما خاصتين لِجسمِك، هما خاصتان لك، لنفسك. ها هنا يفترق لُو وديكارت؛ فوفقًا لديكارت، تمتلك الأنفسُ، وليس الأجسام، خصائص عقلية، وتمتلك الأجسام، وليس الأنفس، خصائص مادية.
لماذا التمييز بين الخصائص المادية التي تمتلكها، وبين تلك التي تمتلكها فقط في امتلاكك جسدًا يمتلك تلك الخصائص؟ إذا كانت النفس بسيطة فهي إذن لا يمكن أن تمتلك إلا الخصائص التي يمكن لجوهر بسيط امتلاكها. ولأن الآذان لها أجزاء جوهرية فالآذان لا يمكن أن تمتلكها إلا جواهر مركَّبة. أما كونك ذا طول معين أو كتلة معينة فهو، في المقابل، لا يتضمن تَرَكُّبًا جوهريًّا.
إلى جانب امتلاكها قطاعًا من الخصائص المادية، تمتلك الأنفس خصائصَ عقلية. فأفكارك ومشاعرك تنتمي لا إلى جسمك أو إلى جزء من جسمك (دماغك)، بل إليك. وبتعبيرٍ أَعَم، فالأنفس، وليس أجسادها، تمتلك خصائص عقلية.
ولأن الأنفس، وفقًا لِمثلِ هذه الوجهة من الرأي، لا تُعتبَر جواهرَ لا مادية، فإن مشكلة ديكارت الخاصة بالتفاعل بين الأنفس والجواهر المادية لا تَبرز. ولكن ما زال علينا أن نتساءل كيف يمكن للنفس، التي ليست متماهية مع الجسم أو مع أي جزء من الجسم، أن تؤثر على العالم. أنت تقرر أن تتمشَّى، ثم لا تلبث أن تحرك جسمَك بطريقةٍ معينة، فكيف يمكن ذلك؟ إن السوابق العِلِّيَّة لِتَمَشِّيكَ لا تتضمن إلا أحداثًا جسمية وعِلَلًا خارجية لِأَحداثٍ جسمية.
يذهب لُو إلى أن نموذج السببية العقلية الموروث من ديكارت غير ملائم. يتخيل ديكارت الأنفس تبدأ سلاسلَ عِلِّيَّة في الدماغ. ومن المصاعب المُحدِقة بمثل هذا الرأي أنه ينتهك فيما يبدو قناعتَنا العميقة بأن العالم المادي مكتفٍ بذاته عِلِّيًّا. ربما تكون هذه القَناعة في النهاية مجرد تحيز، أو، بإنصافٍ أكثر، افتراضًا يمكن أن نجد سببًا وجيهًا لِنَبذِه. غير أن علينا، حتى نصادف هذا السبب، أن نتذرَّع بالشك في أولئك الذين ينكرونه لا لِشيءٍ إلا للإبقاء على دعوى مفضَّلة.
تأملْ عنكبوتًا تتحرك في شبكتها جيئةً وذهابًا. رغم أن الشبكة معتمدة عِلِّيًّا على العنكبوت، فهي جوهر منماز بحقه الشخصي، لا يمكن المماهاة بينه وبين جسم العنكبوت. وفضلًا عن ذلك، فإن الشبكة تؤثر في حركات العنكبوت، لا بأن تبدأها، بل بأن «تُمَكِّن» لها أو «تسهِّلها». ولنا أن نقول إن الشبكة تخلق أمرًا يجعل العالم يتضمن حركات من صنفٍ معين لا من صنفٍ آخر. وبنفس القياس، فإن النفس قد تُعتبَر نتاجًا لعمليات جسمية (واجتماعية فيما يرى لُو) معقدة، نتاجًا لا تمكن مماهاتُه مع جسدها أو مع جزء من جسدها. النفس تعلِّل طبيعة الحركات الجسمية لا بأن تبدأ سلاسل عِلِّية، بل بأن تخلق أمرًا يجعل لتلك السلاسل العِلِّية الشكل المعين الذي لها.
مُجمَل
في الفصول القادمة سوف أعود إلى كثير من الثيمات الميتافيزيقية المقدمة هنا، منقِّحًا فهمَنا لهذه الموضوعات وتأثيرها على الأسئلة حول العقول وعلاقتها بالعالم المادي، لعلنا في النهاية أن نكون في وضع أفضل لتقييم الخيارات المفتوحة لنا.
لقد رأينا حتى الآن أن الثنائية من الصنف الذي أيَّده ديكارت، أي ثنائية الجواهر، يمكن أن يصرَّح بها تصريحًا، ويمكن أن تحوَّل، وأن تُضبَط بطرقٍ عدة. يذهب ديكارت نفسه إلى أن العقول — أو الأنفس — والأجسام نوعان متميزان تمامًا من الجوهر. ورغم ذلك يمكن للجوهرين العقلي والمادي أن يحملا علاقاتٍ جِد وثيقة أحدهما بالآخر. وعلى أقل تقدير فإن الجوهرين العقلي والمادي يتفاعلان عِلِّيًّا.
لم يفسر ديكارت قط تفسيرًا كاملًا كيف يتأتى لجوهرٍ مفكر غير مكاني وغير ممتد أن يؤثر أو يتأثر بجوهر ممتد غير مفكر. من ناحية، بالطبع، فإن «تفسير» علاقاتٍ عِلِّية هو أمر عسير على أي شخص، ويتطلب الكثير من العَنَت. ومن هذه الجهة لم يكن ديكارت في حالٍ أسوأ من حال نقاده الماديين العصريين. ولكن من جهة أخرى، فمن الواضح أن الصورة التي يرسمها ديكارت تصطرع مع اعتقادِنا المتجذرِ بعمقٍ بأن العالم المادي «مغلق عِلِّيًّا». صحيح أننا بعيدون عن معرفة إن كان هذا الاعتقاد صحيحًا، أو حتى إن كان مبرَّرًا، غير أن هناك شيئًا ما مقلِقًا بغير شك في قبول الصورة الديكارتية إذا كانت هناك خيارات متاحة لا تضطرنا إلى اعتبار العالم متشعبًا عبر خطوطٍ عقلية-فيزيقية.
يسلِّم أصحاب مذهب التوازي ومذهب المناسبة بثنائية ديكارت، ويحلُّون مشكلةَ التفاعل العِلِّي بإنكار حدوثه. أما مظهر التفاعل العِلِّي بين العقل والجسم فإنهم يُقصونه إذ يفترضون، كما يفعل أنصار التوازي، أن سلاسل الأحداث في العالم العقلي مترابطة تمامًا مع سلاسل الأحداث المادية، أو أن الله يشاء إيجاد الأحداث العقلية وملازِماتها المادية.
أما المثاليون، فيوافقون أصحابَ مذهب التوازي والمناسبة في أن التفاعلات العِلِّيَّة الملاحظة بين العقول والأجسام وهمية. لكن المثاليين يجتنبون المقدمة الثنائية بأن العالم يحتوي كلا الجوهرين العقلي والمادي، فالكل عقلي. والحق أن فكرة أشياء موجودة بمعزِل عن العقول تُعَد (عندهم) فكرةً غير قابلة للفهم.
وقد نحاول أن نحتفظ بالتفاعل العِلِّي بين العقول والأجسام، ونظل نعتبر أن العقول والأجسام جواهر منفصلة، بأن نرفض المذهب الديكارتي القائل بأن الجواهر العقلية تفتقر إلى الخصائص المادية. فالعقول أو الأنفس تمتلك خصائص لا تمتلكها الأجسام (فهي تحس خبرات مثلًا)، ولكن العقول يمكن أن تمتلك خصائص يقصرها ديكارت على الجواهر غير المفكرة. هذه الأرضية المشتركة تترك، فيما يبدو، الاحتمال مفتوحًا للتفاعل العِلِّي بين العقول والأجسام.
إن ثنائيةً من هذا النوع تبقى لديها مشكلة. لقد شجع العلمُ الحديث، كما لاحظنا آنفًا، التزامًا بالاستقلال العِلِّي للعالم المادي. وإذا كانت الجواهر العقلية تتدخل عِلِّيًّا في الشئون المادية، فقد يتطلب منا هذا، فيما يبدو، أن نتخلى عن فكرة أن العالم المادي مكتفٍ بذاتِه عِلِّيًّا، وذلك حتى لو كانت تلك الجواهر العقلية تمتلك خصائص فيزيقية بالإضافة إلى الخصائص العقلية.
افترِضْ مع ذلك أننا نرفض تصور التسبيب العقلي المتضمَّن في الصورة الديكارتية، فربما تؤثر العقول عِلِّيًّا على الأجسام ولكن ليس ببدء سلاسل من الأحداث المادية. فكل حدث في مثل هذه السلسلة مسبَّب بحدثٍ مادي آخر. وهذه هي بالضبط دعوى الاستقلال العِلِّي للعالم المادي. إلا أنه يتسق مع الاستقلال العِلِّي أن العقول «تُشَكِّل» السلاسل العِلِّيَّة، لا بواسطة تغيير اتجاهات حركة الجسيمات الأولية، كما افترض ديكارت، بل بضبط السلاسل بالطريقة التي تضبط بها شبكةُ العنكبوت حركاتِ العنكبوت.
إلا أن علينا قبل اعتناق أيٍّ من هذه الآراء أن نبذل وسعَنا في تأمل البدائل. وهذا ما سوف نفعله في الفصول القادمة. وليس الهدف أن أدعم أحدَ الأوصاف للعقل والمادة، بل أن أزودك أيها القارئ بالأدوات التي تكوِّن بها اختيارًا مستبصِرًا.