ألبرت أينشتين

هذا العبقري الصهيوني

لم يحظَ عالم على طول تاريخ البشرية بما حظي به أينشتين من دعاية في أجهزة الإعلام الجماهيرية من صحافة وإذاعة وتليفزيون. ولم تحدث محاولة من قِبَل هذه الأجهزة لكي «تبيع» للناس رجلًا من العلماء كما حدث في حالة أينشتين.

ليس هذا ينطبق على الطبول التي دُقت له في عام ١٩١٩م عندما تطابقت المشاهدات الفلكية مع نبوءته النظرية فحسب، ولا ينطبق على الضجيج الذي دُبر له بعد خطابه الشهير إلى روزفلت عام ١٩٣٩م حول قضية القنبلة الذرية فحسب، وإنما ينطبق على الهالة التي رسمتها أجهزة الإعلام الغربية والأميركية خصوصًا عن ألبرت أينشتين هذا العالم (١٩٧٩م) بمناسبة مرور مائة عام على مولده.

والسؤال الطبيعي: لماذا؟ …

هل هو عبقرية تختلف نوعيًّا عن العبقريات التي عرفتها الرياضيات والفيزياء؟ هل ما قدَّمه أينشتين من تصورات نظرية هو الثورة الوحيدة التي وقعت على طول تطور هذين العلمين؟ أين إذن علماء الفيزياء الذرية الحديثة ونظرية الكم ابتداءً من ماكس بلانك وديراك مرورًا بماكس بورن ودي بروجلي وهاينزبرج … إلخ؟

الحقيقة أن الضجة التي تُثار حول أينشتين، والقصص الخرافية التي تُنشر عنه وعن النسبية لا تعود إلى أهمية اكتشافه النظري فحسب، وإنما تعود بنفس القدر إلى اعتبارات ليست علميةً بحتة كذلك.

ومن هذه الاعتبارات اعتبارات سياسية تتعلَّق بالدَّور الذي لعبه في توجيه نظر الولايات المتحدة إلى الخطورة الحقيقية في حصول ألمانيا على القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، عندما كان رجال الحرب الأميركيون يعتقدون أن هذا الخطر ليس إلا مجرد نكتة!

ومن هذه الاعتبارات أيضًا التي لا ينبغي أن تُنسى أن أينشتين يهودي صهيوني، لا نقول هذا عنه ادعاءً … وإنما هو فخور بصهيونيته معتز بها منذ عام ١٩٢١م، شارك في أكثر من حملة لجمع التبرعات للحركة الصهيونية، وحاضر في الجامعة العبرية بالقدس بل عُرض عليه عام ١٩٥٢م بعد وفاة وايزمان أن يكون رئيس دولة إسرائيل، وتردَّد في بادئ الأمر ثم رفض باعتبار أنه لا يصلح للعمل السياسي!

وهذه الحقيقة — عقيدته الصهيونية — تفسِّر جزئيًّا الطبول التي تدقها له أجهزة الإعلام الغربية المليئة بالصهاينة، والتي تلعب دورًا هامًّا في توجيه الرأي العام الغربي (الأميركي خصوصًا)، حتى أدَّت الضجة حول أينشتين إلى سريان عديد من الخرافات بين الناس عن الرجل وعن نظريته النسبية.

من هذه الخرافات أن النظرية النسبية لا يفهمها غير سبعة أشخاص في العالم، وليس هذا صحيحًا بالطبع؛ لأن الذين يفهمونها كثيرون من العلماء؛ ومن هذه الخرافات أن أينشتين أعظم رياضي عرفته البشرية، والحقيقة أنه من الصعب أن يجد أينشتين مكانًا له بين الرياضيين النابهين لأنه عالم فيزياء نظري (ولا شك أنه من عباقرة هذا العلم) فحسب، ولقد استعان أكثر من مرة عند تطوير نظريته من النسبية الخاصة إلى النسبية العامة بعلماء رياضيات يعرفون أكثر منه بكثير، ومن هؤلاء الرياضي الألماني جروسمان صديق صباه.

ومن هذه الخرافات الشائعة عن أينشتين أن عبقريته تفتَّحت في جميع الاتجاهات منذ طفولته المبكرة، والحقيقة أن أينشتين كان طالبًا فاشلًا في المرحلة الثانوية إلى درجة أنه فشل في الحصول على شهادة الثانوية العامة لدخول الجامعة. وحتى عندما دخل مدرسة البوليتكنيك العليا في زيورخ (ETH)، كان مهدَّدًا بالرسوب في امتحان التخرج لإهماله دراسته لولا مساعدة زملائه له!

لقد كان النمو الفكري العلمي لأينشتين بطيئًا ومتردِّدًا في فترة صباه وشبابه المبكر، ولم تتفتَّح عبقريته في الفيزياء النظرية إلا بعد تخرُّجه من الجامعة، ولعل هذا يفسِّر تردُّد جامعات سويسرا في تعيينه في وظيفة معيد بالجامعة زمنًا طويلًا!

منطوٍ ضعيف الذاكرة

وُلد أينشتين في ١٤ آذار / مارس سنة ١٨٧٩م في مدينة أُلم بألمانيا من أبوين يهوديين، وبعد سنة من مولده أفلست تجارة والده، فانتقلت العائلة إلى مدينة ميونيخ حيث أسَّس والده وعمه ورشةً للأعمال الكهربائية الكيميائية. ولقد أدخله والده — هو وشقيقته — مدرسةً ابتدائية كاثوليكية في ميونيخ. وفي هذه المدرسة كان الأطفال الآخرون يُعيرونه بديانته اليهودية، وكان لهذه المشاكسات الصبيانية الفضل في أن ينشأ أينشتين متمسكًا بعنفٍ بتراثه الديني وثقافته اليهودية.

كان ألبرت منطويًا على نفسه ميالًا إلى الوحدة، وإن اقترن ذلك بنزعة فضول قوية ورغبة في الاستكشاف لا شك فيها خصوصًا عند مواجهة العالم الخارجي. وهو يذكر أنه عندما كان مرة مريضًا في الخامسة من عمره أراه والده بوصلة جيب، وأثار إعجابه أنه لمَّا كانت إبرة البوصلة تشير في اتجاه واحد دائمًا، فلا بد أن يكون هناك شيء ما يؤثر عليها، وهذا الشيء موجود في الفضاء «الفارغ».

وحين بلغ أينشتين العاشرة دخل الجمينزيوم، المدرسة الألمانية التقليدية، حيث قضى فيها خمس سنوات، وعندما اضطُرت العائلة إلى الرحيل إلى ميلانو سعيًا وراء إنشاء مصنع صغير هناك عام ١٨٩٤م، تركت ألبرت عند بعض أقاربه لكي يُكمل الجمينزيوم. ولكن لسبب غير واضح لم يكمل دراسته وترك المدرسة دون أن يحصل على الشهادة الثانوية التي تؤهِّله لدخول الجامعة. ومع أن فشله في الحصول على الشهادة الثانوية غير واضح الأسباب، إلا أنه من المؤكد أن أينشتين كان تلميذًا صعبًا غير محبوب من أساتذته، وكان كثير الجدل والمخالفة، ولم يكن يخفي نفوره من مدرسيه إلى درجة أن مدرس اللغة اليونانية استدعاه مرةً وطلب منه أن يغادر المدرسة فورًا قائلًا: «إنك لن تكون شيئًا في هذه الحياة.»

وكان معروفًا أن أينشتين يتمتَّع بذاكرة ضعيفة، ولعل هذا هو سر كراهيته للغة اليونانية وعلوم الأحياء وغيرها من المواد التي تعتمد في تحصيلها جزئيًّا على الحفظ وقدرة الذاكرة.

وفي هذه المرحلة من حياته ساءت حالة العائلة المالية، وأصبح من الضروري أن يبحث أينشتين عن عمل، ولكن أسرته كانت تطمع في إدخال ابنها الجامعة، وكانت العقبة الكبرى أن أينشتين لم يحصل على الثانوية وبدونها يستحيل دخول الجامعة في ألمانيا.

ومن حسن حظ أينشتين أن وجدت الأسرة حلًّا لهذه المعضلة؛ ففي زيورخ هناك المدرسة العليا للتكنيك المعروفة باسم «ETH»، ودخول هذه المدرسة العليا لا يشترط غير اجتياز امتحان قَبول. وهكذا ذهب أينشتين إلى زيورخ، ولقد كان امتحان القَبول يشترط النجاح في المواد التالية: الرياضيات، الفيزياء، اللغات، علوم الأحياء، ومع تفوُّق أينشتين في نتيجة امتحان الرياضيات والفيزياء، إلا أنه رسب في اللغات وعلوم الأحياء، وبذلك رفضت المدرسة قَبوله!
عند هذه اللحظة الحاسمة يتدخَّل الحظ مرةً أخرى لصالح أينشتين؛ فقد أُعجب مدير المدرسة بإجاباته في الرياضيات والفيزياء إلى درجة أن رتَّب له قضاء سنة في مدرسة ثانوية قريبة لكي يعيد امتحانه في العالم التالي، وهكذا نجح أينشتين في المرة التالية في اجتياز امتحان القَبول سنة ١٨٩٦م ودخل اﻟ «ETH».

كان أينشتين سعيدًا بوجوده في سويسرا، منحازًا إلى التعليم السويسري عندما يقارن أحواله في المدرسة السويسرية بحالته في الجمينزيوم الألماني، وعندما يقارن بين الديمقراطية السويسرية وبين العسكرية الألمانية، وقد بلغ عداؤه لأسلوب الحياة الألمانية إلى درجة تخليه عن جنسيته الألمانية عام ١٨٩٦م. وظل خمس سنوات بلا جنسية حتى حصل على الجنسية السويسرية عام ١٩٠١م وظل محتفظًا بها طوال حياته.

وفي المدرسة العليا للتكنيك في زيورخ (ETH) قضى أينشتين أربع سنوات يدرس منهجًا خاصًّا في الرياضيات والفيزياء وُضع خصوصًا لهؤلاء الذين يُعِدون أنفسهم لمهنة تدريس هذه المواد في المدرسة الثانوية. والغريب أن أينشتين لم يكن تلميذًا متفوقًا في الدراسة، وقيل في تفسير ذلك أن المحاضرات التي حضرها لم تُثِر حماسه؛ ولذلك كان انتظامه في حضور المحاضرات ضعيفًا، وكان يفضِّل أن يقرأ المراجع الكبيرة بنفسه حتى لو كانت بعيدةً عن مقرر الدراسة. ولقد كان هذا الإهمال لمحاضرات أساتذته كفيلًا أن يؤدِّي به إلى كارثة في قاعة الامتحان لولا زميله مارسيل جروسمان (وهو نفس الشخص الذي ساعده رياضيًّا على صياغة النسبية العامة بعد ذلك بسنوات) الذي كان يحتفظ بمذكرات ممتازة عن محاضرات الأساتذة، وكان يسمح لأينشتين أن يذاكر منها. وهكذا نجح أينشتين وتخرَّج عام ١٩٠٠م في حالة نفسية غريبة؛ فقد ظل لمدة عام كامل شديد الكراهية للتفكير في أي مشكلة علمية!

بداية الثورة الفيزيائية

غير أن ولعه بالفيزياء النظرية بدأ يعود بالتدرُّج، وفي عام ١٩٠١م كتب أول بحث فيزيائي له واستطاع نشره في مجلة علمية سويسرية مرموقة وهي مجلة «حوليات الفيزياء».

وحاول أينشتين أن يستفيد من هذا البحث في إيجاد عمل جامعي له، فأرسل منه نسخًا إلى كثير من العلماء، ولكن أحدًا منهم لم يهتم بالبحث ولا بصاحبه! ثم توسَّط له والد صديقه وزميله مارسيل جروسمان لدى مدير إدارة «براءة الاختراع» في برن، حيث عُيِّن عام ١٩٠٢م موظفًا في الإدارة، وفي هذه الإدارة التي كان العمل فيها محدودًا جدًّا، اختمرت عبقرية أينشتين الفيزيائية في السنوات السبع التي قضاها هناك، وهي بالتأكيد أخصب سنوات حياته في الفيزياء النظرية.

وفي عام ١٩٠٤م كان أينشتين قد نشر أربعة أبحاث في نفس المجلة العلمية السويسرية المرموقة، ومع أهمية هذه الأبحاث إلا أنها لم تكن غير مقدمة لعبقريته التي انفجرت مرةً واحدة عام ١٩٠٥م.

إن عام ١٩٠٥م يعتبر عامًا أساسيًّا في تاريخ علم الفيزياء النظرية؛ فقد نشر فيه أينشتين — وهو في السادسة والعشرين من العمر — أربعة أبحاث يُعتبر ثالثها بمثابة ثورة على المفاهيم الفيزيائية التي كانت سائدةً حتى ذلك الزمان. ولعل هذا يفسِّر التحفُّظ الذي تلقَّت به الأوساط العلمية هذه الأبحاث في مبدأ الأمر، مع استثناءات قليلة؛ فقد كانت أفكار أينشتين بمثابة ثورة على التصور النيوتوني للكون، وهو التصور الذي كان سائدًا حتى عام ١٩٠٥م.

إن البحث الثالث — وهو أهم أبحاثه الأربعة — كان يحمل العنوان المتواضع: «حول كهروديناميكية الأجسام المتحركة»، ولكنه أول عرض جاد لِما يُعرف اليوم باسم نظرية النسبية الخاصة. ورغم أن البحث لم يزِد عن تسعة آلاف كلمة، إلا أن أينشتين رمى به جانبًا كل الأفكار النيوتونية السائدة عن الزمان والمكان بشكل بدا وكأنه إهانة للذوق العام.

حتى ذلك الوقت كان السائد هو ما أكَّده نيوتن في «البرنسيبيا» من أن الزمان مطلق والمكان مطلق أيضًا، وكان هذان المبدآن مقبولين من جمهرة العلماء. وقد ترتب على هذا التصور مع التطورات التي حدثت في علم الضوء أن افترض العلماء أنه لا بد من وجود شيء في الفضاء (سمَّوه الأثير) لكي يحمل موجات الضوء، وأنه وفقًا لهذا يمكن تصميم تجربة لاكتشاف حركة الأجسام خلال الأثير، ووفقًا لهذه التصورات أيضًا ساد الاعتقاد بأن سرعة الضوء غير ثابتة، ولكن تجربة مايكلسون-مورلي عام ١٨٨٧م أثبتت أن سرعة الضوء في الفضاء ثابتة، وبدت النتيجة غير متفقة منطقيًّا مع المفاهيم النيوتونية.

ولقد قدَّم أينشتين افتراضين أساسيَّين هما جوهر نظرية النسبية الخاصة، أولهما ينص على أنه لا توجد تجربة من أي نوع قادرة على اكتشاف السكون المطلق أو الحركة المطلقة المنتظمة في خط مستقيم (وهذا ما سمَّاه بمبدأ النسبية بالمعنى الضيق)، وثانيهما ينص على أن الضوء يتحرَّك في الفضاء الفارغ في خطوط مستقيمة وبسرعة ثابتة.

ولقد بدا كلٌّ من هذين الفرضين وحده مقبولًا ومدعَّمًا من التجربة، ولكن التوفيق بين هذين الفرضين كان مستحيلًا في إطار الأفكار الفيزيائية السائدة آنذاك. فلكي يوفِّق أينشتين بينهما كان عليه أن يتخلَّى عن مفهوم الزمان المطلق ومفهوم المسافة المطلقة، وكان عليه السماح بأن ينكمش طول المسطرة التي يقيس بها المسافة خلال حركتها في الفضاء، وأن تبطؤ الساعات التي يقاس بها الزمن بالنسبة للمشاهد المبتعد عنها، وأن نقبل أن حدثين يقعان في نفس الوقت بالنسبة لمشاهِد قد يقعان في زمنين مختلفين بالنسبة لمشاهِد آخر.

إن هذا هو ما قَبِل به أينشتين، والغريب أنه في ثورته هذه على مفهومَي الزمان والمكان لم يستخدم غير معادلات كانت موجودةً قبله، وتُعرف باسم معادلات لورنتز!

وفي عام ١٩٠٧م أكمل أينشتين ثورته في علم الفيزياء بنشر بحثه الذي أثبت فيه أن الكتلة والطاقة متكافئتان. وفي هذا البحث قدَّم معادلته المشهورة: الطاقة = الكتلة × مربع سرعة الضوء.

وكانت هذه المعادلة هي أول تفسير جِدي لظاهرة الأجسام المشعة ذريًّا والتي تستمر سنوات طويلةً في إشعاعها، وقد وجدت هذه المعادلة تأكيدها الفاجع لأول مرة في قنبلتَي هيروشيما ونجازاكي في اليابان عام ١٩٤٥م.

كيف استقبل علماء الفيزياء هذه الثورة الجديدة على يد أينشتين؟

لقد وقف معظم المشاهير منهم موقفًا متردِّدًا مدةً طويلة قبل قَبول ثورة أينشتين، ينطبق هذا على وجه الخصوص على لورنتز صاحب المعادلات التي استخدمها أينشتين لإثبات وجهة نظره، كما ينطبق على بوانكاريه الذي كانت أبحاثه على بُعد خطوة واحدة من الوصول إلى نظرية النسبية الخاصة. ولكن العالم الألماني الكبير ماكس بلانك كان إيجابيًّا في موقفه منذ نشر أينشتين بحثه الثالث عام ١٩٠٥م. وحتى اليوم ما زال هناك علماء فيزياء كبار لا يعتقدون أن النظرية النسبية خالية من المآخذ والعيوب!

ولعل من علامات ذلك العصر موقف جامعة برن من أبحاث أينشتين حتى عندما أصبح اسمه مرموقًا في دوائر الفيزيائيين، لقد أحسَّ أينشتين أن وظيفته في إدارة براءة الاختراع قد صارت عقبةً أمام تفرُّغه للبحث الفيزيائي؛ ولذلك تَطلَّع إلى الحصول على وظيفة في الجامعة، وتقدَّم بهذه الأبحاث التي أحدثت دويًّا في دوائر الفيزيائيين إلى جامعة برن كشهادة على كفاءته العلمية. ولكن جامعة برن رفضتها لأنها غير مفهومة! ثم عرضت عليه الجامعة في عام ١٩٠٨م وظيفة مساعد مدرس للفيزياء (بعض الوقت ودون أجر)، واضطُر أينشتين إلى قَبولها!

في هذه الفترة وجد أينشتين حليفًا جديدًا في هيرمان مينكوفسكي الذي كان أستاذًا له في زيورخ، وإن استقر بعد ذلك في جامعة جوتنجن بألمانيا كأستاذ للرياضيات، وإليه يعود الفضل في وضع صياغة رياضية شكلية جديدة للنظرية النسبية بما أدخله من مفهوم جديد وهو مفهوم «المجال الزمكاني». ومات مينكوفسكي بعد إنجاز هذا العمل بعام واحد.

على قمة المجد

وأخيرًا عُيِّن أينشتين أستاذًا مساعدًا للفيزياء بجامعة زيورخ في مايو سنة ١٩٠٩م. والغريب أن هذه الوظيفة المستحدثة كانت في الأصل معروضةً على فردريك أدلر (ابن فيكتور أدلر مؤسس الحزب الاشتراكي الديمقراطي النمساوي)، إلا أن فردريك أصر على الانسحاب لصالح أينشتين وبذل جهدًا خارقًا لإقناع أعضاء مجلس التعليم في زيورخ (ومعظم أعضائه كانوا اشتراكيين ديمقراطيين) بقَبول هذا الاقتراح، وبالفعل استقال أينشتين من إدارة براءة الاختراع في برن وانتقل إلى زيورخ.

منذ ذلك الوقت انهالت العروض الجامعية على أينشتين وتبارت الجامعات في عروضها المغرية لكي يقبل أينشتين الذهاب إليها، بدأ ذلك بعرض الجامعة الألمانية ببراغ تعيينه في وظيفة أستاذ الفيزياء النظرية بها، وقَبِل أينشتين إلا أنه لم يقضِ في براغ أكثر من عام ونصف؛ إذ عرض عليه معهده الذي درس به في زيورخ (ETH) وظيفة أستاذ الفيزياء النظرية به لمدة عشر سنوات. كان ذلك في يناير سنة ١٩١٢م، وقَبِل أينشتين وذهب إلى زيورخ، ولكنه أيضًا لم يبقَ طويلًا في زيورخ؛ فقد كان عديد من العلماء الألمان وعلى رأسهم ماكس بلانك يعملون جاهدين على إعادة أينشتين إلى برلين، وكان العرض الألماني هذه المرة مُغريًا جدًّا … عضوية الأكاديمية البروسية للعلوم، وظيفة مدير معهد القيصر ويلهلم للبحوث، وحرية كاملة في البحث أو التدريس حسب رغبته مع حقه في الاحتفاظ بجنسيته السويسرية إذا شاء. ومع أن أينشتين كان يكره العسكرية الألمانية إلا أن إغراء العرض كان قويًّا جدًّا بحيث لم يستطع رفضه، وهكذا عاد أينشتين إلى برلين في نيسان /  أبريل سنة ١٩١٤م.

ولكن أحلام أينشتين في حياة أكاديمية سهلة ومريحة في برلين لم تلبث أن انهارت عندما أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا في أغسطس /  آب ١٩١٤م. وبدأ قلق أينشتين من جديد من العسكرية الألمانية، ولكنه لم يتوانَ عن أن يوقَّع –تحديًا– بيانًا لعدد من العلماء خلال الحرب يطالب بتعاون علماء الدول المتحاربة وإنشاء عُصبة أمم أوروبية.

وفي أوائل ١٩١٦م بلغ أينشتين قمة مجده العلمي بنشر بحثه الأساسي في نظرية النسبية العامة، ومنذ هذا العام لم يحقِّق أينشتين حتى وفاته إنجازًا علميًّا له مثل هذه القيمة، ويصف العالم الألماني الكبير ماكس بورن هذه النظرية كما يلي: «إنها أعظم إنتاج فكري بشري عن الطبيعة وهي أغرب توليفة بين النفاذ الفلسفي والحدس الطبيعي والمهارة الرياضية، ولكن صلة هذه النظرية بالخبرة اليومية ضعيفة. إنها تبدو لي كعمل من أعمال الفن العظمى تثير المتعة والإعجاب من على البعد.»

ما هو الفرق بين نظرية النسبية الخاصة التي نشرها أينشتين عام ١٩٠٥م وبين نظرية النسبية العامة؟

إن النسبية الخاصة قد وحَّدت بين ميكانيكا نيوتن وبين الديناميكا الكهربائية لماكسويل بشرط أن تكون الأجسام منتظمة السرعة في حركتها. أمَّا النسبية العامة فهي تزيل هذا الشرط، إنها تتعلق بالحركة المتسارعة، ومثلها الواضح حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية، في النسبية العامة قدَّم أينشتين لأول مرة مبدأً يُدعى «مبدأ التكافؤ»، وهو ينص على أن مجال الجاذبية عند أي نقطة في الفضاء يكافئ تمامًا أي مجال صناعي للقوة الناتجة عن التسارع بحيث يستحيل على أي تجربة أن تميِّز بين المجالين. ومن نتائج هذا المبدأ أن الجاذبية تحني أشعة الضوء، وقد تنبَّأ أينشتين بدقة بمقدار الانحناء الذي يحدث لشعاع ضوء صادر من نجم عندما يمر في مجال جاذبية الشمس، وكانت هذه النبوءة هي إحدى نبوءات ثلاث ترتَّبت على نظرية النسبية العامة.

وهكذا توفَّرت الفرصة الذهبية للتحقُّق من هذه النبوءة؛ ففي عام ١٩١٦م سارع الفلكي البريطاني الكبير أدنجتون — الأستاذ بجامعة كمبردج — إلى طلب معونة الحكومة البريطانية لإرسال بعثتين فلكيتين إحداهما إلى البرازيل والأخرى إلى جزيرة برنسيب على الساحل الغربي الأفريقي (قاد أدنجتون هذه البعثة)؛ إذ كان من المعروف أن في هذين المكانين سوف يحدث خسوف كلي للشمس في ٢٩ مايو سنة ١٩١٩م. والكسوف الكلي للشمس هو الفرصة الذهبية للتحقُّق من صحة أو كذب نبوءة أينشتين حول انكسار شعاع الضوء عندما يمر في مجال جاذبية الشمس.

ولقد أكَّدت الصور الفوتوغرافية التي أُطلقت في هذا اليوم التاريخي دقة نبوءة أينشتين، وأُعلن النبأ رسميًّا في اجتماع مشترك بلندن للجمعية الملكية وللجمعية الفلكية الملكية في ٦ نوفمبر، وصحا أينشتين في ٧ نوفمبر ليجد العالم كله يتحدَّث عن النظرية النسبية وليجد شهرته تجوب الآفاق.

إن هذا هو اليوم الذي تحوَّل فيه عالم فيزيائي لأول مرة في التاريخ إلى شخصية جماهيرية عالمية.

التوجه إلى الصهيونية

في عام ١٩٢١م تحوَّل أينشتين إلى العقيدة الصهيونية ووافق على أن يشترك مع وايزمان — أول رئيس لدولة إسرائيل — في رحلة إلى أميركا لجمع التبرُّعات للحركة الصهيونية، وزار فلسطين بعد ذلك حيث حاضَر في الجامعة العبرية هناك، وفي هذا العام أيضًا مُنح أينشتين جائزة نوبل للسلام.

وفي يناير ١٩٣٣م أصبح هتلر مستشارًا لألمانيا، وكان أينشتين في أميركا آنذاك يقضي إجازة، وأدرك عندئذٍ أنه لن يستطيع العودة إلى ألمانيا، وعلى الفور قدَّم استقالته من عضوية الأكاديمية البروسية، وذهب إلى بلجيكا حيث استقبله ملك بلجيكا، ثم قضى صيف ١٩٣٣م في بريطانيا حيث قابل ونستون تشرشل، ثم عاد إلى أميركا في أواخر ١٩٣٢م حيث عُيِّن أستاذًا بجامعة برنستون وبقيَ فيها كل حياته.

ولقد جرت لأفكار أينشتين تغيرات كثيرة على مدار حياته، وأثبت في معظمها أن العالِم الفذ عندما يخرج عن مجاله — تخصصه — قد يتحوَّل إلى ساذج سياسي، وأن الحماقة ليست مستحيلةً حتى على العلماء النوابغ.

لقد كان أينشتين غير صهيوني في مبدأ الأمر، ثم تحوَّل إلى هذه العقيدة العنصرية بحجة مناهضة حركة عنصرية أخرى هي النازية الألمانية، ولقد قدَّم أينشتين نفسه كداعية للسلام وضد الحرب أيًّا كان سببها، ولكنه غيَّر رأيه عام ١٩٣٣م عندما وصلت النازية إلى الحكم؛ حيث دعا إلى الحرب ضد النازية، وبعد الحرب العالمية الثانية كان أينشتين واحدًا من دُعاة الحكومة العالمية، وهي دعوة لا تستهدف في الحقيقة إلا التغطية على الاستعمار واستمرار استغلاله لبلدان العالم الثالث.

وعلى الرغم من المذابح التي ارتكبها الإسرائيليون ضد المدنيين من الشعب الفلسطيني في دير ياسين وغيرها، لم يرتفع صوت أينشتين بالاحتجاج على هذه الجرائم، كأن الجرائم ضد الأوروبيين شيء وضد شعوب العالم الثالث شيء آخر!

أمَّا من الناحية العلمية فقد أخذ إنتاجه العلمي في الهبوط بعد عام ١٩١٦م، وقد تركَّزت أبحاثه خلال سنوات ما بين الحربين في البحث عن نظرية كونية جديدة، وفي محاولة اختراق مجالات جديدة في نظرية الكم، ثم في البحث عن نظرية موحدة للمجال الفيزيائي. وفي هذه الاتجاهات الثلاثة لبحوثه لم يحقِّق أي نجاح هام. والحقيقة أنه كلما مرت السنون، بدا هذا المعلم العجوز معزولًا عن أغلبية زملائه من أساتذة الفيزياء النظرية، بل معزولًا عن التيار الفكري الأساسي الصاعد في علم الفيزياء النظرية، وخلال سنوات ما بين الحربين حدثت تطورات فيزيائية خطيرة كان أينشتين معزولًا عنها؛ فقد تم اكتشاف النيترون في كمبردج سنة ١٩٣٢م، وفي عام ١٩٣٤م نجح العالِم الإيطالي فرمي في تفتيت ذرة اليورانيوم، وتلا ذلك اتساع البحث عن الانشطار الذري في جامعات أوروبية مختلفة، بحيث بدت فكرة القنبلة الذرية مشروعًا غير مستحيل، وهكذا اشتدَّ الإلحاح في أوروبا على سؤال هام: هل يمكن لألمانيا أن تُنتج هذه القنبلة؟

في صيف ١٩٣٩م ذهب عالمان مجريان مهاجران إلى أميركا هما ليوزيلارد وأوارد تيللر لمقابلة أينشتين في مصيفه بأميركا، حيث ناقشاه في هذا السؤال بالذات، وكان رأيهما أن ألمانيا قادرة على إنتاج السلاح الخطير … القنبلة الذرية. وسارع أينشتين بكتابة رسالة إلى روزفلت في آب/ أغسطس سنة ١٩٣٩م يُنبِّه إلى هذا الخطر ويطالب بتشكيل لجنة لمناقشة هذا الموضوع.

ومع أن اللجنة قد شُكلت بالفعل، إلا أن الحكومة الأميركية تردَّدت ولم تتخذ قرارًا بإنتاج القنبلة إلا في ديسمبر سنة ١٩٤١م قبل هجوم اليابان على بيرل هاربر بأيام.

ولقد أفاق أينشتين على قنبلتَي هيروشيما ونجازاكي، وامتلأ قلبه بالحزن واليأس ولكنه لم يستطع أن ينسى ما حدث لليهود ولو دقيقةً واحدة. تلك كانت مشكلته الأولى والأخيرة ووصل به عنف الشعور إلى اتخاذ موقف مُعادٍ للألمان كألمان وليس كنازيين فقط. لقد رفض الانضمام إلى هيئات علمية ألمانية بعد نهاية الحرب وهزيمة النازية، ورفض أن يكون عضوًا في أكاديمية بافاريا وظل محافظًا على هذا الموقف حتى نهاية حياته.

وفي عام ١٩٤٨م أُجريت لأينشتين أول جراحة كبيرة في الجهاز الهضمي، وقيل إنه كان يُعاني من السرطان. ومنذ هذه العملية بدأت صحته في التدهور، ولكنه ظل محافظًا على حيوية كافية تسمح له بالوقوف ضد المكارثية في أميركا سنة ١٩٥٣م.

وفي عام ١٩٥٥م كتب أينشتين إلى صديق له يقول: «لقد بدأتُ أنظر للموت كدَين قديم واجب السداد.» وكان آخر عمل قام به هو اشتراكه مع برتراند رسل في البيان الذي وَقَّعه أحد عشر من كبار مثقفي العالم يُنذرون فيه البشرية بالفناء إذا قامت حرب عالمية جديدة.

وفي ١٨ أبريل سنة ١٩٥٦م مات أينشتين، وأعلنت إسرائيل بعد وفاته أنه كان يُعِد بيانًا لإذاعته بمناسبة الذكرى الثامنة لتأسيسها!

ولقد سمحت عائلته للمركز الطبي في جامعة برنستون أخذ مخه لإجراء دراسة علمية، وأعلن دكتور توماس هارفي المسئول عن هذه الدراسة أن نتيجة هذه الدراسة سوف تُنشر خلال سنة ١٩٧٩م، وعندما سُئل عمَّا إذا كان هناك مِن فارق بين مخ أينشتين ومخ الإنسان العادي قال إنه لم يجد حتى الآن أي فارق!

مجلة «العربي»، سبتمبر ١٩٧٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤