الفصل التاسع

الفاشية والنوع

رغم أن الأولوية الفكرية لدى الفاشيين كانت القومية العنصرية، إلا أنهم كانوا يتصورون الأمة من منظور ذكوري. وفي الواقع، إن الفاشية أيديولوجية ذكورية بالأساس، يجسدها مقاتلو الشوارع مرتدو القمصان موحدة اللون لسنوات ما بين الحربين العالميتين والعنصريون في العصر الحديث. وهي تعارض الحركة النسائية بقدر ما تعارض الاشتراكية معارضة شديدة. وقد كان الفاشيون على مر التاريخ بوجه عام يقولون إن الوظيفة الأساسية للمرأة إنجابية ومنزلية. ويضيف الشعبويون القوميون إلى هذا بقولهم إن الجنسين — مثل الأعراق — «متساويان لكنهما مختلفان.»

كان كثير من الأوروبيين مقتنعين بأن الحرب العالمية الأولى أفسدت العلاقات الطبيعية بين الجنسين؛ فقد شغلت النساء وظائف الرجال، وكانت النظرة إليهن أنهن كن يعشن حياة مستقلة وعابثة بينما كان الرجال يواجهون الكابوس على الجبهة. في الوقت نفسه، حفزت المشاركة النسائية الضخمة في المجهود الحربي إنشاء المنظمات النسائية، التي كان بعضها يناصر قضايا المرأة، وبعد الحرب اكتسبت النساء حق التصويت في العديد من البلدان. وأقبلت نساء الطبقة البرجوازية على ارتداء أشكال أبسط من اللباس وأكثر ملاءمة لحياة العمل، ولو أن البعض رأى أن هذه الموضة تنتقص من أنوثة المرأة. وقد عبَّر بيير دريو لاروشيل — المحارب القديم والروائي الفرنسي، الذي اعتنق الفاشية فيما بعد — عن أسفه قائلًا: «هذه الحضارة لم يعد فيها فرق بين رجل وامرأة.»

كان يُنظر إلى الأزمة التي زُعم أنها أصابت العلاقات بين الجنسين على أنها علامة على انحلال اجتماعي شامل، واعتقد البعض أن العمال الراديكاليين أو الأقليات الوطنية المتمردة قد تأثَّروا بالمشاعر «الأنثوية». وشعر كثير من المحافظين أن أحوال المجتمع لن تجري على النحو الصحيح ما لم تُعَد المرأة إلى موقعها الصحيح. ثم اجتمعت كل هذه المخاوف معًا في حملة عامة في معظم البلدان الأوروبية كانت تشجع على تعويض مَن قضوا في الحرب من خلال زيادة عدد المواليد. هذه الحملات «الإنجابية» أشارت إلى أن المرأة أمٌّ في المقام الأول، وأنه ربما ينبغي منعها من تقلُّد الأدوار الأخرى.

أجمع الفاشيون على ضرورة إعادة إقامة المجتمع بقيم ذكورية، وكانوا بطبيعتهم أكثر تطرفًا وراديكالية من المحافظين التقليديين، بل إنهم استبعدوا هؤلاء الآخرين لاعتبارهم يفتقرون إلى الرجولة. وكان الفاشيون يعتبرون المحاربين القدماء ذخيرة الفكرة الوطنية الذكورية وأدوات تجديد الأمة. كانت خدمة الفرد في خنادق الحرب دليلًا على تفانيه في سبيل الأمة، وإعلاء من قيم رجولية كالشجاعة والبطولة والتضحية بالنفس ورفقة السلاح والقدرة على تحمل العناء والطاعة — وهي كلها صفات كان ينبغي بثها إلى أفراد المجتمع ككل. دعا كودريانو إلى «بطل من نوع جديد، بطل حربي وبطل مجتمعي وبطل في العمل.» وكان مَثَلُه الأعلى هو ملك العصور الوسطى شتيفان الكبير، الذي اشتهر ببسالته العسكرية وإنجابه أطفالًا عديدين. وقد تجسَّدت هذه المُثل في غُلوها في وحدات إس إس، التي كانت تمثل نظامًا عسكريًّا ذكوريًّا مستوحًى من الساموراي اليابانيين، والفرسان التيوتونيين، واليسوعيين.

ولم يكن الفاشيون يقدِّرون الرجولة في حد ذاتها، وإنما رجولة بعض ذكور الجنس السائد. فقد كان الاشتراكيون والشيوعيون (رغم ميولهم الذكورية) في نظرهم محرضين على الانفلات «الأنثوي» بينما الثورة الفاشية تتسم بانضباط رجولي. وكان النازيون يعتبرون اليهود والبولنديين عرقَيْن «أنثويين»، يحققان أهدافهما بالمؤامرات الخادعة لا بمجاهرة الرجال.

ليس من المفاجئ إذن أن نكتشف أن معظم الفاشيين كانوا يكرهون المثليين. ويرى بعض المراقبين أن رهاب المثليين هذا نَجَمَ عن معاناة الفاشيين أنفسهم من كبت المثلية الجنسية، ويدللون على ذلك بالإشارة، مثلًا، إلى لباس وحدات إس إس وأسلوب حياتهم اللذين ينمَّان عن شبق مثلي. ويذهب أحد النازيين الجدد الألمان إلى أن المثلية الجنسية تقوي الروابط بين الرجال الحقيقيين. يمكن أيضًا أن يستشهد المرء على ذلك بحالة إرنست روم، قائد «كتيبة العاصفة» النازية؛ فقد كان الرجل نازيًّا نموذجيًّا، تشي ندوب وجهه الظاهرة بذكرى خدمته وشجاعته في الحرب. كان يتوقع أن تلزم النساء الصمت، ويعتبر جمهورية فايمار دولة أفقدتها ثرثرة الإناث ملامح رجولتها، ويحظى اليهود والشيوعيون المخنثون فيها بنفوذ زائد عن الحد، لكن في الحقيقة، كانت مثليته الجنسية معروفة على نطاق واسع، وكان يحاول أن يدرأ عن نفسه اتهامه بالخنوثة من خلال اعتناق مذهب سياسي مفعم بالذكورة.

وما من سبب يدعو للاعتقاد بأن عدد المثليين جنسيًّا بين الفاشيين أكثر منه بين بقية الناس؛ فالحقيقة ربما أقل إثارة من ذلك. ربما كان الفاشيون يحملون عداءً استثنائيًّا للمثليين جنسيًّا لأنهم كانوا «يخشون» من أن تتهمهم مجتمعاتهم الذكورية بالمثلية الجنسية. يُضاف إلى ذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الحياة الجنسية يجب تكريسها لتكاثر العرق، وهو الأمر الذي كان يتضمن بالطبع أن تكون العلاقة مع الجنس الآخر، لا مع الجنس نفسه.

ومع ذلك، فإن بلوغ روم، المعروف بمثليته الجنسية، قمة الهرم النازي يبرز أن الروح الفاشية الشعبوية الكارهة للبرجوازية يمكن أن تجتذب الراديكاليين من جميع الأطياف، ما داموا يعتبرون الولاء للأمة أولويتهم الأولى. في الواقع لم يكن روم راديكاليًّا على الصعيد الاجتماعي أو السياسي، لكنه كان ينتقد «أخلاقيات البرجوازية»، ويأمل أن تقضي النازية على رياء البرجوازيين وتبشِّر بنظام رجولي جديد. بطبيعة الحال كان من فسروا الثورة النازية على هذا النحو يشكلون أقلية ضئيلة العدد، ولم يحظوا بفرصة تُذكر لتحويل أحلامهم إلى حقيقة. وقد كان «شذوذ» روم أحد الذرائع التي دعمت وقف نشاط «كتيبة العاصفة» عام ١٩٤٣. ومنذ ذلك الحين زاد النازيون اضطهادهم للمثليين جنسيًّا، ولا أحد يعلم عدد من قضوا في معسكرات الاعتقال، أو عدد من «عالجهم» أطباء نازيون.

كان كثير من الفاشيين يزدرون النساء بقدر ما يزدرون المثليين جنسيًّا، أو على الأقل كانوا يعتقدون أن المرأة يجب أن تظل في «موقعها الصحيح». وقد اشتهر المفكر المستقبلي الإيطالي فيليبو مارينيتي بأنه «يحتقر المرأة»، وأطلق بعض النازيين حملة لسلب حق المرأة في وضع الزينة أو التدخين في الأماكن العامة. ونشرت صحيفة «الحرس الحديدي» الرومانية عام ١٩٣٧ أن «امرأة اليوم «المفكرة» باتت عنصرًا عقيمًا تمامًا في المجتمع.» واتخذت الأنظمة الفاشية أشكالًا متعددة من التدابير القمعية ضد المرأة؛ فقد حاولت استبعاد النساء من سوق العمل وحظر تمكينهن من الحصول على التعليم. وكان النظام في ألمانيا أو إيطاليا أو كرواتيا لا يتوقع من النساء إلا إنتاج مواطني المستقبل وجنوده والأمهات اللاتي ستجددن العرق. وكان يفترض أن تغرس النساء القيم الوطنية في أطفالهن، وفي الوقت نفسه، كان سعي الفاشيين لتحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي يجعل المرأة ذات أهمية بصفتها مستهلكة.

ومع ذلك، كانت هذه السياسات تحمل شيئًا من التناقض؛ لأن الفاشيين أرادوا أن تبقى النساء في المنزل، لكنهم سيَّسوا المهام التي كانت تُعتبر من قبل مجرد مهام «منزلية»، فقد بات الإنجاب والتعليم والاستهلاك جميعها واجبات وطنية. علاوة على أن الفاشيين كانوا يحشدون النساء في منظمات مرتبطة بالحزب من أجل تعليمهن واجباتهن المنزلية؛ أي إن الفاشية أخرجت النساء من المنزل بهدف إعادتهن إليه! وفي الوقت الذي كانت المنظمات المحافظة فيه (باستثناء بعض الأحزاب الكاثوليكية وأحزاب الفلاحين) ترفض عضوية الإناث، كانت معظم المنظمات الفاشية تضم قطاعات كبيرة منهن؛ ففي إيطاليا كان عدد الفاشيات الإناث نحو ألفَي أنثى عام ١٩٢١، لكن لم تشهد عضوية الإناث زيادة في وقت لاحق من العشرينيات، ثم عاودت الارتفاع خلال الفترة التي عمل فيها النظام على «التوجه إلى الجماهير» في الثلاثينيات. وعندما كان النازيون ممسكين بزمام السلطة، كانت عضوية النساء في الحزب النازي تشكل نحو ٨٪. في عام ١٩٣١ جرى ضم قطاعات الحزب النسائية في «الرابطة الوطنية الاشتراكية النسائية»، التي باتت تسيطر — بعد استيلاء النازيين على السلطة — على كل الجمعيات النسائية الباقية. بحلول عام ١٩٣٨ وصل عدد العضويات الرسمية الموثقة في هذه الرابطة إلى ما يزيد على المليوني امرأة، بينما كان عدد العضوات في المنظمات الفاشية الفرنسية خلال أوج ازدهارها ١٠٠ ألف أو أكثر. وهناك المزيد من الأمثلة التي يمكن الاستشهاد بها في هذا الصدد.

fig11
شكل ٩-١: عضوات باتحاد الفاشيين البريطاني تؤدين التحية للسير أوزوالد موزلي.1

اختلفت الفاشية من حيث نشاطها في حشد النساء اختلافًا ملحوظًا عن المحافظية الاستبدادية؛ فقد كانت هذه الأخيرة تناهض الحركة النسائية، وكثيرًا ما كانت تؤسس حركاتها النسائية الخاصة، لكنها عادة ما تركت مجالًا للجماعات النسائية أتاح لها العمل على نحو مستقل عن الدولة (في إطار «المجتمع المدني»). في المقابل، كان الفاشيون يكنُّون بغضًا عميقًا لأي حركة نسائية مستقلة؛ لخشيتهم من أن تُعلي هذه الحركات مصالح النساء فوق الأمة. ومع ذلك، كانوا يعتقدون أن من غير الممكن إدماج المرأة في الأمة إلا إذا جرى الاعتراف بحاجاتها ومصالحها الخاصة؛ لذا فقد جعلوا المنظمات النسائية جزءًا من الحزب أو من النظام، تمامًا مثلما سيطروا على الحركة العمالية وحاولوا إدماجها في الحزب. وصار المجتمع المدني مغمورًا في الفاشية.

ومما يثير الدهشة أن معظم الأحزاب الفاشية جذبت عددًا من أنصار الحركة النسائية؛ فقد كانت ماري آلن تقول إن «اتحاد الفاشيين البريطاني» يمثل امتدادًا لنضال ما قبل الحرب من أجل حصول المرأة على حق التصويت. وفي رومانيا يمكن أن يستشهد المرء بألكساندرينا كونتاكوزينو، رئيس «الجمعية الوطنية الأرثوذكسية للمرأة الرومانية». وفي إيطاليا كانت تيريزا لابريولا، التي كان والدها ناشطًا نقابيًّا شهيرًا، تعتقد أن الأمة الإيطالية ستتجدد من خلال النخبة النسائية المضحية بذاتها. في عام ١٩٢٦ قالت النازية إيما هادليش بأن الجنس الجرماني كان يتسم بالمساواة بين الجنسين قبل أن تفسده القيم الأجنبية. وبعد أن قام النظام النازي حظيت أفكار مماثلة بالدفاع في دورية اسمها «المحارب النازي».

كان بعض أنصار الحركة النسائية المضلَّلين السابق ذكرهم يتوقعون أن يمنح الفاشيون النساء حق التصويت؛ فقد أدرجت البرامج الفاشية الأولى في إيطاليا ضمن أهدافها منح المرأة حق التصويت، أما في البلاد التي كانت النساء تتمتع فيها بالفعل بحق التصويت، مثل بريطانيا، فقد أصيبت بعض نصيرات الحركة النسائية بخيبة الأمل؛ لأن هذا الحق لم يُتِح لهن نيل نفوذ سياسي حقيقي، وأملن أن تعوضهن الفاشية عن هذا. وكان عدد كبير من المنظمات النسائية الإيطالية يعتبر النظام الليبرالي غير متجاوب مع شواغل المرأة، الأمر الذي جعل هذه المنظمات تفضل الانضمام لصفوف المعارضة الشعبوية القومية. خلال سنوات ازدهار الفاشية دافع أنصارها عن «الحركة النسائية اللاتينية» التي قيل إنها حركة نسائية تنبذ الاشتراكية والليبرالية، التي وضعت حقوق الأفراد في مرتبة أدنى من التقاليد والأسرة والعرق.

كان عدد آخر من أنصار الحركة النسائية — غالبًا كان يطلق عليهم «الأسريون» — أقل اهتمامًا بمسألة الحقوق السياسية قدر اهتمامه بحماية المرأة بصفتها امرأة؛ فقد طالبوا باتخاذ تدابير لحمايتها من تداعيات إدمان الذكور شرب الكحوليات، وبإصلاح قوانين الطلاق، وبتحسين حقوق المرأة بوصفها أمًّا وعاملة أيضًا، وإن كان هؤلاء على استعداد للتخلي عن وجود ديمقراطية تمثلهم (إن حدث وكانوا على استعداد لذلك)، فهم ربما يحملون سمة من سمات الفاشيين؛ لأنهم أكدوا أيضًا على دور الأسرة في المجتمع الوطني.

اجتذب الفاشيون أيضًا دعم النساء اللائي كن ينتمين لحركات سياسية أو حركات يمينية مناهضة للحركة النسائية؛ فقد كان هؤلاء النساء يتفقن مع الرجال الفاشيين على أن مكان المرأة هو المنزل. فقد كانت الأسرة، رغم كل شيء، تقدِّم لكثير من نساء الطبقة البرجوازية بعض الامتيازات، كالسيطرة على الأطفال وخدم بالمنزل داخل إطار الأسرة الممتدة. ولما كانت نساء هذه الطبقة يؤدين دور «مقدمة الرعاية» فقد كنَّ من الممكن أن ينتمين إلى منظمات خيرية مهمة، قد يملك بعضها تأثيرًا على سياسة الحكومة. وكان هؤلاء النساء يهاجمن الحركة النسائية — إلى جانب الاشتراكية والليبرالية والديمقراطية — بحجة أنها تقوِّض النشاط الخيري والأسرة، وأنها ستتسبب في عدم وجود من يقبل الخدمة في المنازل. ورغم ما اتسم به هؤلاء النسوة من محافظية عميقة، دائمًا ما اعتقدن أن المنظمات المحافظة التقليدية لا تولي اهتمامًا كافيًا للأسرة. كانت الريفيات الفقيرات أيضًا تمنحن أصواتهن للفاشية في ألمانيا، وهذا ربما يُعزى جزئيًّا إلى أنهن كنَّ يعتبرن الحركة النسائية كأنها اكسسوارات ترتديها نساء الطبقة البرجوازية على سبيل اتباع الموضة.

نالت الفاشية إذن دعم مجموعة من الجماعات النسائية، المؤيدة للحركة النسائية وغيرها، من الجماعات التي كانت ليبرالية من قبل، أو محافظة، أو حتى اشتراكية. كان الرابط المشترك بين هذه الجماعات يتمثل في كراهية عضواتها لليسار، مقترنة باعتقادهن أن الأحزاب القائمة، سواء كانت يمينية أو يسارية، لا تمثلهن على النحو الصحيح. وتُلقي مشاركة النساء في الحركات والأنظمة الفاشية مزيدًا من الضوء على أن الفاشية تتسم بطبيعة راديكالية ورجعية في الوقت نفسه.

أكثر النساء راديكالية من بين المنضمين للحركات والأنظمة الفاشية لم يُبلين بلاءً حسنًا، وذلك لأن النشطاء الذكور (الذين كان نفوذهم أكبر بكثير) كانوا قد اعتنقوا الفاشية بالأساس لرغبتهم في إعادة العلاقة «الطبيعية» بين الجنسين؛ إذ سرعان ما فقد موسوليني حماسه لمنح النساء حق التصويت، بل وحرص أن تظل القطاعات النسائية في الحركة تابعة لفروع يسيطر عليها الذكور. وفي ألمانيا قوبلت آراء إيما هادليش التي ذكرناها سابقًا بالدحض من جانب ألفريد روزنبرج، الذي أكد أن المجتمع الألماني القديم كان أبويًّا. وفي عام ١٩٣٤ أبلغ هتلر النساء النازيات أن النازية لا مجال فيها لمعركة بين الجنسين. وبات كلا النظامين أكثر حرصًا على إقناع النساء بإنجاب الأطفال — تصدرت جيرترود شولتز كلينك، زعيمة «الرابطة الوطنية الاشتراكية النسائية»، النضال بإنجابها ١١ طفلًا — وحاولا منع المرأة من التعليم وإخراجها من سوق العمل. واقتصر نشاط الغالبية العظمى من النساء داخل الحركات الفاشية على أعمال اعتبرت مناسبة لطبيعتهن، تعلقت بالرعاية الاجتماعية في المقام الأول.

fig12
شكل ٩-٢: عالم من الإناث. طبيبة تفحص عضوة جديدة في «وكالة الرايخ لخدمة المجتمع»، ٦ سبتمبر ١٩٤٠.2
لكن هذا لا يعني أن النساء لعبن دورًا سلبيًّا في الفاشية؛ فحتى النساء اللائي كنَّ يؤدين مهامَّ قد تبدو متواضعة، مثل حياكة الجوارب أو جمع المواد الغذائية للفقراء، كن يشاركن في أنشطة أخرى خارج المنزل تندرج تحت منظومة معقدة تخضع إلى حد كبير لإدارة نسائية (انظر الشكل ٩-٢). وكانت هناك أقسام نسائية في أعلى التسلسل الهرمي للحركات والأنظمة الفاشية تضم جيوشًا صغيرة من الزائرات الصحيات، والممرضات، ومعلمات التدبير المنزلي، والعاملات في الرعاية الاجتماعية. ربما كان الذكور من الفاشيين يعتبرون مهام المرأة هذه ثانوية، لكن النساء لم يُلقين بالًا لهذا الأمر، بل صارعن الرجال من أجل أن يوسعن مجالات اختصاصاتهن، وحاولن إضفاء مكانة على مهنهن تضارع المكانة التي يتمتع بها الأطباء والمحامون. وكن يعتقدن أن أنشطة الرعاية الاجتماعية ضرورية لإقامة أمة متناغمة ومُستنفَرة. ورغم أن الفاشيين الذكور كانوا يرغبون في حصر النساء داخل «النطاق» الذي وضعوه لها، كانوا يقرون أيضًا بأن العمل الذي تؤديه النساء ضروري لتحقيق هدف الأمة المستنفَرة. ولذلك اكتسبت النساء شيئًا من النفوذ داخل الحركات والأنظمة الفاشية.

لكن هذا النفوذ جاء بتكلفة باهظة. صحيح أن الحركات الفاشية طالبت بمجموعة من تدابير الرعاية الاجتماعية — وقد نفذتها الدولة بالفعل — بدا الكثير منها وكأنه يلبي رغبات طالما تطلعت إليها الحركة النسائية (مثل: الإعانات الأسرية، وقروض تيسير الزواج، وتحسين الرعاية الصحية في العمل، وما إلى ذلك)، لكن هذه التدابير لم تكن تهدف إلى توسيع نطاق الخيارات المتاحة أمام المرأة، بل كانت تخدم — كما رأينا في الفصل الثامن — ما زُعم أنها احتياجات الأمة والعرق؛ ففي ألمانيا مثلًا، ما من امرأة عدا المرأة الآرية كانت تعتبر «متطورة» بما فيه الكفاية بحيث تكون مؤهلة للوفاء بدور الأم أو لحمل أطفال «صالحين».

وقد تمادت وحدات إس إس، بتشجيع من قائدها هاينريش هيملر، إلى حد أنها كانت تحمي الأمهات غير المتزوجات، طالما أنهن ممن يعتبرن مقبولات من الناحية العرقية. وفي فرنسا، كانت منظمات الرعاية الاجتماعية الكبرى التابعة لحركة «صليب النار» و«الحزب الاشتراكي الفرنسي» ترفض تقديم المساعدة للمهاجرين أو لأسرهم.

في إيطاليا، كان اختلاط الأجناس يعتبر مفيدًا، على الأقل قبل عام ١٩٣٨، ولم يحدث قط أن أجيزت تدابير يوجينية «سلبية». لكن مصلحة العرق ظلت هدف السياسات الإنجابية، وكانت السياسات الإيطالية أكثر استبدادًا من سياسات الدول الديمقراطية في هذا الصدد، فقد كانت «إعاقة خصوبة الشعب الإيطالي» عن طريق التشجيع على تحديد النسل تعد جريمة بحق الدولة. الأهم من ذلك، أن خدمات الرعاية الاجتماعية كانت تُوزَّع وفقًا لمعايير سياسية غير رسمية، بحيث لا يستفيد منها غير الموالين للنظام. ورغم أن الأنظمة الفاشية بينها اختلافات كبيرة فيما يتعلق بمعاملة النساء، فقد كانت السياسة في جميع الحالات مستغلة بغرض إقامة أمة متجانسة ومستنفرة على الدوام، سواء أكانت هذه الأمة محددة على أسس بيولوجية أو غيرها.

ووضع المرأة في الشعبوية القومية المعاصرة لا يختلف عن ذلك؛ فقد أوكل جان ماري لوبان، قائد «الجبهة الوطنية» الفرنسية، للنساء المهمة «شبه المقدسة» المتمثلة في بث الحياة في «قلوب الأطفال والمراهقين وعقولهم وأحاسيسهم وإنارتها». وها هو الحزب القومي البريطاني يطرح حوافز مالية لتشجع المرأة على إنجاب الأطفال من أجل مكافحة ما يفترض أنه انخفاض خطير في معدل المواليد، ووضع حد للتمييز ضد العائلة. وفي الانتخابات العامة لعام ١٩٩٩ وعد هايدر بتوزيع «شيكات أطفال» سخية القيمة على الأمهات. وكما كان الحال في الماضي، لا يزال تشجيع الإنجاب مرتبطًا بالعنصرية، فانطلاقًا من أن الدولة ستتوقف عن تعويض النقص في الأيدي العاملة من خلال استقدام العمال المهاجرين، فإن النساء يتعين عليهن إنجاب المزيد من الأطفال، وهذا يعني ضمنيًّا أن النساء «الوطنيات» فقط هم من سيجري تشجيعهن على الإنجاب. وتتسم الشعبوية القومية المعاصرة بطابع ذكوري صارخ، سواء أَتَجلى ذلك في اعتقاد لوبان بأن الفروسية الفرنسية هي الرد على الحركة النسائية، أو في عنف المتعصبين الشبيه من مشجعي كرة القدم.

هذه سياسات ناجمة عن ذلك الخوف، الذي يألفه كل من درس سنوات ما بين الحربين، من أن تستولي النساء على وظائف لا تناسبهن؛ إذ يقول لوبان إن التدخل في توزيع المهام الطبيعي على الجنسين قد يجعل «الرجال يتحولون إلى نساء، والنساء يتحولن إلى رجال». في المجتمع المعاصر، تزداد هذه المخاوف ضخامة نتيجة للبطالة المزمنة بين ذكور الطبقة العاملة من محدودي المهارة، ونتيجة لاقتناع بعض الرجال بأن «التمييز الإيجابي» لصالح المرأة يقوِّض فرص ترقِّي الذكور. ومع تراجع مخاوف اليمين من خطر الاشتراكية والشيوعية، انصبَّ اهتمام السياسة على القضايا المتعلقة بأدوار الجنسين، كالزواج والطلاق والإجهاض والحياة الجنسية.

ومع ذلك تنضم نساء للشعبويين القوميين ويصوِّتن لهم، لكن مكانتهن تختلف الآن إلى حد ما عن تلك التي كنَّ يشغلنها في الحركات الفاشية في الماضي، وذلك لأن الموقف السياسي والاجتماعي للمرأة قد تحسَّن، ولو أن المساواة لا تزال أمرًا بعيد المنال. وبفضل التليفزيون، والسينما، وتراجع الممارسات الدينية، وطبيعة التعليم المتغيرة، ازداد نطاق الخيارات المتاحة أمام المرأة وباتت «تطلعاتها» أعلى. صحيح أن معظم النساء يرفضن أن يجري تصنيفهن باعتبارهن مناصرات للحركة النسائية، لكنهن ينظرن إلى الفتوحات التي حققتها المرأة باعتبارها أمرًا عاديًّا ومن المسلَّمات. وهذا ينطبق على نساء الطبقة البرجوازية اللائي يجري انتخابهن على لوائح مرشحات الفاشية الجديدة كما ينطبق بالدرجة نفسها على شابات الطبقة العاملة اللائي يمنحن أصواتهن للشعبويين القوميين. وقد واجه لوبان صعوبات كبيرة في السيطرة على عضوات عائلته اللائي شغل بعضهن مناصب مهمة داخل الحركة؛ فزوجته السابقة سخرت من آرائه بشأن الأسرة من خلال الظهور في صورة خادمة في مجموعة صور بمجلة «بلاي بوي» الإباحية، في حين قاطعته إحدى بناته بسبب ترتيبات سياسية.

قد يحدث في بعض الأحيان، كما حدث في سنوات ما بين الحربين، أن تَعِد الحركات الفاشية باحترام أوجه التقدم التي أحرزتها المرأة، لكنها تدعو أيضًا إلى سياسات من شأنها أن تطيح بمعظم هذه المكتسبات. ولا يمكننا أن نتنبأ كيف سيجري هذا الشد والجذب على أرض الواقع، لكننا نستطيع القول بأنه في حال تطبيق سياسات اليمين المتطرف تجاه النساء سيمثل ذلك قطيعة راديكالية أخرى مع الديمقراطية الليبرالية.

هوامش

(1) © Hulton Archive.
(2) © AKG London.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤