يوميات آخر الليل

(١) يوميات بعد أن تطفأ الأنوار

(١-١) يقولون عن السينما … هناك

كتب بنيلوب جليات في صحيفة الأوبزرفر البريطانية، حول أزمة الفيلم الإنجليزي يقول: «لا أعتقد أن هناك من يختلف معي في أن هناك أزمة عميقة في الصناعة السينمائية البريطانية، وبالرغم من أن عامًا كاملًا انقضى في محاولات عديدة لحل هذه الأزمة، إلا أنني أشك في أننا نستقبل العام الجديد وفي أيدينا أية حلول جدية. إن الخطر الرئيسي الذي يهدد السينما في بلادنا هو: هل هي تصوغ حقيقة ما يجري بين ظهرانينا من مشكلات العصر، وتواجهها بشجاعة؟ لا نستطيع، الآن، أن نتكهن بإجابات حاسمة، فكم من أفلامٍ هَوت بمنتجيها إلى حضيض الإفلاس الاقتصادي، بينما هي تتضمن مشكلات اجتماعية ومعالجات جزئية. وكم من أفلام أخرى هوت وهي تتضمن محاولات بارعة في صناعة الجمال السينمائي. فما هي الأزمة إذن؟»

المؤسف حقًّا أننا نفصل بين الجانب التجاري والهدف الاجتماعي أو الحضاري، فصلًا متعسفًا؛ فالتوفيق بينهما ليس مستحيلًا، بل إنني لا أبالغ إذا قلت: إن هذا التوفيق هو السمة الأساسية الدالة على نجاح الفيلم سينمائيًّا قبل كل شيء آخر. فليس من مكان للقول بأن هذا الفيلم جاد وعميق، والجمهور وحده هو المتهم بالأعراض عن الجدية والتعمق. كذلك ليس من مكان للقول بأن هذا الفيلم غاية في الإسفاف، والجمهور وحده هو المتهم بالإقبال على الإسفاف. فهذه الاتهامات تدحضها الإحصاءات العلمية التي تؤكد أن طبيعة الثقافة ودرجاتها في بلادنا ليست من الضعف بحيث يمكن لها أن تخلق جمهورًا يخدعونه بسهولة.

وينتقل الكاتب إلى نقطة أخرى حين يستطرد: علينا أن نحدد أبعاد الطبيعة السينمائية للفيلم أولًا فنفهم أن ما أمامنا «سينما» وليس شيئًا آخر … فمن البديهيات المعاصرة في عالمنا أن استخدام الوسائل الفنية لإنشاء عملٍ فنيٍّ ما يستلزم تبصرًا وعمقًا في إدراك طبيعة هذا العمل، وإلا فقد جاء مسخًا لا روح فيه، بل مجرد استعراض سيئ لمجموعة من أدوات التعبير. فالفيلم السينمائي ليس هو حاصل جمع: كاميرا + سيناريو + مجموعة ممثلين!

كلا، إن هذه العناصر لا تصنع شيئًا إذا تصورنا اتحاد بعضها ببعض على نحو ميكانيكي ساذج. إنها عناصر متفردة حقًّا، ولكنها في النهاية تتحول إلى كل واحد ممتزج في داخله امتزاجًا عميقًا بحيث لا يمكن أن نتصور العملية على أنها حاصل جمع، وإنما هناك، بوتقة شديدة الانصهار تخرج لنا هذه النتيجة الرائعة: الفيلم السينمائي. هذه البوتقة ليست المخرج على أية حال. فالمخرج نفسه هو أحد العناصر المكونة للفيلم كله. البوتقة هي السينما كفن قائم بذاته، فن له كينونته الخاصة. على هذا الفهم لن يقال أبدًا إن هذا الفيلم اجتماعي وذاك فيلم رخيص، بل سيقال هناك فيلم أو لا فيلم على الإطلاق.

ويناقش الناقد بعد ذلك مسألة أخرى على جانب كبير من الأهمية هي: إلى أي مدى تستطيع السينما أن تقدم لنا نقداتها الجريئة للمجتمع؟ ويجيب: «لقد شاعت في إنجلترا أخيرًا مودَة خبيثة: هي تلك الشكاوى التي يتقدم بها بعض الأفراد — وأحيانًا بعض الهيئات — إلى السلطات المختصة يطلبون فيها تعويضًا لأضرار يزعمون أنها أصابتهم بخسائر مباشرة من عرض فيلم معين تضمَّن تجريحًا «للصفة» التي ينتسبون إليها … خاصة إذا كانوا من المحامين. وأكاد لا أفيق من الذهول حين أسمع هذا الحديث المبتذل؛ لأن الفن — هذا العالم الخيالي الذي يكشف لنا أدران العالم الواقعي — لا علاقة له بما يمكن أن يتفق وجوده في السينما والحياة معًا. إن كاتب القصة أو السيناريست أو المخرج يستقي كلٌّ منهم خاماته الفنية من الواقع الإنساني مباشرة، ولكنه يحيله أثناء عملية الخلق السينمائي المشتركة، إلى صورة جديدة للواقع، لا يستطيع المرء إزاءها إلا أن يتبين فيها أصالة الإبداع الفني لا السرقة والتشويه. ولا مفر لنا من القول بأن حياة المحامي أو الطبيب أو المهندس أضحت ملكًا خالصًا ما دامت الحياة الخاصة للفرد قد أضحت ملكًا مشاعًا للفنان المبدع إذا كان روائيًّا مسرحيًّا أو روائيًّا قصصيًّا، فكيف لنا أن نحول بين السينما وبين الجانب «العام» من حياة الفرد، فالمحاماة والطب والهندسة، ليست من خصائص الحياة الداخلية للبشر، إلا في حدود علاقة هذه الصفة بجريان الحياة اليومية.

ويختتم الكاتب حديثه بقوله: «أغلب الظن أن السينما في العالم كله — لا في إنجلترا فحسب — تعاني أزمتها على وجهين: أولهما كفنٍّ والآخر كصناعة.

أما من ناحية الفن فكتاب السيناريو والمخرجون والممثلون والمصورون هم المسئولون عنها. وأما من ناحية الصناعة فالمنتج والدولة والجمهور يشتركون بنسب متفاوتة من حيث توزيع المسئولية. إلا أن أزمة السينما — كفن وصناعة معًا — لم تعالج قط إلى الآن معالجة موضوعية كبيرة. فهي بحاجة شديدة إلى ذلك الناقد العظيم الذي يتفرغ من التعليقات التي يكتبها في أحد بارات لندن، ليستلهم إحساسه الفني والوطني والإنساني بعدئذٍ في كتابة بحث شامل عن أخطر قضية تهدد حياتنا الفنية الحديثة. وأخيرًا فإنني أظلمه — ذلك الناقد العظيم — لو أنه لم يأتِ بالنتائج المرجوة. فالمشروع يحتاج إلى مجموعة من النقاد العظام … والسؤال: أين هم؟»

(١-٢) ماذا في السينما من جديد؟

شاهدت في وقت واحد ثلاثة أفلام من فرنسا وروسيا وأمريكا. الفيلم الفرنسي «عشاق الميناء» عبارة عن ديالوج غنائي طويل. هو مزيج من فن الأوبرا والمسرح والسينما. والقصة فكرة صغيرة أقرب إلى أن تكون ساذجة، فلقد أحب أحد العمال إحدى الفتيات، ثم تغيَّب عنها فترةً ما، تزوجت خلالها. وعندما عاد ولم يجدها تزوج من أخرى. وحين التقى بحبيبته الأولى كافح عواطفه الدفينة بإصرار عميق واتجه إلى زوجته في إخلاص شديد. الجديد في هذا الفيلم ما يمكن تسميته بتحويل العالم إلى أغنية: الحوار الحزين والسعيد على السواء حوار غنائي فيه الشجن والفرح والاضطراب. لقد ترك الحوار أثره في السيناريو والإخراج فكانت المشاهد مجموعة من المقطوعات الأوبرالية. وتحولت حركات التمثيل إلى ما يشبه الباليه. كانت الكلمة والصورة والحركة تجسد «إيقاع» الحياة على الوجدان البشري، وتسببت قلة عدد الممثلين في وضوح هذا الإيقاع. لم تكن هناك حدوتة ولا «تمثيل» بالمعنى الواقعي الساذج. كانت هناك الحياة في فطرتها الأولى، أو كما يريدها الفن الصادق، الأصيل، أن تكون. كان الفيلم الفرنسي خطوة جريئة في تطوير فن السينما في معاناة تطوير الإنسان.

أما الفيلم السوفيتي «الزملاء» فهو خطوة جديدة في المرحلة الحديثة نسبيًّا في تاريخ السينما السوفيتية. فهو لم يعتمد على قصص الحروب، ولا على قصص الكفاح، إنه يناقش معنى «العمل» من خلال الأجيال الجديدة الناشئة في عصر الاشتراكية. ثلاثة زملاء تخرَّجوا من كلية الطب، وآمالهم يتجه بعضها إلى الحياة العريضة على ظهر السفن، حول العالم، أو الحياة في إحدى القرى مع كفاح مرير ضد المرض.

واختار كاتب القصة اثنين منهم للحياة في المواني وعلى ظهر السفن. كما اختار الثالث للحياة بإحدى القرى. كان طبيب القرية الشاب يحب إحدى فتيات المدينة، وما إن وطئت قدماه أرض القرية حتى تناثرت الشائعات حول علاقته بفتاة قروية يعشقها أحد البلطجية. ويزاوج المخرج والمصور وكاتب السيناريو بين مشاهد الطبيبين اللذين عاشا في البحر على أحلام الرحلات الأسطورية حول العالم، فلم يتحقق لهما شيء من ذلك. بل كانا يعملان فيما لم يتخصصا فيه مطلقًا بعيدًا عن الطب. أما طبيب القرية فكان يكافح المرض والعاطفة والبلطجي والشائعات … في وقت واحد. ويومًا ما زارته حبيبته وعرفت معنى العمل؛ معنى أن يعود من عيادة مريض بعد منتصف الليل. ويومًا آخر زاره رفيقاه وعرفا معنًى آخر للعمل؛ فقد خرج زميلهم في تلك الليلة حيث لاقاه البلطجي وهاجمه وضربه بسكين. وفي الحال أقبل زميلاه وحملاه ومارسا الطب والجراحة لأول مرة في حياتهما، وتم إنقاذ زميلهما؛ رمزًا إلى أن حياة «العمل» هي الحياة الحقيقية التي ينبثق عنها معنى الصداقة والحب وكافة القيم الإنسانية النبيلة.

هذا فيلم سوفيتي عظيم؛ لأنه لم يهتف ولم يخطب ولم يقرر بالرغم من أنه قال كل شيء في صراحة وصدق وجمال.

الفيلم الثالث «مشهد من الجسر» وهو مأخوذ عن مسرحية الكاتب المسرحي آرثر ميلَّر. والمسرحية شديدة الثراء بالدلالات الإنسانية العميقة؛ فهي تصور التركيب المعقد لشخصية «آدي» الذي آمن في أعماقه أن ابنة أخت زوجته قد أصبحت ابنته تمامًا بعد أن قام بتربيتها فترة طويلة منذ وفاة أمها. ولكن هذه الأبوة امتزجت بشيء من الملكية الخاصة، وبأشياء من الجنس. ولهذا يعارض بشدة في زواجها من أحد أقارب زوجته الذي جاء من إيطاليا ليعمل بالولايات المتحدة. وتصل هذه المعارضة إلى مداها حين يُبلغ «آدي» البوليس عن الوجود غير الشرعي لقريبَي زوجته اللذين جاءا من أجل الخبز. وهنا يتحداه ماركو أمام الجميع ويبصق في وجهه ويتهمه بالخيانة وبأنه تسبب في قتل زوجته وأطفاله من الجوع. وحينئذٍ يستقبل آدي هذا التحدي بمزيد من الصراحة والوحشية فيصارع ماركو صراعًا داميًا عنيفًا. وعند النهاية تختلف المسرحية عن الفيلم … ففي المسرحية يقتل ماركو آدي، وفي الفيلم يقتل آدي نفسه. وهذا هو الفرق فيما أعتقد بين الفهم الفني لطبيعة كلٍّ من السينما والمسرح. وهذا هو الجديد الذي يعطيه فيلم «مشهد من الجسر». إنه لا يعتدي على مضمون المسرحية. ولكنه يتحول به إلى طبيعة الفن السينمائي. ولهذا أيضًا كان المحامي في المسرحية هو المفسر للأحداث. هو الصدى العميق لرأي المؤلف، وفي الفيلم كان إحدى الشخصيات الصانعة للأحداث من وجهة نظر المؤلف؛ أي إنه في كل من العملين قام بدور واحد. وإن اختلف الشكل المسرحي عن الصورة السينمائية. وهذا هو الفرق بين الفهم الذي عندهم، والتزييف الذي عندنا.

(١-٣) بين الشعر والسينما

تقدم الأفلام التسجيلية لمؤسسة السينما فيلمًا عن فيضان النيل من إخراج وتصوير حسن التلمساني. ولا يقتصر الفيلم — كما هو العادة — على الصور والموسيقى، وإنما سوف تصاحبه لأول مرة أشعار صلاح جاهين التي يقدمها بصوته. وهذه الفكرة هي كسب للشعر والسينما معًا. ذلك أنها تجتذب أكبر قدر من الجماهير نحو تذوق الشعر. كما أنها ستشارك المصور والموسيقي في إنجاح الفكرة السينمائية. فعندما تتراءى مجموعة من صور المصريين القدماء الذين جاءوا من النيل إليها، يردد صوت صلاح جاهين من أشعاره:

عندنا شوية صور … ع الحيطان من زمان
ذكريات من عهد أجدادنا اللي كانوا زينا
فلاحين والنيل حبيبهم زينا
برضه ورثوه زينا
م الجدود الأقدمين … وحتى من قبل البشر
حتى من قبل الحياة كان برضه نيل والجدود ورثوه كده
نيل جميل عمال يسيل مليان دلال وبغددة
قدموا له القرابين
معذورين
أصله كان واعر عليهم يا جدع
لو هجم بالحيل يشوفوا الويل … وآه لو انقطع
ع الصخور منقوشة قصة محزنة عن الجفاف
عن سنوات عجاف
الزروع انحرقت
والأراضي انشقت
كل شق كأنه شفة ناشفة بتنادي يا نيل.

ثم يردد الكورس: «يا نيل يا نيل» وتتوالى الصور حول قصة النيل العظيم مع شعبنا العظيم. قصة الحياة التي عشناها بكل ذرة في كياننا مع القسوة والحنان، مع الهجر واللقاء، مع الحب والغضب. إلى أن استطاع هذا الشعب أن يعقد صلحًا دائمًا مع نيله، وكانت وثيقة الصلح الأبدي هي السد العالي، هي الثورة، هي حياتنا الجديدة.

وهنا يردد شعر صلاح جاهين هذه المعاني قائلًا:

عندنا شوية صور
ع العمل في السد
ع الكفاح والجد والديناميت وفتافيت الحجر
على حفر الصخر والنار والشرر
نحكي للي بعدنا
عن سنين من عمرنا
كلها صور … صور … صور بتقول يا نيل
«كورس: يا نيل يا نيل»
يا حبيبنا مش ح تبعد عننا
مش ح تاخدك البحور المالحة تاني مننا
وح تسقينا السعادة والهنا والغنى
كل يوم راح يبقى ده يوم المنى
وح يبقى عندنا شوية صور
فيها أجمل فننا.

وهكذا يصل صلاح جاهين بين الماضي والحاضر من جهة. وبين الجماهير والشعر من جهة ثانية. وبين الشعر والسينما — من جهة ثالثة.

تحية إلى سعد نديم وحسن التلمساني وصلاح جاهين … وكل العاملين.

(١-٤) انتقام إلكترا

… ومن منا لا يذكر الأسطورة اليونانية الرائعة التي تشهد بالتفوق والامتياز للخيال اليوناني … مَن منا لا يذكر ذلك الموقف التراجيدي الرهيب الذي وقفته إلكترا وأخوها أورست بين عاطفة البنوة وعاطفة الثأر، بل بين عاطفة البنوة للأب القتيل، وعاطفة البنوة للأم القاتلة؟!

أجل، كلنا يذكر هذه الأسطورة التي عبرت أصدق تعبير وأخلصه عن تضارب العواطف الإنسانية وتناقضاتها المريرة، وخلافاتها الحادة التي لا تنتهي مع العقل الإنساني. ولكنا مهما تذكرنا، ومهما تداعت الخواطر على جناح خيالنا، فإن الأسطورة الشامخة لن تتجسد كما تجسدت أمام ناظرينا على الشاشة، ونحن نشاهد الفيلم اليوناني الكبير.

منذ اللحظة الأولى ضرب المخرج ضربته، فجعل من المأساة بداية الفيلم: أجاممنون قادم من النصر العظيم، ها هو ذا يقبل أوريست وإلكترا وها هو ذا يمد يسراه إلى جلالة الملكة فتأخذه إلى الهلاك الأبدي لتستمتع فيما بعد بعشيقها، الملك الجديد. أقول: إن هذه البداية التراجيدية الحادة كانت ضربة فنية من المخرج؛ فهو لم يضيع وقت المتفرج في تمهيدات لا طائل من ورائها إلا «مط» الفيلم أو الإطالة في عمره بأي ثمن. كلا، كانت الكاميرا سريعة، والديكورات ملء الفضاء والطبيعة … وبالرغم ذلك لم نفقد دقيقة واحدة منذ هرب أورست الصغير من وجه الملك العاشق القاتل، ومنذ طردت كليمنسترا الملكة العاشقة القاتلة، ابنتها إلكترا لتهيم على وجهها … تتزوج برجل عجوز لا يمس عذريتها، وتعقد صداقة قوية بين نساء المنطقة، وتترك شعرها الحليق وأسمالها البالية شاهدًا على بشاعة ما ارتكب ضدها، وتذكيرًا دائمًا لها بما ينبغي عليها من أن تفعل.

تهجر الكاميرا وجه الملك والملكة حينًا طويلًا من الوقت … لنتتبع ذلك الصراع الهائل بين أوريست والقدر من جهة، وبين إلكترا والقدر من جهة ثانية، وبينهما معًا من جهة ثالثة. السيناريو هنا أشبه بمجموعة من المشاهد الحية الصامتة بلا حوار يذكر. الكاميرا هي سيدة الموقف تلتقط أعمق الخلجات وأرق الظواهر … لتقود المتفرج إلى داخل الشخصية، لتصنع «هارموني» بين الإنسان والطبيعة والقدر، بل لتجعل من القدر كائنًا ميتافيزيقيًّا مجسدًا في آنٍ واحد.

هكذا يلتقي أورست بشقيقته إلكترا بالعجوز الذي عاش مع أبيها زمنًا طويلًا. العجوز هنا أقرب إلى الرمز القدري منه إلى الشخصية الإنسانية الحية. ومع ذلك فهو لا يفقد إنسانيته مطلقًا. إنه يقترح على أورست الذهاب فورًا إلى الملك العاشق القاتل ليأخذ بثأر أبيه. فالملك يحتفل الليلة بعيد إله الخمر؛ ولذلك فهو سيعب منها عبًّا هو وأخلص مريديه … وهنا تتاح الفرصة لذبحه وتحقيق الانتقام لأجاممنون.

ولا يريد المخرج أن تمضي الأمور هكذا دون أن يكون ثمة صراع تراجيدي عادل يحقق مستوًى موضوعيًّا للمأساة. فهناك إلكترا التي ترغب في الثأر من أمها؛ لهذا تقترح أن يذهب أحدهم إلى أمها ليخبرها بأنها قد أتت بحفيد لها في هذا العالم؛ ذلك أنها سوف تحضر فورًا فرحًا بهذا الوليد. ثم يذهب أوريست وينتقم لأبيه، وتحضر الملكة ويتم انتقام إلكترا.

غير أن الانتقام من الأم كان بؤرة الصراع الرهيب بين عاطفة البنوة وعاطفة الثأر، بل بين عاطفة البنوة للأم القاتلة وبين عاطفة البنوة للأب القتيل … خاصة إذا كانت الأم، تملك من المبررات فيما أقدمت عليه من جريمة، للدرجة التي تهتز معها «النظرة الموضوعية» للمأساة. أما إلكترا وأورست فإنهما لا يملكان هذه النظرة، إنهما يملكان «انقسام الشخصية» فحسب بين عاطفتين عارمتين، إنهما يملكان قدرًا قاسيًا وعذابًا كبيرًا.

أما السينما اليونانية فإنها تملك الحق كل الحق في القول بأنها استطاعت أن تبعث من جديدٍ الفن اليوناني العظيم.

(١-٥) كيف تشترك الطبيعة في تجسيد العمل الفني؟

شاهدت القاهرة فيلم «العاطفة والرغبة» من تمثيل بيرل أوبيرون وستيف كوشران وكيرت جيرجنس. والفيلم ممنوع مشاهدته على من هم أقل من ١٦ سنة. وهذا يوحي لقارئ الإعلان بأنه سيشاهد فيلمًا جنسيًّا، وبالرغم من أن الفيلم يتضمن في بعض مشاهده لقاءات عاطفية حارة، أو أجسادًا شبه عارية، إلا أن ما يريد أن يقوله في النهاية، والطريقة التي قال بها ما يريد، تدفعنا إلى المصارحة بأنه من هم أقل من ١٦ سنة جديرون بمشاهدته قبل الكبار، لماذا؟

الفيلم يحكي قصة شاب وفتاة تعرَّفا على بعضهما حين هبط الشاب على من نفهم في البداية أنه شقيق الفتاة، في عمل يستغرق فترةً ما يقوم أثناءها بعمل هندسي. اهتمت الفتاة بالشاب القادم منذ اللحظة الأولى. وقبل أن يودع كل منهما صاحبه وداع المساء كانت الفتاة قد بلغت درجة عالية من الانفعال فألقت بنفسها في أحضان الرجل كتمهيد لأن يبقى معها الليلة كلها.

واستمرت العلاقة على هذا النحو الحار، إلى أن حدثت مجموعة من الظواهر. حدث أن من يُدعى أخاها أصابه القلق الشديد لما يقع أمامه من حب جريء، وحدث أن الفتاة أغمضت عينيها بين ذراعَي حبيبها وهي تناجي بلا وعي شخصًا آخر يدعى ريتشارد! وحدث أن أعلن أخوها عن حفل يقام باليخت الذي يملكه في نزهة بعرض البحر.

وهناك جاء أحد العشاق القدامى للفتاة كاترين. ولم يكن حبيبها الجديد موجودًا فطلب إليها «كول» العشيق القديم أن تسمح له بكأس وحديث سرعان ما انتهى بها إلى الفراش! وما إن أفاقت وتنبهت إلى ما فعلته حتى بادرت إلى قطع شريان يدها بالموسى. وفي هذه اللحظة يجيء الحبيب الغائب فلا يتمالك نفسه من إنقاذها بالرغم من أنها تهمس باسم ذلك الشخص الآخر: ريتشارد! وهنا يحدث تلاحم مرير بين «أخيها» وحبيبها وعشيقها القديم. يفصح فيه الأخ عن جملة أشياء. يقول للحبيب المعذب إنها كانت وما تزال تحب فتًى آخر يدعى ريتشارد مات أثناء الحرب. وكان ريتشارد يشبهك إلى حد كبير؛ ولهذا أحبتك. ولكنها في الواقع لم تعرف الحب بعد ريتشارد بالرغم من تنقلها من رجل إلى آخر حتى أصبحت بغيًّا قذرة. عليك إذن أن تغادر هذه المنطقة فورًا.

تتنبه كاترين إلى خيوط المؤامرة، ولكنها لا تعرف السر. وتواجه أخاها بول مواجهة قاسية. فيرمي أمامها وأمامنا بالقنبلة؛ أنه لم يكن أخاها يومًا. لقد ألقت بها المقادير أمامه منذ طفولتها فلم يتخلَّ عنها طيلة حياته. وفي هذه الأثناء أحبها بكل ذرات دمه، غير أن أخوته الاضطرارية لها جعلتها شيئًا محرمًا عليه يعذب لياليه بالسهاد، ويعذب أيامه بما يشاهده من غرامياتها التي لا تنقطع بينما هو لا يقدر على أن يمسها، حينئذٍ أفاقت الدهشة أعصاب كاترين تمامًا. وخرجت مذعورة من السر الرهيب، إلى أحضان حبيبها الذي كان قد أعدَّ نفسه للسفر.

أقول: إن هذا الفيلم الممتاز جدير بأن تراه كل الأعمار حتى تتعرف على جذور ما ينتابها من عقد ومركبات النقص منذ الطفولة، وحتى لا تتسبب في عقد غيرها ومركباتهم. إلا أن الجدير بالملاحظة فعلًا هو المشاركة الحية الرائعة من جانب الطبيعة في حوادث الفيلم. البحر، السماء، الزهور، الطيور … جميعها كانت تتقمص أدوارًا حية في الفيلم، بحيث لا تعود السماء مجرد بقعة دائرية زرقاء، ولا يعود البحر مجرد مساحة لا نهائية من الماء. وإنما تتحول السماء في غمرة ما بها من سحب أو ضياء أو ضباب، وما في البحر من أمواج تهب عليها الرياح تتحول السماء والبحر والطبيعة كلها إلى أدوات في يد المخرج تفصح عن إرادة كاتب القصة في جلاء المشاعر الإنسانية المتباينة من غضب وقسوة وحزن وفرح وبهجة وانشراح. وهذا هو الدرس الذي تعلمته السينما في الغرب منذ زمن طويل.

(١-٦) شكسبير … بين لندن وموسكو والقاهرة

يحتفل العالم أجمع في شهر أبريل بالعيد المئوي الرابع لميلاد الشاعر المسرحي العظيم «وليم شكسبير». ولا أعرف ما إذا كانت مجرد مصادفة أم هو التخطيط الذي يشارك الآن في إعداد المواطن العربي في مصر لاستقبال هذا العيد بفهم ووعي عميق بإنتاج هذا الفنان العالمي.

ذلك أن فرقة المسرح القومي قدمت منذ شهر تقريبًا مسرحية «تاجر البندقية»، وها هو ذا مسرح الجيب يقدم لنا دراسة بالإنجليزية عن ماكبث تقدمها إحدى الفرق الإنجليزية. وفي سينما «أوديون» شاهدنا الفيلم السوفيتي «عطيل» الذي أخرجته السينما الروسية منذ عام ١٩٥٥م.»

وفي الأسواق يمكن أن يطالع القارئ مجموعة جيدة من أعمال «شكسبير» المترجمة في مشروع الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية. كما يستطيع أن يقرأ ترجمة كتاب برادلي عن التراجيديا الشكسبيرية الذي أصدرته المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر. وكتاب «التعريف بشكسبير» للأستاذ عباس محمود العقاد الذي أصدرته دار المعارف، وكتاب «البحث عن شكسبير» الذي أصدرته دار الهلال للدكتور لويس عوض.

خلال هذا الإعداد الفكري والفني لفهم التراث الشكسبيري العظيم سوف نتمكن من متابعة مختلف القضايا والمناقشات التي تثيرها أعماله وحياته بين نقاد العالم، كلما حلت إحدى المناسبات الخاصة به. والعيد المئوي الرابع لميلاده هو من أكبر هذه المناسبات التي نتوقع لها صدًى ومفاجآت كبيرة.

ويعنينا الحديث الآن عن تجربة الفرقة الإنجليزية في مسرح الجيب. لم تقدم الفرقة مسرحية ماكبث، وإنما قدمت مسرحية موضوعها مسرحية ماكبث: وكيف يقف النقاد الأكاديميون منها؟ وكيف يقف الممثلون والمخرجون؟ فقد شاع حينًا من الزمن أن عظَمة شكسبير الحقيقية تتجلى فيما كتبه من شعر عبقري خالد. أما البناء المسرحي فيأتي في المقام الثاني بعد الشعر … والمسرحية الحديثة التي يقدمها مسرح الجيب تقول شيئًا آخر، يدافع الممثل المخرج هنري لانج عن القيمة الدرامية لمسرح شكسبير قائلًا: إن الشعر الشكسبيري هو شعر درامي أولًا؛ أي إننا إذا أغفلنا البناء المسرحي كله، وحصرنا اهتمامنا في البيت الشعري الواحد، سوف نلحظ أن هذا البيت هو شحنة درامية إلى جانب القيمة الشعرية، ولعل ذلك مرجعه إلى أن الشعر بصورة عامة هو دراما من أحد جوانبه. فهو يركز حركة الفكر والحياة في وحدة دينامية عميقة. وهذه هي الدراما. أما الشعر الشكسبيري على وجه خاص فإنه يضيف إلى الخاصية الأساسية في الشعر بعض الخصائص الجديدة التي تقوي الجانب الدرامي فيه. ذلك أن المسرح عند شكسبير ليس مجرد مجموعة من الشخصيات + الأحداث + المواقف. كلا، إن المسرح عند شكسبير هو موقف شعري. كما أن الشعر عند شكسبير هو موقف درامي. كيف ذلك؟

تنبع شاعرية المسرح الشكسبيري من كونه يلتقط من عواطف النفس البشرية أحدها وأكثرها فعالية وحرارة. ويختار من النماذج البشرية تلك التي تستطيع بتكوينها الخاص أن تنفعل بهذه العواطف الحارة. كما أنه يلجأ إلى المواقف النمطية التي يراها كالوقود الذي يشعل نيران الأحداث والشخصيات. من هنا ترى ثمة تكاملًا بين الشخصية والحدث والموقف. ومادة اللحام بينها جميعًا هي الشعر، أو هي بتعبير أدق: الموقف الشعري.

وتنتهي مسرحية المسرحية وأنت مقتنع، بأن شعر شكسبير له قيمتان: الأولى قيمة ذاتية مستقلة عن جوهر العمل المسرحي. والأخرى قيمة موضوعية يستمدها من حركة تكامله مع البناء الدرامي للمسرح. كذلك تقتنع بأن الدراما الشكسبيرية لها قيمتان: الأولى قيمة تاريخية هي التي حطمت الوحدات الأرسطية الثلاث. ولم يعد لوحدة الزمان والمكان والموضوع أي اعتبار والقيمة الثانية قيمة عصرية تنبع من قدرتها على إسقاط التاريخ القديم على التاريخ المعاصر.

ومن هذه النقط يصر بعض النقاد على أن شكسبير كان ابن عصره وكل عصر.

وانتقل بعد هذه النقطة إلى ناحية أخرى هي «الشكل» الذي قدمته الفرقة الإنجليزية، و«القضية» التي يمكن أن يثيرها هذا الشكل.

القضية هي: كيف نقدم هذه الأعمال؟ هل يمكن الاكتفاء بتقديم هذه الأعمال الفنية الكبرى في كافة أبعادها وأعماقها مباشرة، ومقالات النقاد بعد ذلك؟

يجيب «الشكل» الإنجليزي الذي شاهدناه في مسرح الجيب أن لا! سوف يخرج مئات المتفرجين من قاعة المسرح وهم يحملون في رءوسهم مئات التفسيرات الفجة للمسرحية، فإذا كانوا يقرءون النقد، فإنهم سوف يقرءون عشرات التفسيرات الجامدة المصنوعة طبقًا لمقاييس في أذهانهم جاءت وفق خبرتهم بالأعمال الأدبية العظيمة السابقة.

وهنا تثور القضية من جديد: ألا يحمل كل عمل فني أسراره الجمالية الخاصة التي لا يصلح لتقييمها أية مقاييس مأخوذة عن أعمال أخرى — مهما بلغت روعتها — لها أسرارها الخاصة ومقاييسها الخاصة أيضًا؟

ويجيب الشكل الإنجليزي في مسرح الجيب: نعم إن لكل عمل أدبي أسراره ومقاييسه النابعة من داخله، ولكنه يشترك في نفس الوقت مع أعمال أخرى في تلك الصفات التي تفرضها الحضارة الواحدة. أي إن للعمل الأدبي وجهين: الأول شديد التفرد والخصوصية. والآخر عام وموضوعي. و«مسرحية المسرحية» التي نشاهدها الآن تقوم بهذا الواجب الضخم. إنها تضم رأي الناقد والمؤلف والمخرج والممثل، وتضم ما هو أكبر من ذلك كله، تضم الصراع الكبير بين التناقضات الطبيعية التي تنشأ عادة بين رأي الفنان في عمله، ورأي الفنان في الناقد. وتفسير المخرج للعمل. وتطبيق الممثل لوجهة نظره الخاصة. إن الصراع الكبير بين هذه الزوايا كلها، ثم التكامل بينها جميعًا يؤدي إلى ضرورة ملحة، هي الكشف عن جوهر هذا الصراع أمام الجمهور في هذا الشكل الذي يقدمه مسرح الجيب.

أما «عطيل» الذي قدمته السينما السوفيتية؛ فهو أروع التفسيرات السينمائية لمأساة شكسبير … ولقد أتيحت لي فرصة المشاهدة للكثير من أعمال هذا الفنان الإنجليزي في قوالب وألوان كثيرة. ولم يستقر في مخيلتي من جميع هذه الأطر والألوان سوى «هاملت» الإنجليزي و«عطيل» الروسي.

إن المخرج الروسي يلتزم النص الأصلي التزامًا حرفيًّا جوهري لا شك. فهو لا يضيف جديدًا مما يمكن أن تمليه روح العصر. وإذا كانوا قد أخطئوا في كثير من الأحيان في تحويل شكسبير إلى شاب من أبناء الحضارة الأوروبية المعاصرة حيث يرتدي البنطلون الضيق والقميص والسلسلة الذهبية في عنقه … إلا أن السينما السوفيتية أيضًا قد أخطأت بالتزامها النص التزامًا جامدًا. الفريق الأول يخطئ حين يحول شكسبير إلى مسخ لا حياة فيه من شكسبير الحقيقي، ولا من الحضارة بمفهومها العميق … فليست المعاصرة الحقيقية هي الهستيريا الأمريكية التي نكتوي بخيالها في السينما والموسيقى والرقص … كلا، إن المعاصرة العميقة هي اكتشاف جوهر هذا العصر وهو المأساة. الجانب المأساوي من شكسبير مع طبيعة عصرنا المأساوية. إلا أن التقاء الجانبين يجب أن يحذر تمامًا اختلافهما في كثير من النقاط. فأزمة الإنسان الحديث تختلف قطعًا عن أزمة الإنسان الأوروبي في بداية عصر النهضة، وهو الإنسان الذي عبر عنه شكسبير. اللقاء يجب أن يقتصر على الحس التراجيدي، على روح المأساة.

أما عطيل الروسي، فبالرغم أنه تطرَّف في الجانب المقابل، واتخذ وهو من النص صنمًا يعبده المخرج والممثل على السواء، فإنه يعطينا شيئًا آخر ذا أهمية بالغة؛ وهو أن المنفَذ الحقيقي للسينما الروسية هو القصة أولًا والحوار ثانيًا؛ فالبطء الغريب الذي نستشعره في الأفلام الروسية الأخرى لا نحس به مطلقًا في «عطيل». فالحركة والتمثيل والإخراج من أروع ما قدمته السينما السوفيتية إلى العالم.

(٢) يوميات … بعد أن تضاء الأنوار

(٢-١) يقولون عن السينما … هناك

نشرت صحيفة «الصنداي تايمز» الإنجليزية مقالًا نقديًّا للكاتب المعروف ديريك بروز، استهله بقوله: في أي وقت تتأزم فيه الأمور الخاصة بالإنتاج السينمائي الجيد، يرحب المرء بكل فيلم يعطي دروسًا حقيقية في جودة الإنتاج. وها نحن ذا نستقبل فيلمًا أخرجه ممثله الرئيسي «بييراتياكس» في مطلع العام الجديد. وسوف نحاول أن نستخلص ما إذا كان هنالك درس كبير في العملية الفنية من جميع نواحيها، خاصة إذا علمنا أن الفيلم قد كلف منتجه سبعين ألفًا من الجنيهات الإسترلينية.

وفيلم «المتقدم للزواج» ها يصور لنا رجلًا خجولًا، ظل طوال حياته يشخص بذاكراته إلى قصة من يدعى باستر كيتون، حيث يتخيل كيف تحول البيئة والمناخ غير الصحيين دون أن يخطو الإنسان بقدمه خطوة واحدة في الطريق الصحيح. إنه قد يشعل الثقاب لسيجارة إحدى السيدات، ولكنه سرعان ما يعيد علبة الثقاب إلى جيبه ومعها قطرات من عرق الحياء السخي. أو هو يشاهد فتاة جميلة بأحد نوادي الليل، ولكنه يضع ستارًا كثيفًا بين عينيه وبين ما يرى؛ ومن ثم تتحول كلتا عينيه إلى داخله، إلى أعماقه فيرى أشياء تهوله وتروعه.

وهو يعيش في بيت برجوازي مكتمل لأسباب الدعة والخمول إلا أنه بفضل والديه: دينس بيرون وكلود ماسون، يعيش في ظل المتعة العائلية وبهجة الروابط الأسرية. والأم تستمد من فرنسيتها تسلطًا على الأب العنيد، والابن الخجول.

والفيلم ليس إلا مجموعة هائلة من المتناقضات بين تصرفات الأم وسلوك الأب وحياء الابن؛ أي إنه فيلم كوميدي أساسًا ولعلني لم أصادف فيلمًا يناسب العرض المسرحي أكثر من هذا الفيلم. والغريب أن هذا الانطباع يتفق مع ما نعرفه من أن الممثل الأول في الفيلم ومخرجه في وقت واحد، قضى فترة طويلة من عمره في خدمة المسرح؛ ذلك أننا نفتقد المبررات منذ بداية الفيلم التي تسمح للكاميرا بحرية الحركة. هذا من ناحية التصوير. أما السيناريو فلم يكن قط مشاهد سينمائية بل قطاعات مسرحية. وقد تمكَّن الإخراج بذكاء شديد أن يزاوج بين السيناريو والتصوير في وحدة درامية، ولكنها لا تصلح فيما أرى إلا لخشبة المسرح. لهذا اتضحت هذه المتناقضات في التمثيل حيث كانت خطوات الممثل مقيدة بأغلال الكاميرا والسيناريو في حدودهما «المسرحية» بالرغم من الأداء السينمائي. غير أنني — في النهاية — لا أنفي أن فيلم «المتقدم» يبرهن على أن روح رينيه كلير ما تزال حية في فرنسا.

ثم ينقد ديريك بروز فيلمًا آخر يعتمد على رواية شيرلي جاكسون الشهيرة «مأوى في منزل فوق التلال» قام بتحويلها إلى فيلم سينمائي روبرت وايز. لم يكن أحد من الثلاثة الذين اختارهم البروفيسور (ريتشارد جونسون) ليتصور ماذا يمكن أن يفعل بهم هذا الممثل الغامض. نستثني من ذلك السيدة الشديدة الحساسية جوليا هاريس التي كانت تتلصص بأعماقها الخفية على طبيعة الحياة في هذا المنزل. وينقلنا تلصصها هذا إلى معرفة سر البيت «المسكون» بالأرواح الشريرة. ويدور صراع بين البشر الثلاثة، من جهة، والشياطين من جهة أخرى. إلى أن نقهقه عاليًا حين ندري أن ضحكات الشيطان لم تكن سوى ضحكات «بوب هوب». ولا شك أن الكاميرا لعبت دورها بعناية في تجسيد الصراع بين الإنسان والمجهول، بتحريكها المرن للمشاهد التي تصور ضياع الإنسان وبؤسه وتمرده وذهوله ثم وعيه وتفتحه ويأسه؛ فالبرغم من التهريج الذي ساد لقطات عديدة من الفيلم، إلا أن روح «الحزن» لم تفارقنا لحظة. فقد استخدم المصور طريقة التقابل بين المرايا لكي يلتقط ذعر الإنسان اللانهائي في مجموعة من الأوضاع «البوزات» اللانهائية. كذلك كان المخرج حريصًا على ألا يبدو سارقًا للقصة الأصلية، وإنما هو يضيف إلى وجداننا معنًى جديدًا زاخرًا بأشواق البشر إلى القبض على مصيرهم. ولا أنكر أن الممثلين في واقع الأمر كان لهم الفضل الأول الذي لم يهتم كثيرًا بتفاصيل الرواية الأصلية.

(٢-٢) إلى أين تمضي الواقعية عن السينما الإيطالية

تحت هذا العنوان عالجت مجلة «تايم» في أحد أعدادها مشكلة الاتجاه نحو الوجودية في السينما العالمية. بمعنى أن الفيلم في كافة أرجاء العالم يُعنى عناية كبرى بمشكلات الموت والحياة الإنسانية في مستواها الميتافيزيقي. وقال المحرر: إن جميع دور السينما في العالم تضرب أرقامًا قياسية في استقبال المتفرجين على هذا اللون من ألوان الفكر والفن، ثم استدرك قائلًا: إلا أن السينما الإيطالية ما تزال تنهج المنهج الواقعي الذي بدأته منذ أكثر من عشر سنوات. وراح المحرر يربط بين ظهور بعض المخرجين والممثلين وكتَّاب الرواية وبين ظهور المذهب الواقعي في إيطاليا وقرر أن الواقعية الإيطالية تتسم بخصائص محلية لا يمكن المقارنة بينها وبين الواقعية المذهبية في البلدان الاشتراكية.

فالواقعية الإيطالية هي مزيج من الاهتمام بالطبقة المتوسطة، والانشغال بالمأساة الجنسية، والتأكيد على الجوانب القاتمة من حياة الإنسان. هذه الواقعية في جوهرها هي ردة إلى واقعية القرن التاسع عشر بالإضافة إلى منجزات فرويد في مجال علم النفس. فالكاميرا في هذه الحال سوف تحقق المبدأ الذي قال به استاندال بأن الرواية هي مرآة متنقلة في الشوارع.

ويقول محرر تايم مردفا: «إن فنون القرن العشرين تمضي في خط معاكس لفنون القرن الماضي؛ إذ هي تتخلى رويدًا رويدًا عن جزئيات الحياة اليومية، لتجمع أشعة مشكلاتنا في ثورة العام دون الخاص، والكل دون الجزء.»

وهكذا تتألق قضايا الإنسان الكبرى التي تتعلق بمشكلاته المصيرية مضمِرة في تكوينها الدرامي كافة مشكلاته الأخرى … وهكذا تتجه السينما في العالم نحو الاتجاه الوجودي مع الالتزام بهمومنا الأخرى. بينما تتجه السينما الإيطالية نحو المزيد من الواقعية الجنسية المريضة.

(٢-٣) … والسينما عندنا

شاهدت فيلمًا مأخوذًا عن قصة عبد الحميد جودة السحار (أم العروسة) يروي لنا مأزقًا خطيرًا انزلق إليه أحد الموظفين الصغار حين بدأ يعدُّ لابنته الكبرى جهاز العرس.

فقد نفد كل ما معه من نقود، ولم يجد مفرًّا من سرقة مائتي جنيه من خزينة المصلحة التي يعمل بها، وذهب مع زوجته يشتري لابنته كل ما تريد وما لا تريد … إلى أن حانت ليلة الزفاف، وعندئذٍ استعد الجميع للفرح، بينما كان الأب يستعد للحزن الطويل؛ كان يعد نفسه للسجن. وبالفعل جاء إليه أحد أبنائه الصغار أثناء الحفل ليخبره بأن أحد الضباط يطلبه في الخارج. فارتدى ملابسه وقبَّل زوجته وخرج. وأسفل المنزل كانت المفاجأة، كان هناك أحد أصدقائه من الموظفين الذي كان يدري بمحنته الاقتصادية؛ ولهذا سدد من جيبه ما أخذه الأب لزواج ابنته. أما الضابط فلم يحضر إلا لأن توصيلة الكهرباء لم تكن قانونية.

بجانب هذه القصة، نشاهد قصتين أولاهما خاصة بهذه الأسرة الكثيرة العدد الضيقة المورد العديدة المفارقات والتناقضات، والقصة الثانية حول تلك الصداقة العاطفية التي نشأت خلال قصة الزواج بين أحد أصدقاء العريس وشقيقة العروس، وكيف أن الأب حين سمع من العريس الجديد أنه يريد أن يتزوج فورًا في نفس الليلة أغمي عليه ولم يفق إلا حين قال العريس صراحة إنه سيساعد والد العروس.

هناك إذن ثلاث قصص تعرضها الشاشة في محور درامي موحد إلا أن هذه القصص اعتمدت أساسًا على الحبكة التقليدية والعقدة المألوفة … ومن هنا لم يكن ثمة تشابك بين هذه القصص، بل مضت في خطوط متوازية لم تلتقِ أبدًا إلا في حرارة المفاجأة. هذه هي الملاحظة الأولى.

أما الملاحظة الثانية فخاصة بالنتيجة الفكرية التي يمكن استخلاصها بأن العلاج الاقتصادي الناجز لمشكلات الطبقة المتوسطة في بلادنا هو السرقة أولًا، والشهامة ثانيًا. فقد حل المؤلف — بموافقة المخرج — مشكلة الموظف المصري الصغير بأن يسرق من الخزينة، ثم يجد من أصدقائه من يخلصه من هذه الورطة. وهو علاج نابع من تفكير مغرق في الحلول الفردية السريعة؛ أي إنه بعيد كل البعد عن المناهج التي تستقصي أبعاد الأزمة من جذورها.

(٢-٤) أصابع الصهيونية تلوث «الكتاب المقدس»

من التقاليد الهامة التي ترسيها الإدارة الجديدة للرقابة على المصنفات الفنية، أن تشرك عددًا من المعنيين بشئون السينما في مشاهدة الأفلام الوافدة من الخارج. فهذا التقليد من شأنه أن يتيح الفرصة لازدهار شكل ديمقراطي لا يتحكم في العين الفنية للشعب وذوقه.

وقد منعت الرقابة الجديدة بعد عروض خاصة متتابعة أفلامًا مثل «الخرطوم» و«دكتور زيفاجو» … وتنبع خطورة الفيلم الأول من أنه يصور كفاح أحد الشعوب الشقيقة — وهو شعب السودان — تصويرًا مخزيًا؛ فيجعل «جوردون» الإنجليزي، بطلًا للتحرير، ويكاد يصبح الفيلم بعد ذلك مجموعة من المعارك الدامية بين الشعبين الشقيقين المصري والسوداني.

وهكذا يتضح الهدف الاستعماري من الفيلم. أما «دكتور زيفاجو» فهو ليس معاديًا للثورة الاشتراكية في روسيا وحدها، وإنما هو «ضد كل ثورة» كما قال بعض نقاد الغرب أنفسهم. ذلك أننا لو تغاضينا عن المشاهد الخاصة بالثورة السوفيتية، فإننا نجد من الفيلم موقفًا محددًا من فكرة الثورة بشكل عام. وهي أنها تقضي على أعدائها وأصدقائها معًا دون تروٍّ وإمعان للنظر، وأنها كذلك تقضي على الجانب الروحي في حياة البشر باغتيالها للمواهب الفنية في وجدان الأجيال المعاصرة لها.

وفيلم «الكتاب المقدس» — كما ينبغي أن يسمى لا الإنجيل كما أشيع عنه خطأ — هو أحدث الأفلام التي تعرضها الرقابة الجديدة على جمهور ضيق من المتخصصين في شئون الرأي والسينما.

والفيلم يتكون من جزأين: أولهما يبدأ منذ بدء الخليقة؛ أي منذ جاء في سفر التكوين: «في البدء خلق الله السموات والأرض» إلى ما جاء في نفس السفر حول نوح وقصة الطوفان وميثاق الله مع أبناء الأرض كلما ظهر قوس قزح في السماء: «فلا ينقرض كل ذي جسد بمياه الطوفان.»

ويبدأ الجزء الثاني بقوم نوح الذين تناسلوا من صلب سام وحام ويافث، وبعد عشرة أجيال ولد في أورالكدانيين «رجل اسمه إبراهيم، وعندما تقدمت به السن قال له الرب: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي سأريها لك فاجعلها أمة عظيمة.»

واستجاب إبراهيم لأوامر السماء حتى وضع يده على الأرض التي حددها له الرب. ولم تكن زوجته «سارة» تنجب أطفالًا.

وأخذ إبراهيم في الترحال، وهنا يقول النص السينمائي بالحرف: «على أن الأرض كانت أمامهم كما وعدهم الله، وضربوا خيامهم في طولها وعرضها من بيت إيل إلى قادش وشويل إلى مصر وجاءت مع سارة خادمتها هاجر المصرية». ويركز النص بعد ذلك على هذا الوعد «إنني أقيم عهدًا بيني وبينك، الذي يخرج من أحشائك هو يرثك وتدعو اسمه إسحاق»، غير أن سارة ما تزال عاقرًا؛ لذلك فهي تهب جاريتها هاجر لزوجها إبراهيم، يعاشرها وتحمل منه وتلد ابنًا يدعونه «إسماعيل».

ويعاود الله تأكيده لوعده السابق أن تلد «سارة» ابنه إسحاق بالرغم من أنها عقيم وكبيرة السن. لهذا يكتفي إبراهيم بمباركة إسماعيل ولكنه يبقى على «وعد الله» لإسحاق الذي لم يولد بعد. ويولد إسحاق ويكبر، ويوم فطامه تطلب سارة من زوجها أن يطرد هاجر وابنها «ابن هذه الجارية لا يرث مع ابني إسحاق». وهنا يقول الله لإبراهيم أن يسمع لسارة: «لأنه بإسحاق يدعى لك نسل»؛ وتطرد هاجر وابنها، وبعد سنوات يختبر الله إيمان إبراهيم فيطلب إليه أن يقدم ابنه إسحاق «ذبيحة للرب»، ويتأهب إبراهيم لإعداد «المحرقة» فوق أحد الجبال المجاورة، وفي اللحظة الأخيرة يرتفع صوت الله مانعًا إبراهيم من ذبح وحيده إسحاق ليرى خلفه كبشًا معدًّا للفداء. وفي طريقه إلى مكان التقدمة يجوب إبراهيم مع إسحاق على أطلال سدوم وعامورة التي عرض الفيلم قصتها بشيء من التفصيل، ويحكي الأب لولده هذه القصة قائلًا:

«إن الله يجلس على عرش السماء التي تظلل الأرض وتجعل منها مكانًا صالحًا للسكنى، فأي قيمة للأمراء في نظام كهذا؟ سيطلق عليهم ريحًا فيذوون ويذبلون، وستحملهم الدوامة فيما تحمل»، ثم يهمس إبراهيم وهو يرحل بابنه عن الخرائب: «يجب أن نطيع العلي القدير.»

وينتهي الفيلم بالمشهد الذي يخاطب فيه الله إبراهيم أن يرفع يده عن إسحاق: «إبراهيم … إبراهيم … لا تمد يدك إلى الغلام؛ لأني الآن علمت أنك خائف الله فلم تمسك ابنك. ها كبش المحرقة. لقد اختبرتك كالمعدن يُختبر في الأتون. واخترتك من أتون العذاب. والآن أكثر سلك تكثيرًا كنجوم السماء وكالرمل الذي على شاطئ البحر.»

هذا هو النص السينمائي الذي أشرف على إعداده اثنان من رجال الدين المسيحي في الولايات المتحدة، أحدهما كاثوليكي والآخر بروتستانتي، وأنتجته شركة فوكس القرن العشرين، وأخرجه جون هيستون.

ولا شك أن «النص» كما قيل أبعد ما يكون عن روح التوراة ونصوصها على السواء، باستثناء الجزء الأول الذي يبدأ بقصة الخلق وينتهي بالطوفان … فالمخرج والمشرفون على الفيلم قاموا بحذف أشياء، وإضافة أخرى، كما أنهم توقفوا بالفيلم عند نقطة ليست هي بالقطع نقطة النهاية في الكتاب المقدس مما يرتفع بالريب والشكوك حول أهداف الفيلم إلى مستوى اليقين من أن الأيدي التي اختفت وراء وثيقة الفاتيكان التي برأت اليهود من دم المسيح، فلوثت بذلك «العهد الجديد» هي نفسها الأيدي التي تختفي وراء هذا الفيلم فلوثت «العهد القديم»، وهكذا تصبح أصابع الصهيونية قد لوثت «الكتاب المقدس» بأكمله.

هذا الفيلم من وجهة نظر المسيحية التي أبداها بعض المشاهدين، والتي يدين بها رجال الدين الأمريكيين الذين وافقوا على نصه السينمائي، يعد انحرافًا شديدًا عن نصوص الإنجيل التي ترى في أحداث سفر التكوين رموزًا لمجيء المسيح؛ فالابن الوحيد الذي تتبارك فيه جميع الأمم هو إسحاق في التوراة، ولكنه المسيح في الإنجيل، فهكذا يقول بولس في «رسائله» ولوقا في «سفر الأعمال» وبقية الإنجيليين في «البشائر الأربعة»، أن الإنجيل، وهو كتاب المسيحيين الأول، يرى في مختلف أحداث التوراة رموزًا للمستقبل الذي يرسمه «الإنجيل» قائلًا: «على قدر ذلك قد صار يسوع ضامنًا لعهد أفضل»، كما جاء في رسالة «بولس» إلى العبرانيين (ص٧ ع٢٢). ومن وجهة نظر المسيحية أيضًا يقول «بولس» في نفس العدد والإصحاح: «… فإنه يصير أبطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها»، وبالتالي فإنه بالرغم من تبني العهد الجديد للعهد القديم، إلا أن العهد الجديد وحده هو الصورة العقائدية الصحيحة عند المسيحيين.

وهذه الصورة تقول إن فيلم «الكتاب المقدس» يعادي المسيحية من حيث الجوهر، كما قال البعض، وهو فيلم «تهويد المسيحية» كما قال البعض الآخر؛ فقد حُذف مثلًا مشهد شديد الأهمية في اللاهوت المسيحي، وهو هذا اللقاء الذي تم بين إبراهيم وملكي صادق ملك شاليم الذي أخرج خبزًا وخمرًا فقدم له إبراهيم العشور (تكوين ١٤: ١٧) فملكي صادق عند المسيحيين يرمز إلى المسيح الذي يعد عندهم أعظم من إبراهيم؛ وبالتالي فليس المقصود بالابن الوحيد أن يكون هو إسحاق، بل هو المسيح. وحينئذٍ يصبح الوعد المعطى لإبراهيم ليس وعدًا ماديًّا محددًا بنسل إسحاق، وإنما هو وعد لكل من آمن بالمسيح الذي «جاء إلى خاصته وخاصته لم تقبله، أما الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطانًا بأن يكونوا أبناء الله؛ أي المؤمنين باسمه.»

ويلتقي هذا النص الإنجيلي مع النص التوراتي المضاد للعنصرية تمامًا حين يقول الرب لإبراهيم: «تتبارك فيك جميع قبائل الأرض» (تكوين ١٢: ٣). ويؤكد القول مرة أخرى: «ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض» (تكوين ٢٢: ١٨). وقد حذفت هذه جميعها من النص السينمائي ليوهم الفيلم جمهور المشاهدين بأنه لا رمزية هناك في الوعد الإلهي لنسل إسحاق، وليوهم أيضًا بأن «شعب الله المختار» هم «بنو إسرائيل» وأرض فلسطين هي «أرض الميعاد».

ولم يقتصر التشويه على الحذف فقط، وإنما أيضًا على الوقوف عند نقطة محددة من صفحات التوراة، هي إقدام إبراهيم على التضحية بإسحاق وتدخل الرب في اللحظة الأخيرة حين تأكد له إيمان إبراهيم. فأحداث التوراة نفسها بعد ذلك حين نطوي سفر التكوين لنقرأ ما تلاه من أسفار، تقول: إن بني إسرائيل قد أغضبوا الله، وإن الله كثيرًا ما تخلَّى عنهم، وتنتهي التوراة بتفتح حقيقي على العالم يتصل بالدنيا الجديدة التي افتتحها المسيح في الإنجيل محطمًا الدعوة العنصرية مناديًا بأنه جاء إلى جميع شعوب العالم.

وكما أن الفيلم يعد من وجهة نظر المسيحيين «ضد المسيحية» أو تهويدًا لها على أقل تقدير، فإنه يعد أيضًا من وجهة النظر الحضارية فيلمًا عنصريًّا خطيرًا يقوم على تقديس «العرق». وهنا لا يعتمد الفيلم على حذف بعض النصوص التوراتية فحسب، بل يضيف من عنده الشيء الكثير، يضيف مثلًا حديثًا مطولًا بين إبراهيم وهاجر حول مباركة إسماعيل لم يرد قط في التوراة، وهو حديثٌ زيَّفه المشرفون على الفيلم على لسان إبراهيم يبرر فيه الموقف العنصري تبريرًا لا يستند على أية نصوص واردة في التوراة. ويضيف أيضًا مشهدًا كاملًا يأخذ فيه إبراهيم ولده إسحاق ليطوف به على أطلال سدوم وعمورة ليوهمه ويوهمنا أن هذه البقعة من الأرض — وهي جزء من فلسطين المحتلة الآن — قد دمرها في القديم من جميع ملوكها وحكامها لتبقى لبني إسرائيل، فيومئ بذلك إلى ما حدث لنفس البقعة من الأرض في العصر الحديث «وعلينا أن نطيع الله»؛ أي إن ما حدث في فلسطين كان بأمر الله.
هذا هو الفيلم الذي وافق عليه بعض رجال الدين الأمريكيين، ناسين خطاب المسيح الشهير في اليهود: «لا تفتكروا أن تقولوا لأنفسكم لنا إبراهيم أبًا؛ لأني أقول لكم: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم» … ليست المسيحية إذن وراء هذا الفيلم الصهيوني، وإنما نفس الأصابع التي سبق لها أن لوثت التاريخ المسيحي حين أصدرت وثيقة تبرئة اليهود من دم المسيح.

(٢-٥) لعنة الماضي

من مظاهر الموجة الجديدة في السينما العالمية الآن هو التركيز على مشكلات الفرد غير العادية كانعكاس لمشكلات المجتمع العادية. أي إن ما يصاب به المجتمع ككل، إذا أصيب به أحد أفراد هذا المجتمع فإنه يصبح مثقلًا بأكثر جوانب المرض بشاعة. والتركيز على مشكلات الفرد في الموجة الجديدة للسينما ينقلنا إلى العملية الفنية التي قد تتناسب مع هذا التركيز، فنحن نشاهد معظم الأحداث تدور في حيز ضيق، ربما كان غرفة على شكل L كما هو الحال في هذا الفيلم الذي يعرض الآن بالقاهرة تحت عنوان «لعنة الماضي». فالحيز الضيق يتيح لمشكلة الفرد أن تتبلور وتتحدد. كذلك فإن أمثال هذه الأفلام تمنح الفرصة لكاتب القصة وكاتب السيناريو على السواء أن يتعمق نماذجه البشرية من الداخل، وأن تجعل من عالمها النفسي اللوحة الرئيسية للمنظور السينمائي.

في قصة «لعنة الماضي» تتبع الكاميرا فتاة في السابعة والعشرين هي «ليسلي كارون»، نشاهد الفتاة في حالة «بحث» … والمخرج يركز تركيزًا واضحًا على «حالة البحث» هذه … فالأمر ليس مجرد بحث عن غرفة كما سنعرف بعد قليل، وإنما تدلنا النقلات المتتابعة على مختلف زوايا وجه الفتاة. إننا أمام حالة غير عادية … الشوارع وقطاع الطرق والضباب جميعًا تصنع هارموني مع نفسية الفتاة الغريبة القادمة من الشاطئ الآخر للمانش، من باريس، وهي تحمل بين أحشائها غريبًا جديدًا هو الجنين المظلوم في دنيانا ما دام قد جاء بوسيلة غير شرعية في عرف الناس.

هذه هي المقدمة إذن، تتبُّع دقيق لنفسية الفتاة إلى أن تستأجر غرفة على شكل L من سيدة عرفت بمهارة كيف تساومها حتى نجحت في تأجير الغرفة الضيقة للفتاة.

وتبدأ جين في السؤال عن أحد الأطباء. وتذهب إلى الطبيب، ليؤكد لها أنها حامل، وأن عملية الإجهاض لن تكلفها أكثر من خمسين جنيهًا … وهنا، يؤكد لنا المخرج الملامح الأولى للفتاة، وهي التمرد الأصيل في وجدانها: أنها تثور على الطبيب ثورة عارمة! أنها ما جاءت إليه إلا لتعرف ما إذا كانت حاملًا أم لا. والآن، وقد عرفت يقينًا أنها تحمل بين أحشائها جنينًا، فإنها لا تفكر لحظة في إعدامه كما يتجه تفكير الجميع. نفس الكلمات تلقيها في وجه جارتها العجوز التي أومأت لها ذات يوم بأنها تشك في وجود «شيء» بين أحشائها.

الشجاعة والتمرد والصلابة من أهم الصفات التي تتسم بها جين؛ لذلك فهي لا تتردد لحظة في أن تواجه صديقها الشاب الإنجليزي الذي يسكن في إحدى غرف المنزل الذي تقيم به. إنها فرنسية هاربة من أبويها في باريس، وهي قد حملت من «أحدهم» بمحض اختيارها، وهي لا تريد العودة إلى «أحدهم» هذا؛ لأنها لا تحبه! بل إن المخرج ينقلنا إلى إحدى اللحظات التي جمعت بين جين وصديقها الأول — والد الجنين — فنراها كيف تقف منه موقفًا نهائيًّا لا رجعة فيه!

أما الصديق الجديد الذي صادفته في المنزل؛ فهو أحد أبناء الجيل الجديد من الأدباء البائسين في إنجلترا. إنه يرى نفسه يكتب ويكتب ويكتب، بلا جدوى … قصصه كلها سلسلة لا تنتهي من الفشل! وهو يعيش حياته كيفما اتفق. يقوم بأي عمل يقيه الجوع فحسب. وهو يقع في هوى جين منذ اللحظة الأولى، ولكنها تصده مرة واثنتين فيحس بالفشل يتسرب إلى البقية الباقية من إنسانيته. غير أن جين لم تكن تقصد أن تصده لشيء، إلا لأنها تريد أن تعيش حياتها بلا آلام يمكن أن تستجد، أما الحب! فهي قد وقعت فيه مرة أخرى، ولكنها كافحت باستماتة حتى لا تقع. وبين المد والجزر أعلنت تسليمها وارتمت من جديد في أحضان الصديق الجديد.

ويعنيني أن أؤكد أن كاتب القصة لا يفعل ما يراه البعض هنا صحيحًا، وهو أن المرأة مآلها السقوط لضعف فطري بها … وإنما هو يصور قلق الجيل الجديد في أوروبا، وأزمة القيم، ويصور التمرد الجارف الذي يقلب المعايير أمام الشباب فلا يجد سوى تجربته الشخصية مقياسًا لكل شيء. جين إذن تجرب نفسها من جديد. كذلك فالشاب، يحمل على رأسه فشل السنين، أو لعنة الماضي بالنسبة له، ويحاول أن يعيش من جديد، خلال قصة حب كبير.

وتبدأ جين في تذويب لعنته بالتخفيف من حدة فشله، فتقرأ قصصه الواحدة بعد الأخرى … وهو يحاول أن يكون صادقًا، فيكتب بدماء القصة الحقيقية التي يعيشها مع جين … ولكن دون جدوى؛ فثمة شيء خطأ يعرقل مجرى العلاقة بينهما.

ذلك أن الشاب «توم» يحاول أن ينسى «الشيء» الذي يسكن أحشاء جين بلا فائدة. إن هذا الشيء يكبر في عينيه شيئًا فشيئًا حتى يصبح غريمًا خطيرًا. وتحاول جين أن تقنعه بشيء واحد؛ أنها تحبه! وأنها لم تنطق بكلمة الحب قبل الآن! وأنها تحس بأن رابطةً حية مشتركة تربط بينهما … ولكنه لا يعير كلماتها اهتمامًا أو التفاتًا، فهو يتمزق من ذلك «الماضي» الرابض في أعماقها كالوحش يلتهم أحلامه التهامًا.

وفي هذه الفترة يكون الجنين بين أحشاء جين قد كبر، فتأتيها آلام المخاض … وتذهب إلى الطبيب الذي يؤكد لها أن الولادة طبيعية، ويعدها بأنها ستجيء ﺑ «جورج» إلى هذا العالم، لتضيف إلى رجاله رجلًا جديدًا يحمل معه المزيد من المتاعب. ولكنها تخيب آمال الطبيب وتأتي إلى العالم بفتاة صغيرة جميلة، ترجو لها ألا تكون امتدادًا للعنة أمها؛ اللعنة الأبدية.

وفي هذا الوقت يكون توم قد انتهى من كتابة القصة الطويلة التي بدأ يكتبها وقد نسي كل ما كان بينهما، فذهب إليها في المستشفى وترك لها القصة، قائلًا لها إنه يرجو منها شيئين: أولهما أن تقرأها، والثاني أن تقول رأيها … وتمسك جين بالقصة وتقرأ، وترى نفسها في الحوار والأحداث والمواقف، فلا تملك إلا أن تعجب بالقصة … فقط يجب إضافة شيء إليها؛ يجب إضافة الخاتمة!

لقد كان واضحًا أن المخرج يتناول أزمة جيل جديد كامل يعيش في أوروبا على هاوية اليأس. فالحضارة التي تظلله تنهار فوق رأسه، وتتهاوى مع جدران المعبد كافة القيم والمثل التي عاش يؤمن بها وبعلوها وبرفعتها. وبالرغم من أن هذه الحضارة هي حضارة الفرد، لم يستخدم في تجسيد هذا المعنى رموزًا معقدة، بل تعمق بالكاميرا والحيز الضيق أدغال الفرد، وجاس بين أحراش النفس البشرية في قوتها وضعفها وتمردها. ووضع كافة المتناقضات على كفَّي الميزان حتى لا يرجح أي منهما. إنه لا يقدم حلًّا ولا يقدم علاجًا، وإنما يجسِّم بشجاعةٍ أزمةَ، بل مأساة حضارة كاملة.

(٢-٦) لماذا تلح السينما الغربية على العاطفة المشينة؟

منذ وقت غير قصير والسينما الغربية تلح على موضوع العلاقات الشاذة بين البشر؛ كعلاقة البنت بأبيها أو أخيها، أو علاقة الشاب بأمه أو بأخته … وهكذا. والقاهرة تشاهد فيلمًا من هذا النوع الذي أسمته الترجمة العربية «بالعاطفة المشينة».

والفيلم يبدأ هكذا: شاب متزوج من فتاة نصفها ملاك والنصف الآخر امرأة. وهو ناجح حاليًّا إلى حد كبير بفضل امرأة أخرى تحبه. يبرق «جوليانو» إلى أخته بأنه سوف يحضر إليها خلال أسبوع. تفرح الأختان فرحًا شديدًا.

ويخيل إليَّ أن هذه البداية تقترب في الكثير من البدايات المسرحية. وهو الاتجاه السائد الآن على موجة السينما الجديدة. تلي هذه المجموعة من المشاهد ما يلي: يحضر جوليانو برفقة زوجته. تستشعر الزوجة الملاك بأن ثمة علاقة بين زوجها وامرأة أخرى. تشاركها في الغيرة الشقيقة الصغرى لجوليانو «كاري». كاري ممزقة من الداخل تمزقًا رهيبًا. إنها تكره الزوجة الملاك، وتكره المرأة الأخرى، وتكره شقيقتها «أنا» لأنها واجهتها بشجاعة وقالت لها: أنت تميلين إلى أخينا جوليانو ميلًا جنسيًّا!

ويخيل إليك أن الفصل الثاني من المسرحية قد أسدل عليه الستار ليفتح مرة أخرى على تلك القصة الجانبية الخاصة بعلاقة جوليانو بتلك المرأة الأخرى التي لا نراها إلا لمامًا لقد عرفت «للي» زوجة جوليانو كل شيء عن تلك المرأة؛ لذلك تتصل بزوجها لتطلب إليه أن يبعد زوجته عن طريق جوليانو، أن تتركه لها لمدة عام فقط على حد تعبيرها. وتذكر للرجل موعدًا محددًا بين جوليانو وزوجته، فيذهب برجاله إلى الموعد للانقضاض على الزوجة العاشقة وجوليانو على السواء، ولا يتركوهما إلا وهما غائصان في دمائهما.

وما إن يفيق جوليانو على حقيقة الأمر ويعرف كل شيء حتى يبادر بترك البيت في طريقه إلى زوجته، وإلى حبيبته من جديد. لقد ترك العاطفة المشينة الممثلة في أخته إلى العاطفة الإنسانية الممثلة في حبيبته.

إن هذا الفيلم هو فتح جديد من النواحي التكنيكية. فتقسيم السيناريو إلى مشاهد مسرحية أو قريبة من المسرح هو تركيز على الغليان الداخلي في الشخصيات ما دامت الحركة الخارجية فقيرة أو معدومة، بل إن الحركة الخارجية أصبحت جزءًا لا يتجزأ ولا ينفصل عن الحركة الداخلية. أي إن هذا الفيلم هو أقرب ما يكون إلى الأعمال النفسية منه إلى الأعمال البهلوانية التي تتحفنا بها السينما الغربية.

غير أن الإلحاح الدائب المستمر على العواطف المشينة هو الذي يستوجب التوقف والتساؤل. إن الفيلم لا يمنحنا بصيصًا من الضوء على حياة هاتين الشقيقتين اللتين نزع بإحداهما الشذوذ إلى الميل الجنسي نحو أخيها، وينزع بالأخرى إلى عاطفة الأمومة. الفيلم لا يفسر لنا حياة هاتين العانستين، ومع ذلك فإن المخرج يستكشف لنا ما أضمره المؤلف؛ فهو يتلاعب بالأضواء والظلال كلما كانت الأضواء خادمة للغرض الفني والهدف الفكري معه، وكلما كانت الظلال تعبيرًا سيكلوجيًّا عما يدور بباطن هذه الشخصية أو تلك.

وإذا كانت «الآلة» هي المجتمع، وهي الحضارة التي تنبت العواطف المشينة فإن الفنان لم يلجأ قط إلى المباشرة والتقريرية في تجسيم الآلة والحضارة المنهارة، بل راح يركز الكاميرا على أعماق المواقف والأحداث والشخصيات، فظهرت لنا انعكاسات الآلة لا الآلة نفسها.

(٢-٧) ماذا حدث للصغيرة جين؟

ذكرت أن الملاحظ على السينما الغربية بشكل عام أنها تلح إلحاحًا متصلًا على الجوانب الشاذة في العلاقات الإنسانية، وضربت مثلًا لذلك بفيلم «العواطف المشينة».

وتعرض القاهرة فيلم «ماذا حدث للصغيرة جين» وهو يركز تركيزًا واضحًا أيضًا على الجوانب القاتمة في الحياة البشرية، بحيث أراني أتساءل مرة أخرى: ماذا حدث للسينما الغربية؟

يبدأ الفيلم بمقدمة تكنيكية ممتازة هي أن الصغيرة جين كانت تجيد الغناء على أحد مسارح المدينة، وكانت الجماهير تغمرها بالهدايا المناسبة لسنها، وكانت بلانش شقيقتها تزاحمها في هذا المجد؛ لأن المنتجين والمخرجين كانوا يفضلون إحداهما على الأخرى، فكانوا يخلقون بينهما أسباب التعاسة دائمًا.

إلى أن كبرت الأختان، وذات يوم كانت بلانش تقود السيارة، فاصطدمت بالبوابة أثناء عبور جين، فكانت النتيجة أن أصيبت ساقا بلانش إصابة خطيرة أدت بها إلى الكساح التام.

وهنا تنتهي المقدمة ليبدأ الفيلم … يبدأ مع حياة جين وبلانش الكسيحة، مصورًا ماذا تكون مثل هذه الحياة … وبالنسبة لهذه المقدمة أريد أن أبدي مجموعة من الملاحظات.

  • أنها جزء لا ينفصل عن أحداث الفيلم، ولكنه لا يلخص هذه الأحداث، بل هو يركز الأسباب المؤدية إلى المأساة. وقد استخدم المخرج في تركيز الأحداث وسائل جديدة تمامًا؛ فتتبَّع جين وبلانش في أطوار عمرهما المشترك، لم يكن تتبعًا آليًّا ميكانيكيًّا محضًا، بل كان كشفًا لجوهر الشخصية الإنسانية من الداخل، فلم يكن يعنيه مطلقًا أن جين زادت في العمر خمسة أعوام، بقدر ما كان يعنيه أنها بدأت تحس بالزمن على نحو خاص بها … وهكذا.

  • رسمت المقدمة منهج الفيلم في تحليل المأساة … فمنذ البداية نرى وجوه المخرج والمنتج والجمهور جميعها تعاني دقات المسرح التقليدية وهي أننا مقبلون على مأساة أسهمت في صنعها أيدٍ كثيرة … إن التأكيد على هذه النقطة ينقذ نهاية الفيلم من التأويل الخاطئ، بل يضع أيدينا على العناصر الحقيقية التي كان لها النصيب الأوفر في صنع المأساة.

  • لم تعتمد المقدمة على التهويل والصراخ، بل جاءت قصة قصيرة دامية بدأت بفتاة جميلة متفتحة للحياة، وانتهت بفتاة أخرى حطمت أحلامها السيارة في اللحظة التي أرادت فيها أن تحلق بعيدًا. لم تكن المقدمة صارخة، بل كانت مدخلًا طبيعيًّا على جوهر المأساة.

(٢-٨) ما هي المأساة؟

لقد ظلت بلانش تعاني آلام الوحدة الداخلية المرعبة، بلا أبٍ ولا أم ولا أخت! جنت جين من هول الأحداث المحيطة بها؛ فقد كبرت في السن، وهجرت الأضواء، أو هجرتها الأضواء، ولم يعد لها سوى هذا البيت المثقل بالأحزان، وتلك الذكريات المجسدة في الهدايا الطفلية التي كانت تصلها من المعجبين، وقصاصات الصحف التي كانت تكتب عنها المقالات الطوال، لم يعد أمام جين إلا بلانش تجسم لها مستقبلًا فظيعًا، ونحس مع دورات الكاميرا المتنقلة بين حركات بلانش العصبية وحركات جين الجنونية أن ثمة «شيئًا» وشيئًا كبيرًا، يكمن في أعماق هذه المأساة الدامية.

وعندما تذهب جين لتكتب في الصحف أنها بحاجة إلى عازف موسيقى يصاحبها في أغانيها، تستشعر بلانش أن الجنون وصل بجين إلى ذروته، وتحاول الاتصال بطبيب العائلة دون جدوى، فقد كان «العقل» يعاود جين بين الحين والآخر … لذلك فهي تمارس أبشع ألوان التعذيب مع شقيقتها المقعدة، بل إنها لا تتردد في قتل الخادمة حين أرادت أن تخفف من وطأة هذا التعذيب على سيدتها.

وتفوح رائحة القتل إلى أن تصل إلى أنوف رجال البوليس، ومن ثم تقوم جين بحمل بلانش من سيارتها إلى الشاطئ، وهناك تحتضر بلانش في عذاب مرير، تستشف بشاعته وهي تعترف لأختها بالسر الرهيب الذي حملته بين جوانحها أمدًا من الزمن، ولكنها في لحظة الموت لم تعد بقادرة أن تحتفظ بهذا السر. وتدرك على الفور أن السر هنا هو «الحدث الدرامي» الذي يحرك فصول المأساة كلها، فقد عاشت جين عمرها وهي تزعم أنها كانت السبب في كساح شقيقتها، تصورت أنها كانت تركب السيارة حين دهمت بلانش وأقعدتها إلى الأبد! وكان الإحساس بالذنب عاملًا أساسيًّا في توصيل جين إلى حافة الجنون، إلى جانب العوامل الأخرى التي يتولى أمرها المخرجون والمنتجون والجماهير.

إلى أن بدأت «بلانش» تحتضر وتعترف لأختها اعترافًا غريبًا، اعترفت بأنها هي «بلانش» التي كانت تقود السيارة، ثم لمحت جين قادمة تطوح بها الخمر يمنة ويسرة فكادت تنتهز الفرصة وتقتلها، ولكنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، ومن ثم اصطدمت بالبوابة، وكانت النتيجة المذهلة هي ذلك الكساح الذي أقعدها مدى العمر!

هذه هي الحقيقة. وهذا هو جوهر المأساة! لقد عاشت جين حياتها مثقلة بالجنون لأنها توهمت أنها تسببت في كارثة شقيقتها، فهكذا فعلت بلانش فور الحادث، انتهزت فرصة أن جين سكرى، وأوهمتها هي والجميع أنها كانت تقود السيارة حين دهمتها على فجأة منها.

تسرب الاعتراف وئيدًا إلى عقل جين الخرب، ثم جاء البوليس أخيرًا متسائلًا عن مكان بلانش.

وينتهي الفيلم لنستكشف أدوات المخرج الممتاز الذي قام بإخراج هذا الفيلم العظيم … إن الكاميرا لم تخرج من بيت جين وبلانش إلا في فترات قصيرة … لهذا كان الفيلم مهددًا بأن يصاب بالجمود، ولكن هذا لم يحدث قط؛ لأن المخرج تمكن من استغلال كل جزئية في هذا البيت، أصبحت المقاعد والحيطان والذكريات، جميعها، أحداثًا درامية كاملة الفعالية. تحولت بلانش في غرفتها ومعها فطورها، ومع جرس مطالبها الخاصة، ومع الخادمة … تحولت إلى عالم كامل … عالم يديره المخرج بمهارة أبناء «الموجة الجديدة» في السينما، التي تركز الكاميرا على العالم الداخلي للفرد وللمجتمع على السواء.

كذلك جاء السيناريو تخطيطًا فنيًّا دقيقًا لهذا العالم المعقد الذي جاءت به القصة، كما جاءت الكاميرا تلبي رغبات المخرج والسيناريست في حرية كاملة داخل نطاق النص. إننا نشعر في هذا الفيلم أن المخرج والسيناريست والمصور والممثل، كلهم، يفكرون بعيون مفتوحة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤