قراءات بقيت أصداؤها

(١) عصر ورجال

قليلة حقًّا الكتب التي تؤرخ لحياتنا الفكرية، خاصة المرحلة التي تقع بين ثورتَي ١٩١٩ و١٩٥٢م … وأقل من القليل ما يكتبه أبناء هذه المرحلة عن تجاربهم الشخصية في مجال الفكر، سواء مع المفكرين أنفسهم، أو الأفكار التي يقدمونها. من هنا تأتي القيمة الرئيسية لهذا الكتاب الهام الذي كتبه فتحي رضوان تحت عنوان «عصر ورجال»؛١ فالكتاب محاولة — أيًّا كان نوعها — لتأريخ مرحلة ما قبل الثورة تأريخًا فكريًّا. والكتاب أيضًا تجربة شخصية مهما كان اتجاه صاحبها عايشت عن كتب ثقافة ما بين الحربين، وجيل ما بين الثورتين، وشاركت بصورة من الصور في صياغة هذه المرحلة الهامة من تاريخ مصر الحديث.

وفتحي رضوان يبدأ كتابه بمقدمة تشير إلى أنه فكر طويلًا قبل أن يختط منهجًا محددًا، هو ذلك المنهج الذي يروي قصة عصر من العصور من خلال حياة كبار أدبائه ومفكريه وفنانيه «فليس أصدق في رواية التاريخ وتحديد خصائصه من قصص حياة الأشخاص الذين صنعوا هذا التاريخ، وليس أصدق في رواية الحياة العامة من الحياة الخاصة لمن خلقوا هذه الحياة العامة ولعبوا على مسرحها وأدوا الأدوار الكبرى فيها؛ فالحياة الخاصة للكبار، هي الصورة الخالية من التزييف للعصر الذي ينتمون إليه، أو الذي ينتمي إليهم، المحببة إلى القلب السهلة التناول.» بالطبع نحن نستطيع أن نفهم من هذه الكلمات أن منهج الكاتب يعتمد أولًا على إيمان عميق بدور الفكر في صنع اللوحة الاجتماعية للإنسان، وإيمان مماثل بدور الفرد في صنع التاريخ. ولا شك أنه منهج متعارف عليه ومعترف به بين مختلف المناهج التي يستخدمها الدارسون للمجتمع والمؤرخون للفكر. ولكنه أيضًا، وفي نفس الوقت؛ منهج ذو حدين … فهو قد يبالغ في أهمية الدور الذي يلعبه الفكر في الحياة الاجتماعية أو يقلل من أهمية هذا الدور، إذا لم يتم البحث في إطار صارم من الموضوعية العلمية التي تكاد تقترب من تجارب المعمل. وهو قد يبالغ في تقييم دور الفرد في صناعة التاريخ أو يقلل من أهمية هذا الدور، إذا تم البحث بمعزل عن الخريطة الاجتماعية التي تشير البوصلة الدقيقة إلى كافة خفاياها وتضاريسها. والمبالغة في كلا الجانبين تتأتى حين يصبح المؤلف «طرفًا» في هذه المعركة أو تلك، أو «خطًّا» في صورة بعينها … حينئذٍ تعز الموضوعية ويندر العلم، ويصبح الكتاب أقرب إلى أن يكون «انطباعًا» منه إلى البحث العلمي.

لنرَ إذن، ماذا فعل فتحي رضوان بأخطر حقبة في عصرنا الحديث، وهو الرجل الذي عايش أحداثها عن قرب وانفعل بالتجربة، وشارك فيها سياسيًّا وفكريًّا.

إنه يبدأ البحث بسؤال هام (أي عصر هذا الذي نؤرخ له؟ أهو حقيقة عصر ذهبي كما تردد على خاطرى فترة، وأنا أتهيأ للتفكير في الكتابة عنه؟) ثم يبدأ في تقديم صورة العصر من خلال الشعر فيقول إنه أصبح بضاعة يتكسب منها الشاعر مالًا أو منصبًا أو جاهًا، فما من شاعر إلا وقد كان له قوي يلوذ به ويجري عليه الرزق ويحميه. فقد مدح حافظ الإنجليز، ومدح شوقي أعوان الإنجليز وعملاءهم، أما الجيل التالي لهما — شكري والعقاد والمازني — فقد مارسوا الشعر إلى جانب النقد فلم يكتب لهم النجاح وكفَّ أحدهم عن نظم الشعر، واختفى الثاني لفترة طويلة عن الحياة الأدبية، وواصل الثالث وحده — العقاد — حتى مُنح لقب أمير الشعراء، ولكنه لم يستطع أن يحتفظ به؛ إذ لم يجد له صدًى عند الناس ولا إيمانًا به؛ فلم يعد أحدٌ يناديه به أو يخلعه عليه أو حتى يفكر فيه. ولم تستطع مدرسة أبولو أن تحتمل أعباء الرسالة، فلم يعد أحد يتذوق الشعر إلا من كان من المتخصصين والأدباء، وتزداد القطيعة اتساعًا بين الشعر والناس يومًا بعد يوم حتى يكاد يخرج من حياتنا.

أما في النثر، فإن فتحي رضوان يرى في إنتاج كتَّابنا أثناء تلك المرحلة التي يؤرخ لها أنه كان إنتاجًا جزئيًّا لا يتكامل؛ فلم يجرؤ أحدهم في الغالب على إخراج كتاب إلا بعد أن تقدم به العمر. ولم يكن تأليف الكتب بجمع المقالات المتفرقة مجرد مرحلة من مراحل الحياة الفكرية لهؤلاء الكتاب، وإنما يرى فيها المؤلف صفة من صفاتهم العقلية تكشف عن طبيعة تكوينهم، وعن حدود قدراتهم ومواهبهم (فقد كانوا منذ البداية عاجزين عن أن تكون لهم نظرة شاملة لأمر من الأمور السياسية أو الأدبية) ذلك أن الأمر عندهم كان تنقلًا بين الشخصيات والأفكار والكتب فجاءت أعمالهم مجموعة من الانطباعات السريعة لقراءات لا يتمثلونها فلا تملأ من ثم حياتهم ولا وجدانهم، وهكذا تجد كتاباتهم أشبه شيء بقاعات في متحف صور، تجد فيها إنتاج كل الفنانين في حياد يقف من الجميع على بعد واحد تقريبًا. ولذلك إذا فرغت من قراءة كل ما كتبه العقاد والمازني وهيكل — يقول فتحي رضوان — لا تعرف بالضبط ما الذي يريده أيٌّ منهم، ثم لا تعرف الفارق بين الواحد والآخر؛ فإنهم في واقع الأمر أبناء مدرسة واحدة، وقد انتقلوا جميعًا إلى التأريخ للإسلام والدفاع عنه وختموا حياتهم بهذا التطور … على أن هذا الإعجاب الكبير بالإسلام لم ينعكس قط على سلوكهم في الفكر أو في السياسة؛ لأن الكتابة عندهم لم تكن معاناة روحية «وقد عجل هذا التحلل الروحي بنهاية هذا العهد وبالكارثة التي ختم بها.»

ما هي هذه الكارثة؟ يجيب فتحي رضوان بسؤال آخر: ماذا انتهى إليه هذا الجيل من المفكرين في شأن الإنجليز والملك؟ لقد هدأت المعركة مع الإنجليز — يقول المؤلف — واستحال النضال الوطني حربًا أهلية بين الأحزاب يصيب الإنجليز خلالها بعض الرشاش، ولكن السهام والحراب والقذائف والمدافع توجه كلها إلى العدو الداخلي؛ ولذلك هبطت الوطنية المصرية إلى مستوًى كان له أسوأ الأثر على الفكر، وكان كل ما يقال أو يكتب مكررًا ومعادًا؛ فلم يؤثَر عن كتابنا جميعًا في هذه المرحلة كلام يستحق البقاء «ولذلك لم يكن غريبًا إلا ترتسم في الذهن صورة المناضل العنيد للإنجليز إذا ما ذكر اسم واحد من كتَّاب العصر الذي نؤرخ له». وجملة القول في رأي فتحي رضوان أن كبار كتابنا في عصر ما بين الثورتين وعدوا بالتحرر وبالثورة وبقلب الأوضاع الفاسدة وبإطلاق العقول من أسرها ومجابهة دعاة القديم الرث البالي، فلم يفعلوا من هذا كله شيئًا.

على أن فتحي رضوان لا ينسى الشذوذ والاستثناء الذي يتواجد أحيانًا في القاعدة والخط العام، فيقدم باقات الورود إلى شخصيتين لا ثالث لهما: المنفلوطي الذي يعتقد المؤلف «أن الفترة التالية لنهاية الحرب العالمية الأولى يمكن أن تسمى عهد المنفلوطي»؛ لأنه كتب ما كتب في لغة هي في أعلى مراتب البيان العربي. وجورجي زيدان الذي «اضطلع بمهمة كانت تشغل ولا تزال تشغل كتابنا ومؤرخينا وأدباءنا فنهض بها في همة ومثابرة.»

ولكن ماذا يكون رصيد الحركة الفنية عند مطلع ثورة ١٩٥٢م؟ يتساءل الباحث، ويجيب أننا في مختلف ميادين الفنون التعبيرية من مسرح وغناء وموسيقى كنا «بلا حياة فنية» لا بسبب الفنانين وحدهم؛ «فلقد كانت حياتنا العامة كلها ارتجالًا ابتداء من السياسة وانتهاء بالأدب مارًّا بالاقتصاد»، وهو يبحث عن بعض أبناء جيله فلا يجدهم، إما لأنهم تفرقوا هنا وهناك، وإما لأنهم سافروا إلى الخارج وبقوا في منفاهم الاختياري. غير أن المجلات نفسها التي اختفت، في جميعها لا تجد شيئًا ذا قيمة عن المسرح أو الرواية أو التراجم. فالمعارك الأدبية كلها كانت شجارًا مفتعلًا، الصخب المفرقع فيه أكثر من الغضب الصادق «وحينما تقوم هذه المعارك، تقوم كالحرائق التي تشب عن إهمال أو عن غير عمد ثم لا تلبث أن تنطفئ فلا تدري لماذا شبت، ولماذا أطفئت، ثم لا تتبين لها أثرًا بعد اندلاعها والإحاطة بها ثم إخمادها. إنها لا تترك شيئًا نعم لا تترك شيئًا مطلقًا.»

ولكنك قد تسأل — يقول فتحي رضوان — ما الذي جعل الحياة العامة بين الثورتين فاترة، وجعل أهل مصر يعيشون في انبساط ودعة لكأنهم يمرون في عصر السعادة والرخاء؟ ويجيب أن الشعوب لا تشعر بالضيق ولا تمر بالأزمة إلا حينما تعاني كلها محنة تسحقها أو خطرًا يهدد أمنها «وفي الفترة ما بين الثورتين لم يكن في مصر ما يدعو إلى هذا الشعور»؛ لأن الفتور والاسترخاء بل والسبات العميق كان القاسم المشترك الأعظم بين الطبقات الاجتماعية وأهل الفكر وأرباب السلطات جميعًا.

وكانت علامة الاستفهام الأخيرة عند فتحي رضوان حول الجامعة: ماذا فعلت؟ ويجيب بثلاث كلمات قاطعة كحد السيف: «إني أوثر الصمت.»

وفيما لا يزيد عن الصفحتين يُرضي المؤلف ضميره القانوني بقوله: «ومع ذلك كله، لقد تركوا — هؤلاء الرجال — شيئًا له أثره وقيمته.» هذا الأثر وتلك القيمة يحوطهما المؤلف بعشرات التحفظات والشكوك، فهم حقًّا رواد في فروع مختلفة من الثقافة، ولكنهم لم يلتزموا في حياتهم منهجًا ولم يدعوا لمدرسة ولم تتضح لهم فلسفة. ولقد كانت أياديهم على الفكر المصري خليقة أن يعظم أثرها وأن يكتب لها نصيب أكبر من الخلود لو أن نصيبهم من الشجاعة كان أكبر، ولو كان إخلاصهم للفكرة أعمق، ولو كانت نظرتهم إلى الحياة أشمل وأوسع «فقد تركوا جميع القضايا معلقة». ويفسح المؤلف بعد ذلك اثني عشر فصلًا يدلل فيها على صحة ما يقول بتطبيق منهجه على حياة وأعمال أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم المازني وعباس العقاد وسلامة موسى وعلي الغاياتي ومي زيادة ويوسف حلمي ولطفي السيد والدكتور هيكل وأحمد أمين وعبد الحميد الديب.

والحق أن المجهود الذي بذله فتحي رضوان في كتابة — سبعمائة صفحة من القطع الكبير — وطبيعة الموضوع الشاق الذي اختاره ميدانًا لهذه الكتابة، يدفعنا لأن نستقبل هذا العمل الهام بأكثر من شعور. فلا ريب أن المكتبة العربية ترحب بهذا الكتاب ترحيبًا صادقًا؛ لأنه يملأ فراغًا أكيدًا. وقد أسهم المؤلف على قدر طاقته وفي حدود تكوينه في ملء هذا الفراغ. ومن ناحية أخرى لا يحول هذا الترحيب بيننا وبين الاختلاف مع الكتاب ومؤلفه؛ لأن القضية نفسها موضوع البحث تحتمل الخلاف. فقد تناولها الباحث من وجهة نظر معينة ومن خلال تجربة شخصية. ولأن القضية أيضًا بطبيعتها هي قضية تاريخنا الحديث بأكمله أو في معظمه على وجه أدق. وتاريخنا لا يملكه فرد سواء كان مؤرخًا له أو مشاركًا فيه؛ ومن ثم لا بد من الحوار لتكتمل الصورة من أحد جوانبها على الأقل، وهي الجانب الفكري في هذا الكتاب.

ولشد ما يبرز الخلاف مع فتحي رضوان حين يقدم لنا كتابًا ليس في تاريخ الفكر وحده، بل في تاريخ العصر كذلك، ومع هذا لا يشير بحرف واحد إلى دعائم العصر الاجتماعية التي كانت مصدرًا موضوعيًّا حقيقيًّا لفكرة تلك الأيام؛ فلقد تسبب غياب هذه الدعائم فيما أقامه المؤلف من محاكمات لأدبائنا ومفكرينا، تشبه في أكثر الأحوال «محاكمة» كافكا التي لا يدري فيها المتهم ما هي التهمة المنسوبة إليه؛ وذلك لأن الكاتب اختار بمحض إرادته منهجًا ذاتيًّا يعتمد على الإطلاق والتعميم فجاءت «انطباعاته» مجموعة من الأحكام التي تفتقر إلى ما يؤيدها من الحيثيات. ويعتمد هذا المنهج الانطباعي عند فتحي رضوان على ثلاث نقط: الأولى هي المبالغة في تضخيم دور الفكر في حياة المجتمع وتغييره وأسبقية هذا الفكر على طبيعة التكوين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للمجتمع. والنقطة الثانية هي المبالغة في تضخيم دور الفرد عمومًا في صنع تاريخه الاجتماعي وأولوية هذا الفرد على نضال المجتمع كطبقات. والنقطة الثالثة هي أن الباحث قد اختار قضية هو بالضرورة أحد أطرافها؛ فإنه انحاز مقدمًا إلى معيار فكري محدد أقرب إلى أن يكون معيارًا شخصيًّا ليتبنى الموقف السياسي للمؤلف ويبرر به أو يدين مواقف بقية الشخصيات والأحداث التي تناولها بالتحليل.

فلا شك أولًا أن الإطار التاريخي للكتاب وهو يبدأ بثورة ١٩١٩م وينتهي بثورة ١٩٥٢م هو إطار صالح موضوعيًّا لمعالجة قضية متكاملة واضحة هي قضية الفكر المصري الحديث فيما بين الثورتين. وهي مرحلة يمكن لنا أن ندعوها بمرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية حتى نحدد طبيعة الدور الذي لعبه كل مفكر ظهر إبان هذه المرحلة: هل كان دورًا متخلفًا بالنسبة لهذه المرحلة أم أنه كان دورًا متقدمًا؟ ومن ناحية أخرى نستطيع أن نكون أكثر تحديدًا فنقول إنها مرحلة عايشها جيلان أحدهما جيل الثورة الأولى الذي توقف عن العطاء الخلاق عند بداية الحرب الثانية على وجه التقريب والآخر جيل الأربعينيات الذي غرس بكلتا يديه قيم الثورة الثانية. والأرض الاجتماعية لكلا الجيلين هي الطبقة المتوسطة المصرية في مختلف مراحل تطورها وفئاتها المتناقضة.

من هنا يختلف المرء مع فتحي رضوان اختلافًا عميقًا حين يضع أولًا كل كتابنا في طبق واحد لا سبيل إلى التمييز بينهم أفرادًا أو جماعات. وحين يختار ثانيًا بعض الذين يمثلون ظواهر جزئية لا يمكن لها أن تعبر عن عصر كامل مثل علي الغاياتي ومي زيادة وعبد الحميد الديب. وحين يعمد ثالثًا إلى إدانة مرحلة كلها بصورة نفهم معها أننا بلا تاريخ على الإطلاق. إن الاختلاف مع المنهج بشكل عام، يتضح أكثر فأكثر عند التفصيل. فإن شوقي الذي يتهمه المؤلف بأنه مدح أعوان الإنجليز وعملاءهم لم يجد سوى العقاد وهو بعدُ شابٌّ في الثلاثين يجرؤ على النَّيل منه فكريًّا وسياسيًّا وفنيًّا. ولا أعتقد أن الكاتب ينسى الدور الذي لعبه كتاب مثل «الديوان» في وضع شوقي في مكانه المناسب. إنه الكاتب الذي سبق كلمات فتحي رضوان بنصف قرن في وصف شوقي بأنه اللسان الشعري المعبر عن الرجعية العميلة للاستعمار. وهو أيضًا الكتاب الذي أرسى معالم نقد حديث للشعر في مصر. وبعد خمس سنوات أصدر طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» فأثار حفيظة الرجعية للدرجة التي معها سحب الكتاب من الأسواق، وحقق بشأنه مع المؤلف تحقيقًا إداريًّا على أيدي النيابة وتحقيقًا سياسيًّا في البرلمان. وأعتقد أن الكاتب لا ينسى الدور الهام الذي لعبه هذا الكتاب في ميدان الفكر والنقد وجعل «الحرية» قيمة أساسية في «البحث العلمي». وفي هذه الآونة نفسها كان سلامة موسى يوالي اجتهاداته في بذر «الاشتراكية» و«التطور» و«السيكلوجية» وغيرها من أدوات المنهج العلمي والعقلية الحديثة المتطورة. وغير هؤلاء صف طويل يجمع: هيكل وأحمد أمين وإسماعيل مظهر وإبراهيم المصري، أسهموا جميعًا بدرجات متفاوتة وفق مكوناتهم الذاتية والاجتماعية في خلق عصر النهضة الحديثة في بلادنا. وإذا كانت الأغلبية الساحقة من أبناء هذا الجيل قد توقفت حوالي عام ١٩٣٦م فإن الطبيعة الاجتماعية للطبقة المتوسطة التي نشئوا فيها ونموا بين أحضانها هي التي شاركت بصورة رئيسية في جمودهم وعجزهم عن ملاحقة التطور. وعندما يستثني فتحي رضوان كاتبًا مثل سلامة موسى واظب على الدعوة الاشتراكية إلى أواخر حياته فقد كان مطالبًا بدراسة هذه الظاهرة التي لا تحطم القاعدة وإن كانت تبرر الاستثناء. لقد وضع المؤلف بغير شك كلتا يديه على ظاهرة صحيحة هي نكوص جيل الرواد عن متابعة الثورة، ولكنه لم يرجع بهذا النكوص إلى مصادره الاجتماعية في باطن المجتمع المصري لأنه كان يخضع في تقييمه وتحليله لتصور مثالي مغرق في المثالية من شأنه أن يبالغ في دور الفكر والمفكرين، فإذا سقط الفكر كانت الدنيا ظلامًا، وإذا سقط المفكرون فعلى الدنيا العفاء!

وليس هذا صحيحًا؛ فقد كانت مصر المناضلة حبلى بأبناء جيل ثوري جديد من المفكرين الذين حملوا أروع الجوانب المضيئة في حياة الجيل السابق. كان الجيل السابق قد أورث الأجيال الجديدة منهجًا ثوريًّا في النقد جمع بين العلمية والحداثة على نحو من الأنحاء في كتابات العقاد والمازني وشكري وطه حسين. وكان الجيل السابق قد أورث الأجيال الجديدة منهجًا ثوريًّا في تحليل المجتمع جمع بين التفسير الاشتراكي للتاريخ والاتجاه العلمي في الحضارة الحديثة كما نجد في كتابات سلامة موسى. وكان الجيل السابق قد أورث الأجيال الجديدة منهجًا ثوريًّا في الخلق الفني منذ كتب محمد حسين هيكل قصة «زينب» إلى أن كتب توفيق الحكيم «عودة الروح» و«يوميات نائب في الأرياف». وفي المسرح المصري كما نجد عند الحكيم أيضًا في «أهل الكهف» و«شهرزاد» وفي الشعر كما نجد عند عبد الرحمن شكري والمازني. ورث الجيل الجديد هذه الجوانب المضيئة، فكتب أعمالًا لا يستهان بها في حقل النقد على أيدي محمد مندور ولويس عوض اللذين نقلا نظرية النقد من مجال التعميم إلى مجال التخصيص بحكم استعدادهما وثقافتهما وطبيعة المرحلة الجديدة التي تحتاج إلى التخصيص. ونجيب محفوظ الذي ارتفع بعملية الخلق الفني إلى درجة عالية من النضج والعمق. لقد أدى الرواد دورهم «العام» في صياغة «منهج» كانت تحتاج إليه مرحلتهم أكثر مما تحتاج إلى التخصص، وبذلك كانوا أمناء مع أنفسهم وواقعهم معًا، وجاء الجيل الجديد فقدم «الالتزام في الأدب» شكلًا ومضمونًا، وجاء الجيل الجديد من شعراء أبولو فقدموا أروع ما في تراثنا الرومانسي إلى الآن كأشعار الهمشري وعلي طه وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل. وجاء الجيل الجديد من كتاب الرواية والقصة القصيرة فقدم لنا صفًّا طويلًا يبدأ بنجيب محفوظ وعادل كامل وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف الشاروني وغيرهم كثيرون، ممن أصبحوا الآن في حكم «التراث» السابق على ثورة ١٩٥٢م. إننا لو تصورنا أن كل ما نعيش فيه الآن من عناصر المناخ الفني المزدهر، مقطوع الصلة بالماضي القريب لكنا نصنع شيئًا غريبًا حقًّا.

فلست أعتقد مع فتحي رضوان أن الشعب المصري فيما قبل ثورة ١٩٥٢م كان مسترخيًا هادئ البال، وإلا لما ثار عام ١٩٥٢م … بل إن هذا الشعب لم يكفَّ يومًا عن النضال منذ انتكست ثورته عام ١٩١٩م بالرغم من كافة ظروف الإرهاب والبطش التي مارستها السلطات الرجعية أو جيوش الاحتلال. والمؤلف فيما أظن ليس بحاجة الآن لأن أذكر له المواقع والأحداث والتواريخ التي استشهد بها على استمرارية الكفاح للشعب المصري؛ لأنه هو نفسه أحد أبناء هذا الشعب وجنوده الوطنيين، ولأن الفترة التي نتحدث عنها غاية في القرب والوضوح. ولست أعتقد أن هذا الشعب في معاركه اليومية مع التخلف والاستغلال كفَّ يومًا واحدًا عن إنجاب المفكر والأديب والفنان المناضل الذي يعكس ثورة الأجيال فيما يكتبه أو يصوره أو يلحنه أو ينحته أو يغنيه أو يمثله. إن ألحان وأناشيد وأغنيات سيد درويش وكامل الخلعي وداود حسني ستظل تراثًا ثوريًّا لفنوننا. وتماثيل مختار ولوحات كامل يوسف ومحمود سعيد وأحمد صبري وراغب عياد ستظل تراثًا هامًّا يرتبط به ويأخذ عنه ويضيف إليه فن رمسيس يونان وتحية حليم وفؤاد كامل وإنجي أفلاطون ومنير كنعان وغيرهم من أولئك الذين نعيش في دفء إبداعهم إلى الآن. كذلك فإن مجلاتٍ وصحفًا مثل «المستقبل» و«المجلة الجديدة» و«التطور» و«الكاتب» و«الكاتب المصري»، ستظل المنابر الحية لتراثنا القريب. إن المعارك التي يفتقدها الباحث في تلك المرحلة، سوف يجدها بكثرةٍ تذهله. أما داخل الأعمال الفنية والفكرية نفسها حيث يصارع الفنان أو المفكر أفكاره وتكوينه ومجتمعه وقيمه، وأما خارج هذه الأعمال بين جيل الرواد والمجتمع «في الشعر الجاهلي» أو بينه وبين الكلاسيكية «الديوان» أو بينه وبين نفسه «لاتينيون وسكسونيون»، العقاد وطه حسين، جناية أحمد أمين على الأدب العربي، أحمد أمين وزكي مبارك». «في الأدب واللغة والاشتراكية، سلامة موسى والرافعي والعقاد» «في الأدب والسياسة، العقاد وطه حسين ومحمود العالم وعبد العظيم أنيس ولويس عوض وعبد الحميد يونس»، «الشكل والمضمون في الأدب والفن، محمد مندور ومحمد خلف الله» إلى غير ذلك من مئات المعارك التي أخصبت حياتنا حينذاك، وما تزال تخصبها إلى الآن بما أضافته أو عدلته أو حذفته من عناصر في المنهج أو الحياة.

ولو أن المؤلف قد أخذ على عاتقه أن يرى الصورة الشاملة أو الغابة كما يقولون، منذ البداية، لرأى الشجرة في مكانها الصحيح. ولكنه نظر أولًا إلى الشجرة، إلى الفرد، فبالغ في دوره، وحين رآه يسقط بالغ في تقييم سقوطه. وهكذا ظلم الفرد والتاريخ جميعًا ولم يخرج — مع الأسف — إلا بانطباعات تفيد في فهم الكاتب نفسه لا في فهم المكتوب عنهم. ذلك أننا نستشف خيطًا واحدًا مصاحبًا لكل ما كتب، هو إشباع ميوله السياسية كمناضل قديم في الحزب الوطني ومصر الفتاة، سواء حين يمدح أو حين يقدح، هذا الشخص أو ذاك الموقف.

ولا شك أن الجيل الثاني في مرحلة ما بين الثورتين قد أدى واجبه من بداية الأربعينيات إلى بداية ثورة ١٩٥٢م، بل وسار مع الثورة شوطًا طويلًا، ولا ينبغي أن نطلب إليه ما يفوق قدرته على التطور؛ إذ لم يستطع أن يرتفع إلى مستوى المرحلة الجديدة، وهي مرحلة التطور الاشتراكي؛ ذلك أن جيلًا ثالثًا جديدًا قد وُلد فكريًّا وترعرع بين أحضان الثورة يمتلك كافة الإمكانيات التي يصارع بها وينمو ويتطور، ويحقق ما لم تحققه الأجيال السابقة. ولنقل لهذه الأجيال: شكرًا؛ فقد أدت واجبها في حدود الإمكانيات التي أتاحها لها العصر والمجتمع والحضارة في بلد كان إلى وقت قريب، مستعمرًا وشبه إقطاعي.

(٢) الحرية ومشكلتها في البلدان المتخلفة

ما دامت الحرية من المعالم الأساسية لمشكلة البلدان المتخلفة حضاريًّا. فإن هذا الكتاب٢ يعد من بواكير الفكر السياسي العربي في تحليل هذه القضية تحليلًا يتسم بالمبادرة والموضوعية. إلا أنه بالرغم من استشهاده بالكثير من الوقائع العملية التي حدثت أو ما تزال تحدث في بعض الأقطار، فإنه يسلك نهجًا نظريًّا محضًا يعتمد على التعميم دون التخصيص، فلا تصادفنا أية أمثلة تطبيقية تؤيد ما يقول أو تشرحه أو تعارضه، باستثناء مثال الهند الذي جاء به عرضًا وهو يناقش أسباب أزمة الحرية؛ وذلك ليقول بأن الهند نجت إلى حد كبير من هذه الأزمة بضمان من قيادتها الحكيمة أيام غاندي ونهرو. ولكنه تحاشى الحديث تمامًا عن أكثر المناطق حساسية لقضية الحرية — بالنسبة للمؤلف نفسه — وهي المنطقة العربية التي تحتاج أكثر من غيرها إلى تفصيل واستقصاء دقيقين إلى أبعد مدى.

ويفتتح الدكتور الرزاز حديثه حول مفهوم الحرية بقوله: إن الحرية ككلِّ مفهومٍ إنساني مفهوم حي متطور يرتبط بالمجتمع الذي يعيش فيه. فهو ليس شيئًا خارجًا عن المجتمع ولا منفصلًا عنه، وإنما هو علاقة من علاقاته. وكلما تطور المجتمع وتطورت علاقاته تطور مفهوم الحرية فيه وتغير. غير أن الحرية، كما أنها علاقة اجتماعية، هي كذلك قيمة فردية، فلا يكفي أن تمثل الحرية علاقة محددة في المجتمع، وإنما يجب أن يحس بها ويشعر بوجودها ويمتلكها ويسعى في سبيل تحقيقها كل فرد من أفراد المجتمع. كذلك فالحرية، بالإضافة إلى هذا كله، قيمة ومثل أعلى، والإنسان بالنسبة لجميع القيم التي تملأ حياته وتعطيها معنًى، في نضال دائب من أجل تحقيقها. «إن معركة الإنسان في وجوده هي معركة من أجل تحقيق قيمه ومُثله». فمشكلة الحرية قائمة في أنها تبدو وكأنها تناقض نفسها. فالحرية المتاحة للإنسان في مجتمع بدائي حرية خفيفة القيود ولكنها حرية ضيقة المجال أيضًا. لأن إمكانيات الاختيار للإنسان البدائي إمكانيات محدودة، ومجال حياته وآماله محدود. فلئن كانت الحرية تقاس بمدى القيود المفروضة على الإنسان وتصرفه فلعل الإنسان البدائي أن يكون أكثر حرية من الإنسان المتمدن. ولكن حرية الإنسان لا تقاس سلبيًّا بمقدار القيود المفروضة عليه، وإنما تقاس ايجابيًّا بمقدار الأبواب المفتوحة أمامه وبسبل الاختيار المهيأة له، وبقدرته على سلوك هذه السبل بإرادته واختياره.

ثم ينطلق المؤلف في بنائه للبحث عن الحرية قائلًا بأننا «مضطرون منذ البداية لإزالة هذا الوهم لأنه أول ما يخطر على البال حين تطرح كلمة الحرية للبحث والتحديد … فهي أكبر من الوهم القائل بأن الحرية هي التخلص من القيود». ذلك أن القيود التي يعيش في ظلالها الإنسان لا تعد ولا تحصى، فهي ليست القوانين والأنظمة التي تضعها الدولة فحسب، وإنما هي كذلك عاداتنا وتقاليدنا وديننا وذوقنا وتربيتنا وأخلاقنا وثقافتنا.

فإذا كان الفصل الثاني المعنون «الحرية القومية» ناقش الكاتب الفرق الجوهري الحاسم بيننا وبين الغرب حول مفهوم الحرية. فلقد بدأت الحركات القومية الحديثة في أوروبا وبدأت شعوبها تتطلع للوحدة القومية والاستقلال القومي. ولكن التحرر القومي لم يكن منطلق التقدمية في أوروبا، بل كان من نتائجها. لقد بدأت الحركة التقدمية في أوروبا على يد البرجوازية الناشئة المتفتحة على أركان العالم الحديث. وكان الصراع الطبقي — البرجوازي الإقطاعي — هو محور التقدم الذي تم في أوروبا في القرون الأولى من النهضة، ولم يكن التحرر القومي إلا إحدى نتائج هذا الصراع وتثبيتًا للحركة التقدمية التي لم يكن من مصلحتها بقاء الارتباطات الإقطاعية أو الكنسية أو الإمبراطورية القديمة … ولم تكن معارك التحرر القومي لتزيد عن حروب بين دول متجاورة لتثبيت حدودها أو لتغييرها، أو لإضعاف سلطة تقليدية موروثة، أو لتوحيد أجزاء من وطن واحد. كان الصراع الطبقي منطلق التقدم، وكان التحرر القومي نتيجة من نتائجه أما في الشرق فإن وفود الاستعمار الحديث بمجتمعه المتطور، على المجتمع الشرقي التقليدي الغافي، والصراع الذي ولده هذا الالتقاء الطارئ بين مجتمعَين مختلفين أساسيًّا في كل شأن من شئون الحياة، كان هو منطلق التقدم. وهنا تتلخص نظرية المؤلف: «فإذا كان الصراع الطبقي في أوروبا مفتاح كل تطور فيها خلال القرون الأخيرة؛ فالصراع القومي مع الاستعمار كان مفتاح كل تقدم في بلدان الشرق المتخلف.» وهي نظرية «قومية» تنظر إلى تاريخ المجتمع الشرقي أو الغربي من خلال إطار مرحلي، هو الإطار القومي، لا يفسر كافة العناصر المشتركة في صياغة قضية الحرية على نحوها الأقرب إلى الصواب … إلا إذا كان المؤلف يفترض ثباتية الإطار القومي، وهذا ما تؤيده الفصول التالية. ولا شك أن الصراع القومي مع الاستعمار من الفروق الجوهرية الحاسمة بين مسار التاريخ الأوروبي والمسار التاريخي لمعظم بلدان الشرق. إلا أن هذا الصراع الذي كان عاملًا أساسيًّا في توجيه حركة التاريخ، لا ينفي أن الصراع الطبقي كان المحور الاجتماعي الرئيسي الذي تتفرع عنه مختلف التناقضات، بما فيها التناقضات على المستوى القومي؛ وإلا فكيف السبيل إلى تفسير الحلول الاشتراكية التي تبنتها بعض بلدان الشرق؟ ألم تكن هذه الحلول استيعابًا مفصلًا لكافة المشكلات القومية والطائفية والقبلية في الكثير من هذه البلدان؟ ألم تطرح قضية الحرية نفسها بمزيد من العمق بعد مرحلة الاستقلال القومي لكثير من هذه الأقطار؟

يجيب المؤلف بتشخيص سريع لأحوال الشرق عند التقائه العنيف بالاستعمار الغربي … فقد كان مستكينًا في أحضان غفلة طويلة، ثم واجهته «الصدمة» فواجهها بالتحدي والمقاومة، ثم أخذت مجتمعات هذه المنطقة من العالم في التحول من المجتمع التقليدي المتجمد إلى المجتمع النضالي الديناميكي. إلى أن ولدت المرحلة الحديثة من النضال القومي؛ تلك المرحلة التي تميزت بالدعوة القومية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بدعوة الحرية ودعوة الاشتراكية، «والتي أصبحت الصفة الغالبة الآن على كل الحركات الشعبية التقدمية في كل أقطار آسيا وأفريقيا». وأيضًا «من أجل ذلك كان للحرية القومية في الشرق المتخلف قيمة لم تكن لحركات الحرية القومية في أوروبا. ومن أجل ذلك كانت الحرية القومية في الشرق جماع كل الحريات الأخرى ومنطلقها.»

هذه هي النتائج الأولى لنظرية المؤلف في الحرية ومشكلاتها في البلدان المتخلفة، وهي نتائج ضبابية بعيدة عن تلمس الواقع عن قرب هائمة في عالم المعادلات الذهنية الحبيبة إلى المنطق الشكلي، فنحن لا ندري ما إذا كانت نتائج هذه النظرية مستقاة من واقع الصين أم اليابان أم اليمن، وهل ثمة وشائج أيديولوجية أو واقعية تربط بين هذه كلها … أم أن كلمة الشرق في ذهن المؤلف لم تتجسد إلا في نطاق الشرق العربي؟ فالمؤلف يعترف بالتعميم كعماد للبحث النظري والتطبيقي معًا؛ فقد أشار قبل ذلك إلى أنه في المنطقة الممتدة من أندونيسيا إلى أقصى الشرق إلى فيتنام إلى بورما فباكستان فسيلان إلى معظم الأقطار العربية، ثم إلى غانا وغينيا وأنتوغو والداهومي، امتدت الانقلابات واحدًا بعد الآخر بصورة أو بأخرى لتطيح بالنظام البرلماني، ولتطيح بالحريات السياسية العامة ولتقيم محلها أنظمة عسكرية مكشوفة أو أنظمة مدنية تخفي جهازًا عسكريًّا حاكمًا، وتستمد سلطتها في الواقع من القوى المسلحة التي تعتمد عليها. فإذا أضفنا إلى هذه المجموعة بعض الدول التي لم يطأ أرضها الاستعمار أو تلك التي مر عليها مرورًا خفيفًا، كالحبشة وإيران وسيام، وأضفنا مجموعة الدول التي جنحت نحو الدكتاتورية خوفًا من الانقلابات والثورات، كانت الحصيلة أزمة عامة في الحرية تصيب كل الأقطار بآسيا وأفريقيا تقريبًا.

وينتهي المؤلف من هذا العرض لنظريته في الحرية إلى شيء قريب مما تقوله الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا، مع الاعتراف بأن هذه الأحزاب قد وقعت فريسة في يدي اليمين الأوروبي والاستعمار منذ زمن بعيد. فهو ينادي بالتوجيه الاقتصادي والتخطيط الاجتماعي والحياد السياسي؛ وذلك بأن تنشأ وتتدعم مؤسسات سياسية تستمد سلطانها المباشر من القوى الشعبية المنظمة، الرقيبة على خطوات الدولة الاشتراكية. الحل الوحيد إذن، للتناقض الذي يراه المؤلف قائمًا بين الحرية والاشتراكية: أن تصبح كلتاهما وجهين لعملة واحدة هي الديمقراطية الموجهة.

(٣) دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي

لا شك في أن موضوع هذا الكتاب٣ من أهم الموضوعات الحية المعاصرة، التي تطرحها مرحلتنا التاريخية الراهنة بشيء كبير من الأصالة. ذلك أن العلاقة القائمة بيننا وبين الغرب في الوقت الحاضر، في مختلف وجوهها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، ليست إلا نتاجًا لقرون طويلة من التفاعلات الحضارية التي تمت بيننا وبين أوروبا على مدى الزمن.

فالمثقف العربي المعاصر يشعر ولا ريب بأن العلاقة التي تربطه بأوروبا الآن، ليست علاقة طارئة، إنما هي علاقة لها جذورها العميقة الغائرة في الوجدان العربي. ولربما كان الوجه الثقافي لعلاقتنا بأوروبا هو أكثر الوجوه حساسية، إذ يؤدي في كثير من الأحيان إلى ما يشبه مركب النقص أو العقدة النفسية التي يسمونها بعقدة الخواجة، وهي ليست في واقع الأمر إلا بمثابة رد الفعل الذي يصدر في عفوية كاملة عن الإنسان الذي يعيش في ظل حضارة متخلفة نسبيًّا إزاء الحضارات المتقدمة.

من هنا نبعت الحاجة لدى المفكرين العرب والمثقفين في بلادنا، إلى إيضاح طبيعة العلاقة التي تكونت على مر الأيام بين الوجدان العربي والحضارة الأوروبية. إذ إن تحليل شكل هذه العلاقة ومضمونها، من شأنه أن يؤدي إلى فهم جديد لدورنا في الماضي والحاضر والمستقبل؛ وبالتالي فإنه يؤدي إلى تلاشي كافة مركبات النقص وإفناء العقد النفسية … فنحن إذا تقصينا بدقة وعمق ذلك المنهج القائل بأن الحضارات المختلفة تتفاعل فيما بينها بصورة لا تمنح الفرصة لأي منها أن تتميز عن غيرها. ما دامت هذه الحضارة أو تلك تأخذ كما تعطي، فإن هذا المنهج نفسه لن يعطي لأي إنسان يستظل بأية حضارة كانت ما يصيبه بالغرور أو الإحساس بالنقص.

لهذه الأسباب يأتي كتاب الدكتور بدوي في موعده تمامًا، ليزيح الستار عن الدور الباهر الذي قامت به الفلسفة الإسلامية والعلم والأدب العربيان في تكوين الفكر الأوروبي إبان تلك المرحلة التي يدعوها الأكاديميون بالقرون الوسيطة ويدعوها المخطئون بالعصور المظلمة.

والكتاب مقسم إلى استهلال من ثماني نقاط: هي أثر الأدب والعلم والتصوف والفلسفة والمعارف العلمية والموسيقى والمعمار في تكوين الفكر الأوروبي، ثم المصادر الإسلامية «للكوميديا الإلهية»؛ فابن خلدون ونظرية العمل والقيمة. وبعد الاستهلال نقرأ تحت عنوان «العرب والتراث اليوناني» عن العلاقة بين ابن خلدون وأرسطو، والكندي ومعرفته اليونانية، موفق الدين البغدادي ودوره في إحياء التراث اليوناني، واكتشاف العرب لغيوم ماجلان.

والكتاب يبدو لأول وهلة وكأنه دراسة ببليوجرافية تلتزم التحقيق العلمي الإحصائي بالأرقام والنصوص، ولا يعنيها التحليل الشارح للأرقام والنصوص. إلا أن القراءة المستأنية للكتاب تؤكد وجهة نظر المؤلف من خلال المنهج الأكاديمي الذي اختاره عمادًا لبحثه. ولعل هذا المنهج هو الإضافة الحقيقية التي يثري بها عبد الرحمن بدوي المكتبة العربية في هذا الباب … فقد عالج الكثيرون نفس الموضوع، ولكن بكثير جدًّا من المغالاة العاطفية. فعندما يتحدث الكاتب عن أثر الأدب العربي في تكوين الشعر الأوروبي، يعتمد على مصادر تاريخ الفكر الأندلسي في اللغة الإسبانية حتى يتعرف على نظام تأليف القوافي في الموشح، كما يتعرف على نظام توزيع الأوزان وطريقة استخدام اللغة العامية في الزجل … ولم يقتصر تأثير العرب على الشعر الأوروبي على الشكل الموسيقي وإنما تجاوز هذا النطاق الهام إلى ما هو أكثر أهمية … إلى المضمون الروحي والعاطفي للشعر، كفكرة الحب النبيل التي تسود الغزل في الشعر البروفنسالي، وقد عرضها ابن حزم في «طوق الحمامة» والظاهري في «الزهرة» وشعر ابن زيدون. وينتقل المؤلف بعد استعراضه للتأثيرات الشعرية إلى القصة الأوروبية التي يراها قد تأثرت «بكليلة ودمنة» و«ألف ليلة وليلة».

أما دور العرب في تكوين الفكر العلمي الأوروبي فيبرز في الرياضيات؛ لأن العرب كان لهم الفضل الأكبر في إدخال النظام العشري في العدد بصورته الحالية. وقد دخلت الرياضيات العربية أوروبا على يد ليوناردو دي بيزا في القرن الثالث عشر. ومن أشهر الرياضيين العرب الذين عرفتهم أوروبا وترجمت مؤلفاته إلى اللاتينية الخوارزمي وبنو مرسي بن شاكر الفوغاني وفي الكيمياء والطبيعة نجد ابن الهيثم والرازي والزهراوي.

فإذا وصلنا إلى دور التصوف الإسلامي في نشأة الفكر الأوروبي تتبعنا مع المؤلف الدراسات الممتازة التي قام بها المستشرق الإسباني العظيم أسبن بلاثيوس وأيدتها النصوص الجديدة التي تتكشف باستمرار … ويقتصر الكاتب في هذا الفصل على تأثير ابن عباد الرندي في الصوفي الإسباني يوحنا الصليب ثم تأثير الغزالي في دفاع باسكال عن الدين ثم تأثير ابن عربي في تصورات صاحب الكوميديا الإلهية عن الآخرة. أما نقطة الالتقاء بين أبي عباد ويوحنا الصليب فهي فكرة «البسط والقبض» وكان الجنيدي الصوفي الكبير يقول: «الخوف يقبضني والرجاء يبسطني.» ويقول ابن عباد: «إن البسط والقبض من الحالات التي يتلون بها العارفون، وهي بمنزلة الخوف والرجاء للمريدين المبتدئين، وسببهما الواردات التي ترد على باطن العبد. وقوتهما وضعفهما بحسب قوة الواردات وضعفها.» على أن القبض والبسط وصفان ناقصان بالنسبة إلى ما فوقهما. وابن عباد يفضل أنواع المجاهدات التي يجب على السالك أن يمر بها. وهذا التفصيل نجده بعينه عند القديس يوحنا الصليب. كذلك يتفق الاصطلاح الفني عند ابن عباد وعند يوحنا الصليب ولا سبيل إلى تفسير التشابه الدقيق بين مذهب ولغة ابن عباد ولغة يوحنا (وابن عباد يسبق يوحنا بمائتي سنة) إلا أن هذا الأخير قد تأثر بالصوفي العربي الكبير بواسطة الطريقة الشاذلية التي كانت منتشرة في الأندلس في القرنين الرابع عشر والخامس عشر.

وعن طريق العرب عرفت أوروبا في القرنين الثاني عشر والثالث عشر مؤلفات أرسطو وقطعًا من فلسفة أفلوطين ومعالم من فلسفة أفلاطون. وأعمق من هذا أثرًا بكثير، أثر الفلاسفة العرب أنفسهم في أوروبا حين ترجمت بعض مؤلفاتهم إلى اللاتينية وبعض اللغات الأوروبية الحديثة الناشئة.

وهكذا نتابع الدكتور بدوي في تفصيله للعلاقة بين تأثير الفكر العربي في الحضارة الأوروبية وبين استجابات هذه الحضارة وتطورها. فنضع أيدينا على الدور الذي قمنا به فيما مضى، والدور الذي نستطيع أن نقوم به في الحاضر، فلا نصاب بالغرور العقيم بما ورثناه من مجد عظيم، ولا نصاب بمركبات النقص إزاء تخلفنا العابر الموقوت.

وهذه هي القيمة الثانية لكتاب عبد الرحمن بدوي؛ فهو مصل مزدوج ضد المبالغة في قوتنا وضعفنا على السواء: ذلك أنه مصل عقلي يعتمد على المنطق الإحصائي الدقيق. وربما كان الجانب السلبي الوحيد ما أشار إليه المؤلف في مقدمته حين وصف كتابه بأنه دراسة إجمالية، فنحن ما نزال في أمسِّ الحاجة إلى الدراسة المطولة — خاصة إذا كانت في هذا المستوى العلمي الرفيع الذي يكتب به أمثال الدكتور عبد الرحمن بدوي.

(٤) جرمانوس والأدب العربي

لعل المستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس هو أول أجنبي يتمثل الثقافة العربية بوعي وحب عميقين، لا يثيران الدهشة، وإنما يطرحان سؤالًا مهمًّا هو: إلى أي مدى يمكن للفكر الإنساني أن يعشق أدبًا وفنًّا وثقافة، نبتت من أرض غريبة عن قلبه وعقله وفكره؟

ولو تتبعنا الأستاذ جرمانوس منذ ولد عام ١٨٨٤م في بودابست إلى أن عين أستاذًا للدراسات الشرقية في أكاديميتها، لعثرنا على إجابة السؤال فيما علم في تلك المؤسسة العلمية من تاريخ الفكر الإسلامي واللغتين: العربية والتركية.

وبنظرة سريعة إلى مؤلفاته، نتعرف إلى كتابه البكر «الحركات الحديثة في الإسلام» الذي نشره في الهند عندما دُعي من قبل شاعرها الأكبر رابندرانات طاغور ليلقي محاضراته في جامعات دلهي ولاهور وحيدر آباد في عامَي ١٩٢٩ و١٩٣٢م.

وتلك كانت فاتحة عهده بالفكر العربي؛ إذ إن دراساته الإسلامية والشرقية، كانت المفتاح الذي ولج به الأبواب الواسعة للعالم العربي. فقد زار القاهرة بعد عودته من الهند، وتلقى دراسة دينية شاملة في الجامعة الأزهرية، ثم قصد مكة حاجًّا، وكتب عن حجته كتابًا سماه «الله أكبر» في عدة لغات.

وما لبث الرجل أن انكب على دراسة الآداب العربية بمثابرة وصبر؛ إذ راح يدرس الوثائق القديمة في أروقة التاريخ بين القاهرة والمملكة العربية السعودية فما أشرف ربيع سنة ١٩٤١م حتى أصدر مجلديه «شوامخ الأدب العربي» و«دراسات في التركيبات اللغوية العربية». وبعد ذلك آثر جرمانوس الاعتكاف في صرح العروبة الكبير.

وفي كتاب جديد للمستشرق العظيم دعاه «بين فكرين» يذكرنا بكلمات رانكة المؤرخ الألماني: «إن الثقافة الإنسانية تعتمد على لغتين كلاسيكيتين هما اللاتينية والعربية.» وبينما اشتقت اللغات الغربية من اللاتينية، فقد نفثت اللغة العربية في الشرق روحًا فنية. ولا يمكن فهم المصنفات الأدبية الفارسية أو التركية، بدون العودة إلى الكلمات العربية، وخاصة أن وحي القرآن الكريم الذي لا يجارى، يعد بلا مراء أساس العقيدة الإنسانية والثقافة البشرية.» وعلى هذا الضوء الباهر رأى جرمانوس الأدب العربي القديم تعبيرًا صادقًا عن عظمة أسلافنا. ولم تأخذ مصر — في رأيه — بأسلوب الأدب العربي القديم، إلا أنها كانت آخذة بالأسلوب الاجتماعي، للمجتمع العربي القديم. وحين بدت دلائل التطور تنضج على جبين مصر، كان أدباؤها يستوحون مادتهم من نماذج الغرب في بذخ وإفراط، كرد فعل طبيعي لمرحلة التقليد العربي … ولكن جرمانوس — الرجل الذي تعنيه التفاصيل الدقيقة — لا ينسى ذلك الفريق من الأدباء المصريين الذين اتخذوا موقفًا معتدلًا. فهو يذكر صديقه المنفلوطي الذي خدم الآداب العربية بتقديمه طرازًا أوروبيًّا في قصصه، رغم أنه كثيرًا ما حذر من تقاليد الغرب حيث قال في نظراته: «إن دعوناهم إلى الحضارة فلنضرب لهم مثلًا بحضارة بغداد وقرطبة وطيبة وفينيقية، لا بباريس وروما ونيويورك. وإن دعوناهم إلى مكرمة فلنلقِ عليهم آيات الكتب المنزلة وأقوال أنبياء الشرق وكلماتهم، لا آيات روسو وبيكون ونيوتن وسبنسر، وإن دعوناهم إلى حرب ففي تاريخ خالد بن الوليد وسعد بن أبي وقاص وموسى بن نصير وصلاح الدين الأيوبي ما يغنينا عن تاريخ نابليون ونلسون ووالنجتون.»

والبداية الحقيقية للنقد العربي حين أرسى قواعد النهضة الثقافية العربية الحديثة — كما يرى جرمانوس — تزدهر ورودها في كتاب الدكتور هيكل «ثورة الأدب» فقد كان هذا المؤلَّف ثورة على المعايير الخاطئة التي قسنا بها أمورنا زمنًا. فلا يعني هيكل من أي منبع نستقي قوانا الروحية والفكرية، وإنما الذي يستوعب اهتمامه كاملًا هو الواقع الذي نعيشه؛ إذ رأى أستاذنا الراحل أن الواقع الحي هو الأرض الأم لكافة قوانا الإبداعية.

ويتحدث جرمانوس عن الدكتور طه حسين كناقد، مجدد فيقول: «إن الفضيلة الأولى لهذا الرجل هي أنه دعا إلى إمعان النظر في أهمية الأدب اليوناني القديم. فبينما كان العرب أكثر من ينهل تراث الإغريق نجد اليوم الحضارات الشرقية جميعها أهملت هذا التراث، في الوقت الذي يتجه فيه الغرب نحو هذه الحضارة القديمة بنهم ظامئ إلى المعرفة.» ومن هنا يشيد المستشرق المجري بكتاب «الأخلاق» لأرسطو الذي قام بترجمته أحمد لطفي السيد، وكتاب طه حسين «في الأدب اليوناني». ويعود مرة أخرى إلى الدكتور هيكل ليؤكد أن قصته «زينب» بداية الطريق الرومانسي في حياة أدبنا المعاصر. أما تيمور فكان أكثر الأدباء العرب تأثرًا بالأدب الفرنسي؛ ولذا اتصفت قصصه بحيويتها الشعبية في التعبير. فإذا جاء دور توفيق الحكيم قال جرمانوس إن القفزة الرائعة التي خطاها لا تكمن في لغته الشعرية البسيطة أو حواره الممتاز الدقيق، وإنما ينطوي إنتاج الحكم على ظاهرة هامة في رأيه، هي إبداع القالب المصري للموضوعات المصرية، رغم تأثره العميق بالأشكال الفنية في آداب الغرب. ويستنتج جرمانوس من هذه الظاهرة أن المعاناة الروحية والتمثل الواعي هما الطريق الوحيد لكل إنتاج جيد. فلا يعيب الأديب العربي أن ينهل من الثقافة الغربية، بل — على العكس — أن يتوفر على تمثل هذه الثقافة ومعاناتها، فتظهر أصالته الخالقة في إبداعه الخاص حين لا نلحظ أثرًا متكلفًا أو مفتعلًا لثقافة أجنبية. وممن تأثروا بثقافات الغرب عبد القادر المازني، ويكتفي المستشرق بأن يصف إنتاجه في الأدب والنقد بأنه طراز عالٍ من الخلق الفني. ويعقد المستشرق المجري مقارنة سريعة بين العقاد وسلامة موسى فيقول إنهما يتماثلان في ميلهما الغزير إلى الكتب العلمية الأجنبية، ولكنهما يفترقان في نظرتهما للحياة؛ فالعقاد يطلب من النقاد حججًا منطقية، ويرفض أذواقهم الشخصية الفردية في أحكامهم على الأعمال الأدبية. وسلامة موسى — يقول جرمانوس — واحد من علماء الاجتماع، وهو مثقف متبحر في الأدب والفن الأوروبيَّين، رغم أنه يميل بغير وعي إلى المذهب الرومانسي الذي يسلك المسلك القائل بأن الجنس البشري يمكن أن يصل إلى السعادة بواسطة العقل والفكر.

ويتحدث عبد الكريم جرمانوس عن القصة في الأدب العربي الحديث، فيذكر إبراهيم المصري ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود البدوي، على أنهم رواد القصة الحديثة الذين يحاولون — كلٌّ على قدر استعداده — الوصول إلى الطريق الواقعي في الأدب والفن. يقول جرمانوس في تواضع «وقد أقنعتني معرفتي المحدودة للأدب العربي المعاصر، بأن المؤلفين لو تابعوا كتاباتهم من ذوات أنفسهم وبكل إخلاص فإن عصرًا ذهبيًّا جديدًا لا بد أن يشرق على الأدب العربي.»

ولا شك أن الفرصة لم تُتح من قبل لأحد المستشرقين، كما أتيحت للمستشرق المجري عبد الكريم جرمانوس، لدراسة الإسلام والأدب العربي؛ ذلك أنه أكب على هذا اللون من الدراسة في وقت مبكر، وأنه اكتشف العلاقة القديمة بين المجر والإسلام، فكان هذا الاكتشاف حافزًا هامًّا لاجتهاداته المتوالية في خدمة هدفه الكبير.

ويعد كتاب «دراسات في التركيبات اللغوية العربية» من أعظم ما كتب في تاريخ الضاد وفلسفتها؛ فقد نحا في بحثه الضخم حسب منهج علمي أطاح بواسطته بكثير من الأخطاء الشائعة حول اللغة العربية.

ويرى جرمانوس في الإسلام سندًا هامًّا للغة العربية أبقى على روعتها وخلودها فلم تنل منها الأجيال المتعاقبة والعصور المتباينة واللهجات المختلفة … على نقيض ما حدث للغات القديمة المماثلة كاللاتينية، حيث انزوت تمامًا بين جدران المعابد، وكادت تنقرض. يقول عبد الكريم: «كان للإسلام قوة تحويل جارفة، أثرت في الشعوب التي اعتنقته حديثًا. وكان لأسلوب القرآن الكريم أثر عميق في خيال هذه الشعوب، فاقتبست آلافًا من الكلمات العربية … ازدانت بها لغاتها الأصلية فازدادت قوة ونماء.» ومن هذه اللغات التي تأثرت بالعربية على هذا النحو من التأثر: الفارسية والتركية. والعنصر الثاني الذي أسهم — بنصيب ملحوظ — في الإبقاء على اللغة العربية هو مرونتها التي لا تبارى كما يقول جرمانوس. فالألماني المعاصر مثلًا لا يستطيع فهم كلمة واحدة من اللهجة التي كان يتحدث بها أجداده منذ ألف سنة. بينما العرب المحدثون يستطيعون فهم آداب لغتهم التي كُتبت في الجاهلية قبل الإسلام!

فهل معنى ذلك أن لغتنا لم تتطور؟ يجيب المستشرق عبد الكريم جرمانوس: إن العكس هو الصحيح؛ فلولا تطور اللغة العربية الدائب لما استطاعت الأجيال القادمة أن تعي لغة أجدادهم. والمرونة التي تنطوي عليها الضاد لم تنشأ هكذا جزافًا، وإنما هي نتيجة حتمية لطبيعة اللغة العربية حيث إن ما تتميز به من موسيقية واضحة، وقابلية للتزاوج مع اللغات الأجنبية … جعل منها لغة حية مرنة متطورة.

ويؤكد جرمانوس أن للغة العربية صورتين منذ أقدم العصور؛ لغة التحدث ولغة الكتابة. ويقول: «لقد تأثرت كل منهما بالأخرى فتقاربتا حينًا وتباعدتا حينًا آخر، وحاول النحاة بالعصر العباسي إنقاذ اللغة العربية، وقد بز علماء فقه اللغة العرب زملاءهم العلماء من الغربيين ذكاءً وبراعة. وأصبح من البديهيات أن مفكري الإسلام كانوا أساتذة الأوروبيين في القرون الوسطى، في مبادئ العلوم والطب والفلسفة، لكن اتساع أفق علماء اللغة العرب لم ينوه إليه كثيرًا، رغم أنهم اكتشفوا منذ ألف سنة قواعد كان يجهلها الغربيون.» ويضرب على ذلك مثلًا بالجاحظ؛ فقد كشف في كتابه «البيان والتبين» الأسباب الفزيولوجية للتغيرات السريعة في الأصوات؛ إذ لاحظ أن النطق خاضع لتكوين الفم والحنجرة وضبطهما؛ ونتيجة ذلك أن الكلمة الواحدة تنطق بطريقة مختلفة حسب اختلاف الشعوب. كما لاحظ أن ثمة عيوبًا طبيعية في حواس الكلام، من شأنها أن تؤثر في النطق، وأن اختلاف الأحوال الجوية يؤدي إلى اختلاف في الكلمات.

وقد أورد الجاحظ على سبيل المثال قصة طريفة عن واصل بن عطاء مؤسس حركة المعتزلة. كان هذا العلامة الكبير لا يستطيع نطق حرف الراء؛ لذلك كان يقوم بإبدالها بمرادفات خالية منها كأن يقول: «ملحد» بدلًا من «كافر» و«الحنطة» بدلًا من «البر» وهكذا. كما نُسب تفخيم الحروف كالقاف والصاد واللام إلى تشويه في الفم أو فساد اللثة، والأجانب ينطقون الأصوات بلكنة يتوارثها أحفادهم، عدا ما يضيفونه إلى اللغة العربية من الكلمات الدخيلة. ويعلق جرمانوس على ملاحظات الجاحظ قائلًا: «هذه الاستنتاجات تدل على قوة ملاحظة جديرة بالإعجاب. ولست بحاجة إلى الإشادة بمؤلفات الأصمعي وسيبويه والسجستاني وغيرهم، للتدليل على أن العلماء العرب قد سبقوا الغرب في هذا المضمار.»

وعبد الكريم جرمانوس لا يميل لتفسير ثنائية اللغة العربية إلى القول بأن المجتمع الطبقي هو الذي تسبب في هذه الازدواجية؛ لأن طبقات المجتمع العربي على اختلافها تتحدث باللغة الدارجة وتكتب الفصحى. وليس ثمة فرق بين لسانَي الطبقتين إلا في مفردات قليلة يقتضيها المستوى الثقافي والاجتماعي، وهنا يرى المستشرق جرمانوس سببًا آخر خلف هذه الظاهرة فيقول:

«إن هذه الظاهرة مرتبطة في رأيي ارتباطًا ذاتيًّا بالطبيعتين الثلاثية والجبرية لأسرة اللغات السامية عامة وفي اللغة العربية خاصة، قد أدى ذلك إلى المحافظة على الثروة اللغوية وعلى مميزاتها القديمة. فاتسع نطاقها أكثر من اللهجات الأخرى الشقيقة، فضلًا عن أن الاشتقاق الجبري فرض على اللغات السامية واللغة العربية خاصة، صلابة، حالت دون تغييرها وفسادها، وكما أن ٢×٢ في العلوم الرياضية تساوي ٤، كذلك الأشكال الصلبة للغة العربية لا تحتمل أي تغيير جوهري، دون أن يتطرق إليها الفساد. وفي رأيي أن هذه الطبيعة الذاتية التي قد طبعت عليها اللغة العربية، جعلتها في مركز الانفراد والتباين وسط اللغات الأوروبية.»

ودليل جرمانوس على هذا الرأي هو أن الكتب والصحف في جميع أنحاء العالم العربي، ما زالت حتى يومنا هذا محافظة على قواعد النحو الصلبة التي أقرها القرآن الكريم منذ نحو ألف وأربعمائة عام، أما اللهجات الشعبية فقد بسطت قواعد النحو، وأضافت تعبيرات إقليمية عذبة إلى مفرداتها. وقد أخذت اللغة الفصحي تقتبس — دون أن تشعر — عناصر من اللغة العامية. فازدادت مفرداتها، غير أن الفارق الأساسي ظل قائمًا بينهما. ولا ريب أن الألفاظ الجديدة التي يقرها المجمع اللغوي كل يوم تثبت صدق ما ارتآه جرمانوس.

ويرى المستشرق المجري أن المحافظة على اللغة العربية من صميم الدعوة القومية المعاصرة في البلاد العربية؛ فهي أداة الربط التاريخي بين الشعوب في هذه المنطقة. ولا شك أن التقدم العلمي الحديث، سيكون له أكبر الأثر في تنمية هذه الأداة وتطويرها. فالسينما والراديو وأجهزة الفنون الأخرى من صحافة وطباعة وغيرها، ستعمل بدورها جاهدة على تأكيد هذا الترابط اللغوي.

وينتقد جرمانوس الدعوة إلى كتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، فيعجب من الداعين إليها كيف واتتهم الجرأة على بناء حاجز بين الأجيال القادمة والتراث العربي الخالد ويقول: «إن العربية الفصحى لغة سامية، تمتاز بثلاثية الحروف الصوتية وبكثرة الحروف الساكنة، وبأصالة الحروف المتحركة. وتطبيق قواعد النحو على الكتابة العربية يرجع عهده إلى القرن الثامن الميلادي. وقد روجعت تلك القواعد بدقة وعناية مع مراعاة طبيعة اللغة العربية، فأصبح من المتعذر تعديلها أو تبديلها. ففي خلال أربعة عشر قرنًا أخذ الكتاب والقراء في الأقطار الكائنة بين ضفاف الهندوس شرقًا إلى شواطئ المحيط الأطلسي غربًا، يتطلعون بأبصارهم إلى ذلك الأدب الخاضع لتلك القواعد النحوية والإملائية الدقيقة. نعم. إن هذه القواعد يجب أن تُدرس وتُراعى.»

وبعد … فهذه نظرة سريعة على مجهودات هذا المستشرق الكبير وكفاحه في خدمة الأدب العربي واللغة العربية. وأعتقد أننا نحن أبناء هذه اللغة سوف نفيد كثيرًا من هذه المجهودات وصاحبها المفكر والإنسان الكبير.

١  صدر عن مكتبة الأنجلو بالقاهرة ١٩٦٧م.
٢  للدكتور منيف الرزاز، صدر عن دار العلم للملايين بيروت، ١٩٦٥م.
٣  للدكتور عبد الرحمن بدوي، صدر عن دار الآداب البيروتية، ١٩٦٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤