نص الرحلة

(١) القسم الأول: فرنسا

قضينا صيف هذا العام في أوروبا بين فرنسا وإنكلترا وسويسرا وتنقلنا في أهم مدائنها، فزرنا مرسيليا وليون وباريس ولندن وكامبردج ومنشستر وأوكسفورد وجنيف ولوزان وإيفيان. ودرسنا أحوالها وتفقَّدنا متاحفها ومكاتبها وآثارها. وتوخينا النظر على الخصوص فيما يهم قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل ونحن نتخبط في اختيار ما يلائم أحوالنا منها. وسننشر فيما يلي خلاصة ما بلغ إليه الإمكان من ذلك الدرس.

ونقتصر من ذلك على ما يهم القارئ الشرقي من حيث حاجته إلى تحدي مدنية أولئك القوم في نهضته هذه. ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا.

وسنُغفِل سياق الرحلة، فلا نذكر رحيلنا أو نزولنا وما لاقيناه أو كابدناه في أثناء ذلك على ما جرت به عادة أهل الرحلة؛ إذ ليس غرضنا أن يكون ما نكتبه دليلًا للراحلين في السفر والنزول، ومعرفة الطرق والمسافات والأجور، وإنما نريد أن نمثل للقارئ ما طُبع في ذهننا أثناء هذه الرحلة بعد إعمال الفكرة في أحوال تلك الأمم؛ ولذلك نقسِّم الكلام إلى ثلاثة أقسام باعتبار الممالك التي زرناها على ترتيب تلك الزيارة، فنبدأ بفرنسا فإنكلترا فسويسرا.

(١-١) نظام حكومتها

تقلب نظام الحكومة الفرنساوية على أوجه شتى، واستقر في ٤ سبتمبر سنة ١٨٧٠ على الجمهورية. وتثبت ذلك في ١٦ يوليو سنة ١٨٧٥ بقانون دستوري تعدل بعض التعديل بعد ذلك. وهو يقضي أن ترجع قوة التشريع إلى مجلس الأمة، ومجلس الشيوخ، وقوة التنفيذ إلى رئيس الجمهورية والوزارة.

وهم ينتخبون رئيس الجمهورية كل سبع سنوات بأغلبية الأصوات، ولانتخابه يجتمع المجلسان المذكوران في الجمعية العمومية، وعليه تنفيذ ما يقررانه أو يشرعانه. وهو يشكل الوزارة من المجلسين، ويجوز أن يكون بعض الوزراء من غير أعضائها. وهو يعين الموظفين الملكيين والعسكريين، ويعقد المعاهدات مع الدول الأخرى، لكنه لا يقدر أن يعقد معاهدة تتعلق بمساحة أرض فرنسا أو مستعمراتها إلا بمصادقة القوة التشريعية. ولا يجوز له أن يعلن حربًا إلا بموافقة المجلسين. وكل عمل من أعمال الوزارة يجب أن يمضيه رئيس الجمهورية مع أحد الوزراء. ويستطيع هذا الرئيس بالاتفاق مع مجلس الشيوخ أن يحل مجلس النواب.

والوزارات والنظارات ١٣ نظارة هي: الداخلية، والمالية، والأشغال العمومية، والحربية، والبحرية، والحقانية، والمستعمرات، والمعارف العمومية، والخارجية، والتجارة، والزراعة، والعمال، والأديان.

وينتخب النواب لأربع سنوات بالتصويت العام. وكل فرنساوي من غير الجند بلغ الحادية والعشرين من عمره له حق التصويت في الانتخاب بشرط أن يثبت إقامته ستة أشهر في البلد الذي يريد أن يصوت لنائبه، أما النائب فيجب أن يكون سنه ٢٥ سنة على الأقل. وعدد النواب الآن ٥٨٤ نائبًا، وعدد المنتخبين بين عشرة ملايين وسبعة ملايين. ومجلس الشيوخ مؤلف من ٣٠٠ عضو يُنتخبون لتسع سنوات من أعيان الفرنساويين، ولا يكون سن أحدهم أقل من ٤٠ سنة. يتقاعد ثلثهم كل ثلاث سنين، ويُنتخب غيرهم. وانتخاب الشيوخ منوط بلجنة مؤلفة من مندوبين عن مجالس البلدية في الولايات على نسبة عدد سكانها، ومن النواب، فينتخبون ٥٢٢ شيخًا ينوبون عن الولايات، يُضاف إليهم ٧٥ شيخًا يُنتخبون لطول الحياة بإجماع المجلسين. ولا يجوز انتخاب أحد من أعضاء الأسرة الملكية «المخلوعة» في أحد المجلسين.

الراتب واحد للنواب والشيوخ، فيستولي النائب أو الشيخ على ١٥٠٠٠ فرنك في السنة (نحو ٦٠٠ جنيه)، وأما رئيس المجلس فيأخذ فوق ذلك ٧٢٠٠٠ فرنك نحو (٢٨٤٠ جنيهًا) للنفقات. ويسافر أعضاء المجلسين في السكك الحديدية بنفقات زهيدة. وراتب رئيس الجمهورية ٦٠٠٠٠٠ فرنك أو نحو ٢٤٠٠٠ جنيه. ونحو هذا المبلغ للنفقات الرسمية.

وعندهم مجلس للشورى أنشأه نابليون الأول ولا يزال باقيًا يرأسه ناظر الحقانية، وهو مؤلف من مستشارين قضائيين وعلماء في القضاء للنظر فيما تعرضه عليهم الحكومة وأكثره يتعلق بالإدارة ونحوها.

(١-٢) عمرانها

فرنسا قدوة الممالك المتمدنة في روح المدنية الحديثة وأكثرهن احتكاكًا بالشرق الأدنى. وكنا إلى عهد غير بعيد لا نعرف سواها قدوة لنا في أحوالنا الاجتماعية والأدبية والسياسية والقضائية، ولا نزال أكثر معرفة بها مما بسواها.

مساحة مملكة فرنسا ٢٠٧٠٥٤ ميلًا مربعًا، وعدد سكانها ٣٩٠٠٠٦٧٣ نفسًا، منهم نحو ٣٠٠٠٠٠٠٠ نفس من أهل الفلاحة، والباقون من سكان المدن يتعاطون الصنائع والمهن والوظائف والمصالح. وفيها ستون مدينة، سكان كل منها فوق ٣٥٠٠٠ نفس، أكبرها باريس عدد سكانها ٢٨٤٦٩٨٦ نفسًا. فمرسيليا ٥١٧٤٩٧، وتليها ليون ٤٧٢١١٤ نفسًا. ثم تأتي بوردو، وليل، وتولوز، وغيرها إلى روان وسكانها ٣٥٥١٦ نفسًا.

وفرنسا من أكبر الممالك ثروة (نعني أهل فرنسا)؛ فإنهم يعدون في مقدمة الأمم من حيث الثروة الخصوصية. واختلف الباحثون في مجموع تلك الثروات، فوجد المسيو دي فوفيل الباحث الاجتماعي أن فرنسا تقدَّر قيمتها على هذه الصورة:

جنيه
٩٠٨٠٠٠٠٠٠٠
٣٠٠٠٠٠٠٠٠٠ أرض زراعية
٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠ أبنية
٢٠٠٠٠٠٠٠٠٠ نقود
٢٨٠٠٠٠٠٠٠٠ ضمانات وتأمينات
٤٠٠٠٠٠٠٠٠ أدوات زراعية ومواشٍ ونحوها
٦٨٠٠٠٠٠٠٠ ممتلكات أخرى

وقدرها غيره بأكثر من ذلك، فبلغ مجموعها في تقدير جويو ٩٥٢٠ مليون جنيه. وبلغ دخل فرنسا السنوي في تقدير ليروا بوليو ١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، ثلاثة أخماسه من نتاج العمل الشخصي.

وفي كل حال فإن الفرنساويين مشهورون بالاقتصاد والاحتفاظ بالمال. والفقر المدقع عندهم أقل كثيرًا مما في سائر الممالك الكبرى.

وفرنسا كثيرة المعامل واسعة التجارة ولها في الصناعة الدقيقة القدح المعلى، ولبضائعها شهرة طائرة في الجمال وسلامة الذوق، وهي قدوة الأمم المتمدينة في الأزياء من الملابس وغيرها، وعاصمتها باريس مرجع أمم الأرض في كل ذلك مما هو مشهور لا يحتاج إلى بيان. وسنعود إليه عند الكلام على الأحوال الاجتماعية.

أما مالية الحكومة الفرنساوية فبلغ دخلها في السنة الماضية ١٧٠٧٦٧٠٥٤ جنيهًا، منها ٥١ مليون جنيه دُفعت عن الدين، و٣٥ مليونًا للحربية و١٦ مليونًا للبحرية.

(١-٣) حالتها الاقتصادية

فرنسا أرض زراعية خصبة تزيد مساحة ما يُزرع منها على ١٣٠٠٠٠٠٠٠ قصبة. وأكثر حاصلاتها الحنطة والكرم والعلف والبطاطس. وللخمور غلة كبرى بلغت قيمتها سنة ١٩١٠ نحو ٣٨٠٠٠٠٠٠ جنيه. وفيها من الماشية والحيوانات الأهلية كما يأتي:

عدد
٣١٣٣٦٥٠ خيول
١٩٤٠٠ بغال
٣٦٣٠٠٠ حمير
١٤٢٣٤٠٠٠ ماشية من البقر ونحوها
١٧٢٣٤٠٠٠ من الغنم
٧٢٠٢٠٠٠ خنازير
١٤٢٤٠٠٠ ماعز

أما الصناعة فالحرير له سوق رائجة عندهم، وقد بلغ عدد المشتغلين في تربية دود القز سنة ١٩٠٨ نحو ١٢٣٨٠٠ عامل. ومقدار البزر الذي استولدوه ١٨٧٠٠٠ أوقية وبلغ محصولها ٨٤٠٩٢٩٩ كيلو غرامًا من الفيلجات.

وفي فرنسا كثير من المناجم المعدنية تناهز ٦٠٠ منجم فيها ٢٣٠٠٠٠ عامل وفيهم النساء والأولاد. وبلغت غلة هذه المناجم نحو ٢٦٦٥٦٠٠٠ جنيه، أكثرها من الفحم والحديد.

وهي كثيرة المعامل على اختلاف أنواعها، أهمهما معامل نسج القطن والصوف والحرير، ومصانع الأدوات الحديدية، وأدوات البناء. وهاك أهم المعامل وعدد عمالها:

عدد العمال
١٦٧٢٠٠ معامل لنسج القطن
١٧١٠٠٠ معامل لنسج الصوف
١٢٣٠٠٠ معامل لنسج الحرير
١٦٦٠٠٠ معامل لصنع الخزف
٥٧٠٠٠٠ للمصنوعات الحديدية
٥٥٠٠٠٠ عَمَلة أدوات البناء
١٥٦٠٠٠ معامل الدنتيلا وتوابعها
٩٣٨٠٠٠ معامل الملبوسات على أنواعها
٧٠٤٠٠٠ للمصنوعات الخشبية
٣٣٤٠٠٠ للمصنوعات الجلدية

ومن أهم حاصلات فرنسا السكر فإن له ٢٥١ معملًا وتبلغ غلته في العام نحو مليون طن، وكذلك الكحول فإن غلته تزيد على ٤٥ مليون جالون، غير غلة المصائد ونحوها.

أما التجارة فلفرنسا شأن كبير، وقد بلغت قيمة صادراتها لسنة ١٩١٠ نحو ٢٢٠ مليون جنيه ووارداتها ٢٧٠ مليونًا.

(١-٤) حالتها العلمية

إن آداب اللغة الفرنساوية أشهر من أن تُعرَّف، ولا يفي بوصفها إلا المجلدات؛ لكثرة مَن نبغ فيها من العلماء والأدباء والشعراء، وبكثرة ما فيها من الصحف والمجلات على اختلاف مواضيعها، وقد أشرنا إلى ذلك مرارًا في الهلال، وإنما نريد هنا حالها من حيث التعليم والمدارس.

إن للحكومة الفرنساوية عناية كبرى في التعليم تنفق في سبيل ذلك الأموال الطائلة على يد نظارة المعارف. والمدارس عندها طبقات: مكاتب (كتاتيب)، ومدارس ابتدائية وثانوية وعالية.

فنكتفي بفذلكة في التعليم العالي الذي يلقى في الجامعات الكبرى وفي الكليات الخاصة ونحوها، وهو حر مطلق بناء على قرارات رسمية صدر آخرها سنة ١٨٩٧، والجامعة عندهم تحتها كليات أو مدارس تختلف أسماؤها باختلاف مواضيعها، هاك أشهرها:
  • مدارس الحقوق: هي ١٣ مدرسة في باريس، وإكس، وبوردو، وكاين وديجون، وغرينوبل، وليل، وليون، ومونبليه، ونانسي، وبواتيه، ورين وطولوز.

  • مدارس الطب: هي سبع مدارس في باريس، ومونبليه، وبوردو، وليل، وليون، وطولوز، ونانسي.

  • كليات العلوم: هي ١٥ كلية في باريس وبزانسون، وبوردو، وكاين وكليرمون، وديجون، وغرينوبل، وليل، وليون، ومرسيليا، ومونبليه، ونانسي، وبواتيه، ورين، وطولوز.

  • كليات الآداب: هي ١٥ أيضًا في المدن التي تقدم ذكرها غير المدارس التجهيزية أو التي يُراد بها التبحر في بعض العلوم الخاصة.

أما عدد المتخرجين في هذه المدارس فهاك إجمالهم حسب المواضيع لسنة ١٩١٠:

عدد التلاميذ
٤١٠٤٤
١٦٩١٥ في الحقوق
٨٠٢٩ الطب
٦٢٨٧ العلوم
٦٣٧٣ الآداب
٣٤٥٠ الصيدلة وغيرها

وهذا العدد من طلاب العلوم العالية في الكليات الأميرية، منه ٣٥٨٠٠ طالب من الفرنساويين و٥٢٤٤ من الأجانب، بينهم جميعًا ٣٨٣٠ من النساء ثلثاهن من الفرنساويين.

هناك مدارس عالية غير أميرية: منها في باريس الكلية الكاثوليكية لتعليم الحقوق والآداب العالية، ومدرسة التعليم الحر العالي، والكلية الحرة لتعليم العلوم السياسية. وفي إنجرس مدارس للاهوت والحقوق، والعلوم، والآداب، والزراعة، ومثل ذلك في ليون، وليل، ومرسيليا، وطولوز. والمدارس الأميرية تمنح تلامذتها رتبًا علمية هي: (١) البكالوريا العلمية. (٢) شهادة الحقوق (اللسانس). (٣) الدكتورية، وتمنح رتبة أستاذ للتعليم الثانوي والعالي.

وفي فرنسا غير ما تقدم من المدارس العالية مدارس كبرى تابعة لنظارة المعارف أشهرها:
  • كلية فرنسا College de France أسَّسها فرنسيس الأول سنة ١٥٣٥، وهي أرقى مدارس فرنسا على الإطلاق، يُعلم فيها ٥٠ فرعًا من أعلى طبقات العلم في الآداب، واللغات، وعلم الآثار، والرياضيات، والطبيعيات، والعقليات، والاجتماعيات، والسياسة، والاقتصاد وغيرها.
  • معرض التاريخ الطبيعي: للتفقه في هذا العلم.

  • المدرسة العلمية للعلوم العالية: في التاريخ، والفيلولوجيا، والرياضيات، والعلوم، الكيماوية والبسيكولوجية، والعلوم الطبيعية والدينية الراقية، ومقر هذه المدرسة في السوربون بباريس، وعلومها ١٨ فرعًا.

  • مدرسة المعلمين العليا: يتخرج فيها المعلمون للتعليم في المدارس الثانوية، واتبعت خطة السوربون بدون أن يكون لها أساتذة معينون.

  • مدرسة السجلات: لتعليم الخطوط القديمة والآثار ثمانية فروع.

  • مدرسة اللغات الشرقية الحية: بها ١٦ فرعًا من فروع اللغات الحية الشرقية.

  • مدرسة اللوفر: تعلِّم فن الآثار.

  • مدرسة الفنون الجميلة.

  • مدرسة الرصد بباريس.

غير المدارس الفرنساوية خارج فرنسا كمدرسة الحقوق في القاهرة، ومدرسة الطب في بيروت، فإن مثلها في أثينا ورومية والهند الصينية وفي مراكش. ولفرنسا خارج باريس ثمانية مراصد.

وغير التعليم الصناعي أو الفني؛ فإنه واسع لكنه خارجًا عن دائرة نظارة المعارف.

أشهر مدارسه: مدرسة الصنائع والفنون في باريس (كونسيرفاتوار)، تلقي عشرين علمًا ليليًّا في العلم، والاقتصاد السياسي. ومدارس أخرى للتجارة والصناعة تابعة لنظارة الزراعة، وغيرها تابع لنظارة الحربية أو المستعمرات أو غيرها مما يطول شرحه، وكلها في باريس ومثلها أو أقل منها في خارجها، مثل إكس، وإنجرس، وشالون، وكليني، وليل وغيرها. وغير مدارس الموسيقى والخطابة ومدارس لتعليم الخدمة على الموائد، وتربية الأطفال وغير ذلك.

(١-٥) التعليم بمصر

والاطلاع على أسماء هذه المدارس يدل وحده على الفرق العظيم بين التعليم عندنا وفي تلك المملكة الراقية؛ فقد ذكرنا عشرات من المدارس لا وجود لها عندنا، ولم نذكر غير المدارس العالية، وقد أغفلنا المدارس الابتدائية والثانوية التي عندنا مثلها. على أن مدارسنا هذه أحط كثيرًا من أمثالها عند الفرنساويين، والابتدائية أقل كثيرًا من المدارس الابتدائية عندهم، والمدارس الثانوية كذلك. وحامل البكلورية المصرية أقل معرفة من حامل البكلورية الفرنساوية؛ فالتعليم عندنا ضعيف جدًّا من كل وجه، وسنفرد فصلًا خاصًّا في هذا الموضوع. وإنما يكفي في هذا المقام أن نبين تقاعد حكومتنا أو أغنيائنا عن التعليم. ولا يُحتج علينا بصغر مصر بالنسبة إلى فرنسا؛ فإن سكان مصر يناهزون ثلث سكان فرنسا، ومع ذلك فالحكومة لا تنفق على التعليم عُشر ما تنفقه فرنسا. إن ميزانية المعارف الفرنساوية ١١٥٥٧٠٠٠ جنيه، فكم هي ميزانية حكومة مصر للمعارف؟ إنها نحو نصف مليون!

وقد يحتجون بتقصير المالية المصرية عن المالية الفرنساوية؛ لأن المالية الفرنساوية ١٧٠ مليون جنيه، والمصرية أقل من عُشر هذا المبلغ، فلا عجب إذا دفعت للمعارف عُشر ما تدفعه فرنسا. ولكن فرنسا تدفع من ماليتها أموالًا لا تدفع مصر شيئًا منها؛ فالفرنساويون ينفقون على الحربية نحو ربع ميزانيتهم، أما مصر فربع ميزانيتها يكفي لنفقات كل نظاراتها، وفرنسا تدفع نحو ثلث دخلها لوفاء الدين، وأما مصر فتدفع خمس دخلها فقط لهذا الغرض، ومع ذلك فهي تنفق على المعارف ١ / ٢٠ مما تنفقه فرنسا.

وفي فرنسا جمعيات علمية (أكاديميات) عديدة لكل فرع من فروع العلم، أهمها الأكاديمية العلمية أو أكاديمية العلوم، وأكاديمية العلوم والنقوش، وأكاديمية الفنون الجميلة، وأكاديمية العلوم الأدبية والسياسية، وأكاديمية الطب وغيرها. وكل أكاديمية مؤلفة من ٤٠ عضوًا أو أكثر، ولكل منهم اختصاص بفرع من فروع العلم التي تبحث فيها، غير ما هنالك من المتاحف العلمية والصناعية والمدارس على اختلاف أحوالها.

وغير الجمعيات المؤلفة لتنشيط العلم والأدب أو لحفظ حقوق المؤلفين والمترجمين، ومراقبة سير العلوم من حيث الصحافة، وغيرها، وغير المعارض والمتاحف فإنها من ظواهر الرقي العلمي، وسنأتي عليها.

(١-٦) المراسح والتمثيل

ليس المراد أن نصف المراسح التمثيلية؛ فإن لدينا منها أمثلة حسنة في مصر والإسكندرية وإن كانت أقل مما في باريس فإنها تشبهها، حتى كثيرًا ما تعرض فيها روايات فرنساوية يمثلها أجواق من باريس. لكننا رأينا على مراسح التمثيل في باريس وغيرها من المدائن الكبرى في فرنسا وسويسرا ضربًا من التمثيل الانتقادي يسمونه في اصطلاحهم revue ويريدون به انتقاد العادات والأخلاق والآداب على المراسح في شكل بين الجد والهزل يلذ للمشاهدين؛ لأنه يتعلق على الخصوص بالأمور الجارية التي يتحدث بها الناس. وكثيرًا ما ينتقدون الكتاب، أو رجال السياسة على كتاب ألَّفوه، أو رأي رأوه. وقد شهدنا تمثيلًا من هذا النوع في باريس انتقدوا فيه حرية المرأة الباريسية على أسلوب مؤثر، فمثَّلوا عروسًا عُقد عليها لرجل، وخرجت معه في الشارع فأصبحت كلما رأت رجلًا تعرفه أو رأت أن تحبه ضمته وقبَّلته، وزوجها يرى ذلك. فإذا اعترضها احتجت عليه بحرية المرأة بقولها: «إن هذا العصر عصر حرية.» وانتقدوا عادة البراز انتقادًا يحقرها في عيون محبيها، وانتقدوا مقالات كُتبت في الأحوال الجارية بباريس. وشهدنا في تمثيل آخر في جنيف انتقاد المعاهدات الدولية والمجاملات السياسية، ومثَّلوا في جملتها حرب الدولة العثمانية والإيطاليان وغير ذلك. فهذا الأسلوب من التمثيل لا مثيل له عندنا لكنه مفيد ولذيذ.

(١-٧) مظاهر حضارتها

أرقى مدائن فرنسا بلا خلاف باريس، ومع ذلك فالذاهب إليها من مصر لا يجد فيها ما يدهشه من حيث ظواهر المدنية الحديثة كالشوارع الواسعة، والأبنية الفخيمة والأنوار الكهربائية، وازدحام الأقدام والبذخ في الألبسة والتفنن في الأزياء؛ لأن في مصر أمثلة من ذلك لكنها في باريس أفخم وأجمل، ولا غرو؛ فإن حضارة مصر الحديثة صورة مصغرة من حضارة باريس. والمرحوم إسماعيل باشا صاحب الفضل الأكبر في تنظيم شوارع القاهرة وإنشاء الأبنية الفخيمة فيها، إنما كان يفعل ذلك تقليدًا لباريس، وكان مفتونًا بالفرنساويين ومدنيتهم، وظل ذلك مستمرًّا بعده إلى عهد قريب.

فلا ينبغي لنا أن نطيل الكلام في وصف شوارع باريس الكبرى وسعتها وما يحف بها من المخازن، وما يُعرض في تلك المخازن من السلع الثمينة، أو ما يتلألأ في الليل من الأنوار الكهربائية على اختلاف ألوانها، ولا تعداد ضروب المركبات في العربات. فالأوتوموبيل، فالترامواي، فالأوتوبيس، فالأومنيبيس فالمتروبوليتان وغيره، فإن هذه لها أمثلة بين ظهرانينا ولكنها عندهم أكثر عددًا والركاب أكثر ازدحامًا، وإنما تمتاز عما في مصر وغيرها من مدائن الشرق، أن السائق لا مطمع له في الركاب ولا سبيل إلى طلب الزيادة عن حقه؛ لأن المركبات الكبرى العمومية كالترامواي وغيره لها رسوم معينة كما في مصر. والمركبات الصغرى كالعربات والأوتوموبيل أصبحت كلها مقيدة بالعداد (تكسيمتر) وهذه الآلة تعيِّن الأجرة اللازمة وتغني الناس عن النزاع.

(١-٨) المركبات العامة

وقد استلفت نظرنا على الخصوص أن باريس مع تزاحم الأقدام فيها لا يتنازع الركاب في المسابقة إلى الترامواي أو الأومنيبيس، ولا يُسمح لأحد بالوقوف بين الركاب إذا لم يكن له مجلس فارغ، ولا يجسر أحد على الركوب في غير دوره. لا يختلفون في ذلك ولا سبيل إلى الاختلاف؛ لأن عند كل موقف من مواقف هذه المركبات لوحًا معلقًا بعمود منصوب على الرصيف، وعليه دفتر صغير الحجم أوراقه منمرة نمرًا متسلسلة، فالذي يسبق إلى الموقف يقتطع النمرة الأولى، ومَن يأتي بعده يتناول النمرة التالية وهكذا. وقد يجتمع في الموقف عشرات من الناس وربما جاء القطار وليس فيه مكان إلا لخمسة أو ستة فلا يُؤذن بالدخول إلا لمن كانت عندهم النمر الأولى بقطع النظر عن أحوالهم من الغنى أو الفقر أو الوجاهة.

ومثل هذه العادة في لندن عند تكاثر الركاب ساعة الظهر لركوب الترامواي، فقد جعلوا في المحطات التي يكثر التزاحم عندها موقفًا مستطيلًا لا يدخله الناس إلا أزواجًا، أوله عند محطة القطر وآخره في الشارع لا حد له، فالواصل الأول يقف قرب المحطة تمامًا والذي يأتي بعده يقف وراءه وهكذا أزواجًا. وقد يتألف من الواقفين سلسلة طولها عشرات من الأمتار، وكل منهم ينتظر دوره بلا نزاع ولا خصام، ويفعلون نحو ذلك في كل ما تتزاحم فيه الأقدام كالدخول إلى المراسح أو قطع تذاكرها، فالسابق يقف عند شباك التذاكر والذي يأتي بعده يقف وراءه وهكذا، وقد تتألف من الواقفين سلسلة طويلة رأينا واحدة منها عند مرسح بمنشستر. والمرسح في بناء كبير قائم بنفسه رأينا المنتظرين وقوفًا في سلسلة طويلة وقد يحيطون بالبناء من أربع جهاته، أولهم عن يمين شباك التذاكر وآخرهم عن يساره.

ومما يحسن استطراده ويهمنا أمره في هذا المقام أن قومساري الترامواي أو غيره من المركبات العمومية لا يحتاجون إلى مفتشين يتفقدون سيرهم خوفًا من السرقة كما هو حال الترامواي عندنا. وقد يكون للترامواي الفرنساوي أو الإنكليزي مفتشون ولكنهم لا يتفقدون المركبات إلا نادرًا، وقد ركبنا في تلك المركبات عشرات من المرات لم نشاهد فيها مفتشًا ولا لحظنا من القومساري مطمعًا في التذاكر كاستخدام التذكرة مرتين لراكبين أو قبض الجُعْل بدون أن يعطي التذكرة ولا رقيب عليهم من الشركة، ولعل السبب في ذلك أن الشركة تدفع لهم الرواتب الكافية لمعاشهم فلا يرون حاجة إلى السرقة، ولو أرادوا السرقة لا يجدون من الركاب مَن يوافقهم عليها كما يقع كثيرون بيننا، حتى إن بعض ركاب الترامواي بمصر يحرض القومساري على سرقة الشركة بقوله: «بلاش تذكرة»، فيعطيه القرش ولا يأخذ التذكرة، وذلك ناتج عن ضعف في الأخلاق لا نراه عند أولئك.

(١-٩) الإعلان

والتزاحم في العواصم الكبرى يسهِّل رواج السلع على طلاب الرزق، وقد يستغرب قومنا بمصر، أو الشام كيف يَنفُق في أسواق باريس، أو لندن أشياء لا فائدة لها أو لا تستحق الرواج، وإنما السبب في ذلك كثرة الناس؛ لأن مَن يعرض سلعة في الشارع لا يمضي عليه ساعة حتى يمر به مئات الناس فلا يخلو أن يكون فيهم مَن يقع اختياره على تلك السلعة، فيشتريها ولو على سبيل التجربة، وإنما يطلب من صاحب السلع أن يستلفت الأذهان إلى بضاعته وهذا هو السبب في اهتمام الإفرنج بالإعلان حتى إن أحدهم إذا همَّ بإنشاء تجارة أو صناعة أعد رأس مال بالإعلان قبل رأس مال البضاعة، وقد تفننوا في ذلك تفننًا عجيبًا؛ فهم يعلنون في الجرائد وعلى أغلفة الكتب وعلى جدران المنازل وأسطحتها وعلى الموائد وأغلفة المساوك، وفي مركبات الترامواي والأومنيبيس والقطر الحديدية وفي المحطات، حتى الحقول، فإنك وأنت راكب في القطر من مدينة إلى أخرى يقع بصرك على عشرات أو مئات من ألواح قائمة على عُمد مغروسة في الحقول ووجهها نحو الركاب فتقرأ عليها أسماء المحلات، أو المعامل، أو المصنوعات، ولا سيما المشروبات والحلويات وأمثالها، فإن أصحابها من أكثر الناس إنفاقًا على الإعلان، وإنما يفوز منها مَن يستلفت الأذهان إلى صناعته فضلًا عن إتقانها. ويُقال إن أكثر المتاجر إنفاقًا في فرنسا أصحاب معمل «شكولات مينيه»، وحيثما توجهت في شوارع المدن أو خطوط السكك الحديدية حتى المتاحف والمعارض ونحوها فإنك تجد عليها اسم هذه الشكولاته، وأصحابها ينفقون مليوني فرنك سنويًّا على الإعلان، وأرادوا مرة أن يقتصدوا فقلَّت مبيعاتهم فعادوا إلى الإنفاق.

ومن أغرب طرق الإعلان عندهم أنهم يكتبون اسم البضاعة على الحقول نفسها أو على الجبال بأغراس من الأعشاب بلون خاص يغرسونها على الرسم المطلوب كتابته فتنبت على ذلك الشكل، وقد تكون بعيدة عن الطرق والمنازل عدة كيلومترات فيراها الناس ويقرءونها واضحة. ومن أساليب الإعلان أن يُذكر اسم السلعة أو المشروب أو غيره على المراسح أو غيره في أثناء التمثيل على سبيل الاستشهاد أو الانتقاد أو غير ذلك، ويدفع صاحب الإعلان على ذلك ثمنًا.

ومن أساليب الإعلان أن يعرض التاجر بضاعته ويكتب على كل صنف ثمنه، فهذا يسهل على الشاري الحُكم في الابتياع أو عدمه، لكن أصحاب البضائع التي فيها درجات متفاوتة بأثمان متفاوتة يعلنون أنهم يبيعون الأداة الفلانية بالثمن الفلاني، ويذكرون أرخص سعر عندهم فيتوهَّم الشاري أنه ثمن الصنف الجيد فيدخل للسؤال على الأسعار، ولا بد من أن يشتري.

(١-١٠) الأزياء

ولا خلاف في أن باريس أسبق مدائن العالم إلى جمال الصناعة ولطافة المصنوعات، وهي التي ترسم للعالم الأزياء التي يجب اتباعها، وقد يكون لسواهم أزياء لكنها السابقة المتغلبة. ولأهلها مقدرة كبرى على توليد الأزياء في الملابس وغيرها. وهناك طائفة من أهل الذوق الصناعي إنما يشتغلون بوضع الرسوم للأزياء الجديدة، يستعينون على ذلك بما في المتاحف الصناعية من الرسوم أو المنسوجات القديمة فيركبون منها زيًّا جديدًا يبالغون في تنقيحه وتدقيقه حتى يبلغ حده، ثم يُعرض على أصحاب المعامل للنسج على منواله، أو أصحاب المتاجر ليروِّجوه.

وللفرنساويين مهارة خاصة في الزخرفة وإتقان المظاهر بغير التفات إلى متانة ما يصنعونه وطول بقائه، بخلاف الإنكليز فإنهم إنما يهتمون بمتانة ما يصنعونه ولا يهمهم ظاهره، وهذا تابع لما اتصف به هذان الشعبان من الأخلاق كما سنذكره في بابه. فالبضاعة الباريسية إنما يرغب الناس في ظواهرها أكثر مما في متانتها. واعتبر ذلك في أكثر معاملاتهم فإن ما تبتاعه بعشرة فرنكات من أسواق باريس ليس فيه من المادة الأصلية إلا ما يساوي فرنكين أو أقل، والباقي ثمن ما يُنفَق في سبيل ترويجه من المظاهرات كإتقان المخازن، والإكثار من الخدم، والتنوير الكهربائي والإعلان وغير ذلك.

(١-١١) البوربوار (البخشيش)

ومن غرائب هذه الحضارة في فرنسا «البخشيش»، نعني ما يُعطى للخدم مكافأة على خدمة خاصة، وهو عندنا لا يُعطى إلا إذا كانت الخدمة خارجة عن واجبات الخادم التي يُنقَد عليها الأجرة.

وأما عندهم فالبخشيش فرض واجب لا مناص منه، ويسمونه في اصطلاحهم بور بوار Pourbaire أي لأجل الشرب، كأنه يطلب أن تعطيه فلسًا يبتاع به قدحًا من البيرا أو الخمر. والبور بوار يُعطى على الخصوص لخدم القهوات والأندية والمطاعم والفنادق، وساقة المركبات، وهو يُقدَّر بنحو عُشر المبلغ المدفوع ثمنًا حقيقيًّا؛ فإذا دخلت مطعمًا مثلًا، ودفعت عشرة فرنكات ثمن الغذاء، فالبور بوار لخادم المائدة فرنك، وإذا زادت المدفوعات قلَّت نسبة البخشيش عن عشرة في المائة مما لا ضابط له، وفي ذلك مشقة على النازلين في الفنادق؛ لأنهم لا يعرفون كيف يدفعون، ولا لمَن يدفعون، فالخَدَمة كثيرون. والغالب أن يُقسَّم البخشيش بين الفراش والبواب وخادم المائدة وصاحب الرافعة (أسانسور) وغيرهم. وقد يكونون أكثر كثيرًا، ويختلف ذلك باختلاف الطبقات؛ فالداخل على مطعم فخيم يستقبله خادم يتناول منه القبعة والشمسية، وآخر يقدِّم له كرسيًّا على المائدة وهذا يخدمه في تبديل ألوان الطعام، فإذا نهض تلقاه الخادم الآخر بالقبعة والشمسية، وتقدَّم آخر ففتح له الباب عند الخروج، وآخر يفتح له باب المركبة عند الركوب، فهؤلاء كلهم ينبغي أن يُدفع إليهم البور بوار، وقد يزيدون على ذلك.

وأصل هذه العادة الغريبة عندهم على ما نظن تزاحم الغرباء على أماكن اللهو في زمن لم يكن الخدم فيه يستطيعون القيام بما يلزم من الخدمة، فأصبح مَن يريد تعجيل حاجته مضطرًّا أن يسترضي الخادم بدفعه خصوصية له، وتكرر ذلك حتى صار قاعدة، وأصبح خَدَمة أماكن الملاهي يعدون البور بوار من جملة استحقاقاتهم، وبعضهم لا يتقاضى من صاحب القهوة أو المطعم أجرة، وفيهم مَن يدفع شيئًا من جيبه لصاحب القهوة ليأذن باستخدامه.

ومما يستلفت نظر المصري في باريس أنك لا تجد في شوارعها متسولًا يعترض طريقك، ولا متشردًا مستلقيًا على الشارع، ولا غلامًا عاريًا أو شبه عارٍ يتسلق الترامواي، أو يعرض عليك خدمة من حمل حقيبة أو نحوها؛ لاشتغالهم عن ذلك بالمدارس.

ولا حاجة بنا إلى ذكر سهولة المواصلات، والمخابرات عندهم كالتلغراف والتلفون والبريد؛ فإنها مشهورة، وعندنا أمثلة منها لكنها هناك أكثر شيوعًا؛ فالتلفون يكاد لا يخلو منه منزل أو متجر. وعندهم من طرق البريد مما لا مثيل له عندنا، تذاكر تُرسل مستعجلة في المدينة نفسها تتقاضى عليها مصلحة البريد ثلاثة أضعاف الأجرة المعتادة، لكنها توصلها سريعًا كالتلغراف، وهي ما يسمونه «بنوماتيك» pnumatique وهي تذكرة تكتب فيها ما شئت، وتعنونها، وتضعها في عين من صناديق البريد خاصة بهذه التذاكر، وعمال البريد يتفقدون هذه العيون كل مدة قصيرة فإذا وجدوا فيه تذكرة أسرعوا في إيصالها حالًا، وهي تُرسل عادة بضغط الهواء في أنابيب ممتدة لذلك تحت الأرض.

(١-١٢) نظام الاجتماع فيها

نظام الاجتماع من حيث أساسه واحد في كل بلد، وإنما يختلف في تفاصيله باختلاف الأعصر والأقاليم؛ فالهيئة الاجتماعية في أبسط أحوالها مؤلفة من العائلة والحكومة والكنيسة، فإذا ارتقت نشأت فيها المدارس والجمعيات الأدبية، والشركات الاقتصادية. وتختلف هذه الجماعات في كل بلد باختلاف طبائع أهله ونوع مدنيتهم وسائر أحوالهم؛ فنظام الحكومة يختلف بين الاستبدادي والدستوري والجمهوري. ونظام العائلة في الشرق غير ما هو في الغرب، وفي هذا العصر غير ما كان عليه قبله، كانت العائلة عندنا إلى أوائل القرن الماضي على شكل الحكم الملكي المطلق — الأب رئيس العائلة يستبد في أهله استبداد السلطان المطلق في رعيته، يزوِّج مَن شاء بمَن شاء، ويعهد إلى مَن يريد بما يريد من عمل أو سفر أو إقامة — لا يرون في ذلك غرابة، ثم تعدَّل هذا النظام بعد دخولنا في المدنية الحديثة فأخذت العائلة تقترب من النظام الدستوري لكنها ما زالت أقرب إلى الحكم المطلق، ويختلف ذلك باختلاف الأمم والأديان.

وبناء على ما للأقاليم أو البيئة من التأثير في أبدان الناس وعقولهم وطبائعهم فاختلاف الأقاليم أوجب اختلاف الأمم في كل، فلننظر في طبائع الأمة الفرنساوية على الإجمال.

(١-١٣) طبائع الفرنساويين

الفرنساوي عامل نشيط يدأب على العمل بحماسة وهمة، ولا سيما أهل الزراعة منهم؛ فإنهم قويو الأبدان يعملون في حقولهم بنشاط، ولا تجد في فرنسا بقعة تقبل الزراعة غير مزروعة. وكذلك العمال والصناع، وسائر طبقات الناس؛ فإنهم نشيطون في ذهابهم وإيابهم في كلامهم وأشغالهم وفي أسفارهم؛ فإن أحدهم ينزل من القطار ويحمل حقيبته (الشنطة) بيده، فإذا كان منزله قريبًا سار إلى بيته ماشيًا لا يرون في ذلك بأسًا، على أنهم إذا طلبوا غلامًا أو رجلًا يحمل لهم الحقيبة في أثناء الطريق لا يجدون، وهي صفة يشترك فيها أهل أوروبا كافة، ويتأثر بها الشرقي حالما يطأ تلك القارة. وتقوم في نفسه رغبة في الهمة والنشاط، فإذا رجع إلى بلده عاد إلى طبعه، إلا إذا توطَّن أوروبا طفلًا، ومرجع ذلك إلى طبيعة الإقليم. والفرنساوي ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حاضر الذهن، فصيح خفيف الروح، فيه ميل إلى الفنون الجميلة وذوق في الصناعة.

الجمال

وللفرنساويين ذوق في الجمال لا تضارعهم فيه أمة، يظهر ذلك خصوصًا في الباريسيين؛ فإنهم قدوة الأمم في الأزياء على اختلاف أشكالها، ولهم ذوق في توليد الجمال مما لا جمال فيه من نفسه بترتيب أجزائه على شكل لا قاعدة له إلا الذوق، وهو على أرقى درجاته في باريس؛ تجد المرأة القبيحة الخلقة تتزيا بزي يناسبها، وتصفف شعرها تصفيفة تناسب ملامح وجهها، فتظهر جميلة. ولهم في تصفيف الشعر، واختيار شكل البرنيطة ولونها طرق تختلف باختلاف تقاطيع الوجه، ولونه وشكل الأنف والعينين والجبهة والفم، وغير ذلك فيوفقون التصفيفة (التواليت) والبرنيطة على حال الوجه فيظهر جميلًا.

ويتبع ذلك ميلهم إلى تزويق الحديث، فإنه من قبيل رغبتهم في الجمال الخارجي، فكما يوفقون بين تصفيفة الشعر، وحجم البرنيطة وشكل الوجه حتى يظهر جميلًا، فهم أيضًا يحسنون الحديث حتى يلائم ذوق السامع فتنبسط نفسه له، لكنه لا يرى النتيجة دائمًا كما كان يتوقعها، فالفرنساوي فيه ميل إلى إتقان الظواهر أكثر مما إلى إتقان البواطن، وهو من قبيل حبه الجمال، ويخالفه الإنكليزي في ذلك كما سنبينه في مكانه. ومن قبيل ميلهم إلى الجمال واقتدارهم على توليده ما نجده في مخازنهم وشوارعهم من الزخارف التي يُراد بها التحسين؛ أي أن تظهر السلعة المعروضة أحسن مما هي، ومن هذا القبيل استخدام المرايا في الواجهات لإيهام الناس أنها أكبر مما هي، وإذا كان الحانوت صغيرًا جعلوا جدرانه من المرايا فيظهر أضعاف ما هو.

الاقتصاد والترتيب

والفرنساوي مقتصد من فطرته، وترى الاقتصاد ظاهرًا على الخصوص في القرى؛ فإن أصحاب المزارع الصغرى يعيشون عيشة بسيطة. والفلاح يشتغل وامرأته تشتغل وأولاده يشتغلون كل على قدر طاقته وحسب ميله، ولا بد لكل منهم أن يقتصد شيئًا من ربحه مهما كان قليلًا فيحتفظ به لنفسه. وهم يستخدمون الفرش البسيط عكس أهل المدن وكذلك ملابسهم؛ فالفلاح الفرنساوي بسيط في لباسه وأخلاقه، ومهما يكن من فقره فإنك تجده نظيف الثوب، نظيف الفراش، يأكل على المائدة بالشوكة والسكينة بترتيب ونظافة، فلا تستنكف إذا دخلت بيته من أن تجلس على مقعده، وتأكل من طعامه، وتشرب من كأسه. وليس كذلك الفلاح المصري ولا سبيل إلى إصلاحه إلا بتعليم المرأة وتثقيفها، وهي المدبرة لكل ذلك.

معرفة الواجب

ومن الخلال الحميدة الشائعة في معظم أوروبا ونحن في حاجة إليها «معرفة الواجب»، وهي تشمل كل أعمال الإنسان، نعني أن يشعر الإنسان بما عليه فيؤديه من تلقاء نفسه بدون استحثاث أو إرهاب أو ترغيب (لو فعل ذلك كل إنسان لاستغنى الناس عن الحكومات وأُبطلت المحاكم). ولكن الناس يتفاوتون في هذا الباب وأكثرهم شعورًا بالواجب أقربهم من المدنية والارتقاء. وهو يستلزم الأمانة وهي أساس المعاملات وأكبر أسباب النجاح (ما أجمل أن يشعر الإنسان بما عليه فيؤديه بلا وازع أو مراقب). والفرنساويون من أكثر الأمم شعورًا به، وكذلك الإنكليز، وربما ظهر الإنكليز أكثر قيامًا بالواجب؛ لأنهم يعملون كثيرًا ويقولون قليلًا. وأما الفرنساوي فميله إلى زخرف الكلام يُظهِر أعماله قليلة، لكن الشعور بالواجب قوي في كليهما.

ذكرنا في غير هذا المكان أن قومساري الترامواي لا رقيب عليه (مفتش)، وهم لا يسلبون الشركة باستعمال التذكرة مرتين أو قبض الثمن بدون أداء التذكرة؛ لأن القومساري الفرنساوي أو الإنكليزي نشأ وقد غرست والدته في ذهنه من طفوليته أن يعرف ما له فلا يطمع بسواه، ولو أراد السائق أن يطمع فإن الشعب أرقى من أن يتساهل في هذا الأمر؛ لأنه تربى تربية راقية وعرف ما له وما ليس له، ويعلم أن تساهله مع القومساري في أمر التذكرة إنما هو مشاركة له في السرقة، ولكن كثيرين عندنا يتساهلون في ذلك وبعضهم يحرض القومساري على السرقة، والسبب في ذلك ضعف أخلاق العامة عندنا. وإن مَثَل الترامواي هذا على بساطته يدل على أخلاق العامة.

الثقة وقيمة الوقت وصدق المواعيد

ومن قبيل الأمانة المبنية على معرفة الواجب، وما يترتب عليها من الثقة المتبادلة، أن بعض باعة الجرائد في فرنسا وإنكلترا يضعون أعداد الجريدة فوق طاولة على الرصيف خارج الحانوت، وبجانبها علبة، فمن أراد أن يبتاع جريدة وضع ثمنها في العلبة وتناول الجريدة ولا رقيب عليه، وصاحبها لا يخاف أن يسرقه المارة فيأخذ أحدهم الجريدة ولا يدفع الثمن. وقس على ذلك الثقة المتبادلة في سائر الحرف.

دخلنا مطعمًا في لندن يوم وصولنا من باريس، وبعد الفراغ من الطعام دفعنا لصاحب المطعم ليرة فرنساوية فاعتذر بأن النقود الفرنساوية لا تُقبل عندهم، ولم يكن عندنا نقود غير فرنساوية، فوقعنا في حيرة وأردنا أن نترك الليرة له ريثما نعود وقد بدلنا النقود، فأعاد الليرة ليدنا وقال: «دعها معك ومتى بدلتها تدفع ما عليك»، وكانت هذه أول مرة رآنا فيها الرجل. أليس ذلك من الأخلاق الراقية؟ أن صاحبها يتصور رجلًا عليه حق لا يبادر إلى دفعه من تلقاء نفسه، ولا يدل هذا على خلو البلاد من أصحاب الأخلاق الضعيفة، ولكنهم أقل مما عندنا، كما أننا لا نعني ضعف الثقة عندنا في كل الطبقات، وإنما نريد الأغلبية.

ومن جميل ما نحسدهم عليه معرفة قيمة الوقت، وهو يتوقف على معرفة الواجب أيضًا؛ فإنهم يقسِّمون أوقاتهم ويفرقونها على أعمالهم، فلا يقصرون بما عليهم، ولا يضيعون أوقات أصدقائهم بالزيارة الحبية كما يفعل كثيرون عندنا؛ فإن بعضهم يزورك في ساعة شغلك ولا شغل له، ويعلم أنك مشغول فلا يختصر زيارته، ولا أنت تجرؤ على الاعتذار منه لئلا تُتهم بالفظاظة، ولكن هذه العادة آخذة بالزوال من بيننا في الطبقة الراقية.

واعتبر ذلك في صدق المواعيد؛ فإنه تابع للشعور بالواجب، وهو ينقصنا لكنه آخذ في الشيوع بين المتعلمين.

لا يعنيني

ومن الأخلاق الفرنساوية الشائعة في باريس اشتغال كل منهم بنفسه عن سواه، فلا يتعرض أحد إلى شئون جاره بالاستطلاع أو التجسس. وهو من طبائع أهل المدن الكبرى وطبيعي شيوعه في باريس وهي ثالثة مدائن العالم. وتجسس الأخبار والدخول في أحوال الآخرين يكثر في القرى الصغيرة لتفرغ أهلها للأحاديث، ولأنهم مطلعون على عورات جيرانهم ولا يخلون من التحاسد أو التباغض، وكلما اتسعت المدينة قلَّت تلك العادة فيها، ولذلك كان أهل باريس من أكثر الناس بعدًا عنها؛ فإن أحدهم يمشي وهمه نفسه ولا يلتفت إلى سواه، أو يجلس في القهوة ولا يلتفت إلى جليسه مَن هو، وقد يكون بجانبه رجل وامرأة يتغازلان أو يتداعبان فلا يهمه ذلك. وهذا ما نعبر عنه بضعف الغيرة ولا يستطيع الشرقي احتماله، أما الفرنساوي فيتحمله ولسان حاله يقول «لا يعنيني»، ولكنه مع ذلك جنوح إلى النجدة، وفيه أريحية إذا استحثته على منقبة اندفع إليها بكليته ولو جره ذلك إلى خسارة أو حمَّله مشقة.

المفاخرة بالرجال والحرية

ومن سجاياهم أنهم يفاخرون برجالهم، ويعظِّمون النابغين منهم، وحيثما مررت بشوارع باريس تجد تماثيل العظماء منصوبة في تقاطع الطرق، أو واجهات القصور، أو في الساحات العمومية يزيد عددها على مائة وستين تمثالًا كبيرًا للقواد، والملوك والكتاب والشعراء والفلاسفة والعلماء، وبينها تماثيل بعض مشاهير الأمم الأخرى مثل دانتي شاعر الإيطاليين، وواشنطون محرر أمريكا وشكسبير الشاعر الإنكليزي، وغريبالدي القائد الإيطالي، غير التماثيل الرمزية عن الحرية أو الاتحاد أو نحوهما، وغير التماثيل المنصوبة في المتاحف والمراسح والمدارس والكنائس والمنازل وهي عديدة جدًّا، وأكثرها شيوعًا تمثال بونابرت على اختلاف أقداره وأشكاله. والتماثيل تثير في النفوس الحماسة والميل إلى الاقتداء بأولئك العظماء، وهي وسيلة حسنة لاستنهاض الهمم واستحثاث القرائح لا مثيل لها عندنا، إلا قليلًا.

ويمتاز الفرنساويون عن سائر أهل أوروبا بالنزوع إلى الحرية على اختلاف أوجهها. وقد مرت أجيال كانوا فيها نصراء الحرية يأخذون بأيدي طلابها وينصرونهم بالمال والرجال، وأشهر الشواهد على ذلك نصرتهم للأمريكان في طلب الاستقلال من سلطة الإنكليز. ومن قبيل تعشقهم الحرية مغالاتهم في مطاردة بعض الجماعات الدينية، لكنهم تطرفوا في ذلك حتى خرجوا به إلى عكس المراد بالمدنية، ففترت الحاسَّات الدينية، ونزع الناس إلى الشك في الدين، وآل الأمر في بعض الأحوال إلى فساد الآداب؛ لأن العامة لا تستغني عن وازع ديني يُصلِح من آدابها. ومن أكبر أسباب الفساد إلقاء الشكوك الدينية في أذهان الناس.

طعامهم وشرابهم

والفرنساويون يُكثِرون من أكل اللحوم في طعامهم، وهو شأن أكثر سكان أوروبا وخصوصًا في البلاد الباردة لاحتياجهم إلى المواد اللحمية في مقاومة البرد؛ ولهذا السبب أيضًا يُكثِرون من شرب الخمور، وتكاد لا تجد بينهم مَن لا يشرب الخمر على المائدة رجالًا ونساء وأولادًا، وكثيرًا ما يجر ذلك إلى إدمان المسكر، فكثر المدمنون عندهم ولا سيما في الطبقات السفلى كالعمال والصناع، أما شرب الخمر الاعتيادية فإنه عام ولا يُشترط أن يكون على المائدة؛ ولذلك ترى وجوه الفرنساويين مشرقة أو مشربة حمرة — ولا يدل ذلك على الصحة دائمًا، وقد يدل على المرض — وترى صاحبه يميل إلى النعاس بعد الطعام، ويظهر ذلك في ساقة المركبات بباريس؛ لأن أحدهم إذا لم يكن سائقًا مركبته لا تراه إلا نائمًا على كرسيه ورأسه متدلٍّ على صدره، وقد احمرت وجنتاه وانتفخت أوداجه. وحوادث المسكر بمصر على كثرتها قليلة بالنسبة إلى تلك البلاد، ولكننا نشكو من شيوع الحشيش بمصر رغم منعه رسميًّا، على أننا سمعنا بوجوده في باريس أيضًا بأمكنة يعرفها طالبوه.

بقي علينا النظر في أمرين مهمين من نظام الاجتماع عندهم (نعني طبقة العامة والمرأة).

(١-١٤) العامة

ومن قبيل النظام الاجتماعي أن تكون الأمة مؤلفة من طبقات ترجع إلى طبقتين: الخاصة والعامة، ويختلف حال كل منهما باختلاف الأمم والأعصر، وإن تشابها على الإجمال في كل بلد؛ فالخاصة — وهم أهل الوجاهة والثروة — يغلب أن يكونوا ممتازين في نفوذهم ومعيشتهم، ويكون العامة تابعين لهم في أحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على تفاوت ذلك بتفاوت أحوال المدنية وأنواعها.

فالعامة في التمدن القديم كانوا كما قال الإمام علي «همج رعاع أتباع كل ناعق.» وقال معاوية: «إنهم أشباه البهائم، إن جاعوا ساموا وإن شبعوا ناموا»، وهم نحو ذلك في الشرق إلى الآن إلا في بعض البلاد الراقية. أما في الغرب فقد تغيرت أحوالهم حتى أوشكوا أن يقلبوا نظام الاجتماع ولا سيما في البلاد الجمهورية ومنها فرنسا، وهو موضوع كلامنا في هذا الباب.

(١-١٥) العامة في فرنسا

إن العامة في فرنسا يختلفون عن عامتنا بأمور كثيرة: منها أنهم أرقى تربية، وأوسع تعلمًا، فلا تجد فيهم مَن لا يحسن القراءة والكتابة، وحيثما توجهت ترى البوابين وساقة المركبات وصغار الباعة وخدم المنازل والقهوات حتى مسَّاحي الأحذية يطالعون الجرائد والكتب، ويهتمون بالشئون العامة ويبحثون في السياسة، ويتناقشون في التعليم والأحزاب وينتقدون أعمال الحكومة، والسبب في ذلك العلم بالحقوق والواجبات، فإنه عام في كل بلدة وقرية، فتنبهت الأذهان وتفتحت الأعين وتعلَّم العامي معنى الاجتماع والاتحاد، وخصوصًا بعد الانقلاب الذي جعل كل شيء في أيدي العامة؛ لأنهم قلبوا الحكومة واستبدوا في الشرفاء والأمراء، فتشكلت الأحزاب من العامة، وارتقت نفوسهم، ورافق ذلك كثرة الاختراعات الصناعية التي أغنت أصحاب الأموال «الخاصة» عن كثير من العمال فتضايق العمال وهم من العامة، واضطروا إلى الاجتماع والاحتجاج والمطالبة وهو الاعتصاب، وساعدهم على ذلك شيوع مذهب الاشتراكية، واحتياج النواب إلى العامة في التصويت عند الانتخابات النيابية، وكل نائب يجتهد في اكتساب رضى القوم في البلد الذي ينوب عنه حتى يصوتوا له. فازداد العامة نفوذًا وطمعًا، وأكثروا من الاعتصاب حتى أتعبوا أصحاب الأموال وحمَّلوهم خسائر عاد معظمها على الجمهور؛ لأنها آلت إلى ارتفاع الأسعار.

فالحرية التي نالها العامي الفرنساوي صانت حقوقه من جهة، لكنها أضرت به وبالأمة من جهة أخرى؛ لأن العامي مهما بلغ من ارتقائه لا يبرح قصير الإدراك، وإنما يتدرب على الاجتماع والصياح مع الصائحين فينحاز إلى هذا الحزب أو ذاك لا عن تفطن وإدراك، وإنما هو يُساق بعواطفه ويندفع بما يخطر له حسب المؤثرات الخارجية. والعامي الفرنساوي مدمن للمسكر كما تقدم، أضف إلى ذلك حدة مزاجه، فإذا ضربت له وترًا حساسًا كالدين أو الوطنية أو غيرها اندفع لما تريده منه، فالغلبة لمن يستطيعون استهواء هؤلاء العامة لأغراضهم بالفصاحة أو نحوها.

والنفوذ الحقيقي للخاصة؛ لأنهم أقوى عقولًا وأكثر وسائل، ذلك هو شأن الجماعات في كل بلد: يختصم الخاصة على السيادة أو الكسب، فيستنصرون العامة بعضهم على بعض بما يستطيعون من الأساليب فينصرونهم، وينفِّذون أغراضهم، والعامة يتوهمون أنهم يفعلون ذلك من تلقاء أنفسهم. مهما بلغ من رقي العامة وحريتهم فالخاصة هم أصحاب السيادة الحقيقية، وهم كالأوصياء على العامة يسنون لهم الشرائع ويضعون لهم القوانين ويدربونهم في شئونهم السياسية والاجتماعية حتى أحوالهم اليومية، فإن الحكومة الفرنساوية تهتم بها كثيرًا، وقد فرضت على العامل أن يرتاح يومًا في الأسبوع فإذا لم يفعل عُدَّ مذنبًا، وإذا كان عمله لا يأذن له بالراحة كخَدَمة المطاعم والقهوات ونحوها، دبَّرت الحكومة وسيلة تمكنه من الراحة؛ وذلك أنها أمرت العامل من هؤلاء أن يختار يومًا من الأسبوع يرتاح فيه، وعينت مَن يقوم مقامه في ذلك اليوم ويستولي على أجرته. وعندهم طائفة من العمال تحت الطلب لهذا الغرض، فبهذه الواسطة يشغلون سُبع العمال ويريحون جمهورهم، لكن بعض العمال يشتكون من هذه المعاملة؛ لأنها تضيع عليهم سُبع دخلهم؛ ولأنهم ينفقون في يوم الراحة أكثر من يوم الشغل. وللإنكليز عناية مثل هذه أو أشد منها في تدبير شئون العامة سنأتي عليها في مكانها.

(١-١٦) المرأة في أوروبا

كانت المرأة في الأعصر المظلمة بأوروبا وغيرها مرذولة محتقرة تُعد من قبيل المتاع، وكان للرجل أحيانًا أن يبيع امرأته بالمزاد العمومي. وتفنن الكتاب والشعراء في هجائها وانتقادها. وتباحث اللاهوتيون طويلًا في «هل للمرأة نفس» وزعموا أنها «باب جهنم» و«معمل أسلحة الشياطين، وصوتها فحيح الأفاعي» وأنها «نبال الشياطين» و«سامة كالصل، وحقودة كالتنين»، وقال الشاعر العربي:

إنَّ النساءَ شياطينُ خلقنَ لنا
نعوذُ بالله من شرِّ الشياطين

فلما بزغ نور التمدين الحديث، وتحولت العلوم والمعارف من النظريات والتقاليد إلى الاختبار والدرس كان في جملة ما همَّهم «المرأة»، فأدركوا خطارة مركزها في الهيئة الاجتماعية، وأن النجاح معقود بتعليمها وترقية نفسها؛ لأنها قوام العائلة، ومربية الأبناء وشريكة الرجل في أحوال الحياة، فقدَّموها وعلَّموها ورفعوا منزلتها، فقامت تطالب بحقوقها. واختلف الكتاب في مقدار تلك الحقوق لكنهم اتفقوا على احترام المرأة وإجلالها حتى مثَّلوا بها الفضائل والمفاخر، فإذا أرادوا تصوير الحرية مجسمة نحتوا لها تمثال امرأة، وهكذا فعلوا بتمثيل الاتحاد والبلاغة والعمل وغيرها من الفضائل المجردة، فإنهم يمثلونها بصورة امرأة. والفرنساويون من أكثر الأمم احترامًا للمرأة.

(١-١٧) المرأة الفرنساوية

أخرجوا المرأة من ظلمات الجهالة، وأطلقوا سراحها، واعترفوا بحقوقها وساووها بالرجل، ما له وما عليه، فبرزت من خدرها، وتعاطت أعمال الرجال، وسابقتهم في كثير من أعمالهم؛ لأنها أقل أجرة من الرجل فكثر استخدامها فيما تستطيعه من المناصب والمهن. فمن النساء عندهم بائعات في المخازن وعاملات في المناجم والمصانع والمعامل، وخادمات في المنازل وكاتبات في المتاجر والشركات، وفي بيوت التلغراف والتلفون والبريد وحاسبات في المصارف، وقد تعاطين أهم المهن العلمية كالمحاماة والطب والتحرير والشعر والتأليف والوعظ والعمل في معامل الكيمياء والبكتريولوجيا، وغير ذلك. وأنشأن الجمعيات العلمية والأدبية والأندية الاجتماعية، وألَّفن الأحزاب السياسية للمطالبة بحقوقهن، وتعاطين كثيرًا من الصنائع الحقيرة، أو المتعبة، فمنهن غارسات في الحقول ومنظفات في الشوارع — حتى سوق المركبات فقد شاهدنا واحدة منهن تسوق مركبة بالأجرة في شوارع باريس فأدهشنا ذلك، فأخبرنا صديق كان معنا أن في باريس ١٢ سائقة مثل هذه — والسبب في نزول المرأة هذه المنزلة عندهم أن الفتاة الفرنساوية تنشأ في منزل والديها كما ينشأ الغلام، ويُطلب منها أن تتكسب بالشغل كما يتكسب هو. وهي تجالس الرجل وتحادثه وتباحثه في كل موضوع كأنها رجل مثله، وتسافر للسياحة والاستكشاف وحدها لا ترى في ذلك بأسًا أو غرابة مما لم نألفه في بلادنا؛ فإن فتاتنا تتعلم أو لا تتعلم، ثم تمكث في منزل والديها في انتظار نصيبها للزواج وزينتها الحشمة والحياء، ولا يخطر لأهلها أن تعمل عملًا، فهي إما أن تتزوج أو تبقى عانسًا في بيت أبيها ولا تشتغل إلا نادرًا، وأكثر اشتغالها بالتعليم أو الخياطة، ويندر أن تتعاطى عملًا آخر، ومهما بلغ من حريتها فهي لا تجالس غير معارفها وذوي قرباها.

أما الإفرنجية فحالما تخرج من المدرسة تمضي إلى السوق كما يمضي الشاب، فإذا أتاها النصيب تزوجت، فيشغلها الزواج عن الارتزاق اكتفاء بعمل زوجها، وإلا فإنها تشتغل هي أيضًا، ولا يخفى ما في ذلك من تضاعف الأيدي العاملة في الأمة الفرنساوية؛ أي إن العمال من الجنسين نحو ضعفي العمال عندنا بالنسبة إلى عدد السكان. والمرأة الفرنساوية في القرى والبلاد الصغيرة مثال الاقتصاد والترتيب والعطف على أولادها والأمانة لزوجها، وكذلك المرأة في العائلات الراقية من الطبقة الوسطى والعليا، لكن هذه الحرية أدت في المدن الكبرى إلى تشويه ذلك الجنس اللطيف في طبقة معينة من العامة. وهذا التشويه أخذ في الامتداد، ويُخشى أن يجر إلى انقلاب اجتماعي وخصوصًا في باريس أم المدائن الجميلة.

كنا نشكو من جهل الفتاة الشرقية وحجبها، ونحسد الفتاة الإفرنجية على تعلمها وحريتها، فلما رأينا حالها في باريس انقلبت شكوانا، وكدنا نرضى بالحجاب والجهل، إنهم أساءوا إلى ذلك المخلوق اللطيف بتلك الحرية المتطرفة. أرسلوا المرأة إلى الأسواق تخالط الشبان وتبايعهم وتساومهم وتعاشرهم، وهي ضعيفة حساسة، فتعرضت لمفاسد كثيرة، وأغراها الشبان بالمال فخدعوها، فلما خرجت من صف الحرائر خدعتهم، ثم آل أمرها إلى ضياع العمر في الشوارع والأزقة، لا تجد رزقًا إلا باستهواء الشبان. وفي القاهرة مثال صغير من تلك الطبقة يُعرفن ببنات الرصيف. أما هناك فإنهن ألوف، ولا تكاد تخلو منهن حديقة أو منتزه أو شارع، ولا سيما في أثناء الليل ولا حرج عليهن بحجة الحرية الشخصية. والحكومة الفرنساوية تبيح الفحشاء على شروط وضعتها وقوانين سنتها، فأباحت للمتجرين بالأعراض أن يبتنوا المنازل والقصور، ويحشدوا فيها الغواني أصنافًا وألوانًا يعرضونهن عرض السلع أو الأثاث بلا عيب ولا حياء، ولهم سماسرة في أيديهم شهادات من الحكومة تخوِّل لهم معاطاة تلك المهنة. ولهذه الطبقة من المتهتكين مجالس وأندية وجرائد وكتب لترويج تلك البضاعة. وليس ذلك جائزًا في إنكلترا، ولكن مصر اقتدت فيه بالفرنساويين كما اقتدت بسواه من أسباب تمدنهم. وما كان أجدرنا أن نأخذ الحسن النافع من أسبابه، ونعرض عن القبيح الضار.

(١-١٨) الإرساليات المصرية

ومن قبيح هذه الحرية في باريس أن من تلك الشِّباك الجهنمية كثيرًا في حي يُعرف بالحي اللاتيني quartier latin فيه أكثر المدارس العالمية التي ترسل مصر إليها شبانها ليتلقوا فيها الحقوق والطب أو غيرهما، ولا مندوحة لهم عن الإقامة هناك، والتعرض لتلك الأخطار في المراقص والملاعب؛ حيث يختلط الشبان بالشابات، فلا ينجو من ذلك الخطر إلا قوي الإرادة ثابت العزيمة. ولكن الإنسان ضعيف ولا سيما الشاب القادم من بلاد لا يرى فيها المرأة إلا محتجبة، وهو في بلده بين أهله ومعارفه يمنعه الخجل من مخالطة غير المحتجبات. أما في باريس — وكل شيء فيها مباح — فإنه يرى الشبان والشابات في الطرق أزواجًا «غير مطهرة» ذكرًا وأنثى بلا حرج ولا خجل يتداعبون ويتغازلون، ويجد من رفاقه مَن يغريه على الرذيلة، ويحببها إليه باسم الحرية، فإذا أحجم عيَّره بالضعف. فهل يُلام أولئك الشبان على السقوط؟ وإنما اللوم على الذين يرسلونهم إلى تلك المدارس. وإذا كان لا بد للحكومة المصرية، أو الآباء من إرسال أبنائهم إلى مدارس فرنسا، فمن الخطأ إرسالهم إلى باريس وتعريضهم لتلك الأخطار.

على أن هذه الطبقة من النساء ليست كلها من أهل تلك العاصمة؛ فإن فيهن كثيرات من أهل الأرياف الفرنساوية أو من خارج فرنسا، وبعضهن من روسيا وألمانيا وغيرهما، ويندر بينهن القادمة إلى باريس بقصد العهارة، وإنما يفد أكثرهن إليها للارتزاق ببعض المهن، فيتعرضن للوقوع في تلك الفخاخ، ويعينهن الفقر على الوقوع فيها؛ لأن البائعة في مخزن أجرتها فرنكان أو ثلاثة في اليوم تنفقها على الطعام واللباس والمنام يقع نظرها كل يوم على عشرات من شبيهاتها في الخلقة وأقل منها جمالًا، وكل منهن قد تأبط زندها شاب كساها أحسن الأقمشة، وزيَّنها بأجمل الحلي، فإذا قويت هذه البائعة المسكينة على محاربة الحسد، فإنها لا تقوى على مدافعة مَن يتعرض لها من أولئك الشبان الذين يغرونها بالمواعيد العريضة، ويتحببون إليها بإطراء جمالها وشكوى الغرام، وغير ذلك فتقع في الشراك، ولا يعاشرها ذلك المغرم إلا مدة ثم ينتقل إلى سواها، فتصبح غير قادرة على العمل في مهنتها الأولى، ويهون عليها الارتزاق من أمثال ذلك الشاب. واعتبر كيف تكون حالها متى ذهب شبابها وذوى جمالها!

فالعلة الأصلية في شيوع التهتك بباريس، إنما هو إطلاق سراح الفتاة ومساواتها للرجل، وتكليفها الارتزاق مثله، وإباحة الحكومة للفحشاء رسميًّا، وزد على ذلك أن الفتور الديني شائع في فرنسا حتى أصبح شبانها يُعدُّون العهارة ضربًا من التجارة، ولا فرق عندهم بين الفحشاء والتمتع بسائر ملاذ الحياة كالطعام والشراب والسماع ونحوها، فيغرون المرأة على ذلك فتطيعهم، وليس أقبح من فتور المرأة في الدين؛ لأنها أقرب إلى التقوى من الرجل، وأكثر تعففها من طريق الدين خوف العقاب، وهي دقيقة الإحساس سريعة التأثر، فإذا لم يشتغل قلبها بالتقوى والرهبة من العقاب خيف عليها السقوط؛ إذ ليس لها ما للرجل من قوة الإرادة، ومع ذلك فإنه أكثر سقوطًا منها، لكن الناس لا يعيبون سقوطه كما يعيبون سقوطها، وذلك من جملة مظالم نظام الاجتماع.

في شوارع باريس ألوف من الفتيات لولا هذه الأسباب لكُنَّ أمهات وربات عائلات يربين أبناءهن رجال المستقبل على الفضيلة بدلًا من ضياع شبابهن في الرذيلة، ويضيع معهن ألوف من الشبان بلا عقب؛ لأن هذه الإباحة من أكبر أسباب العقم في فرنسا؛ إذ يمسك الشبان عن الزواج تخلصًا من متاعبه وهمومه، واكتفاءً بملاذه الوقتية بثمن قليل لا مسئولية بعدها ولا تعب. فلا نبالغ إذا قلنا إن فرنسا بين يدي خطر اجتماعي يهددها، ولا تخرج منه إلا بعد انقلاب عظيم.

بلغ عدد اللقطاء في باريس للعام الماضي ثمانية عشر ألفًا لا يعرفهم آباؤهم، فهم من نتاج هذه الرذيلة، من نتاج الإفراط في الحرية والفتور في الدين. إن الجهل والحجاب يضران المرأة، ويؤخران الهيئة الاجتماعية عن أسباب المدنية، لكن الحرية الزائدة مع العلم أو بدونه تفسد المجتمع الإنساني وتضر بالعائلة، وحال فرنسا الاجتماعي أكبر شاهد على ذلك؛ لأن إحصاءها يكاد يكون الآن كما كان منذ أربعين سنة ولم تبقَ أمة لم يتضاعف إحصاؤها في أثناء هذه المدة.

خُلقت المرأة أُمًّا تدبِّر العائلة وتربي الأولاد، وتعليمها ضروري للقيام بمهمتها الطبيعية في الشئون العائلية، وأما تكليفها بأعمال الرجال فإنه خارج عما خُلقت له — إلا إذا اضطُرت إليه لأسباب قهرية — ولكننا نرى بعض كبار العلماء يجيزون لها كل عمل يعمله الرجل، وأن تتعاطى كل صناعة أو مهنة لأنها مساوية له، وبعضهم ألَّف كتبًا في هذا الموضوع، خلاصتها أن المرأة يجب أن تعمل كل أعمال الرجل من صناعة أو علم أو تجارة أو زراعة بحجة تضاعف الثروة بتكاثر الأيدي في العمل، وهو رأي نظري لا ينطبق على حاجة المجتمع الإنساني. إذا نزل الرجل والمرأة إلى السوق مَن يربي الأطفال ويدرِّبهم ويُعنى بأحوالهم؟ فإن قيل إن المراضع والخدم يفعلون ذلك قلنا: إن الطفل لا تربيه إلا أمه، وإذا فرضنا قيام الخدم مقامها، فالنفقات التي يستلزمها استخدامهم تستغرق ما تكسبه المرأة بالعمل خارج بيتها.

ومهما بلغ من ارتقاء الجنس البشري في الاستكشاف والاختراع فإنه لا يقوى على قلب نظام، وهذا النظام يقضي على الأم أن تربي طفلها بحيث لا يخرج من دائرة عنايتها، وأن يكون هو أهم مشاغلها مع تدبير بيتها وليس ذلك بالشيء اليسير. إن القيام بشئون العائلة لا يقل أهمية عن أعظم عمل من أعمال الرجال في التجارة أو السياسة أو الصناعة أو غيرها.

(١-١٩) الخلاصة

في مدنية فرنسا وغيرها من مدنيات أوروبا حسنات كثيرة يجب علينا اقتباسها والاستفادة منها، ولكن فيها سيئات يجب تجنبها والابتعاد عنها. فالحسنات التي يحسن بنا اقتباسها هي:
  • (١)

    معرفة الواجب.

  • (٢)

    المحافظة على الوقت وصدق المواعيد.

  • (٣)

    تهذيب أخلاق العامة بالتربية الصحيحة.

  • (٤)

    تعليم المرأة وتثقيفها.

  • (٥)

    ترقية التعليم والتوسع في الآداب.

  • (٦)

    العمل والجد.

أما ما يجب علينا تجنبه من أدران تلك المدنية فأهمه:
  • (١)

    الإفراط في الحرية واستخدامها في غير موضعها.

  • (٢)

    ما يخالف الحشمة الشرقية، على أن نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا.

  • (٣)

    الفتور في الدين والمجاهرة في الكفر؛ فإنه من أسس ذلك الخراب.

وسنتكلم عن متاحف فرنسا وآثارها فيما يلي:

(١-٢٠) آثارها

المراد بالآثار عادة ما يتخلف عن الأمة من الأبنية والتماثيل وغيرها من المصنوعات المحسوسة الدالة على عظمتها أو مهارتها، كالآثار المصرية واليونانية والرومانية. ولكنَّ للأمة آثارًا معنوية تتناقلها الأمم عنها وتقلدها فيها، فيكون لها أثر حي في تمدنها ونظام اجتماعها، أو علومها وآدابها فيذكرها لها التاريخ، كما نذكر أحرف الهجاء للفينيقيين والأدب والفلسفة لليونان والشريعة للحامورابيين واليهود، والقواعد السياسية والحربية للرومان، ونهوض أمم الشرق للعرب. فآثار الأمة الفرنساوية معنوية، أو محسوسة.

آثار فرنسا المعنوية

فآثار فرنسا المعنوية في هذه المدنية كثيرة منها:
  • (١)

    الحرية واستقلال الفكر: إن للفرنساويين الفضل الأول في نشر روح الحرية بأوروبا وغيرها، وهم قدوة الأمم في بث هذه الروح على أثر نهوضهم لخلع نير الملكية والمناداة بالحرية والإخاء والمساواة.

  • (٢)

    استخدام اللغة الفرنساوية في المخاطبات الرسمية بين الدول المتمدنة؛ فإنه من آثار نفوذ الدولة الفرنساوية في العالم المتمدن.

  • (٣)

    الألفاظ الفرنساوية السياسية والعلمية والأدبية في لغات أوروبا؛ فإنها من أدلة تفوق الفرنساويين في هذه الشئون واقتباس تلك الأمم عنها.

(١-٢١) فضلها على الشرق

لفرنسا فضل خاص على الشرق الأدنى من أوجه كثيرة تظهر آثاره في أخلاق أهله وآدابهم؛ إذ لم يكن لهم علمٌ بأسباب المدنية الحديثة قبل أواخر القرن الثامن عشر؛ إذ حمل عليه بونابرت يريد اكتساحه كما اكتسحه الإسكندر قبله، لكنه لم يأته بالعدة والسلاح فقط، بل نقل إليه بذور التمدن وأصول المعارف، فأرفق حملته الحربية بحملة علمية جمعت نخبة علماء فرنسا في ذلك الحين. لم يوفق بونابرت في فتوحه الشرقية، فعاد على أعقابه وظلت تلك البذور كامنة حتى نهض من رجال الشرق مَن أحسن تعهدها وتربيتها فنمت، وكان منها ما كان من نهضة مصر والشام. فالسوريون والمصريون والأتراك والفرس لما هموا بهذه المدنية كان معظم تعويلهم في اقتباسها على الأمة الفرنساوية، فتعلموا لغاتها وترجموا علومها، وقلدوها بآدابها وعاداتها وأخلاقها. كذلك فعل المصريون على يد محمد علي بأوائل القرن الماضي؛ فإن الإصلاحات التي أحيا بها القطر المصري كان أكثر تعويله فيها على الفرنساويين، استخدم جماعة منهم في التعليم والتنظيم، مثل المسيو جومار المهندس الفرنساوي الذي أرشده في الإرساليات العلمية إلى فرنسا، والدكتور كلوت أنشأ له المدرسة الطبية، وسليمان باشا (الجنرال سيف) نظَّم له الجندية، ولينان باشا هندَّس القناطر الخيرية. وهناك عشرات من رجال العلم والأدب الفرنساويين استخدمهم محمد علي في نهضته، ونقل كثيرًا من الكتب الفرنساوية إلى اللغة العربية، واقتبس طرق الفرنساويين في المدارس والجندية وفي الزراعة والصناعة وغيرها.

واقتدى به خلفاؤه على العرش الخديوي ولا سيما إسماعيل؛ فإنه استخدم كثيرين منهم في الإدارة والتعليم، وأشهرهم ماريت باشا مؤسس المتحف المصري، ولا يزال هذا المتحف في عناية الفرنساويين إلى اليوم.

والفرنساويون أول مَن أنشأ جريدة بمصر «فرنساوية»، وهم أول مَن أسَّس مجمعًا علميًّا فيه institut وأول مَن نقل إليها أدوات الطباعة — نعني المطبعة التي أتى بها بونابارت في حملته، وكان يطبع عليها منشوراته وأوامره بالعربية، فلما أراد محمد علي أن ينشئ المطبعة الأهلية كانت تلك المطبعة أساسًا لعمله.

واعتبر ذلك أيضًا في سوريا، فإن للفرنساويين شأنًا خاصًّا فيها؛ لأنهم دخلوا في شئونها منذ بضعة قرون، ولا يزال السوريون حتى الآن يقلدون فرنسا في أسباب هذه المدنية، وقد نقلوا أهم آدابها إلى العربية. وقلَّدوا شعراءها وأدباءها، وبعضهم يعرف عن تاريخ آداب اللغة الفرنساوية أكثر مما يعرف عن آداب اللغة العربية — إلا التمثيل، فإن مارون النقاش اقتبسه عن الإيطاليان، لكن مَن جاء بعده عوَّل في إتقانه على الفرنساويين.

ولما نهض الأتراك في الآستانة لاقتباس المدنية الحديثة كان أكثر اعتمادهم في نقل الآداب الحديثة على الفرنساويين، فنقلوا عن روسو، ومونتسكيو، وهوغو وغيرهم. وأكثر الأفكار الحديثة التي اقتبسها الشرقيون في القرن الماضي أخذوها عن الأدباء الفرنساويين.

وهكذا فعل الفرس لما أخذوا في نهضتهم بأواسط القرن الماضي، فإن ناصر الدين شاه أرسل سنة ١٨٥٤ أربعين شابًّا من أدباء الفرس وأهل العصبية إلى فرنسا لتلقي العلوم كما فعل محمد علي قبله، وعاد هؤلاء إلى بلادهم، وعملوا على نشر العلم بإنشاء المدارس على اختلاف مواضيعها. وهكذا فعل أيضًا في تنظيم الجند؛ فإنه نظَّمه على النمط الفرنساوي، وبعث إلى فرنسا ٢٠ ضابطًا تخرَّجوا فيها على ذلك النظام.

(١-٢٢) آثار فرنسا البنائية

أما الآثار البنائية في فرنسا فإنها لا يمكن حصرها، وإنما تقتصر على ما شاهدناه منها في باريس وليون، وهو كثير يدخل فيه القصور والجسور والميادين والكنائس والمراسح والأضرحة، نكتفي بفذلكة عامة ونخص بالوصف أهمها: فالكنائس في باريس عديدة تزيد على ٧٠ كنيسة أشهرها نوتردام، وهي كنيسة قديمة العهد أُعيد بناؤها في النصف الثاني من القرن التاسع للميلاد، ثم جُددت في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ولم يتم بناؤها إلا في منتصف القرن الثالث عشر مع إضافات وتجديدات لحقت بها بعد ذلك، وأجمل ما فيها من حيث فن البناء واجهتها، تم بناؤها سنة ١٢٤٠.

مساحتها ١٣٠ مترًا طولًا في ٤٠ مترًا عرضًا، و٣٥ مترًا علوًّا، قبتها قائمة على ٧٥ سارية كبيرة أكثرها مستديرة الشكل رومانية. والمنبر في الصدر قائم على ١٠٨ أعمدة صغيرة متقنة الصنعة والنقش. وفي أرض الكنيسة وجوانبها عدد كبير من الأضرحة للمشاهير، ولا سيما أساقفة باريس. وأهم ما في هذه الكنيسة مما يهم القراء الاطلاع عليه خزانة تحفها، وهي غرف بُنيت سنة ١٨٥٠ فيها تحف أكثرها حديث ليس له أهمية فنية وإنما أهميتها بانتسابها إلى مُهديها، منها كأس مقدس من الذهب أهداه نابليون الثالث للكنيسة، ومن التحف القديمة صندوق منقوش يُنسب للقديس توماس بيكت على طراز القرن ١٣، ومن الآثار التاريخية الصليب المذهب الذي حمله القديس فنسان دي بول قرب فراش لويس الثالث عشر وهو يحتضر، والرداء الذي اتشح به نابليون بونابرت عند تتويجه. ولكنيسة نوتردام برج علوه ٦٩ مترًا.

كنيسة لافوفير في ليون

ورأينا في ليون كنيسة قديمة العهد تُعرف بكنيسة نوتردام دي فوفير يحج إليها الناس من أطراف العالم المسيحي بأوروبا، قائمة على تل علوه ٢٩٧ مترًا يصعدون إليها بترامواي كهربائي يُجر بالأسلاك الغليظة، يرجعون بتاريخ بنائها إلى القرن التاسع، ثم تجددت مرارًا آخرها في أواخر القرن الماضي، وقد احتفظوا بكثير من البناء القديم. طول الكنيسة من الداخل ٦٦ مترًا في عرض ١٩ مترًا، وإنما استلفت نظرنا ما على جدرانها من الصور الكبيرة المرسومة بالفسيفساء، طول الواحدة بضعة أمتار في مثلها عرضًا، مرسومة في الأجيال الوسطى، منها صورة معركة بحرية جرت سنة ١٥٧١ في مضيق لبانت قرب كورنثية بين أسطول السلطان سليم الثاني العثماني وأساطيل إسبانيا والبندقية وجنوى ومالطة والبابا بيوس الخامس، وهي معركة شهيرة في تاريخ الدولة العثمانية انتهت بفشل العثمانيين. كانت العمارة العثمانية مؤلفة من ٣٠٠ دارعة بقيادة القبودان موذن زاده علي باشا. والعمارة المسيحية مؤلفة من ٧٩ دارعة بقيادة دون جوان دوتريش و١٢ دارعة للبابا بيوس بقيادة مارك أنطوان كولونا و١٤ دارعة بقيادة فانيرو البندقي. غير الجند الإسباني. ولما التقى الجيشان في ذلك المضيق تبادلوا إطلاق المدافع فأُصيب القبودان العثماني بقنبلة قتلته ففشل جنده، وتوقف العثمانيون عن مواصلة الفتح غربًا كما توقف العرب عن الإيغال في أوروبا بعد واقعة بواتيه التي غلبهم فيها شارل مارتل قبل ذلك بثمانية قرون.

وقد مثَّل المصور تلك المعركة وفيها سفن لجيشين ومواقعهم حتى انتهت باحتراق سفن العثمانيين، وكل ذلك بالفسيفساء الملونة ولا تزال واضحة مع أنها صُنعت منذ نيف وثلاثة قرون.

وهناك صور أخرى مثل هذه تمثِّل بعض الحوادث الدينية، منها وصول القديس بوتين إلى ليون، وبعض تلك الصور كاد يُمحى من طول الزمن.

قصر الأنفاليد في باريس

وفي باريس من التماثيل، أو الأنصاب في الشوارع العمومية عدد كبير ذكرناه في غير هذا المكان، فنكتفي هنا بذكر أهم ضريح يعظِّمه الفرنساويون ويشاركهم في تعظيمه سائر الأمم نعني ضريح نابليون بونابارت في قصر الأنفاليد.

وقصر الأنفاليد بناء فخيم مؤلَّف من قاعات عديدة، بعضها متاحف للأسلحة التاريخية وبعضها لمعروضات أخرى، أهمها القبة التي تتضمن ضريح نابليون الأول، سنعود إليها بعد الإيجاز في وصف أهم ما يحويه قصر الأنفاليد من الآثار والتحف، وإن كانت هذه من قبيل المتاحف، لكننا نذكر هذا على سبيل الاستطراد، ففي ساحة القصر مدافع تاريخية منها ١٧ مدفعًا من جزائر الغرب عليها كتابة عربية إلى أحد جانبيها مدفع صيني وإلى الجانب الآخر مدفع كوشنشيني، غير مدافع نمساوية صُبت في فينا بالقرن السابع عشر حملها نابليون إلى باريس سنة ١٨٠٦، ومدفع حُمل في معركة سباستبول سنة ١٨٥٦ وغيرها.

أما القصر فقد بناه لويس الرابع عشر، بدأ به سنة ١٦٧١ مساحته ١٢٦٩٨٥ مترًا مربعًا عرض الواجهة ٢١٠ أمتار، أُنشئ ليقيم فيه المتقاعدون من الجند الفرنساوي يسع ٧٠٠٠ جندي. وقد تغيَّر الغرض المراد به ذلك، واستخدموا قاعاته للمتاحف العسكرية، منها متحف الطبجية والمتحف التاريخي. وفي متحف الطبجية نحو عشرة آلاف قطعة من البنادق والمدافع القديمة والحديثة مرتبة حسب أنواعها، بينها الأعلام والأدراع والخوذ، وفي جملتها أسلحة ألمانية من أوائل القرن السادس عشر، وبين الأعلام علم جان دارك. وفيها أسلحة البوربونيين من لويس الرابع عشر فما بعده، وبينها سيوف فرنسيس الأول، وهنري الثاني، وشارل التاسع، وغيرهم شيء كثير.

وهناك أسلحة شرقية في قاعة خاصة بخزائن يختص كل منها بأمة من أمم الشرق فيها أمثلة من أسلحتها مثل ملقا، والهند، والصين، واليابان، والبلقان، وسركاسيا، ومراكش، وتركيا، من السيوف والبنادق، بينها بندقية أمر نابليون بصنعها في روتردام على الخصوص لسلطان مراكش، غير كثير من البنادق التركية، وبنادق بربرية حملوها من سرقوسة سنة ١٨٠٨، وبنادق عربية وخناجر فارسية، وخزانة خاصة بالأسلحة الإسلامية فيها أدراع عربية على كل منها اسم الله منقوش بالعربية.

وقاعات للألبسة الحربية باختلاف الأمم الآسيوية والأفريقية وأصناف الناس، بينها المركبة التي نقلوا عليها عظام نابليون من جزيرة القديسة هيلانة.

أما المتحف التاريخي ففيه الأسلحة التي لها قيمة تاريخية، من جملتها أربعة من سروج المماليك غنمها الفرنساويون في معركة الأهرام سنة ١٧٩٨، وسيف نابليون الأول، وقبعته، وطبنجته، وكبوته، ودرع له اخترقتها رصاصة في معركة وترلو. وفي قاعات أخرى تذكارات من حروب الجزائر سنة ١٨٣٠–١٨٥٧، وحروب القرم سنة ١٨٥٤، وحرب إيطاليا سنة ١٨٥٩، والصين سنة ١٨٦٠، والمكسيك سنة ١٨٦٢، وحرب فرنسا وبروسيا سنة ١٨٧٠ كل قاعة لنوع من الآثار، بعضها للثياب والبعض الآخر للأسلحة أو الرسوم أو الحلي غنمتها من حروبها في المستعمرات بالجزائر ومراكش والصحراء، والسينغال والسودان ومداغسكر والهند الصينية وتونكين والصين، بينها رايات من وادي ومجوهرات الحاج عمر من النيجر، وسيف مرصع لإمبراطور أنام أُخذ منه سنة ١٨٨٥ وغير ذلك.

ضريح نابليون في قصر الأنفاليد

هو عبارة عن قبة علوها ١٠٧ أمتار، تشتمل ضريح نابليون وكنيسته. والقبة عليها من الخارج نقوش مذهبة يشرف عليها القادم من بُعد؛ إذا دخلتها وجدت في وسطها ضريح نابليون، وبين يديه هيكل الكنيسة، وإلى جانبي الضريح أضرحة جماعة من قواد لويس الرابع عشر. وبين يدي الكنيسة أربعة مذابح مستديرة يُدخل إليها من قناطر سفلية صغيرة فيها أضرحة أعضاء أسرة بونابرت، ولا يستطيع الواقف عند ضريح ذلك الرجل العظيم إلا الاعتبار والتأمل فيما أنفقه القوم في تعظيم ضريحه، وما نصبوا حوله من الأعلام والتماثيل. إن الدهشة تستولي على المتأمل من ميل البشر إلى تعظيم الفاتحين، لا تقدر وأنت واقف بين يدي ضريح هذا النابغة إلا الصمت والذهول؛ لما يتجلى على المكان من الوقار كأنك ترى بونابرت واقفًا بين قواده ووزرائه، وكلهم مطرقون رهبة وإجلالًا، وقفنا برهة ونحن نراجع تاريخ صاحب هذا الضريح فتبين لنا أنه أكثر القادة طمعًا في السيادة وأقدرهم على القيادة وأشدهم استهواء لرجاله، حتى كانوا يلقون أنفسهم في النار تفانيًا في طاعته ولا يبالون. قضى نابليون أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر وهو يحارب ويجالد، فقلبَ العروش ودوَّخ المماليك ونثر التيجان وقتل النفوس، وقد مضى على سقوطه قرن، ولا يزال العلماء مختلفين في تقديره كأن الدهشة لا تزال آخذة بعقولهم. أما الذي نعلمه ولا خلاف فيه فهو أن نحو مليونين من الناس قُتلوا في سبيل له أو عليه، وعقب تلك الحمى الاجتماعية رد فعل عاد ببعض النفع للمجتمع البشري لا نظنه يعوض تلك الخسارة.

أما الضريح فإنه قائم تحت منتصف القبة على قاعدة من الرخام في حجرة من الرخام مستديرة كالحفرة قطرها ١١ مترًا وعمقها ستة أمتار لا غطاء فوقها، وفي وسط الحجرة قبر نابليون يحتوي على بقاياه التي نُقلت من جزيرة القديسة هيلانة سنة ١٨٤٠ وقد بُني ذلك الضريح من سنة ١٨٤٢–١٨٦١، وطول القبر من الأعلى أربعة أمتار في عرض مترين، وعلوه أربعة أمتار ونصف متر. وهو مؤلف من خمس قطع من البورفير (الرخام السماقي) من فنلاند، وعليه نقوش ورسم التاج، وأسماء المواقع الكبرى التي قاتل فيها نابليون وهي: ريفولي، والأهرام، ومارنكو، وأسترليتس، وبينا، وفريدلاند، وواغرام، وموسكو. وحول الضريح تماثيل منتصبة عددها ١٢ ترمز عن انتصارات نابليون الكبرى. وعشر نقوش رخامية، وست حزم فيها ستون راية مما اكتسبه من أعدائه. وفي داخل قبة الأنفاليد كثير من تماثيل العظام كالقواد وغيرهم من أصحاب بونابرت.

القصور والمراسح وغيرها

ومن قبيل الآثار في باريس القصور، وهي عديدة كقصر الإليزه، وقصر اللوفر، وسيُذكر في الكلام عن المتاحف. وكذلك قصر لوكسنبرج، والتوكاديرو، والبانتيون، وغيرها. ومنها المراسح وهي أربعون مرسحًا، وفيها الأوبرا الشهيرة. ومن قبيل الآثار أيضًا منازل العظماء من مشاهيرهم كمنزل أوغست كونت الفيلسوف الشهير، ومنازل بلزاك، وبيفون، وكوفيه وهوغو. وفي كل منها آثار صاحبها من طاولة السرير، ومكتب، وقلم، وكتاب، وغير ذلك. ووصف كل منها يستغرق فصلًا خاصًّا وليس ذلك غرضنا هنا. ومنها الميادين أو الساحات العمومية، وهي نحو ستين ساحة أشهرها ساحة الأوبرا، وساحة الربوبليك ولا كونكورد والتروكاديرو والكوكب وغيرها.

(١-٢٣) متاحفها

المتاحف أو مستودعات التحف والآثار لمنفعة الجمهور من مستحدثات هذا التمدن اتخذته الأمم الراقية وسيلة لتوسيع معارف الناس، وترقية نفوسهم. ولا نظنه بهذا المعنى يتعدى القرن الماضي. على أن الملوك والأمراء كانوا قبل ذلك يختزنون التحف في قصورهم للتفاخر بها. ويُعد من هذا القبيل متحف الملك أحشويرش، وهيكل أفسس، ودلفي وأثينا، وقصور البطالسة في الإسكندرية.

(١-٢٤) متاحف الفاطميين

وكان للعرب حظ وافر من هذه المتاحف لم يقتصروا فيها على جميع التحف الثمينة، لكنهم أضافوا إليها كثيرًا من الآثار التاريخية والصناعية — نعني متاحف الفاطميين بالقاهرة منذ نحو ثمانمائة سنة — وكانوا يسمونها الخزائن كخزانة الجوهر، وخزائن الأسلحة، والفرش والأمتعة والبنود. وقد يُظن لأول وهلة أنها من قبيل مخازن اللوازمات الحربية ونحوها، لكننا عددناها من المتاحف لما كانت تشتمل عليه من التحف التاريخية المنسوبة لأصحابها من الخلفاء أو الأمراء، كالكئوس البادزهر التي عليها اسم هارون الرشيد، وبيت هارون الرشيد الخز الأسود الذي مات فيه بطوس، وحصير الذهب الذي يُظن أنه جُلبت عليه بوران بنت الحسن بن سهل للمأمون، وزنه ١٨ رطلًا، ورقعة للشطرنج والنرد أحجارها من الجوهر والذهب والفضة. وكان في خزائن الفرش مقطع من الحرير الأزرق التستري القرقوبي، غريب الصنعة، منسوج بالذهب وسائر ألوان الحرير، كان المعز لدين الله أمر بعمله في سنة ٣٥٣ﻫ، وفيه صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومسالكها شبه الخريطة، وفيه صورة مكة والمدينة مبينة للناظر، وعلى كل مدينة وجبل وبلد ونهر وبحر وطريق اسمه بالذهب أو الفضة أو الحرير، وكُتب في آخره «مما أمر المعز لدين الله شوقًا إلى حرم الله وإشهارًا لمعالم رسول الله في سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة والنفقة عليه اثنان وعشرون ألف دينار.» وبيت أرمني أحمر منسوج بالذهب عُمل للمتوكل على الله لا مثيل له ولا قيمة صار إلى تاج الملوك، وصار إليه أيضًا بساط خسرواني دُفع إليه فيه ألف دينار فامتنع عن بيعه.

وكان في خزانة السلاح درع المعز لدين الله، وسيف الحسين بن علي، ودرقة حمزة بن عبد المطلب، وسيف جعفر الصادق. وكان عندهم في خزائن أخرى منديل القائم بأمر الله العباسي وغير ذلك. وناهيك بالجواهر والحلي الثمينة مما لم يُعهد له مثيل عند غيرهم. هذه كلها ذهبت بالفتن في أثناء الدولة الفاطمية، وما بقي ذهب بذهاب الدولة.

على أن هذه المتاحف كانت مقفلة، لا يدخلها غير أصحابها فلا نفع للناس منها، وكذلك ما كان من هذا القبيل في الأجيال الوسطى بأوروبا. وأقدم مَن أنشأ المتاحف بأوروبا، وفيها الآثار الصناعية والعلمية والتاريخية كوسمو الأعظم في فلورنسا بالقرن السادس عشر للميلاد — أي بعد ذهاب الدولة الفاطمية ببضعة قرون — يليه متحف البابليون العاشر في الفاتيكان في ذلك القرن. والإيطاليان أسبق دول أوروبا إلى هذه المنقبة مثل سبقهم إلى إنشاء المدارس العلمية، وهي أيضًا مما اقتبسوه عن العرب، واقتدت بهم سائر أمم أوروبا، فأخذ الأمراء والملوك يجمعون التحف والمصنوعات ونحوها في خزائن بلا ترتيب ولا غرض معين غير التفاخر بها، ولم تتحول الغاية من جمعها إلى منفعة الجمهور إلا في القرن الماضي. وفي باريس من هذه المتاحف عدد كبير سنأتي على وصف أهمها وبيان ما شاهدناه فيها مما يهم القراء.

(١-٢٥) متاحف باريس

في باريس نحو أربعين متحفًا يمكن جمعها تحت عدة رءوس حسب الغرض منها، أو ما تحويه من الآثار أو التحف، منها متاحف عامة فيها كل أنواع التحف من المصنوعات على اختلاف فنونها ومن الآثار التاريخية والفنون الجميلة وغيرها، أهمها متحف اللوفر، ومنها متاحف فنية يُراد بها تنشيط الفنون الجميلة كالرسم والحفر والتصوير مثل متحف لوكسنبرج، ومتاحف حربية لعرض الأسلحة ونحوها كالمتحف العسكري في قصر الأنفاليد وقد تقدم ذكره، ومتاحف علمية أو هي معارض لعرض المجاميع الجيولوجية والتشريحية والحيوانية والنباتية ونحوها، ومتاحف دينية يُراد بها الاحتفاظ بالآثار الدينية الكنائسية كمتحف جيمي، ومتاحف تاريخية وغيرها. غير المتاحف الخصوصية التي تقدمت الإشارة إليها بين الآثار مما يُنسب إلى أصحابه من المشاهير في منازلهم كمنزل هوغو وأوغست كونت وغيرهما. ولنبدأ بوصف ما شاهدناه في أهم متاحف باريس.

متحف اللوفر: تاريخه

هو أفخم متاحف باريس وأهمها من حيث بناؤه وما حواه من التحف. ولإنشائه تاريخ يطول بنا إيراده، وإنما يُقال بالإجمال إن اسمه مشتق من اسم غابة كانت هناك لصيد الذئاب اسمها لوبار، واسم الذهب في لسانهم «لوب» فسُمي المكان «لوبرا» ثم لوفر. ويُقال إن أصل ذلك البناء قلعة بناها فيليب أوغست في أوائل القرن الثالث عشر في جملة سور باريس، ثم اتخذها شارل الخامس مستودعًا للذخائر وكُتبه، وجعلها منزلًا لائقًا بالملوك، لكن ذلك البناء لم يبقَ منه شيء، وإنما بقي ما بناه فرنسوا الأول سنة ١٥٤٦ واتصل العمل بعده على عهد هنري الثاني (١٥٤٧–١٥٥٩) ومَن خلفه، وفي جملتهم كاترين مديتشي أرملة هنري المذكور وأولادها، وهنري الرابع وغيرهم. ولم يتم بناء هذا القصر إلا في زمن نابليون الأول فإنه أمر سنة ١٨٠٥ بترميمه كله وأتم ذلك نابليون الثالث. فاتسع القصر اتساعًا لا يضاهيه فيه قصر من قصور العالم، فإن مساحته التي عليها البناء نحو ١٩٨٠٠٠ متر مربع؛ أي ثلاثة أضعاف مساحة قصر الفاتيكان. ويُقسَّم إلى قسمين رئيسيين: اللوفر القديم، واللوفر الحديث منه جزء تشغله نظارة المالية. وفي ساحة القصر حدائق نصبوا التماثيل في أركانها — فيبدأ الزائر يهتم بذخائر اللوفر قبل دخوله، فضلًا عما يشاهده من فخامة البناء وإتقان صنعه.

أما الذخائر والتحف التي يتضمنها ذلك القصر فهي مفرقة في طبقاته حسب أنواعها ومواضيعها، ففي الطبقة الأرضية الآثار الرخامية ونحوها مما يثقل حمله، ومن جملتها الآثار الآسيوية والمصرية ومنحوتات الأجيال الوسطى وأوائل النهضة إلى هذا العصر. وفي الطبقة الأولى فوق الأرضية معارض الصور الزيتية وسائر الفنون الجميلة من منحوتات ومسبوكات ومن سائر المصنوعات الثمينة قديمة وحديثة. وفي الطبقة الثانية معرض التصوير أيضًا ومعرض البحرية. وفي الأجنحة وغيرها معروضات أخرى.

أما تاريخ اتخاذ قصر اللوفر متحفًا، فيرجع إلى القرن السادس عشر بعد نهضة التمدن الحديثة، بدأ الملوك بوضع بعض التحف أو المصنوعات الجميلة وأكثرها من إيطاليا، ولكنه لم يجتمع فيه ما يستحق الذكر إلا في زمن نابليون الأول، وقد جاء جنده بالغنائم من إيطاليا وغيرها، وفيها الذخائر الكثيرة أُضيفت إلى ذلك المتحف. وما زالت تجتمع التحف فيه حتى صار إلى ما هو عليه الآن، ويُعد من أعظم متاحف العالم، وهو لِسعته لو أراد الإنسان أن يطوف غرفه ماشيًا لاقتضى لذلك ساعتين على الأقل، فكيف لدرس ما فيه أو وصفه؟ لذلك فإننا سنقتصر على ما يهم القراء منه.

(١-٢٦) المنحوتات

ففي متحف الرخاميات القديمة في الطبقة الأرضية من البناء ٣٠٠٠ قطعة مفرقة في قاعات عديدة، نذكر منها على الخصوص قاعة الآثار الأفريقية وفيها آثار شمالي أفريقيا: مصر وقرطاجة وتونس والجزائر. وقاعة الآثار الرومانية واليونانية على اختلاف الأعصر والمواضيع من تماثيل الأشخاص والوقائع، صناعتها تدهش المتأمل. منها تمثال شاب جالس وهو عارٍ ينزع شوكة من أخمص قدميه، ملامحه واضحة لدرجة غريبة. ومنحوتات تمثل عادات الرومان واليونان، من جملتها رجل عاد من الصيد فنزع رداءه، وعلقه على غصن شجرة، وعلق صيده بجانبه وأخذ يلاعب كلابه بأرنب يوهمها أنه يدفعه إليها ثم يرجعه. وتمثال آخر لرجل أخذ يلبس نعاله وهو يشد سيورها. غير عادات الرقص والموسيقى وتماثيل العظماء، أو الرموز الدينية أو الميثولوجية بينها تمثال فينوس ميلو، ويعدونه أتقن تماثيل اللوفر، وقد تغزل به الشعراء والكتاب منذ القديم. وأُعجبوا بإتقان صنعه رغم نقص ذراعيه، وهو تمثال الزهرة حملوه من ميلوس. وفي بعض القاعات تمثال نصفي لإسكندر المكدوني الكبير، ورأس هوميروس، وتمثال أبولون وديانا وباخوس ورمز عن التيبر بديع الصنع.

المنحوتات الشرقية

وقسم الآثار الآسيوية منها قاعة لآشور فيها الثوران الآشوريان الضخمان، مما ينصبه الآشوريون ببيبان الهياكل كما ينصب المصريون أبا الهول. والثور الآشوري رأسه رأس إنسان رمز عن العقل وله قوائم الثور وأجنحة النسر دلالة على القوة. وهناك كثير من القراميد الآشورية عليها الكتابة المسمارية باللغة الآشورية.

ومن جملة تلك الآثار أنقاض بلاد السوس، وفي جملتها مسلة حمورابي الشهيرة وعليها شريعته منقوشة بالحرف المسماري. وقد ذكرنا ترجمتها في السنة ١٣ من الهلال، وهي أقدم ما وصلنا من الشرائع المدونة (نحو سنة ٢٢٥٠ق.م) ومسلة ترام سين ملك أكاد سنة ٣٧٥٠ق.م، وعليها صور ذلك الملك يطارد أعداءه. والملك منيشتوسو ومسلته (نحو ٤٠٠٠ ق.م) وغير ذلك.

وفي قاعة الآثار الفينيقية عدة نواويس فينيقية من الرخام الأسود والأبيض تشبه النواويس المصرية، بينها ناووس أشمو ناصر ملك صيدا عليه كتابة فينيقية هي أطول ما وجدوه من الكتابة على النواويس. وقاعة للآثار الفينيقية القبرسية فيها شيء من المصنوعات القديمة كالتماثيل والأعمدة والأقداح. وقاعة الآثار الإسرائيلية استلفتت انتباهنا فيها على الخصوص مسلة ميشا ملك مواب في القرن التاسع قبل الميلاد، وعليها كتابة موابية تصف حروب هذا الملك مع اليهود، وهي أقدم الآثار الكتابية الأبجدية التي وقفوا عليها حتى الآن.

وقاعة الآثار المصرية، ويُعد ما فيها من الآثار المصرية من أهم ما في المتاحف الأوربية من نوعها، في جملتها تمثال أبو الهول العظيم الحجم يستلفت الانتباه عند مدخل القاعة. وهناك ضريح تاهو من صنع العائلة الخامسة والعشرين المصرية، وهو أتقن ما صُنع في ذلك العصر. وتمثال سيتي الثاني وسبك حوتب. ومثال (نسخة) لمنطقة الأبراج المصرية التي وجدوها في دندرة. وتمثال رعمسيس الثاني. وقاعة خاصة لمستكشفات ماريت باشا في السرابيوم بمصر، وتمثال العجل أبيس.

ومتحف القرون الوسطى، وبدء النهضة الأخيرة فيه من التماثيل والمنحوتات المتقنة ما يدهش المتأمل أكثرها تماثيل نصرانية، منها قاعة ميشال آنج النحات الإيطالي الشهير، بينها تمثال رخامي لأميرين مغلولين يُقال لهما العبدان، صنعهما ميشال آنج في أوائل القرن السادس عشر ليوضعا على ضريح البابا جول الثاني في رومية، يريد أن يمثل بهما الفضيلة مقيدة. وتمثال شارل الخامس ملك فرنسا (تُوفي سنة ١٣٨٠) وتمثال امرأته جاندي بوربون، وغير ذلك من التماثيل المتقنة. وهناك قاعات عديدة للمنحوتات الحديثة يضيق المقام عن ذكرها فضلًا عن وصفها.

(١-٢٧) معارض الصور

وفي الطبقة الأولى من اللوفر معارض الصور الزيتية، وغيرها مما يستحيل الإفاضة فيه، ولا يقدر الكاتب على وصف ما في صوره من دقة الصنع ما لم ينقل الصور نفسها وهي تزيد على ٣٠٠٠ صورة يختلف حجمها من بضعة أمتار طولًا إلى أقل من متر، وكلها لمشاهير المصورين على اختلاف الأعصر والبلاد والأمم، ويُعد هذا المعرض أغنى معرض من نوعه في متاحف العالم وأهمها، وفيه طائفة من أتقن ما صوره الإيطاليون، والهولنديون، والفرنساويون، وغيرهم، ومجموعة مدهشة من الصور الزيتية على القماش. ولصور رفائيل مجموعة حسنة مرتبة حسب تدرجه في إتقان هذه الصناعة، وفي جملتها صورة القديس جورجيوس يقتل التنين وصورة الملاك ميخائيل وغيرهما.

ومن صور المصورين الإسبانيين شيء كثير نُقلت من إشبيلية ومدريد، فيها صورة الطفل مرغريت رسم فيلاسكس. وهناك صور من أحسن ما صنعه الإسبانيون والهولنديون ولا سيما جان فانديك الشهير، ورامبران، وفرنسال. ومن المعروضات الألمانية لهولبين وغيره. وللإنكليز في هذا المعرض ٣٥ صورة بعضها لويلس، وكونستابل وبوننتن، ورينولد وغيرهم، وغير ذلك مما يعجز القلم عن وصفه. ونعترف بعجزنا عن وصف ما ألم بنا من الدهشة عند وقوفنا أمام هذه المصنوعات البديعة. ولم يدهشنا إتقانها أقل مما أدهشتنا كثرتها؛ فإن قاعة واحدة منها طولها ٣٧٥ مترًا جدرانها مغطاة بالصور الزيتية المتفاوتة الأقدار والأشكال، متزاحمة صفوفًا بعضها فوق بعض، وفي جملة هذه الصور صورة جوكوندة الشهيرة التي سُرقت بالأمس وشاع أمرها.

وبالإجمال فإن تلك الصور بعضها يمثل المشاهير من الرجال أو النساء، والبعض الآخر يمثل العادات كمجلس طرب بين أهل القرى في القرن السابع عشر، وولادة أمير، وفتاة عائدة من المدرسة، مأتم دفن، وبيع اللحوم، أو الحوادث التاريخية كموت سنيك، وموت شرويل، وضرب موسى الصخرة بعصاه، والعذارى الثلاث، وصلب المسيح، وتمثيل الفردوس، ومحاكمة دانيال، أو المناظر الطبيعية كتأثير الثلج في الطبيعة، ومقاتلة الذئاب، وأسد هاجم على جواد، وصورة الفجر، أو الميثولوجيا مثل هركيل، وفينوس، وأدونيس، ومنها صورة طولها عدة أمتار تغطي جدران الغرفة كلها. ومن أسماء المصورين روين، وفراغونار، ورينول، وماتيه وريغو، وروبستي ودلتنيثورتو، وجوردانو، وشمباني، وسنيدر، ولاجليار، وفان لو، وفانديك، ورفائيل، وواتو، وكوربت وماير وغيرهم كثيرون.

والرسوم التي تمثل العادات الشرقية في هذا المعرض قليلة، منها صورة تمثل استقبال سفير بندقي جاء القاهرة بملابسه الرسمية في القرن السادس عشر رسمها بليني طولها ثلاثة أمتار بمترين.

وهناك قاعات عديدة كل منها تختص بمصور شهير جُمعت مصوراته معًا، وتُسمى القاعة باسمه مثل قاعة فانديك، وقاعة روبنسن، وقاعة فرانس هال، وغيرهم. وغير القاعات المنسوبة إلى البلاد كقاعة الإيطاليين، وقاعة الهولنديين، والفرنساويين، والمراد بها بيان ما تمتاز به كل أمة من التفنن بالتصوير لفائدة طلاب هذه الصناعة من التلاميذ أو الغُواة، وللفن الفرنساوي عدة قاعات حسب الأعصر كل قرن على حدة إلى القرن التاسع عشر.

(١-٢٨) معارض المصوغات والمجوهرات

وفي هذه الطبقة من اللوفر قاعة كبيرة يسمونها قاعة أبولون، هي أجمل قاعات المتحف من حيث بناؤها وزخرفها، وقد وضعوا حول جدرانها أجمل الأثاث من زمن لويس الرابع عشر، وأقاموا في وسطها مواقف أو خزائن (فترينات) وضعوا فيها من المجوهرات والمصوغات أثمن ما في أوروبا، منها إبريق من اليشب الأسمر صنع القرن السادس عشر. وإبريق أو مزهرية من اليشب الشرقي عليه ميناء في غاية الجمال. وإبريق من اليشب. وفي فترينة أخرى مجموع مصوغات من عصر النهضة الإيطالية، وجواهر مصوغة في شكل قبة. وكئوس من الجماشب عليها ميناء أو بلا ميناء. ومصوغات من صنع فرنسا وإيطاليا. وأدوات من العصر القوطي بينها كئوس من البلور وأطباق من الذهب منزلة بالميناء صنع البندقية. وعلبة فيها ذراع شارلمان صنع ألمانيا في القرن الثاني عشر. وكأس للقديس لويس عربي الشكل عليه نقوش دينية، ويُعرف بكأس عماد القديس لويس. وغير ذلك من الأدوات المقدسة والكنائسية يطول بنا ذكرها، نكتفي منها بالمجوهرات الملوكية، وأول ما استلفت نظرنا منها ألماسة تُسمى «ريجان» هي أجمل ألماسة معروفة وزنها ١٣٦ قيراطًا، ابتاعها فيليب أورليان سنة ١٧١٧، وتُقدر قيمتها اليوم بخمسة عشر مليون فرنك، وبجانبها الماسة تُسمى مازارين، لونها هورتنسي، بينهما ياقوتة كبيرة اسمها «كوت دي بريطاني»، وإلى اليسار عقد من اللؤلؤ أمامه سيف شارل العاشر مرصع بالجواهر الثمينة، على غمده الحرف الأول من اسم نابليون. وهناك مثال لتاج لويس الخامس عشر عليه أمثلة من مجوهراته، وبجانبه تاج نابليون صُنع سنة ١٨٠٤؛ تقليدًا لتاج شارلمان أحجاره قديمة، وبينهما لوح تاريخي لذكرى صلح تيشن سنة ١٧٧٩ صنع ألمانيا، وأمامه ساعة أمير الجزائر أُخذت منه سنة ١٨٣٠، وبروش لكاترين دي مديتشي من الألماس. وقس على ذلك عشرات من القطع الثمينة المصوغة بالذهب أو الفضة والمرصعة بأنواع الحجارة الكريمة من قديم وحديث صنع فرنسا، أو إسبانيا أو غيرهما من القرن الحادي عشر فما بعده، بينها أوسمة ومداليونات مختلفة الأشكال.

وبجانبها قاعة اسمها قاعة المصوغات، فيها المصوغات القديمة قبل النهضة الأخيرة (أنتيكا)، بينها خوذة غالية من الحديد الموشَّى بالميناء من زمن الرومان، وعقد أتروسكي، وفضيات وجدت في بوسكوريال قرب بمباي هي ٢٤ قطعة من الصناعة اليونانية الإسكندرية، بعضها لا يزال كأنه صُنع بالأمس، وعدد كبير من الخواتم اليونانية والرومانية والأقراط الأتروسكية وقطع مصوغة وجدها في أزمير وغير ذلك. وفي قاعة أخرى صورة زيتية كبيرة تمثل بونابرت في زيارته المطعونين بيافا (سوريا).

وهناك قاعة خاصة بمصنوعات قديمة من البرونز وجدوها في أنقاض اليونان وغيرها من الأمم الأوربية القديمة، وقاعات كل منها خاصة بملك من ملوك فرنسا فيها رياشه وأدواته، إحداها للويس الرابع عشر، وأخرى للخامس عشر، فالسادس عشر، وكل منها تحوي ما يستغرق وصفه عدة صفحات. ومعرض للرسوم فيه ٥٠٠٠٠ رسم من أقدار مختلفة وضروب متنوعة. وآخر لمصنوعات الأجيال الوسطى، وقاعة لتحف أهداها روتشيلد للوفر قيمتها بعشرين مليون فرنك وتُعرف باسمه.

(١-٢٩) مصنوعات شرقية

وقاعة خاصة بالقيشاني الشرقي فيها قطع صنع دمشق في القرن السادس عشر، وأخرى من القاهرة، وعلبة عليها نقش باللغة العربية يُقرأ «المغيرة» يُظن أنه ابن عبد الرحمن الناصر صاحب قرطبة نحو سنة ٩٦٧م ومصابيح للمساجد. وكأس عليه اسم أبي المظفر يوسف الأيوبي سلطان حلب سنة ١٢٣٦–١٢٦٠م.

ومعرض التحف الآسيوية، منها قاعة السوس، وبلاد الكلدان، وبابل وفينيقية، أهم ما فيها مسلة فينيقية للإله سلمان، وأخرى آرامية تُعرف بمسلة تيماء ببلاد العرب. وأمثلة كثيرة من زجاج فينيقي، ومصوغات فارسية قديمة، وعقود من الذهب وقطع نقود وجدت في ضريح من البرونز من القرن الرابع قبل الميلاد. ونقود بيزانتية، ومصوغات سلوقية، وتماثيل آشورية من عصر سرجون الأول بينها خريطة مجسمة لنوموليس في بلاد السوس (سوزيانا) مُثِّلت فيها الأودية والجبال. وقاعة أخرى للتحف الفارسية القديمة، وفيها قطع بنائية من زمن أرتاكزرسيس. ومعارض لأدوات الحداد والمآتم المصرية وللآلهة المصرية يُراد بها الميثولوجيا المصرية. ومعارض للصناعة القديمة في ممالك التمدن القديم ولا سيما بلاد اليونان.

وفي قصر اللوفر جناح خاص بمعروضات الشرق الأقصى مما وهبه الفضلاء لخدمة الجمهور، وكل قاعة باسم مهديها بعضه للصين أو اليابان أو فارس، ولا سيما السوس (سوزيانا) مما يطول بنا شرحه. وشاهدنا عند مدخل اللوفر قاعة فيها قطع من جدران فينيقية مصورة بالفسيفساء عثر عليها رينان سنة ١٨٦٣ في كنيسة القديس خريستفورس قرب صور (سوريا) عليها رسوم حيوانات من أرانب وطيور، وأسود، وبقر وأسماك. منها قطعة على الأرض طولها ١٢ مترًا، ومثلها سبع قطع تختلف حجمًا ورسمًا. وضريح من رخام لكاهن قرطاجي وقطع عليها نقوش حُملت من قرطاجنة وغيرها.

وفي اللوفر من المصنوعات الجميلة المدهشة الأبسطة، أو الستائر (غوبلين) المنسوجة بالصور تجلل الجدران من القرن الخامس عشر فما بعده، وهي ثمينة وتمثل صورًا تاريخية.

(١-٣٠) المكتبة الأهلية

المكتبة الأهلية الفرنساوية من أهم مكاتب العالم، ولا نريد الإفاضة في وصفها هنا وإنما أردنا الإشارة إليها إجمالًا لذكر ما شاهدناه في معرض الأوسمة بجانبها. بناء المكتبة عظيم فخيم لا يزال العمل جاريًا في توسعته ليشغل نحو ١٦٥٠٠ متر مربع، ويُقال في تاريخ خزن الكتب فيها إن الكرولنجيين كانوا يعتنون بجمع الكتب الخطية، وكان للويس التاسع المتوفى سنة ١٣٧٠ مكتبة خصوصية، وكذلك شارل الخامس، ولويس الثاني عشر، لكن هذا الأخير يُعد مؤسسًا للمكتبة التي نحن في صددها في أوائل القرن السادس عشر. واشتغل خلفاؤه في توسيعها وحشد الكتب، وغير الكتب فيها حتى صارت إلى ما هي عليه الآن. وهي أربعة أقسام كبرى: (١) المطبوعات والخرائط. (٢) المسودات الخطية. (٣) الرسوم. (٤) الأوسمة والتحف القديمة. وفيها قاعة للمطالعة واسعة جدًّا، ففي قسم الرسوم نحو ٢٥٠٠٠٠٠ قطعة محفوظة في نحو ١٤٥٠٠ مجلد و٤٠٠٠ خريطة. وفي قسم المسودات الخطية ١٠٢٠٠٠ كتاب.

وعلى بعض المسودات العربية في هذه المكتبة صور مرسومة من القرون الوسطى، منها صورة على مسودة قديمة تمثل فرسان من العرب على أفراسهم يستخدمون النار اليونانية.

وفي المكتبة معرض للمخطوطات والمطبوعات النادرة، بينها خطوط العلماء المشاهير وتواقيعهم بأيديهم، منهم رابلي، وفيلون، وراسين، وروسو.

(١-٣١) معرض الأوسمة

هو من جملة بناية المكتبة وله باب خاص من الخارج، سُمي كذلك لما فيه من ضروب الأوسمة والنياشين يزيد عددها على ١٥٠٠٠٠ قطعة، ولكنَّ فيه تحفًا كثيرة هامة بعضها مصري، منها منطقة البروج التي عثروا عليها في دندرة ويرجع تاريخها إلى العصر الروماني، ومنها خزائن فيها تحف ثمينة تاريخية مثل ترس شيبيون بما عليه من النقوش الميثولوجية.

(١-٣٢) أثران عربيان

وأهم ما شهدناه هناك مما يهم القراء أثران عربيان يتوق كل عربي إلى رؤيتهما.
  • أولًا: سيف أبي عبد الله محمد بن علي صاحب غرناطة آخر ملوك العرب في الأندلس الذي غلبه الإسبان في أواخر القرن الخامس عشر للميلاد (سنة ٨٩٧ﻫ) موضوع في خزانة مع تحف أخرى، فوقفنا عنده برهة وراجعنا تاريخ صاحبه وكيف انقضت دولة العرب من أوروبا بانقضائه.
  • ثانيًا: هدية هارون الرشيد لشارلمان ملك فرنسا. من المشهور على أقلام الكتاب نقلًا عن كتبة الإفرنج أن الرشيد أهدى شارلمان المذكور ساعة دقاقة هي أقدم ساعة في أوروبا مع هدايا أخرى. ولم نجد ذكرًا لهذه الهدية في كتب العرب القدماء، وكنا نتوقع أن نعثر عليها في متاحف أوروبا. وقد بحثنا بحثًا دقيقًا في المتاحف التي ترددنا إليها في الصيف الماضي بفرنسا وإنكلترا وسويسرا، فلم نقف لهذه الساعة على أثر ولا ندري إذا كانت موجودة في بعض المتاحف الأخرى.

لكننا عثرنا في متحف الأوسمة الذي نحن في صدده على حجر شطرنج كبير الحجم يمثل فيلًا عليه راكب، وقد عرَّفوه بأنه بقية قطعة شطرنج أهداها هارون الرشيد إلى شارلمان.

(١-٣٣) متحف لوكسنبرج

هو متحف في قصر لوكسنبرج والقصر من أفخم قصور باريس، بُني بأمر ماري مديتشي أرملة هنري الرابع في أوائل القرن السابع عشر، واجهته الرئيسية طولها ٩٠ مترًا. وقد رُمم مرارًا وخصوصًا سنة ١٨٠٤ بأمر نابليون الأول، وجعله مقرًا لمجلس الشيوخ، وجعله غيره لغيرهم، لكن نابليون الثالث أعاده لهم. وأقام هذا القصر كثيرون من الأمراء والأميرات، وخُصص جانب منه لعرض التحف الفنية كما عُرضت تحف اللوفر، لكن بعض الزائرين يزور القصر لحضور جلسات المجلس بإذن خاص. وفي قاعة الاجتماع ٣٠٠ كرسي للشيوخ و٨٠٠ للحضور.

وإنما يهمنا من هذا المتحف ما حواه من المصنوعات الفنية حفرًا أو نحتًا أو تصويرًا. وتُقسم تحفه إلى التماثيل والصور، وفيه طائفة حسنة من السجاد أو الأستار المصورة بالنسيج مما يدهش الناظر. ومن العبث أن نحاول وصف ما هنالك لأسباب تقدم بيانها، وإنما نكتفي بالإشارة إلى بعض ما يهم القراء معرفة وجوده.

فمن المنحوتات ما يمثل بعض الحوادث التاريخية كتمثيل هاجر وإسماعيل صنع النحات إيزلين كما يتوقع أن يكون حالهما من وصف التوراة لهما. وقتلُ قابيل لأخيه هابيل. وتماثيل عظماء اليونان والرومان وغيرهم، منها تمثال داود النبي عاريًا وفي يده سيف. وقد استوقف خاطرنا تمثال امرأة عربية تطرز على المنسج. ومنها طائفة تمثل الفضائل أو الأخلاق أو العواطف كالحرية والفرح والتقوى والحنو والحزن والتألم والخوف والسذاجة والمكر والخبث، أو تمثل بعض العادات منها: فرس عربي وصاحبه بجانبه، وزنجي سوداني عليه عمامة وشملة، وجهه أسود أما العمامة فمن الرخام المعرق اللون يوهم الناظر أنه قماش منسوج.

وعلى كل تمثال اسم صانعه وفيهم نخبة من النحاتين المعاصرين منهم: مولين، وديبوا، ومارسيه، وكورديه، وإيزلين، ورودين، ودلابلانش، وإدراك ولاكورنيه وبويش، وبداسو، وهانو، وغيرهم.

أما الصور فإنها تشغل عدة قاعات جدرانها مكسوة بالصور على اختلاف أقدارها، مما يزيد طوله على ستة أمتار إلى أقل من نصف متر. ومن الصور الكبرى صورة في صدر القاعة الأولى تمثل قايين مهاجرًا مع أهله، وقد قوضوا خيامهم وساقوا أنعامهم بألوانها وأشكالها، وصورة واقعة تاريخية في مراكش فاز فيها السلطان، وساق الأعداء إليه أمواتًا وأحياء، وصور أيوب يتضرع لله، وصورة أليعازر قائمًا من الموت، وغير ذلك ما يُعد بالمئات وكل صورة يقتضي لوصفها عدة صفحات، وكلها لأشهر المصورين من معظم الأمم، وفي جملتهم ليفي، وبوغورو، وويرتس، وديلوني، وكورمون صاحب صورة قايين وهابيل، وجرفكس، وريبو، وبونا صاحب صورة داود، وبازياس، ورولنسن، وكونستان صاحب صورة موقعة مراكش، وهيبر، وجيروم، وغيرهم.

أما السجاجيد أو الستائر المعروفة عندهم باسم غوبلين فإنها عديدة، أكثرها مبسوط على جدران قاعات المنحوتات يزيد عددها على بضع عشرة أستار، قد رسموا عليها بالنسيج صورًا تاريخية، أو مجالس سياسية، في جملتها صورة لويس الرابع عشر في مجلسه، ونحو ذلك. وهي من صنع القرون المتأخرة.

(١-٣٤) متحف كليني

هو في قصر أشبه بالأديار منه بالقصور، بُني في الأجيال الأولى للنصرانية يرجع في أصل بنائه إلى أواخر القرن الثالث للميلاد، ولم يبقَ من هذا البناء إلا غرف الحمَّام، ثم صار في القرن الرابع عشر تابعًا لدير كليني، فبنى الرهبان على أنقاضه مسكنًا لهم على الطراز القوطي. تم بناؤه سنة ١٤٩٠ على يد الرئيس جاك دامبواز، وقد حافظ على شكله. وسكنته ماري ملكة إنكلترا ثالثة أزواج لويس الثاني عشر، وهي التي تُسمى الملكة البيضاء وغيرها. ولما حدثت الثورة الفرنسية أصبح البناء ملك الأمة. وفي سنة ١٨٣٣ جعله العالم الأثري إسكندر سومرار مستودعًا لتحفه وأكثرها من مصنوعات الأجيال الوسطى، وأوائل النهضة ثم صار بعد موته للحكومة.

والتحف المشار إليها من أجمل المصنوعات القديمة من كل نوع يزيد عددها على ١١٠٠٠ قطعة، فيها كثير من الأدوات الكنائسية والمنسوجات الدقيقة، بينها ضروب من التطريز والتخريم بعضه يشبه كثيرًا ما يستحدثه أصحاب الأزياء الجديدة في باريس. ولعل هؤلاء قبل أن يستنبطوا زيًّا جديدًا من المنسوجات أو المطرزات يطلعون على ما في هذا المتحف وأمثاله من الأزياء القديمة، ويستخرجون من مجموعها زيًّا جديدًا. ومما شاهدناه من المتحف ستارة «غوبلين» عليها صورة أصلها لرفائيل.

وفيه قاعة للقيشاني وأشباهه تدهش المتأمل أكثر ما فيها من فرنسا وإسبانيا وإيطاليا، وفيها خزائن مملوءة بمصنوعات البندقية من الزجاج والأطباق، عليها رسوم بديعة، رأينا على بعضها صورة شمشون ودليلة، وعلى طبق آخر رسم يونون وإيزيس.

وعلى غيره ولادة باخوس. وقيشاني إسباني عربي من القرن الرابع عشر فما بعده، وغيره صنع رودوس.

وقاعة الأدوات اليهودية فيها المفروشات والمسودات والنقود والمصوغات. وطائفة حسنة من المصنوعات العاجية والبرونزية. ورأينا من المصوغات تسعة تيجان من الذهب عثروا عليها بين سنة ١٨٥٨ و١٨٦٠ قرب طليطلة بإسبانيا، أكبرها مرصع باللؤلؤ والزفير الشرقي وغيرهما من الحجارة الكريمة مرتبة بشكل حروف إفرنجية ترمز عن اسم ركسيفونتس من ملوك الوسيقوط (من سنة ٦٤٩–٦٧٢). ورقعة شطرنج حجارتها من البلوط المعدني صنع ألمانيا في القرن الخامس عشر. وهناك طائفة من أنواع الأسطرلاب والبوصلة والساعات من القرن السادس عشر والسابع عشر.

(١-٣٥) متحف جريفن

هو متحف خاص من نوعه، فيه تماثيل من الشمع لمشاهير الرجال المعاصرين وغلاهم بملابسهم وأزيائهم. وقد أُتقن صنعها حتى يصعب على الزائر أن يميز بين التماثيل المنصوبة منها والوقوف من الزائرين. وفي جملة التماثيل المشار إليها طائفة من رجال فرنسا وغيرهم مثل رشفور كوكلين وجول كلارسي، وموريس بارس، وكليمانسو، وغيرهم، بين وقوف على انفراد أو أزواج وجماعات كأنهم يتحدثون، أو يلعبون وقد مثلوا مواقف تاريخية مشهورة مثل: عائلة لويس السادس عشر لما بلغها خبر الثورة وقد دخل الغوغاء عليهم. وروبسبير، ودانتون، وديمولين، وبيلي، ولافت، ولويس السادس عشر في سجنه. ومحكمة الثورة الفرنساوية وفيها القضاة. ومدام رولان ساعة المحاكمة. لا ينقص أحد منها غير النطق والحركة، وميرابوا في موقف الخطاب. والقبض على شارلوط كوردي. ونابليون وجوزفين يسمعان الموسيقى. وهما في موقف آخر مع مداموزيل أوغيه. ولويس نابليون. ومرات مع جمهور من السيدات. وكل جماعة في غرفة فيها الرياش والألبسة والأدوات كما كانت في وقت الحادثة مما يدهش الناظرين.

وفي الطبقة السفلى أمكنة كالدهاليز والسراديب مثلوا بها أحوال النصرانية في أوائل أحوالها يوم كان المسيحيون يتكتمون بصلواتهم وطقوسهم، وما كانوا يقاسونه من العذاب والاضطهاد. نقلنا منها صورة مأتم والقوم وقوف حول الميت يصلون عليه ويخافون الخروج به. لا يقدر الزائر لتلك الأماكن إلا التخشع لما يظهر في ملامح أولئك المسيحيين من التقوى والخشوع وصدق الاعتقاد.

ورأينا في جملة التماثيل تمثال جان دارك على جوادها بأسلحتها، وبيدها العَلَم وقد وقف بجانبها حارسان من رجالها. ومجلس البابا بيوس العاشر في كنيسة سكستين وقد جلس على عرشه وبين يديه الكردينالية بين جالس وواقف وجاث. وبالجملة فإن متحف غريفن هذا من مدهشات الصناعة. وهناك متاحف أخرى في باريس يضيق المكان عن ذكرها، نشير منها إلى متحف جيمي وهو من المتاحف الدينية، وفيه الآثار الدينية على اختلاف أشكالها باختلاف الأمم القديمة والحديثة.

(١-٣٦) متاحفها في ضواحي باريس

فرسايل

هي بلدة على نحو ٢٠ كيلو مترًا من باريس، فيها قصر لويس الرابع عشر، ومن خلفه من ملوك فرنسا. سكانها نحو ٥٠٠٠٠ نفس وفيها الشوارع المنتظمة، والساحات الفسيحة، والقصور الفخيمة. وقد بُنيت في الأصل على بقعة رملية لا ماء فيها وإنما رغب لويس المذكور في بنائها لصفاء جوها ونقاوة هوائها، فأنفق في إنشاء قصره وجلب الماء إليها مالًا طائلًا. وأحصوا عدد الذين اشتغلوا في ذلك فبلغوا ٣٦٠٠٠ رجل و٦٠٠٠ حصان، وبلغت النفقة عليها في أيام لويس الرابع عشر ما يُقدَّر بنحو خمسمائة مليون فرنك، غير الذين سُخِّروا في العمل بلا أجرة. ولعل هذا الملك السعيد اقتدى بما فعله عبد الرحمن الناصر صاحب قرطبة ببناء الزهراء، أو المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة، أو ابن الأحمر ببناء الحمراء في غرناطة. وتُقدَّر نفقات الزهراء بنحو ٥٠٠٠٠٠٠٠ دينار؛ أي نحو ما أنفقه لويس هذا على قصره في فرسايل، ولكن عدد المشتغلين في بناء الزهراء كانوا ١٠٠٠٠٠ و١٥٠٠ دابة. على أن الزهراء امَّحت الآن وعفت آثارها، وأما فرسايل فلا تزال باقية والفرنساويون يبالغون بالاحتفاظ بها.

واتخذ لويس المذكور فرسايل مسكنًا له سنة ١٦٨٢، ومنها كان يصدر الأوامر لحكومته أو جنده، وفيها تزوج مدام دي منتنون سنة ١٦٨٢ بعد وفاة ماري تريز، وصارت فرسايل بعد ذلك مقرًّا لملوك فرنسا، وفيها عُقدت أكثر الاجتماعات السياسية الهامة في أثناء القرنين الماضيين، قبل الثورة وبعدها وتقلبت على أحوال عسر ويسر، وفيها أُمضيت معاهدة سنة ١٧٨٣ بين فرنسا وإنكلترا على أثر استقلال أمريكا، وفيها نزل وليم الأول إمبراطور ألمانيا من ٥ أكتوبر سنة ١٧٧٠ إلى ٦ مارس سنة ١٨٧١ بعد تغلبه على الفرنساويين وتُوج فيها إمبراطورًا على الألمان.

متحف فرسايل

هو في قصر فرسايل، مسكن لويس الرابع عشر نفسه. والقصر وحده بما يكتنفه من الحوادث التاريخية يُعد من أهم التحف ولبنائه تاريخ طويل. وهو كالبلد الكبير بما فيه من القاعات والغرف والدهاليز والأروقة والمراسح والمجالس، يسع نحو عشرة آلاف نفس، طول واجهته الكبرى ٥٨٠ مترًا فيها ٣٧٥ نافذة. تم بناء القصر في القرن السابع عشر بما فيه من الرياش الفاخر، والتحف التاريخية أو الصناعية، وأنشئوا بين يديه الحدائق التي تأخذ بالأبصار بما فيها من البرك والأشجار والغياض والبساتين. فلما كانت الثورة الفرنساوية بيع الرياش ونُقل ما كان هناك من الصور الجميلة إلى اللوفر، لكن لويس فيليب أعاد إلى فرسايل رونقها، فجعل قصرها هذا متحفًا جمع فيه أهم مفاخر الفرنساويين التاريخية والفنية سماه «المتحف الوطني» ويُعرف أيضًا بمتحف فرسايل.

ويُقسَّم هذا المتحف إلى قسمين كبيرين: (١) قاعات لويس الرابع عشر وأهله وخلفائه، فهي كالمتحف بإتقان صنعها، وما على جدرانها وسقوفها من النقوش البديعة. (٢) المتحف التاريخي الذي أنشأه لويس فليب وفيه عدد عظيم من الصور والتماثيل أكثرها متوسطة القيمة من حيث الصناعة، لكنه أراد أن يمثِّل بها تاريخ فرنسا بحسب أطواره ورتَّب ذلك في قاعات عديدة لا يكاد يجد الزائر وقتًا كافيًا للمرور فيها، فضلًا عن درسها، فنكتفي بالإشارة إلى أهم ما فيها.

ففي الجناح الشمالي من القصر كنيسة كان يصلي فيها أهل ذلك القصر متقنة النقش والوضع، عليها كثير من النقوش الرخامية المذهبة والصور الدينية، منها صورة القيامة في وسط القبة، وعلى كل من المذابح صورة. وقاعات الصور التاريخية تُقسَّم بحسب العصور أو الأدوار، منها قاعات تاريخ فرنسا من كلوفيس إلى لويس السادس عشر، فيها صورة زيتية كبيرة تمثل أهم حوادث التاريخ في تلك المدن لأشهر المصورين مثل دلاروش، وروجيه، وشيفر، وغيرهم، وقاعات الحروب الصليبية تمتاز بإتقان جدرانها وما عليها من النقوش مع شارة قواد تلك الحروب (الأرمات)، فضلًا عن الصور الكبرى التي تمثل الحوادث التاريخية الهامة، بينها صورة تتويج إمبراطور القسطنطينية سنة ١٢٠٤ وأخرى تمثل واقعة عسقلان سنة ١١٧٧م بين الإفرنج والمسلمين، وصورة معركة طولوسة بإسبانيا بين الإفرنج والعرب سنة ١٢١٢م، وصورة طواف الصليبيين حول أورشليم سنة ١٠٩٩م، وفي إحدى هذه القاعات باب على النمط القوطي من مصنوعات فرسان رودس، أهداه السلطان محمود الثاني لفرنسا سنة ١٨٣٦م. ومن الصور التاريخية هناك صورة حصار رودس سنة ١٤٨٠م، وأخذ القسطنطينية سنة ١٢٠٤م نقلًا عن صورة في اللوفر، وصورة فتح القدس سنة ١٠٩٩ وقطع الصليبيين البوسفور سنة ١٠٩٧، وهم زاحفون على الشرق لفتح بيت المقدس.

وقاعات خاصة بصور تاريخية من سنة ١٧٩٤–١٨٣٠ بينها صورة نابليون الأول مجروحًا في راتسبون سنة ١٨٠٩ وصور أخرى عديدة يضيق المقام عن ذكرها.

وفي قاعات الحوادث التاريخية العصرية في القرن التاسع عشر عدة صور تهم قراء العربية على الخصوص؛ لأنها شرقية تمثل وقائع الفرنساويين مع العرب في الجزائر تحت قيادة الأمير عبد القادر المشهور؛ فإنه حاربهم أعوامًا طويلة، حتى كادوا ييأسون من قهره ثم وفقوا إلى ذلك بالاستيلاء على «الزملة»، وهي بلد نقال فيه ما يحتاج إليه الجند من الصناع والعمال والخفر، وفيها أهله وأعوانه وأمواله وخزائنه ومئونته، والزملة عبارة عن خيام تُحمل على الجمال في الصحراء ويُحمل معها كل ما يحتاج إليه القوم من المئونة والذخيرة، فإذا أرادوا النزول نصبوا الخيام بترتيب معين فيعرف كل واحد خيمته وعمله. وقد عمد الأمير عبد القادر إلى اختراع هذه الزملة في أواخر حربه مع الفرنساويين بعد أن أصبحت بلاد الجزائر تتقد بالحروب فلم يعد يأمن الإقامة في مكان.

فلما تعبت فرنسا من مناهضته أغرت صاحب مراكش على معاضدتها، وعلم عبد القادر في أواخر سنة ١٨٤٧ بقدوم المراكشيين لغزو زملته، ولم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف، والمراكشيون يزيدون على خمسين ألفًا، فخاف الأمير على رجاله وإن لم يعرف الخوف قبلًا، فعادت إليه نخوته فهجم ليلًا بذلك الجيش القليل، وفرَّق شمل المراكشيين، ثم عادوا فاجتمعوا ثانية فهاجموه فطاردهم وظهر عليهم لكنه خسر جانبًا من رجاله، فرأى الانسحاب أفضل له، فرجع إلى الجزائر فوصل مكانًا علم بعد وصوله إليه أن الجيش الفرنساوي على مسافة ثلاث ساعات منه، ورأى أن جيشه قد أنهكه السفر والحرب، فخشي أن يقع هو وزملته في أيدي الفرنساويين؛ لأنه لا يستطيع الرجوع والمراكشيون من ورائه يطاردونه، ولكنه عاد فرأى أن يبذل قصارى جهده، فجمع إليه رجاله فخطب فيهم مفصحًا عما هم فيه من الضيق وقال: «أراكم قد وفيتم بما بايعتموني عليه، وبذلتم جهدكم في معاضدتي. وأما الحالة الراهنة فتقضي علينا بالتسليم للعدو، وعندي أن التسليم للفرنساويين خير من التسليم للمراكشيين، فما رأيكم؟»

فأجابوه أنهم على رأيه، فنظر إليهم فإذا هم عدة من أحسن الرجال وأشدهم، وقد رافقوه في حروبه خمس عشرة سنة، فشق عليه أن ينتهي جهاده بهذا التسليم للعدو، ولكنه أذعن لحكم الضرورة قسرًا، وهو غير خائب لأنه جاهد الجهاد الحسن أكثر من ١٥ سنة حتى نفدت الحيلة.

وعلى ذلك تم التسليم، لكن المصور تصور هجوم الفرنساويين على الزملة وعبد القادر غائب، فمثَّل ذلك أحسن تمثيل في صورة طولها عدة أمتار شاهدناها في إحدى الغرف من قاعات متحف فرسايل، ووقفنا عندها ساعة نتأمل ما تولى رجال عبد القادر من الذعر لما رأوا خيول الأعداء تكاد تأخذهم، فبرزت النساء من الخيام مذعورات وأخذ الخدم في مساعدتهن في ركوب الجمال التماسًا للفرار، وهرب بعض الأتباع، وفيهم اليهود أصحاب خزينة عبد القادر، ونفر ما كان معهم من الحيوانات الأهلية وبينها الغزلان طلبت البرية. وبان الرعب في كل حي، وظهر الاضطراب في كل شيء فقُلبت الخيام وأجفلت الجمال، وذُعر الأطفال، وبكت النساء مما يستوقف البصر.

وفي تلك القاعة صورة نافرة تمثل نابليون وقد أطلق سراح عبد القادر في أمبواز سنة ١٨٥٢، وصورة زيتية لحصار قسنطينة سنة ١٨٣٧، وصورة أخرى لمعرض في المكسيك سنة ١٨٣٨، وصور عديدة لوقائع حربية في القرم سنة ١٨٥٤ من جملتها أخذ ملاكوف، ومعركة ألما، ومعركة سلفرينو، وغيرها، وكلها كبيرة الحجم.

والقسم الأوسط من القصر تُسمى قاعاته بأسماء آلهة اليونان كالزهرة، والمريخ، وأبولون، وغيرها، فيها صور زيتية وستائر مصورة نسجًا مما يُسمى «غوبلين» أكثرها تمثل حوادث تاريخية فرنساوية، من جملتها ستارة تمثل الكونت فوانت في حضرة لويس الرابع عشر باسم ملك إسبانيا، وأخرى تمثل اجتماع لويس المذكور، وفيليب الرابع ملك الإسبان، وأخرى لزواج لويس الرابع عشر بماري تريز، وغير ذلك، ومنها قاعة السلم، جدرانها مبطنة بالرخام وعليها أمثلة من الأوسمة البرونزية، وقاعة الزجاج طولها ٧٢ مترًا، وعرضها عشرة أمتار، وعلوها ١٣ مترًا مزخرفة زخرفة باهرة، لها واجهة من زجاج تطل على حديقة فرسايل، وعلى جدرانها صور عديدة تاريخية لأزمنة مختلفة يطول بنا شرحها. وهناك غرف مختلفة لجلوس الملك أو طعامه وعلى جدرانها صور بينها صور تمثل وقائع «دونكي شوت». وهناك ساعة رقاصة كبرى تدل على الساعات والأيام والأشهر.

ومنها غرفة الرقاد للويس الرابع عشر بفراشه وخزانته وكراسيه وسائر ما يلزم، وفيها مات سنة ١٧١٥ بعد أن حكم ٧٢ سنة.

وقاعات الملكة مصورة الجدران، وفيها كانت تنام الملكة ماري تريز حتى تُوفيت سنة ١٦٨٣ وماري لزينسكي، ثم ماري أنطوانيت، وفيها صورة هذه الملكة وعدة ستائر «غوبلين». ومنها قاعة خاصة باستقبال الأعيان كانت الملكة تستقبلهم فيها بأوقات معينة وعلى جدرانها ستائر، إحداها تمثل زيارة لويس الرابع عشر لمعمل هذه الستائر وقاعة عرس الملكة وقاعات أخرى لمدام دي منثنون وغيرها.

وفي الجناح الجنوبي من القصر قاعات عديدة للصور التاريخية، منها قاعة المعارك فيها صور أشهر المعارك الكبرى في جملتها معركة تورس بين العرب بقيادة عبد الرحمن الغافقي، والإفرنج بقيادة شارل مارتل سنة ٢٣٧م وهي التي فاز بها الفرنساويون وردوا العرب عن أوروبا.

وصورة شارلمان في بادربون يستقبل وفود ويتيكند يقدمون الطاعة سنة ٧٨٥م وصور أخرى تمثل الكونت أندس يدفع النورمنديين عن باريس سنة ٨٨٥م ومعركة بوفين سنة ١٢١٤، ووصول هنري الرابع إلى باريس سنة ١٥٩٤، ومعركة ريفولي سنة ١٧٩٧، وواقعة أوسترايتس سنة ١٨٠٥، ويانا سنة ١٨٠٦، وواغرام سنة ١٨٠٩، وجملة ما في هذه القاعة ٣٤ صورة و٥٠ تمثالًا نصفيًّا لكبار الملوك والأمراء.

وفي الطبقة العليا من هذا الجناح قاعات عديدة بعضها خاص بالثورة الفرنساوية فيها صور أهم حوادثها وأشهر رجالها، مثل الاحتفال بالإخاء الوطني سنة ١٧٩٠، وصور مدام رولان وماري أنطوانيت في الهيكل، ومقتل مرات، وتمثال نصفي لميرابو، وخطيب تلك الثورة، وتمثالا لافاييت ولويس ١٧. وهناك قاعة خاصة لتصوير أعمال نابليون الأول، وحوادث عائلته ومشاهير الأمة في عهده، منها صورة تمثل قواد الحملة المصرية صُورت سنة ١٧٩٩، وغير ذلك شيء كثير يختص بنابليون وحوادثه المدهشة في بيته وفي جيشه وأسفاره وحروبه وأولاده. وفي قاعات القسم الأوسط من هذا القصر شيء كثير من الرسوم لتمثيل الحوادث التي جرت لفرنسا في القرن الثامن عشر، في جملتها صورة كبيرة تمثل وصول سفير عثماني اسمه محمد أفندي إلى قصر التويلري سنة ١٧٢١، وصورة أخرى لوصول سعيد باشا سفير الباب العالي سنة ١٧٤٢ وبينها غرف لنوم ولي العهد وأمه وغيرهما من أهل البلاط.

تريانون

وفي فرسايل غير هذا القصر قصران يُعرف كل منهما باسم تريانون أحدهما الأكبر، والآخر الأصغر كان يتردد إليهما لويس الرابع عشر مع بعض العائلات أو الأعوان، وهما متقنا البناء وفيهما تحف تاريخية أو فنية؛ ففي الكبير منهما تحف من الرياش الثمين النادر. ومن جملة ذلك كئوس من الوهج (الملكيت) أهداها القيصر إسكندر الأول إمبراطور روسيا إلى نابليون الأول. وفي التريانون الكبير أيضًا معرض المركبات، فيه ثماني مركبات إحداها لنابليون الأول ركبها لما تعين قنصلًا أول، وأخرى ركبها يوم زواجه، ومركبة قلدوا بها مركبة شارل العاشر وغيرها.

وفي فرسايل حدائق غناء جروا إليها الماء في بحيرات مديرة بأنابيب إذا فُتحت تفجر الماء من أفواهها وصعد في الهواء على أشكال مختلفة وارتفاعات متفاوتة، وهم يحتفلون بفتحها في أوقات معينة من النهار يشهد الناس منظرها مما يشرح الصدر وينزه الخاطر، وقد يجتمع الألوف وعشرات الألوف في بعض الأيام لهذه الغاية.

قصر مالميزون

وعلى عشرة كيلو مترات من باريس قصر مالميزون في ضاحية من أجمل ضواحي باريس فيها الحدائق والغياض على أجمل أسلوب، واشتهر هذا القصر بجوزفين امرأة نابليون؛ لأنها اعتزلت فيه بعد طلاقها سنة ١٨٠٩ إلى وفاتها سنة ١٨١٤. امتلكته ماري كريستين ملكة إسبانيا سنة ١٨٤٢–١٨٦١ وأقامت فيه الإمبراطورة أوجيني زوجة نابليون الثالث ردحًا من الزمن. وفي سنة ١٩٠٠ اشتراه داود أوزيريس المثري الفرنساوي الشهير (تُوفي سنة ١٩٠٧) أهداه للأمة مع ما يحيط به من البساتين، ليس أدعى إلى التهيب والاعتبار بمصير الإنسان من زيارة هذا القصر ومشاهدة ما لا يزال فيه من الرياش والأدوات، كما أن في زمن تلك الإمبراطورة السيئة الحظ زوجة أعظم القواد وأطمع طلاب المجد؛ فإنك تسمع من السكينة السائدة هناك نداء يخترق الأسماع ويستولي على القلوب «أن الإنسان مهما بلغ من جبروته وعظمته لا يبقى له غير أعماله، ولا يُذكر له منها إلا ما أفاد به بني نوعه.» مررنا في غرف ذلك القصر الفخيم لا نسمع فيه غير وقع أقدامنا وكل منا مطرق يتأمل. مررنا بقاعة الاستقبال فقاعة الطعام فغرف النوم والكتابة والبلياردو والموسيقى، وشاهدنا الخزائن والمقاعد والستائر والأرائك والمناضد. وعلى جدران القصر الصور الزيتية تمثل المشاهد الجميلة، والحوادث الهامة، جيء بها إلى ذلك القصر خدمة لأهله ولكنهم ذهبوا وبقيت هي.

شاهدنا طاولة نابليون التي كان يكتب عليها بيده، وخزانة الكتب التي كان يرجع إلى كتبها عند التحقيق، والقلم الذي كان يقبض عليه بأنامله. وفي قاعة البلياردو صور في جملتها صور حملها بونابرت من مصر سنة ١٧٩٩ منها صورة تمثل بعض المشائخ بألبستهم العربية المصرية جاءوا لمقابلة بونابرت وعدة سجاجيد جميلة.

وفي القاعة التي كانت الإمبراطورة جوزفين تستقبل فيها الزائرين سجادة ثمينة، وفي غرفة الموسيقى آلات موسيقية كانت تستخدمها الإمبراطورة لترويح النفس، وطاولة كان يلعب عليها بونابرت. وقس على ذلك سائر ما هنالك من الأثاث والأدوات والصور، منها صورة أم نابليون، ومنسج جوزفين، وأدوات نابليون، وتمثاله وهو صغير، وعلبة شغل لجوزفين هدية من مدينة باريس، وسرير سفر لنابليون، وسرير جوزفين مجلل بالأطلس وصورتها سنة وفاتها. وعلى أكثر الكراسي الحرف الأول من اسمها J وخزانة فيها مظلاتها ونعالها وجزادينها.

لا تقدر وأنت تنظر إلى تلك البقايا إلا أن تتصور نابليون واقفًا أو جالسًا هنا وهناك وجوزفين وما يخطر لها في عزلتها.

(١-٣٧) السوريون في باريس

ونختم وصف باريس ومتاحفها وأحوالها بما شاهدناه فيها من تقدم السوريين في التجارة والأدب والفنون الجميلة. لقينا فيها عشرات من أصحاب المتاجر، وقد جارَوا الفرنساويين بالتجارة، ولهم منزلة رفيعة بين علية القوم وأحرزوا ثقة أصحاب المعامل والمصارف. ولأكثرهم معاملات واسعة مع الشرق والغرب، وأكثر اشتغالهم مع سوريا وأمريكا الشمالية والجنوبية يبعثون إليها السلع من مصنوعات باريس على اختلاف أصنافها. فمن البيوت التجارية السورية في باريس محلات رحيم، وبو شديد، وشحادة، وسليمان، ودقرت، وشقير، وبركة، وداود، وجاسر إخوان ودوماني، ومانوك، وقزي، وبيجاني، وشخيري، وزوين، ويانسوني، وحوس (فرع لمحل صيدناوي)، وغيرها من البيوت التي تتعاطى أصناف التجارة. وقد اختص بعضهم بتجارة المجوهرات، أشهرهم: كساب، ونصبة، وأبو حمد. وبالعطريات محل بشارة ملحمة، وله شهرة واسعة في فرنسا وإنكلترا بما يصطنعه من العطريات المعروفة باسمه، وقد نال جوائز السبق في المعارض الصناعية. وعرفنا من الماليين الكونت قريصاني مدير البنك الفرنساوي المصري في باريس، وهو من البنوك الكبرى وله فرع في مصر. وقس على ذلك مما يدل على اقتدار الشرقي على مجاراة الغربي إذا تساوت الأسباب والوسائل.

مما يوجب الفخر أيضًا أننا عرفنا في باريس نفسها غير واحد من الأدباء السوريين يجارون أدباء فرنسا في آداب لسانهم يكتبون في أكبر جرائدهم السياسية في أهم المواضيع الحيوية أو يؤلفون الكتب، وينظمون الشعر بالفرنساوية بما لا يقل عما يفعله أدباء فرنسا أنفسهم، منهم شكري غانم، ناظم رواية عنترة، وقد قُبل تمثيلها في الأوبرا الفرنساوية، وخير الله خير الله صاحب كتاب سوريا، يكتب المقالات السياسية في جريدة الطان الشهيرة، والدكتور جورج سمنة له مجلة علمية تصدر بالفرنساوية بباريس اسمها Correspondences d’Orient وميشيل بيطار مترجم رواية العباسة أخت الرشيد. وهناك طبقة من أصحاب الفنون الجميلة يشتغلون للإفرنج أنفسهم، منهم موريس نجار يؤلف القطع الموسيقية للأجواق الفرنساوية التمثيلية وهو يرتزق هناك بهذه المهنة، ووديع صبرا من أصحاب المواهب الموسيقية وقد عرفه الباريسيون، وفيليب موراني مصور فني يشتغل بالتصوير في باريس، وغير هؤلاء من الأدباء وأصحاب الفنون الجميلة. وقد اقتصرنا على الشرقيين المشتغلين بالفرنساوية للفرنساويين في باريس. ونعرف طائفة من المشتغلين بهذه اللغة وآدابها بمصر والشام، سنعود إلى ذكرهم في فرصة أخرى. وقد يكون هناك كثيرون لم نطلع على آثارهم أو لم تبلغنا أخبارهم، وإنما أردنا تقرير حقيقة يسر تقريرُها كل شرقي نعني «أن الشرقيين إذا توفرت لهم الأسباب جارَوا أرقى الأمم المتمدينة.»

(٢) القسم الثاني: إنكلترا

(٢-١) نظام حكومتها

إن نظام الحكومة الإنكليزية من النوع الملكي المقيد، وإنكلترا من أعرق الأمم في الدستور، وهي أم الحكومات الدستورية، يرجع الحكم فيها إلى رأي الأمة فلا تسن الحكومة قانونًا، أو تنفذ رأيًا إلا بعد موافقة الأمة عليه، وينوب عن الأمة مجلسان يباحثان الحكومة ويجادلانها، أو يقترحان عليها هما: مجلس الأعيان، ومجلس العموم، ويُعبَّر عنهما بالبرلمان، تأسسا في أوائل القرن الرابع عشر. ويلتئم البرلمان بإيعاز الملك بعد إشارة المجلس الخصوصي قبل وقت اجتماعه بخمسة وثلاثين يومًا على الأقل، وجرت العادة أن يوالي اجتماعه بين فبراير وأغسطس من كل سنة للنظر فيما يُعرض عليه من الشئون. وبعد المباحثات والاقتراحات يصدر قراراته بأغلبية الأصوات.

يتألف مجلس الأعيان من الأشراف ويبلغ عدد أعضائه نحو ٦٥٠ عضوًا وتنال عضويته إما بحق الإرث أو باقتراح الملك أو باستحقاق المنصب كالأساقفة ونحوهم أو بالانتخاب. ويتألف مجلس العموم من أعضاء ينتخبهم عامة الشعب؛ لينوبوا عنهم، وفيهم مَن ينوب عن المقاطعات أو المدن أو المراكز أو نحوها من إنكلترا وسكوتلاند وأيرلندا، ويُشترط في المنتخب أن يكون بالغًا رشده وأن يكون اسمه مقيدًا في سجل المنتخبين. وللحكومة شروط في نيل حق الانتخاب لا محل لها هنا، ويبلغ عدد المنتخبين نحو سدس الأهلين، ثلاثة أرباعهم من إنكلترا والباقون من اسكوتلاندا وأيرلندا. وانتخاب أعضاء البرلمان سري، ولا يُنتخب عضو لم يتجاوز سنه ٢١ سنة، ولا يجوز انتخاب أحد من الأشراف لعضوية مجلس العموم.

والقوة التنفيذية في الدولة الإنكليزية في قبضة الوزارة أو مجلس الوزراء، لكنها تصدر باسم جلالة الملك. على أن هذا المجلس يتوقف تعيينه على مجلس العموم، فهو يعين رئيس الوزارة بأكثرية الأصوات، وهذا يشكل الوزارة؛ ولذلك كانت الحكومة في أيدي الشعب. ومجلس الوزراء أو النظار عندهم مؤلف من ١٨ وزيرًا، كل منهم يتولى رئاسة دائرة من دوائر الحكومة وهي ثماني عشرة دائرة أو وزارة: الخزينة، والعدلية، والختم الخاص، والخارجية، والهند، والداخلية، والمالية والمستعمرات، والحربية، والبحرية، وأيرلندا، والتجارة، والمحلية، والمعارف، وسكوتلاندا، والزراعة، والأسماك، والبريد، ولانكستر. على كل منها رئيس.

(٢-٢) عظمتها وعمرانها

إن المملكة الإنكليزية بما يلحقها من المستعمرات أعظم الممالك المتمدنة وأكثرها سكانًا وأوسعها ثروة، وهي تتألف من بريطانيا العظمى، وتشتمل على إنكلترا، وويلس، وسكوتلاندا، وأيرلندا، ومن مستعمراتها الكثيرة في القارات الخمس، فمساحة بريطانيا ١٢١٣٩١ ميلًا مربعًا وعدد سكانها نحو ٤٥٠٠٠٠٠٠ نفس. وأما المستعمرات فإنها أوسع من ذلك كثيرًا، تُقدَّر مساحتها بأضعاف مساحة بريطانيا، فهي تزيد على ١١٥٥٩٠٠٠ ميل مربع وعدد سكانها يزيد على ستة أضعاف سكان بريطانيا؛ أي نحو ٣٠٠٠٠٠٠٠٠ نفس تتفرق على هذه الصورة:

مستعمراتها مساحتها بالأميال عدد سكانها
المجموع ١١٥٥٨٩٣٢ ٢٩٤٨٩٣٢٩٨
في أوروبا ١١٩ ٢١٣٦١٥
في آسيا ١٦٣٧٢١٥ ٢٣٨٦٦٤٦٠٩
في أفريقيا ٢٨٨٠٣١١ ٤٣٤٦٧٦١٥
في أمريكا ٣٨٦٥٢٦٥ ٧٤٢٦٤٦٣
في أوستراليا ٣١٧٦٠٢٢ ٥١٢٠٩٩٦

وتناهز ميزانية الحكومة الإنكليزية نحو ٢٠٠ مليون جنيه تُجمع من الضرائب المختلفة، وتُنفق في مصالح الحكومة والجندية والديون وغيرها.

(٢-٣) ثروة الأمة الإنكليزية

وإذا نظرنا إلى ثروة الأمة الإنكليزية رأينا ما يدهش العقل. وقد عقد أحد الباحثين فصلًا ضافيًا في مجلة القرن التاسع عشر الإنكليزية في هذا الموضوع، خلاصته أن تجارة بريطانيا الخارجية بلغت في العام الماضي نحو ١٨٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، أكثرها حمل في البحار، وأن ثروة الأمة الإنكليزية نحو ٢٥٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. ودخلها في السنة نحو ٣٣٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وما من دولة تداني الأمة الإنكليزية في الثروة. والمشهور أن الأمة الفرنساوية تدانيها أو تفوقها، ولكن كاتب المقالة المتقدم ذكرها يجعل ثروة فرنسا نصف ثروة إنكلترا؛ أي نحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه، ويقول إن أقرب الأمم ثروة إلى الإنكليز الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه يقدر ثروتها بنحو ٢١٠٠٠٠٠٠٠٠٠ جنيه.

وأكثر ثروة الأمة الإنكليزية في بريطانيا يليها الهند، وكندا، وأوستراليا على هذه النسبة:

البلد دخلها ثروة الأمة
الجملة ٢٤٩٨٦٦٨٣٠٠٠ ٣٣٣٢٥٠٠٩٠٠
إنكلترا وويلز ١٧٤٠٠٠٠٠٠٠ ١٣٧١٦٧٧٩٠٠٠
سكوتلاندا ١٧٣٥٠٠٠٠٠ ١٤٥١٦٢٥٠٠٠
أيرلندا ١٠٣٠٠٠٠٠٠ ٧١٤٢٧٩٠٠٠
الهند ٦٠٨٠٠٠٠٠٠ ٣٦٠٠٠٠٠٠٠٠
كندا ٢٥٩٠٠٠٠٠٠ ٢٠٧٢٠٠٠٠٠٠
أوستراليا ١٦٤٠٠٠٠٠٠ ١٣١٢٠٠٠٠٠٠
جنوب أفريقيا ٧٥٠٠٠٠٠٠ ٦٠٠٠٠٠٠٠٠
نيوزيلاند ٤٠٠٠٠٠٠٠ ٣٢٠٠٠٠٠٠٠
الحمايات وغيرها ١٧٠٠٠٠٠٠٠ ١٢٠٠٠٠٠٠٠٠

وقابل الكاتب بين دخل الأمة الإنكليزية وما تنفقه في الدفاع عن حوزتها، فبلغ نحو ثلاثة جنيهات عن كل مائة جنيه من الدخل؛ أي ١٠٢٠٠٠٠٠٠ جنيه.

ويهمنا من هذه المملكة الواسعة في هذا المقام لندن العاصمة؛ لأننا درسناها أكثر من سواها، وفيها المتاحف والآثار، سنصفها مع بعض البلاد الأخرى فيما يلي:

(٢-٤) حالتها العلمية

التعليم في إنكلترا ثلاث درجات: الابتدائي والثانوي والعالي، فنقتصر هنا على وصف التعليم العالي في الكليات والجامعات. وأقدم هذه المعاهد العلمية بُني خارج لندن، وأقدم جامعات لندن أُنشئت سنة ١٨٣٦ وظلت هذه وحيدة في لندن إلى أوائل القرن الحاضر فأُنشئ سواها كما ستراه. وأما خارج لندن فيرجع تاريخ بعض الكليات إلى الأجيال الوسطى، وأرقاها جميعًا جامعتا أكسفورد وكامبردج، وسنعود إليهما عند وصف هذين البلدين من رحلتنا. أما سائر الجامعات والكليات في بريطانيا فأقدمها أُنشئ في اسكوتلاندا في القرن الخامس عشر.

وهذا جدول بأسماء جامعات بريطانيا وكلياتها حسب سني إنشائها:

اسم الجامعة مقرها سنة تأسيسها
جامعة سنتاندرول اسكوتلاندا ١٤١١
جامعة كلاسغو اسكوتلاندا ١٤٥٠
جامعة أبردين اسكوتلاندا ١٤٩٤
جامعة أيدنبرج اسكوتلاندا ١٥٨٢
جامعة دبلن أيرلندا ١٥٩١
جامعة درهام إنكلترا ١٨٣١
جامعة لندن لندن ١٨٣٦
جامعة فكتوريا ١٨٨٠
جامعة برمنهام برمنهام ١٩٠٠
جامعة لفربول لفربول ١٩٠٣
جامعة ويلس ويلس ١٩٠٣
جامعة ليدس ليدس ١٩٠٤
كلية جامعة لندن لندن ١٩٠٥
جامعة شفيلد شفليد ١٩٠٥
جامعة برستول برستول ١٩٠٩
جامعة أيرلندا الوطنية دبلن ١٩٠٩
جامعة بلفاست أيرلندا ١٩٠٩

وهناك جامعات وكليات أخرى في سائر مدائن إنكلترا الكبرى مثل منشستر وغيرها. وأكثر الجامعات مؤلف من كليات تختلف عددًا باختلاف أهميتها، ففي جامعة لندن ٢٤ كلية وفي جامعة أكسفورد ٢٢ كلية وفي كامبردج ١٧ كلية، وتختلف أيضًا في عدد الأساتذة والتلاميذ. ولكن يُقال على الإجمال إن الأساتذة في تلك الجامعات يتجاوزون بضعة آلاف، والتلامذة يُعدون بعشرات الألوف. ولأكثر هذه الجامعات أوقاف متوارثة يُنفق من ريعها على التعليم، وفيها المعامل الكيماوية، والبكتيريولوجية والمعارض التشريحية، والجيولوجية، والنباتية، والحيوانية وغيرها. أما المدارس الابتدائية والثانوية فيضيق المقام عن وصفها.

ومعظم هذه المدارس تنفق الحكومة عليها، على أن جمعيات التعليم كثيرة في إنكلترا مما أُنشئ لتهذيب الناشئة من الفقراء، منها جمعية في لندن تُسمى «لله وللوطن» أُنشئت من ٤٧ سنة لجمع اللقطاء والمتشردين من الذكور والإناث وتعليمهم وتربيتهم وتثقيف عقولهم، وهي تجمع الإعانات من أموال المحسنين، وقد بلغ المال الذي جمعته إلى الآن نحو ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه، منها ٢٣٥٠٠٠ جنيه جُمعت في السنة الماضية، وبلغ عدد الذين آوتهم من الأطفال والمساكين في السنة المذكورة ٩٠٤٩ غلامًا، وهي تعتني بهؤلاء المساكين وتعلمهم الصنائع، وتبعث بهم إلى المستعمرات ولا سيما كندا، وتشترط في قبول المعوزين أن يكونوا مقطوعين ولا نصير لهم، ولا يُقبل منهم إلا ما بين الطفولية إلى السنة ١٤ ولها بضعة عشر مركزًا في لندن والولايات المتحدة، ورئيسها اسمه الدكتور برناردو.

وللإنكليز فضل كبير على العلم الحديث، ولا سيما بما يتعلق بالاختراعات المحسوسة التي توقف عليها تسهيل المواصلات، وتقريب المسافات كالسكك الحديدية، والآلات البخارية، وكثير من الصنائع الحديثة كالنسيج والغزل والخياطة، ومنهم شارب دروين صاحب مذهب النشوء والارتقاء، وشكسبير مؤسس نهضة الأدب العصري، وولتر سكوت، وملتن، غير أصحاب الاكتشافات العلمية في الطب، والكيمياء، والطبيعيات، وعلم الحياة، والاجتماع، ومنهم: ليستر، وجنر، وهكسلي، وسبنسر، غير رجال السياسة والإدارة أصحاب الأدمغة الكبيرة.

ومن قبيل الحالة العلمية تكاثر المكاتب، وغرف المطالعة وهي عديدة، وكذلك الصحافة فإن في لندن وضواحيها نحو ٤٠٠ صحيفة بعضها يطبع مئات الألوف من النسخ كل يوم، غير المراسح للتمثيل، والمعارض العلمية، والجمعيات العلمية والأدبية والأكاديمية وغير ذلك مما يطول شرحه.

وفي إنكلترا اليوم حركة فكرية، وإقدام على الكتابة والتأليف في المواضيع المختلفة، وقد أحصى بعضهم أشهر الكتاب الإنكليز المعاصرين ورتَّبهم حسب المواضيع، وخلاصة ذلك كما يأتي:

عدد الكتَّاب
٣٠٢٧ «الجملة»
١٢٥ في الأدب
١٧٢ في التراجم والمذكرات
٥٧ في الدين
٨٩ في التمثيل
١٦ في انتقاد التمثيل
٣٥ في الاقتصاد السياسي
٦٠ في التهذيب
٥٥ في الآثار القديمة
٢٥ في هندسة البناء
٥٥ في الفنون الجميلة
٥٧٠ في الفكاهات والروايات
٤٨ في السياسة
٣٨ في الطب
٤٩ في التاريخ الطبيعي
١٥ في الرياضيات
١٢ الجيولوجيا
٣٥ في التاريخ الديني
٥٢ في تاريخ إنكلترا
٤٠ في التاريخ الحديث
١٢٠ في سائر التواريخ
١٢٠ كتاب الصحف
٦٠ في القضاء
١٥٠ في اللغة الإنكليزية وآدابها
٢٠٠ في سائر اللغات
٢٠ في الموسيقى
٤٥ في الفلسفة
١٨٠ في الشعر
٤٩ في علم العمران
٥٠ في الصيد وتوابعه
١٤٠ في اللاهوت
١٤٥ في السياحات ونحوها

(٢-٥) لندن

هي عاصمة المملكة الإنكليزية طولها ١٤ ميلًا، ومتوسط عرضها نحو عشرة أميال، ومساحتها بالتقريب نحو ١٣٠ ميلًا مربعًا. فيها ٨٠٠٠ شارع إذا اتصلت حتى يتألف منها شارع واحد كان طوله ٣٠٠٠ ميل. وأحصوا أبنيتها بنحو ٦٥٠٠٠٠ بناء، منها: ١٥٠٠ كنيسة، و٦٥٠٠ محل عمومي و١٧٠٠ نادٍ و٥٠٠ أوتيل. وهي أكثر مدائن العالم سكانًا، يُقدر سكانها بنحو ٦٠٠٠٠٠٠ نفس أكثرهم من الإنكليز طبعًا، لكن فيها جماعات كبيرة من الأمم الأخرى، حتى قالوا إن فيها من الاسكوتلانديين أكثر مما في أبردين، ومن الأيرلنديين أكثر مما في دبلن، وفيها من اليهود أكثر مما في فلسطين، ومن الكاثوليك أكثر مما في رومية. وسنعود إلى وصف المتاحف والتحف، ونكتفي هنا بذكر الفرق بين لندن وباريس:

الفرق بين لندن وباريس

  • (١)

    إنهما توأمان في الفخامة والعظمة، ولكن لندن أوسع مساحةً وأضخم أبنيةً، وأظلم جوًّا، وأما باريس فإنها أجمل منظرًا وأكثر زهوًا وأشرق سماءً وأصفى هواءً.

  • (٢)

    ليس في لندن أماكن للجلوس في سبيل اللهو أو الراحة كالقهوات والبارات التي ذكرناها في باريس؛ فالغريب إذا احتاج إلى الراحة في غير المنازل ليس له إلا المقاعد في الحدائق العمومية، أو يمر بالشوارع للفرجة. وفي لندن حانات كثيرة لأنواع الخمور، وحوانيت لشرب الشاي أو القهوة أو غيرهما من المرطبات أو المخدرات، لكنها كالمخازن التجارية تطلب ما تريده وتتناوله، وتنصرف كما تفعل لو أردت تناول الطعام في مطعم. وليس عندهم مجالس للتسلية إلى موائد كما في القاهرة مثلًا. والقاهرة من حيث القهوات وأماكن اللهو كثيرة الشبه بباريس، على أن بعضهم أنشئوا في لندن أماكن من هذا القبيل تشبه ما في باريس لكنها قليلة، وليست على قوارع الطرق.

  • (٣)

    إن الماشي في شوارع باريس إذا اقتضى أن يوسِّع لمقبل عليه خوفًا من التصادم، تحوَّل نحو اليمين كما يفعل أهل القاهرة؛ فالمركبات والدواب، والناس يتحولون في شوارع باريس إلى يمينهم أما في لندن فبعكس ذلك؛ لأن المارة في شوارعها إذا تلاقوا تحول كل منهم إلى يساره. وقد نبهوا الناس إلى ذلك بألواح كتبوا عليها قولهم «إلى اليسار»، فإذا تلاقى اثنان وتحول كل منهما إلى يمينه لا يتصادمان وكذلك إذا تحولا إلى اليسار. أما إذا تحوَّل أحدهما إلى يمينه، والآخر إلى يساره فإنهما يتصادمان؛ ولذلك فالفرنساوي والإنكليزي إذا تلاقيا، ومشى كل منهما على ما تعوده في بلده لا بد من تصادمهما!

  • (٤)

    ليس في لندن أماكن عمومية للفحشاء كما في باريس؛ لأن الحكومة الإنكليزية تحظر على الناس الاتجار بها؛ خلافًا لمعظم حكومات أوروبا، وقد أحسنت إنكلترا ويا حبذا لو اقتدت مصر بها في ذلك فأخذته عنها كما أخذت غيره من أسباب المدنية، ولكن مصر أباحت إنشاء تلك الأماكن اقتداء بفرنسا وغيرها من الدول التي تبيحه، وقد أخطأت كما بينا ذلك في الهلال.

  • (٥)

    إن هيبة التدين ظاهرة في لندن أكثر مما في باريس، ولا سيما في أيام الآحاد؛ فإن تلك المدينة الضخمة التي تعج أسواقها بالناس عجيجًا في أثناء الأسبوع، وقد بسطت فيها البضائع وعرضت السلع على قوارع الطرق تصبح في يوم الأحد خاليةً خاوية لا تجد فيها بائعًا ولا شاريًا ولا صانعًا ولا عاملًا، وإنما يخرج الناس بعد الصلاة للنزهة في الحدائق العمومية أو غيرها في لندن وضواحيها.

    وهكذا تفعل سائر مدن إنكلترا وقراها حتى السكك الحديدية فإن حركتها تخف في أيام الآحاد والأعياد؛ فالإنكليز من أكثر أمم أوروبا تدينًا، وقد نفعهم ذلك في كثير من أحوالهم الاجتماعية.

  • (٦)

    إن عادة البخشيش شائعة في لندن، لكنها أقل كثيرًا مما في باريس لقلة القهوات والملاهي كما قدمنا.

  • (٧)

    لا تجد في الشوارع العمومية من بنات الرصيف ما تجده في باريس.

وسنعود إلى لندن عند الكلام عن المتاحف والآثار.

(٢-٦) نظام الاجتماع فيها

نظام الاجتماع في إنكلترا يشبه على إجماله نظام سائر الممالك الأوروبية من حيث العائلة والحكومة والمدرسة والكنيسة، لكنه يمتاز في إنكلترا بخصائص لا يخلو ذكرها من فائدة، هاك أهمها:

طبقات الأمة

لا يخفى أن إنكلترا أم الحكومات الدستورية، وأقدم مَن اعترف بحقوق العامة، ومع ذلك فالأمة عندهم مؤلفة من طبقتين متباينتين لا تختلط إحداهما بالأخرى — نعني الخاصة، والعامة أو الشرفاء والعمال والأعيان والعموم — وذلك من بقايا القرون الوسطى التي كان فيها اللورد صاحب الأرض وله السيادة هو وأهله على بلده، وسائر الناس أعوان له أو عمال في مزارعه. وكان ذلك شأن أكثر أمم أوروبا في عصر الإقطاع، لكن أكثرهم عدلوا عنه، وساووا بين طبقات الأمة في الحقوق والواجبات، إلا الإنكليز فلا يزال لأهل السيادات القديمة حقوق يمتازون بها عن سواهم في بعض الأحوال السياسية والاقتصادية. ولكل من هاتين الطبقتين شأن خاص مستقل عن شأن الطبقة الأخرى، ونواب الأمة طبقتان في مجلسين: مجلس الأعيان، ومجلس العموم، وقد ترى مثل هذين المجلسين في بعض الأمم الأخرى، لكنه عند الإنكليز مبني على تسلسل الأرستقراطية من الأجيال الوسطى، ولا يزال كثيرٌ من الأرضين ملكًا للشرفاء يتوارثونها، ولا يبيعونها بيعًا قاطعًا، وإنما يبيعون مرافقها إلى أجل معين، والغالب أن يبيعك الشريف الأرض تملكها إلى ٩٩٩ سنة، فتدفع له ثمنها أو حق صيرورتها إليك بعد تلك المدة … ويبقى له عليك مال يتقاضاه كل سنة يتم الاتفاق عليه يسمونه في اصطلاحهم chief، وقد يحتالون في تمليك الأرض حيلة شرعية فيتفق الشاري والبائع على مبلغ يدفعه الشاري مرة واحدة بدل الأقساط السنوية نحو ما تفعل الحكومة المصرية في استبدال معاش المستخدمين، فإذا دفع الشاري ذلك المال صار مالكًا للأرض. عرفنا صديقًا لنا في منشستر ابتاع منزلًا من أحد الشرفاء بألفي جنيه دفعها معجلًا، وبقي عليه الأقساط (التشيف) نحو مائة جنيه يدفعها كل سنة، وأخبرنا أنه ينوي أن يستبدل الأقساط بألفي جنيه أخرى فيصير المنزل ملكًا له.

فالإنكليز عندهم الحرية والإخاء، وليس عندهم المساواة، على أنهم عاملون على نزع تلك الامتيازات من الشرفاء، وقد أفلحوا في كثير من مطالبهم، لكن المساواة الكلية يبطِّئ الوصول إليها تأصل الأرستوقراطية في نفوس القوم من أجيال متوالية، حتى تراها في كثير من آدابهم الاجتماعية، ومن آثارها المحسوسة أنه ليس في قطر السكك الحديدية درجة وسطى بين الأعيان والعموم. فالقطار عندهم فيه عربات من الدرجة الأولى وعربات من الدرجة الثالثة. ولا تجد درجة ثانية في قطرهم إلا ما يتصل منها بالقطر الفرنساوي وغيرها على الحدود.

(٢-٧) ضرائب الدخل

لا تخلو دولة من ضرائب تضربها على رعاياها تسد بها نفقات رعايتهم، والقيام على حراستهم أو القضاء بينهم، لكن الإنكليز يزيدون على ذلك نوعًا من الضرائب اقتضاه تفاوت الثروة في طبقات الأمة، فجعلوا مقدار الضريبة بنسبة تلك الثروة، ويعولون في تقديرها على الدخل لا على رأس المال، فيفرضون على الغني أو التاجر مبلغًا من دخله السنوي يسمونه ضريبة الدخل، أصلها إعانة فرضتها الحكومة على الأمة للاستعانة بها على محاربة الفرنساويين سنة ١٥١٢، فقرر البرلمان يومئذٍ أن يدفع العامة ١٥/٣ من دخلهم تلك السنة، والكهنة الخمس. وفي سنة ١٧٩٨ زادوها لمثل ذلك السبب، وما زالوا يزيدون الضرائب وينوعونها ويعدلونها حتى بلغت ما هي عليه الآن. وهي تختلف حسب السنين، ولكنها نحو خمسة في المائة، من الدخل أو شلن في الجنيه. ولا يدفع هذه الضريبة إلا الذي يبلغ دخله ١٦٠ جنيهًا في السنة فما فوق. ولهم شروط لمن يزيد دخله على ذلك إلى ٧٠٠ جنيه فهؤلاء يعفونهم من بعض الضريبة، أما مَن زاد دخله على ٧٠٠ جنيه فيدفع الضريبة كاملة. وقد بلغ دخل الحكومة من هذه الضريبة نحو ٣٢٠٠٠٠٠٠ جنيه في السنة غير ضرائب الجمارك، وعوائد الروحيات وسائر المسكرات والمخدرات، وغير حق الرخص والإذن في معاطاة المهن على اختلاف أشكالها.

(٢-٨) العامة والعناية بهم

للعامة في إنكلترا مشاكل من اعتصاب وإضراب كما في فرنسا، لكن للإنكليز عناية خاصة بهم ولا سيما طبقات العمال والخدم، لعل ذلك من بقايا واجبات الأرستقراطية في العهد القديم؛ لأن رب البلد (اللورد) كان يرى نفسه مسئولًا عن حال أتباعه من حيث أسباب معائشهم، ولو تتبعت تاريخ وضع ضرائب الدخل المتقدم ذكرها؛ لرأيتها تنوعت وتعدلت طبقًا لمصلحة العمال أو الفقراء من أصحاب التجارات الصغرى، كانت في أول وضعها شاملة كل إنكليزي مهما قلَّ دخله، ثم أخذوا يعدلونها حتى أعفوا منها أصحاب الدخل القليل الذي لا يزيد على ١٦٠ جنيهًا، وخففوها عن الذين لا يزيد دخلهم على ٧٠٠ جنيه، وأبقوها على سائر الناس كما رأيت. ولا يخفى أن الأموال التي تُجمع من الضرائب تُنفق في مرافق الأمة بلا تمييز بين الغني والفقير، أو هي لمصلحة الفقير أكثر مما لمصلحة الغني، وهي عناية بالعامة، كالزكاة في صدر الإسلام تُؤخذ من الأغنياء وتُنفق في الفقراء.

والحكومة الإنكليزية تعد نفسها وصية على الفقراء من رعاياها؛ فتضع القوانين لمصلحتهم وتجبرهم على اتباعها، أو هي تتولى تنفيذها عليهم — لعلها تتقي اعتصابهم أو إضرابهم — من ذلك قانون صدر في الصيف الماضي ونحن في إنكلترا وضعته الحكومة لمنفعة الخدم وصغار المستخدمين اسمه National lnsurance act في ١٤٠ صفحة كبيرة، مآله ضمان مستقبل كل مستخدم في المملكة الإنكليزية سنه بين ١٦ و٧٠ سنة يقل دخله السنوي عن ١٦٠ جنيهًا. وكل عامل يشتغل بيده لحساب نفسه ولو زاد دخله عن ١٦٠ جنيهًا في السنة، فتفرض على كل من هؤلاء أن يختزن من دخله مالًا يعينه في شيخوخته أو مرضه — جعلت ذلك إجباريًّا لا يرى العامل مفرًّا منه بوجه من الوجوه — وهو يشمل الممثلين في المراسح وأساتذة المدارس الصغرى والثانوية، وكتَّاب المصارف والمتاجر، وخُدَّام المنازل، وعمال المعامل، وفيهم أصحاب العاهات البدنية وساقة المركبات والنوتية وغيرهم، وكل عامل له رئيس يدفع له أجرة.

وكيفية ذلك الضمان أن الحكومة طبعت أوراقًا كالسراكي، أو الاستمارات في اصطلاحنا تفرقها في العمال، وعلى العامل أن يقدِّم واحدة منها كل أسبوع، وعليها طوابع مختومة يشترك هو ورئيسه والحكومة في دفع قيمتها، وتختلف تلك القيمة باختلاف راتب العامل؛ فالرجل الذي تزيد أجرته على شلنين ونصف شلن في اليوم يدفع هو أربعة بنسات في الأسبوع، ورئيسه يدفع ثلاثة بنسات، والحكومة تدفع بنسين. الجملة تسعة بنسات (نحو ثلاثة قروش ونصف) تُلصق بقيمتها طوابع على الاستمارة، وتُختم، وتُقدم للحكومة كل أسبوع. وإذا كان العامل صاحب هذه الأجرة امرأة تُعامل مثل معاملة الرجل إلا ما تدفعه هي فيكون ثلاثة بنسات بدلًا من أربعة، ويختلف مقدار المدفوع باختلاف درجة العامل ومقدار أجرته.

والحكومة تحفظ للعامل ما يقدمه كل أسبوع وتختزنه لحسابه وقد تستثمره له فيضمن مستقبله رغم إرادته، ومعظم هذا الضمان من رئيسه والحكومة، وهي لا تضرها لكن تنفع العامل المسكين، وفي ذلك القانون شروط وأحكام تفصيلية لا محل لها، لكنها بلا شك من أحسن ما استنبطته القرائح لمصلحة العمال، وضمان مستقبلهم على نفقة الحكومة وأصحاب الأموال، فضلًا عما فيها من المشقة على أصحاب التجارات أو المعامل، فإن كل واحد منهم مكلف بالتوقيع على السراكي أو الاستمارات بيده كل أسبوع، وقد يكون عنده مائة عامل أو ألف.

(٢-٩) أخلاق الإنكليز

الثبات والتعويل على الحقيقة

للإنكليز أخلاق بارزة واضحة تختلف عما لسواهم من الأمم يمكن تلخيصها بكلمتين نعني:

  • (١)

    أنهم يجنحون في أعمالهم وشئونهم إلى الحقيقة المحسوسة دون الظواهر.

  • (٢)

    أنهم ثابتون في مبادئهم وعاداتهم ومشاريعهم.

فإذا عرفت ذلك فيهم هان عليك تعليل أكثر ما يعرض لك من أخلاقهم. والإنكليزي هادئ الخلق، يندر أن تتغلب عليه الحدة حتى تخرجه عن طور إرادته؛ ولذلك تجدهم يبحثون في أهم المسائل وأحرج المشاكل، ويتجادلون ويتناقشون بهدوء وسكينة، ويغلب في أدلتهم أن تُبنى على العقل أكثر مما على العواطف. ويظهر لك الإنكليزي جامدًا، وقد ترى في نفسك تفوقًا عليه بسرعة الخاطر، لكنك عند العمل تجده أثبت منك قدمًا، وأصبر على التعب، وأقدر على المشاريع الكبرى، وترى فيه سكوتًا وطول أناة في موقف يستفز سواه ويهيج غضبه، وليس ذلك من بلادة في طبعه، وإنما هو من قبيل ثباته في أعماله وتعويله على الحقائق، فلا يكترث بالصغائر، بل يجعل همَّه الغرض الذي يسعى إليه، لا يبالي بما يقف في طريقه من العقبات ولا سيما إذا كانت تلك العقبات أمورًا وهمية كالكلام في الصحف ونحوها إذا لم يكن مبنيًّا على حقائق محسوسة، فهو يهمه أن يصل حماره إلى العباسية، ولا يلتفت إلى شقشقة المكاري في أثناء الطريق.

الكبرياء والأنانية

ومن الأخلاق المشهورة عن الإنكليز أنهم متكبرون يترفعون عن مخالطة سواهم من الأمم، وهي تهمه لا تخلو من الحقيقة. إن الإنكليزي معجب بنفسه، يفتخر بدولته وأمته، وينفرد عن سائر الأمم فلا يزاوجهم أو يختلط بهم إلا بما تقتضيه المصلحة التجارية أو السياسية. ولا عجب فإننا في عصر الأنجلوسكسون كما كان العرب في إبان دولتهم والرومان قبلهم. ولكل أمة عصر إذا تفوقت فيه على سواها توهمت امتيازها الفطري عليهم بالجبلة الأصلية، وهي طبعًا لا تنال ذلك التفوق إلا لمواهب فيها تمتاز بها عن سواها.

ومما يُوجه إلى الإنكليز من الانتقاد أنهم أنانيون يحبون الاستئثار بالمنافع لأنفسهم، وهو خلقٌ فطري في الإنسان لا يختص بأمة دون أخرى، لكنه يظهر في الإنكليزي؛ لأنه لا يبالي أن يظهره ويتمسك به، ولا يهمه ما يسميه الآخرون أريحية أو نجدة ويعدونها من أسمى المناقب، فهو لا يعرِّض نفسه للخسارة لمنفعة سواه كما يفعل الفرنساويون مثلًا، أو كما يفعل العرب ويعدونه من مفاخرهم؛ ولذلك كان العرب أسرع اختلاطًا بالفرنساويين مما بالإنكليز.

ومن مقتضيات الجنوح إلى الحقائق أن الإنكليزي صريح في أقواله وأعماله، لا يقول غير ما يعتقده ولو ساءك قوله، فيظهر ذلك منه مظهر الجفاء، ولكنه يعد المجاملة ضربًا من العبث، فلا يزال يتجنبك حتى يتعرفك، ويثق بك فيمد لك يده، ويصافحك، ويكون عند ذلك من أخلص الأصدقاء وأظرف الجلساء.

التربية الأدبية والعقلية

ومن مقتضيات ذلك الخلق أيضًا ما تراه من ثبات الإنكليز في أفضل وسائل التربية البدنية والعقلية ولا سيما الرياضة، وهم قدوة الأمم فيها. وقد ألَّف ديمولان الكاتب الفرنساوي كتابه سر تقدم الإنكليز؛ ليحرض قومه على الاقتداء بهم في التربية والأخلاق والتعليم وغير ذلك. واختص غوستاف لابون أخلاق الإنكليز بالإطراء في كتابه «العوامل الأخلاقية في تكون الأمم»؛ فالإنكليزي رأى بعين الحقيقة أن هذا الضرب من التربية مفيد له، فاتبعه ووضع له قواعد أساسها الفائدة الحقيقية بلا زخرف ولا تنميق، وزادهم ثباتًا فيها أنهم فُطروا على احترام آراء رجال التاريخ، وأصحاب المواهب منهم والعمل بها بلا جدال أو نقد — لعله من بقايا خضوعهم للشرفاء في عصر الإقطاع — ولهذه المنقبة فضل كبير في جمع كلمتهم، وتأييد مساعيهم؛ لأن الأمة إذا عملت برأي عقلائها كانت كلها عقلاء، بخلاف الأمم التي يزعم كل من أفرادها أنه صاحب الرأي الأصوب والنفوذ الأعلى، ويرى الانصياع لرأي سواه صَغارًا ومذلة كما هو شأن الأمم الضعيفة التي صارت إلى الشيخوخة، وآذن الزمان بفساد أمورها وانقضائها.

الصدق والوفاء

المشهور أن الإنكليزي على الإجمال بطيء الخاطر غير مفرط الذكاء، لكنه ناجح على الغالب في أعماله ومشاريعه، فما هي علة نجاحه؟ العلة الحقيقية أنهم يعملون بالقواعد التي قرر عقلاؤهم أنها وسيلة النجاح، وقد رسخت في أذهانهم بالتربية للأسباب التي قدمناها، وهي تعلِّمهم أن التاجر أو الصانع يجب أن يعوِّل في أعماله على الحقائق مع المنفعة المتبادلة، فجعلوا معوِّلهم على الصدق والأمانة والثبات، وهي أهم أسباب نجاحهم في أعمالهم الكبرى والصغرى. وقد اشتُهر ذلك عنهم حتى جرى مجرى الأمثال. والمشهور بين تجار الأرض أن الإنكليزي إذا سألته عن سعر بضاعته أعطاك آخر سعر يوافقه، ولا يفتح بابًا للأخذ والرد، أو المساومة كما تفعل سائر الأمم.

المحافظة على التقاليد

قد رأيت الأمة الإنكليزية لا تزال حتى الآن محافظة على الأرستقراطية رغم إعراقها في الدستورية، حتى الدستور عندها لا يزال محفوظًا بالتقليد؛ أي إنهم لم يدونوا قواعده وشروطه بما يسميه العثمانيون القانون الأساسي أو نحوه، وإنما يجرون به على التقاليد الماضية فيحكمون في شئونه بالقياس على أحكام سابقة أصدرها أسلافهم مع مراعاة مقتضيات الأحوال، وإذا عرضت مسألة لم يسبق الحكم فيها حكموا فيها، وعدوا حكمهم سابقة لمن يأتي بعدهم؛ فالإنكليز من أكثر الأمم محافظة على التقاليد المتوارثة، وذلك من قبيل الثبات في أخلاقهم؛ ولهذا السبب كانوا من أشد الناس احترامًا لرجال التاريخ منهم، ينصبون لهم التماثيل ويعملون بأقوالهم، ولنفس هذا السبب جروا في استعمارهم على احترام تقاليد الأمم التي تدخل في سلطانهم أو حمايتهم، فلا يتعرضون لهم في شيء من أديانهم أو عاداتهم، بل يساعدونهم على القيام بشعائرهم الدينية أو الوطنية؛ ولذلك كان الشرقيون أكثر ارتياحًا إلى سيادتهم مما إلى سواها لولا ترفعهم وبُعدهم عن المجاملة.

التدين والنظام

ومن قبيل الثبات والمحافظة على التقاليد أنهم متمسكون بعقائدهم الدينية، ورغم تطرف أكثر الأمم من جيرانهم وزملائهم في الحرية الدينية، حتى جاهروا بمناوأة رجال الكهنوت، ومطاردة الجمعيات الدينية، فالإنكليز ما زالوا متمسكين بأهداب الدين يحافظون على طقوسه وتعاليمه ولا سيما الراحة يوم الأحد، فقد ذكرنا كيف يقفلون الحوانيت والمخازن وغيرها في أيام الآحاد والأعياد.

ومن هذا القبيل أيضًا خضوعهم للنظام وتقديسه والإذعان له باحترام وافتخار، لا يستنكف من ذلك كبيرهم ولا صغيرهم، ولا يرى الملك بأسًا أن يعترف بالخطأ بين يدي أصغر رعاياه، ولا يعد ذلك حطَّة، وإنما هو من نتاج جنوحهم إلى الحقيقة، واحترامهم إياها. وتجد كتبهم المدرسية مشحونة بالحكايات التي تعلِّم هذه المنقبة وأمثالها من الصراحة بالقول والاعتراف بالخطأ، غير القدوة الحسنة التي يستفيدها التلاميذ من أساتذتهم أو والديهم أو كبارهم في هذا السبيل.

الشعور بالواجب

إن الشعور بالواجب عام في الممالك الراقية، لكنه ظاهر كل الظهور في أخلاق الإنكليز؛ فالإنكليزي يعرف ما عليه من حق أدبي أو مادي فيؤديه في حينه بلا مطالبة أو استحثاث، يفعل ذلك بهدوء وسكينة؛ لأنه من أكثر الناس عملًا وأقلهم كلامًا، فإذا وعدك بزيارة كن على ثقة أنه مُنجز وعده، وإذا كلفته بخدمة فمن التأدب عندهم ألا يؤكد لك نجاحه فيها، وإنما يقول «إني سأجرب»، فإذا قال هذا قائل منهم عدُّوا قوله وعدًا أكيدًا، وهكذا إذا عزم أحدهم على تكليف آخر بخدمة أو مطالبته بحق له أو وعد يتوقعه، فإنه يجعل طلبه بصورة الاستفهام أو الشك فيقول مثلًا: «ماذا تظن لو فعلت كذا؟» فيجيبه «أظنني فاعلًا كذا» فيعد ذلك وعدًا لا بد من قضائه. وهذه التعابير تكون غالبًا في الطبقة الراقية من القوم.

(٢-١٠) المرأة الإنكليزية

المرأة في إنكلترا تشبه سائر النساء في أوروبا في أكثر الأحوال الاجتماعية والأدبية، لكنها تفرق عنهن بما يقتضيه الخُلق الإنكليزية أو التربية الإنكليزية من بعض الوجوه؛ فهي أميل إلى الحقائق في آدابها وعاداتها وأزيائها، ويمتاز الزي الإنكليزي غالبًا بالبساطة؛ لأنهم يلاحظون فيه المنفعة الحقيقية — شأنهم في كل شيء — وإذا رأيت إنكليزية بثوب مزخرف فإنها تقلِّد به غير الإنكليز.

ومن هذا القبيل انصرافها إلى الرياضة البدنية بالألعاب المشهورة عندهم حتى لعب السيف وركوب الخيل؛ ولذلك كانت الإنكليزية صحيحة البنية نشيطة الحركة ممشوقة القوام مشرقة الوجه قوية الإرادة، وقد أخذت تتشبَّه بالرجال، وتجاريهم في أعمالهم، وتطرفت طائفة من المتهوِّسات حتى طلبن حق التصويت في مجلس النواب، وبالغن في ذلك وخرجن به عن طورهن الذي خُلِقن له، واستخدمن العنف في مطالبهن. ولا نظنهن إلا راجعات إلى الصواب. وحكمنا على المرأة الإنكليزية من هذا الوجه مثل حكمنا على المرأة الفرنساوية عند كلامنا عن أخلاق الفرنساويين:

إن المرأة الإنكليزية خُلقت لتهتم بشئون بيتها وعائلتها، فإذا تحولت عن ذلك إلى أعمال الرجال خرجت عن طبيعتها.

على أن المرأة الإنكليزية في أصل فطرتها كثيرة الخضوع لرجلها تستهلك في سبيل راحته وراحة سائر العائلة ولو مهما كلفها ذلك، لكنها وهي عذراء تتمتع بما يتمتع به الشاب من الحرية الشخصية في ذهابها وإيابها وقيامها وقعودها، فإذا تزوجت انقطعت إلى بيتها ولم يعد يهمها سواه مع احترام زوجها ومعرفة حقه. فلعل المطالبات بحقوق الرجال من غير المتزوجات.

(٢-١١) طريقتهم في الاستعمار

وترى الخلق الإنكليزي الأساسي — نعني التعويل على الحقيقة مع الثبات — ظاهرًا في طرقهم السياسية، كالاستعمار مثلًا؛ فإن لهم فيه طريقة تخالف طرق المستعمرين؛ فهم ينظرون من وراء الاستعمار إلى الفائدة الحقيقية لا يهمهم زخرف السيادة وأبهة الدولة والتفاخر بسعة السلطة بقدر ما تهمهم المصلحة الحقيقية في الاستعمار. وقد وجدوا بعين العقل أن المصلحة الحقيقية من الفتح أو الاحتلال إنما هي المرافق الاقتصادية أو المالية، فيوجهون سعيهم إليها، ولا يهمهم بعدها أن تكون لهم سيادة إن لم يكن الغرض منها المنفعة الاقتصادية، ومن ثباتهم وطول أناتهم صبرهم على استثمار مطامعهم الاستعمارية أعوامًا متطاولة ترسخ في أثنائها أقدامهم، أو تسنح لهم فرص يغتنمونها، ويؤيدون بها حقوقهم.

ولهذا السبب رأيتهم لا يتعجَّلون وضع الحماية أو إعلان السيادة، بل بعكس ذلك يتساهلون مع مستعمراتهم في الاستقلال الإداري حتى لا يبقى فرق يُذكر بينه وبين الاستقلال الحقيقي، ويهمهم من البلد الداخل في حيازتهم أو تحت نفوذهم أن تكون مصالحهم المادية رائجة فيه، ولا يبالون أن يجيئهم ذلك بطريق الاحتلال أو الحماية أو الاستعمار. وعلى هذا المبدأ حلُّوا قيود أوستراليا وكندا والترانسفال وغيرها. ولا نرى مانعًا من أن يفعلوا ذلك في الهند وغيرها إذا تحققوا ضمان مصالحهم الاقتصادية وبقاء علائقهم الودية، وأن تكون لهم الأفضلية من الاعتبارات الأخرى.

فالسطوة التي بلغت إليها الأمة الإنكليزية في هذا العصر تتوقف على أخلاقهم أكثر مما على ذكائهم. إن الأخلاق التي ذكرنا أمثلة منها جعلت أربعين مليون إنكليزي يحكمون نحو ٣٥٠ مليون نفس من أمم شتى في القارات الخمس، وفيهم القوقاسي والمغولي والهندي والزنجي وغيرهم من طبقات الناس يتكلمون عشرات من اللغات المختلفة. إن الإنكليز استطاعوا ذلك بأخلاقهم المتينة وأساسها الثبات والتعويل على الحقيقة، وإلا فإن بين الأمم الداخلة في سلطانهم شعوبًا لا يقلون عنهم ذكاء، ويفوقونهم في كثير من المواهب العقلية، وإنما تنقصهم الأخلاق اللازمة للتغلب أو الاستقلال.

(٢-١٢) المدنية الحديثة ومدنية العرب

فالإنكليز من أوضح الأمثلة للأخلاق الملائمة لروح هذه المدينة — وإن كانت لا تلائم المدنيات الأخرى؛ إذ لكل مدنيَّة قواعد تُبنى عليها دعائمها ولا تصلح إلا بها؛ فمدنية العرب أساسها مناقب العرب في صدر الإسلام، أهمها: الأريحية والنجدة والجوار والوفاء والحلم وسعة الصدر وكرم الخلق ونحوها مما لا يلائم المدنية الحديثة. كان الخليفة أو الأمير يعفو أحيانًا عن القاتل؛ لاعتبار قام بنفسه من قول سمعه أو فكر خطر له ويعد ذلك أريحية، وكان القوم يتواصون بالعفو عند المقدرة، والأخذ بأسباب الكرم، يقيمون بيوت الضيافة ينزل فيها الأضياف أشهرًا لا يسألهم أحد مَن هم، وكان لهم ضرب من الارتزاق بالسخاء من الخليفة فمَن حوله، وأتباعهم وحواشيهم وأعوانهم يقيم في بيت الأمير أو العامل عشرات أو مئات من الناس يأكلون ويشربون ويلبسون ولا عمل لهم، وقس على ذلك مما فصَّلناه في تاريخ التمدن الإسلامي، فهذه المناقب بعيدة عن مقتضيات المدنية الحديثة التي أساسها مبادلة الحقوق والواجبات، لا حلم ولا عفو ولا أريحية ولا نجدة، وإنما ينال المرء من الرزق أو المنصب على قدر سعيه ومواهبه بمقتضى القواعد الاقتصادية، والاعتبارات السياسية، فلا يرتقي في هذا السلك غير العارف بأحكام السياسة الذي ينظر إلى حقائق الأشياء بالنظر إلى مصلحة الأمة، ويحافظ على العدالة وشروطها، لا ينفق قرشًا إلا في طريقه، وغير ذلك من المناقب الشائعة في أوروبا لهذا العهد ولكل دولة أيام ورجال.

(٢-١٣) آثارها

لإنكلترا آثار معنوية في نفوس العقلاء مرجعها إلى الإعجاب بأخلاقهم وتربيتهم ونظام عائلاتهم، حتى أعداؤهم فإنهم يعترفون لهم بسمو الأخلاق وثباتها ويحرِّضون أقوامهم على تحدِّيها.

أما الآثار البنائية فإنها كثيرة في إنكلترا، ولا سيما في لندن، وقد ذكرنا شيئًا منها في كلامنا عن هذه المدينة، وعددنا ما فيها من الأبنية والشوارع وغيرها، ولا يستطيع المار في شوارعها وساحاتها غير الإعجاب بما يراه منصوبًا هناك من التماثيل الفخيمة لمشاهير الرجال؛ فإن الإنكليز كثيرو الاحترام لأسلافهم يقيمون لهم التماثيل كما يقيمونها للقديسين. وكما يُعْجَب الفرنساويون ببونابرت وينصبون تماثيله في شوارعهم وحدائقهم وساحاتهم وقصورهم، فالإنكليز يفعلون نحو ذلك بتماثيل ولنتن ونلسن ونحوهما، وناهيك بالقصور الكبرى والمعابد الفخيمة؛ فإنها كثيرة في لندن، فنكتفي بالإشارة إلى أشهرها مما وفِّقنا لزيارته في هذه الرحلة فنقول:

كنيسة القديس بولس

إنها قائمة في منتصف المدينة، وهي أفخم أبنيتها وأعلاها ومن أقدمها عهدًا، لم يتفق المؤرخون على أصل بنائها، ولكنهم متفقون على أنه كان في مكانها معبد من زمن الرومانيين، ثم خرب وأقاموا مكانه كنيسة سنة ٦١٠م واحترقت سنة ٩٦١م فأُعيد بناؤها، وتوالى عليها الخراب والترميم مرارًا حتى جُددت كلُّها في أواخر القرن السابع عشر على يد مهندس شهير اسمه خريستوفر رين، بدءوا ببنائها سنة ١٦٧٥ وتمت سنة ١٧١٠، وأُنفق في سبيل ذلك ٨٥٠٠٠٠ جنيه أُخِذت من الأهلين بضريبة وضعتها الحكومة على الفحم الوارد إلى لندن، وكان رين هذا يستولي في أثناء هذه المدة على راتب سنوي مقداره ٢٠٠ جنيه في السنة.

بُنيت هذه الكنيسة على مثال كنيسة القديس بطرس في رومية لكنها أصغر منها، ومع ذلك فهي أكبر كنائس العالم بعد كنائس رومية وميلان وأشبيلية وفلورنسا، شكلها كالصليب الروماني، طولها ٥٠٠ قدم وعرضها ١١٨ قدمًا، وعلو قبتها ٣٦٤ قدمًا، قطر قبتها مائة قدم وقدمان، وقُطر قبة كنيسة القديس بطرس في رومية ١٣٩ قدمًا، ويزيد أهميتها في نظر الزائرين ما على جدرانها من النقوش والصور، وما أقاموه في جوانبها من تماثيل عظماء الإنكليز وأكثرهم من كبار القواد، فهي بهذا الاعتبار معرض عظمة إنكلترا وإنما يفوقها بذلك دير وستمنستر الآتي ذكره.

مدخلها الأكبر من جهة الغرب، وهي قائمة في الداخل على ركائز ضخمة مربعة الجوانب تشبه ركائز جامع السلطان أحمد في الآستانة وتشبهها أيضًا بالشرفة المستديرة المحيطة بأعلى تلك الركائز، يتوهم الداخل لأول وهلة أنها كنيسة كاثوليكية لكثرة ما يراه فيها من الصور، لكنه لا يلبث أن يرى معظم تلك الصور تمثل مشاهير الرجال، لا يستطيع الداخل إليها إلا التهيب مما يشاهده من فخامة البناء وسعة المكان وما نُصِب في جوانبه من التماثيل الرخامية والبرونزية، فيحسب نفسه في ساحة الحرب، أو في ساعة الدينونة، وقد اجتمع نخبة الرجال ليؤدوا حسابًا عما فعلوه أو ليتفاخروا فيمَنْ كان أشدهم بطشًا، وأكثرهم فضلًا في تعزيز العلم البريطاني، وفي الجناح الأيسر من صحن الكنيسة تماثيل جماعة يعرفهم السودان مثل الجنرال القراء، وكان لهم دخل في شئون مصر ستيوارت قائد الفرقة التي تعجلت الذهاب إلى الخرطوم لإنقاذ غوردون سنة ١٨٨٤، وكنا في جملتها فأُصيب قائدها ستيوارت برصاصة في بطنه في معركة انتشبت بيننا وبين الدراويش قرب المتمة، سقط ونحن نراه ولا ننسى تلك الساعة الرهيبة؛ لأننا كنا في أشد ساعات الخطر، وتمثال الجنرال غوردون، وقد قُتل في الخرطوم قبل وصول الحملة بيومين، وتمثال دوق ولنتون صاحب معركة وترلو، وتماثيل الجنرال بتكن والجنرال بونسي قُتِلا في وترلو، والأميرال نابيه قائد الأسطول الإنكليزي في البلطيك سنة ١٨٥٤، وهناك طائفة من الأدباء وأرباب الأقلام بينهم رينولدس المصور وباتريك نابيه وهلاند المؤرخان.

وقس على ذلك التماثيل العديدة في الجناح الأيمن والمواقف الأخرى يعرف القراء من أصحابها الأميرال نلسون الذي أغرق الأسطول في أبي قير سنة ١٧٩٨، واشتهر بمواقع رفع فيها شأن الإنكليز في كوبنهاكن وترافلغار وغيرهما، وقد نُقشت أسماء تلك المواقع على قاعدة تمثاله، وقد خسر ذراعه اليمنى في واقعة قادس، فجعلوه في التمثال مُتَّشحًا برداء يغطي تلك الذراع، ومنهم الجنرال أبركرومبي الذي قُتل في أبي قير سنة ١٨٠١، والجنرال مور الذي قُتل في كروتا بإسبانيا، والأميرال هو الذي أنقذ جبل طارق سنة ١٧٨٢، وفي بعض الحنايا تذكار للمقتولين في حرب القرم وحوله الأعلام التي كانت لهم هناك. ومن المشاهد الهامة في هذه الكنيسة قبتها؛ لما تشرف عليه من الأبنية البعيدة؛ فقد صعدنا إلى قمتها بسلَّم درجاته ستمائة وعشرون درجة، فأشرفنا على لندن كلها، كما أشرفنا على باريس من قمة برج إيفل، أما القبة فلها شأن خاص شاهدنا مثله وراء محراب كنيسة أريني بالآستانة؛ نعني تفخيم الصوت فإن حول قاعدة هذه القبة من الداخل شرفة مستديرة قطرها نيف ومائة قدم، ومحيطها نحو ٣٢٠ قدمًا، يشرف المار فيها على صحن الكنيسة وتُسمى «قاعة التهامس» دخلناها من باب في بعض جوانبها، فرأينا شيخًا يهمس في الحائط بصوت يكاد لا يسمعه الواقف بجانبه، فأومأ إلينا أن نذهب إلى مقعد في الجانب الآخر من تلك الشرفة، فمشينا ونحن نسمع الصوت يرتفع كلما بعدنا عن ذلك الشيخ، فلما وصلنا إلى الطرف الآخر سمعناه كالخطيب يتلو علينا خطابًا في تاريخ هذا البناء.

وتحت أرض الكنيسة سراديب مرصَّفة بالفسيفساء، فيها تماثيل وأضرحة للمشاهير أيضًا، منها ضريح للدوق ولنتن من الرخام السماقي قائم على قاعدة من الغرانيت وحوله الأعلام التي اكتسبها من إسبانيا، والبرتغال، وفرنسا، وبجانبه المركبة التي حملت جثته، وضريح بكتن زميله في وترلو، وفي مكان آخر يقابل منتصف القبة ضريح نلسون فيه تابوت مصنوع من خشب السارية الوسطى من سواري الدارعة الفرنساوية (لوريان) التي أحرقها أسطوله في أبي قير سنة ١٧٩٨، وبجانبه ضريح رفيقه كولنوود، وضريحان لنابيه ونورتسك، وتماثيل جماعات من رجال الأدب والتاريخ بينهم السير وليم هورد رسل أعظم مكاتب حربي في القرم، وأضرحة لنساء شهيرات في العلم وغيره.

قصر جيلد هول

اشتهر هذا القصر بقاعته التي تُلقى فيها الخطب العمومية، وفيها خَطبَ روزفلت منذ بضع سنين خطابه المشهور الذي ذكر فيه مصر وسياسة إنكلترا فيها. يمر الزائر من كنيسة القديس بولس إلى جيلد هول بشوارع هي أكثر شوارع لندن ازدحامًا، في جهة اسمها شيبسايد يساوي متر الأرض فيها ٢٥٠ جنيهًا.

بُنِيَ هذا القصر للمرة الأولى في أوائل القرن الخامس عشر مقرًّا لقضاة ومجالس البلدية ثم تخرب وأُعيد بناؤه، وأُنشئت فيه القاعة المذكورة وطولها ١٥٢ قدمًا، وعرضها ٥٠ وعلوها ٨٩ قدمًا، تجتمع فيها المجالس البلدية للانتخابات ونحوها، وتُتلى فيها الخطب العامة، وفيها حُوكم جماعة من المجرمين العظماء مثل أرل سيري، واللادي جان غراي وغيرهما، وفيها تماثيل مشاهير الإنكليز ولاسيما ونلتن ونلسن وشتام وبت ومور. وفي قاعة أخرى تماثيل أخرى في جملتها تمثالان خشبيان غريبا الشكل يُعرفان بياجوج وماجوج، ولم نعلم سبب هذه التسمية.

وفي جيلد هول مكتبة فيها ١٤٣٠٠٠ مجلد معروضة للناس، وفيها متحف صناعي للساعات، وغيرها من المصنوعات الدقيقة وخرائط كبيرة، وقاعة صور فيها صور تاريخية، منها صورة معركة جبل طارق بين الإنكليز والإسبان سنة ١٧٨٢، وصور كثيرين من الملوك، وصورة يوبيل الملكة فكتوريا الماسي سنة ١٨٩٧ بالمركبة التي كان يجرها ثمانية أفراس، وتحت الأرض سراديب مثل سراديب كنيسة القديس بولس فيها قبور ونواويس قديمة.

بنك إنكلترا

نحن الآن على مقربة من بنك إنكلترا الشهير، فلا ينبغي لنا أن نمر به سكوتًا، بُني سنة ١٧٣٤ وأُعيد بناؤه كما هو الآن سنة ١٨٢٧ ليس في ظاهره نافذة، لكنهم يضيئونه من الداخل مبالغة في الاحتفاظ به. أما البنك نفسه؛ أي العمل المالي المعروف بهذا الاسم فقد أُنشئ سنة ١٦٩٧، وظل هو البنك الوحيد في لندن إلى سنة ١٨٣٤ فأُنشئت بنوك أخرى، لكنه لا يزال أعظمها جميعًا ويمتاز عنها كلها بأَنَّ الحكومة أذنت له بإصدار الأوراق المالية (بنك نوط) كان رأس ماله الأصلي ١٢٠٠٠٠٠٠ جنيه ثم تضاعف مرارًا. عدد عماله ألف عامل ولا يخلو من ٢٠٠٠٠٠٠٠ جنيه ذهب مختزنة في سراديبه المتينة و٢٥٠٠٠٠٠٠ جنيه عملة ورق بين أيدي الناس، وهو ينوب عن الحكومة الإنكليزية فيما يتعلق بالديون التي عليها وقيمتها ٦٧٢٠٠٠٠٠٠ جنيه بين قبض ودفع وترصيد، وفي البنك مطبعة تطبع أوراق «البنك نوط» يصدر منها ٥٠٠٠٠ قطعة كل يوم من فئة خمسة جنيهات إلى ألف جنيه، ويُطبع فيها أيضًا البنك نوت الهندي، وآلاتها بغاية الإتقان وطريقة طبعها تستدعي الإعجاب. ومن عادات هذا البنك أن يتلف كل ما يرجع إليه من أوراقه ولا يدفع للناس إلا أوراقًا جديدة خارجة من تحت يد الطابع، لكنه لا يتلف الأوراق المرتجعة حال استلامها بل يحفظها خمس سنوات في خزائن من حديد لئلا يقتضي الأمر مراجعة شيء منها لشهادة قضائية أو نحوها ثم تُحرق. ويبلغ عدد ما يُجمع عندهم منها في السنوات الخمس ٨٠٠٠٠٠٠٠ ورقة وزنها ٩٠ طنًّا وقيمتها المالية ١٧٥٠٠٠٠٠٠٠ جنيه. وإذا فُرشت الواحدة بجانب الأخرى في خط واحد تألَّف منها درج طوله ١٣٠٠٠ ميل. وفي البنك آلة لوزن الجنيهات الذهب وفرزها تزن ٣٣ جنيهًا في الدقيقة، فما كان منها ناقصًا لفظته خارجًا. وفي البنك مخزن لحفظ المجوهرات، ويحرس البنك شرذمة من الجند ليلًا ونهارًا.

برج لندن

واقع على ضفة التيمس وهو من أقدم أبنية لندن وأشهرها، كان معقلًا للملوك ثم جعلوه سجنًا للمجرمين العظماء من الملوك أو القواد أو الأمراء، حوله خندق عميق يحيط به ردم سنة ١٨٤٣ وجعلت الحكومة برج لندن الآن ثكنة للجند، ورممت جدرانه ليبقى حصنًا. شكله مربع غير منتظم مساحة أرضه ١٣ فدانًا عليها عدة أبنية يحيط بها سور مزدوج عليه الأبراج، يُقال في تاريخ بنائه إنه يرجع إلى وليم الظافر. أقدم قصوره الآن «البرج الأبيض» بُني في القرن الحادي عشر، وهو فخيم وله ذكر رهيب في التاريخ؛ لكثرة من سُجن أو قُتل فيه من العظماء، أشهر ضحاياه السير توماس مور قُتل سنة ١٥٣٥، وحنة بولين قُتلت سنة ١٥٣٦ وتوماس كرومويل قُتل سنة ١٥٤٠ ومرجريت بول سنة ١٥٤١ والملكة كاترينة هورد سنة ١٥٤٢ والأميرال سيمور سنة ١٥٤٩ واللورد سمرست سنة ١٥٥٣ واللادي جان غراي وزوجها سنة ١٥٥٤ والسير جون إليوت مات فيه سنة ١٦٣٢ وغيرهم كثيرون. وممن سُجنوا ولم يُقتلوا جون بليول ملك اسكتلندا سنة ١٢٩٦ ووليم ولسن الاسكتلندي سنة ١٣٥٠ وداود برويس ملك اسكتلندا سنة ١٣٤٧، وجون ملك فرنسا أُخذ أسيرًا في بواتيه سنة ١٣٥٦ ودوق أورليان والد لويس الثاني عشر ملك فرنسا سنة ١٤١٥، والملك هنري السادس وغيرهم. وكان في البرج مأسدة نُقلت إلى مسرح الحيوانات العام.

وفي هذا البرج تحف تاريخية لا يوجد مثلها في سواه، منها الأسلحة والألبسة والمجوهرات، أهمها المصوغات الملوكية سيأتي ذكرها، وأول ما يستلفت نظر الشرقي عند دخوله الباب الخارجي للبرج مدفع عثماني أهداه السلطان عبد المجيد لإنكلترا سنة ١٧٥٧، وإذا دخل البرج فأهم ما يشاهده هناك المصوغات الملوكية الإنكليزية، وقد ذكرنا المصوغات الملوكية الفرنساوية التي شاهدناها في متحف اللوفر، لكن هذه أفخم وأثمن.

إن هذه المصوغات، أو المجوهرات معروضة في غرفة صغيرة في وسطها دكة مثمنة الأضلاع يكاد يقرب شكلها من الاستدارة، عليها رفوف مرتبة بعضها فوق بعض بشكل هرمي وضعوا تلك المصوغات عليها بحيث يراها المشاهدون، لكنهم أحاطوا تلك الدكة بسياج من شبك الحديد وألواح من الزجاج. وبين الدكة والحائط ممر يكاد لا يتسع لمرور اثنين، والحرس وقوف لمراقبة المتفرجين، والمصوغات المشار إليها أكثرها تيجان مرصعة بالحجارة الكريمة بعضها قديم، والبعض الآخر حديث وهي:

  • (١)

    تاج القديس إدوارد صُنع لتتويج شارل الثاني. سرقه الكولونيل بلود سنة ١٦٧١ في جماعة من رفاقه بعد أن قتلوا الحارس، لكنهم لم يفوزوا بغنيمتهم.

  • (٢)

    تاج الملك إدوارد السابع صُنع في الأصل للملكة فكتوريا سنة ١٨٣٨ ثم جُدد للملك إدوارد سنة ١٩٠٢ وهو من المصوغات الحديثة، مرصع بجواهر لا يقل عددها عن ٢٨١٨ ماسة و٣٠٠ لؤلؤة وجواهر أخرى، في مقدمه ياقوتة يُقال إنها كانت للأمير الأسود أعطاه إياها دون بادرو صاحب قسطيلة سنة ١٣٦٧ وقد وضعها هنري الخامس على خوذته في معركة أجنكورت؟ تحتها ماسة كبيرة تُعرف بالماسة الكولينية قدمتها حكومة الترنسفال إلى الملك إدوارد سنة ١٩٠٧ وهي تُنسب إلى ماسة اسمها كولينا سيأتي ذكرها، وفي مؤخرة التاج حجر صغير يُقال إنه كان لإدوارد المعترف.

  • (٣)

    تاج ولي العهد من الذهب الخالص غير مرصع.

  • (٤)

    تاج زوج الملكة ذهب مرصع.

  • (٥)

    تاج الملكة ذهب مرصع.

  • (٦)

    تاج الملكة هو طوق من الذهب مغشى بالماس واللؤلؤ، وقد صُنع كلاهما للملكة ماريا ديست زوجة جيمس الثاني.

  • (٧)

    صولجان الملك إدوارد من الذهب الخالص طوله أربعة أقدام ونصف ووزنه ٩٠ رطلًا مصريًّا، قبضته ضخمة كالتاج يُقال إن فيها قطعة من ذخيرة عود الصليب.

  • (٨)

    الصولجان الملوكي طوله قدمان وتسعة قراريط، عليه صليب مرصع بالحجارة الكريمة.

  • (٩)

    صولجان الحمامة أو عصا المساواة، على رأسها تمثال حمامة باسطة جناحيها.

  • (١٠)

    صولجان آخر فيه صليب مرصع.

  • (١١)

    الصولجان العاجي للملكة ماريا ديست فوقه حمامة من العقيق الأبيض.

  • (١٢)

    صولجان الملكة ماري زوجة وليم الثالث.

  • (١٣)

    مثال ماسة «كوه نور» الشهيرة، وهي من أكبر حجارة الماس المعروفة، وزنها ١٦٢ قيراطًا، والماسة الأصلية الآن في قصر وندسر، وكانت قبلًا في حوزة ملك لاهور، ووصلت إلى أيدي الإنكليز سنة ١٨٤٩ لما فتحوا البنجاب.

وشاهدنا مصوغات أخرى ثمينة، منها أساور تتويج، والمهماز الملوكي، وإبريق زيت التتويج بشكل النسر، والخاتم والملعقة والمملحة، وغير ذلك، ويقدرون قيمة هذه المصوغات بمبلغ ٣٠٠٠٠٠٠ جنيه، وفي تلك الغرفة خزانة (فترينة) فيها أمثلة من الأوسمة الكبرى، ومثال للماسة الترنسفالية المسماة كولينا، أما كولينا الأصلية فقد قسَّموها إلى الماسة التي تقدم ذكرها في مقدم تاج الملك إدوارد، وقسَّموا الباقي إلى ماسات وضعوها على الصولجان.

معرض الأسلحة

وفي برج لندن معرض للأسلحة والأدراع، فيه أمثلة من المدافع والبنادق والسيوف والحراب والفئوس لبعضها ذكر تاريخي، منها: سيف جلاد ملك أود، وأسلحة هندية الأصل أو عربية. ومنها المدفع الذي غنمه الفرنساويون من مالطة سنة ١٧٩٨ وحملوه على الدارعة سنسيبل الفرنساوية، فاسترجعه الإنكليز وهم على الباخرة سيهورس بقيادة القبطان فوت. وهناك أمثلة من آلات العذاب كالجامعة التي تقبض على الإبهامين معًا، والفلق الذي يقبض على القدمين، والأطواق بالإحاطة بالأعناق. وبينها فاس لقطع العنق صُنع سنة ١٦٧٩ وبجانبه البلاطة التي يُسند العنق إليها عند القطع. ومن الأدوات الحربية التاريخية ملاءة التف بها الجنرال وولف لما جُرح سنة ١٧٥٩ وعليها مات. وثوب الدوق والمركبة المدفعية التي حملوا عليها جثة إدوارد السابع.

وفي قاعة أسلحة الفرسان كثير من الأدراع والرماح والخوذ والسهام على اختلاف الأعصر من القرن الرابع عشر فما بعده، وتماثيل أفراس عليها تماثيل فرسان بالألبسة الرسمية والأدراع الثمينة، أحدها يمثل هنري الثامن على جواده وعليه درعه، وآخر يمثل جيمس الثاني سنة ١٦٨٨ وآخر يمثل شارل الأول وعليه درع مغشاة بالذهب، وهناك غرفة لها ذكر تاريخي لأنها كانت قاعة المجلس، وفيها تنازل ريتشارد الثاني عن الملك، وغرف أخرى كانت سجونًا استخدموها الآن لحفظ السجلات وغيرها.

وفي ساحة البرج بقعة فيها نحاسة مربعة نقش عليها ما معناه «إنه في هذا المكان قُطع رأس الملكة حنة.» وقد شاهدنا الأبراج والمخادع التي كانوا يستخدمونها للسجن ويأتون فيها ضروب الظلم والفتك بلا حساب ولا تقدير، وناهيك بفنون التعذيب مما تقشعر له الأبدان. إن مَن يطلع على ذلك، ويرى ما عليه الأمة الإنكليزية اليوم من أسباب المدنية، ومحاربة الجهل، ومطاردة الظلم يعلم أن الأمة لا بد لها من المرور في أطوار من جملتها هذا الطور من الهمجية، وأن ذلك ليس خاصًّا ببلد دون آخر ولا أمة دون أخرى.

دار الضرب

وفي هذا البرج بناء خاص لضرب النقود بُني سنة ١٨١١ ثم توسع سنة ١٨٨٢ وقد أُتقنت فيه صناعة الضرب وآلاته، ومنها ما يصنع ١٢٠ قطعة من النقود في الدقيقة، وقد بلغ ما ضُرب سنة ١٩٠٩ وقيمته ١٥٠٠٠٠٠٠ جنيه، منها ١١٨٠٠٠٠٠ قطعة فئة جنيه و٤٠٠٠٠٠٠ نصف جنيه ٣٨١٦٠٠٠ نصف ريال و٣٩٩٣٠٠٠ فلورين و٦٩٠٠٠٠٠ شلين و٧٠٢٨٠٠٠ نصف شلين و٥٦٠٠٠٠٠ ربع شلين و٢١٢٥٦٠٠٠ بنس، فقس عليه.

قصر وستمنستر

هو قصر فخيم واقع على ضفة التيمس ينعقد فيه البرلمان الإنكليزي، وهو ينعقد في قاعتين فخمتين منه، إحداهما لمجلس الأعيان، والأخرى لمجلس العموم. وقبل الوصول إلى قاعات البرلمان يمر الزائر بقاعات عديدة، الأولى مغشاة بالصور في جملتها صورتان إحداهما تمثل معركة وترلو، وقد فاز فيها الإنكليز، والأخرى تمثل واقعة ترافلغار، وقد مات فيها نلسن، طول الواحدة منها نحو ١٥ مترًا، يُتصل منها إلى قاعة أخرى جدرانها من الخشب الملون عليه صور أشهر ملوك إنكلترا، ومنها دخلنا قاعة الأعيان في غير وقت الاجتماع، طولها ٩٠ قدمًا وعرضها ٤٥ قدمًا وعلوها ٥٤ قدمًا، أرضها مغطاة بصفوف من المقاعد مغشاة بالجلد الأحمر تسع نحو ٦٥٠ شخصًا. وللقاعة ١٢ نافذة زجاجها مزين بصور ملوك إنكلترا وملكاتها منذ الفتح، وتُضاء القاعة ليلًا بالكهربائية فتزداد جمالًا، وعلى الجدران بين النوافذ تماثيل للبارونية الذين أخذوا الدستور من الملك جون. غير ما على الجدران من النقوش البديعة، بينها الصور الجميلة للملوك وبعض المواقف الدينية، وفي صدر القاعة عرش يجلس عليه الملك يُصعد إليه ببضع درجات وإلى يمينه مجلس ولي العهد. وخرجنا من طرف القاعة الآخر إلى غرفة فيها تعاليق، ومواقف للبرانيط والأردية، لكل من الأعضاء تعليقة عليها اسمه. ومن هناك انتهينا إلى دهليز جدرانه مزدانة بالصور التاريخية، ومنها إلى قاعة متوسطة الحجم فدهليز آخر اتصلنا منه إلى قاعة مجلس العموم، طولها ٧٥ قدمًا وعرضها ٤٥ وعلوها ٤١ قدمًا، وهي تشبه قاعة مجلس العموم بشكلها، لكنها أقل فخامة وأبسط رياشًا، عليها مقاعد مكسوة بجلد أزرق مخضر لا يسع أكثر من ٤٧٦ شخصًا مع أن عدد أعضاء هذا المجلس نحو ٦٧٠ وقد ترتبت المقاعد صفوفًا، وكرسي الرئيس في صدر القاعة عند طرفها الشمالي، وإلى يمينه مقاعد لنواب الحكومة كالوزراء ونحوهم، وإلى يساره رؤساء حزب المعارضين، وبين يدي الرئيس طاولة يجلس إليها الكاتب. ويجلس المخبرون ومكاتبو الجرائد على مقاعد فوق مجلس الرئيس، وفوقها مقاعد للسيدات، وتجاه مجلس الرئيس في الطرف الآخر من القاعة مقاعد للزائرين.

دير وستمنستر

لهذا الدير شأن عظيم عند الإنكليز؛ لأنه مجتمع مفاخرهم، ومدافن عظمائهم أو تماثيلهم، يحوي في تلك المفاخر أكثر مما يحويه كل مكان سواه ولا يُدفن فيه، أو يُنصب تمثاله في أرضه إلا الممتازون بالشرف والفخر في خدمة الأمة والوطن. والإذن في دفن ميت هناك أعظم شرف تقدر الأمة أن تمنحه لذلك الميت.

والدير بناء قديم ولبنائه تاريخ طويل، شكله يشبه من الداخل شكل كنيسة القديس بولس طوله ٥١٣ قدمًا، وأعرض نقطة فيه ٢٠٠ قدم، وعلوه مائة قدم وقدمان، وعلو برجه ٢٢٥ قدمًا. دخلناه من بابه الشمالي ولم نكد نتوسط المكان، ونلتفت ذات اليمين وذات الشمال حتى وقع بصرنا على ما هنالك من قبور العظماء وتماثيل الكبراء، وقد ساد السكوت وتجلَّت هيبة الموت فغلب علينا التهيب، وخُيِّل لنا أننا نسمع من كل قبر نداء، ونرى في كل تمثال خطيبًا. لا غرو ونحن بين بقايا أعظم رجال إنكلترا، وفيهم القائد الباسل، والسياسي المحنك، والشاعر المفلق، والخطيب المفوه، والعالم الحكيم، والمخترع العظيم، وقد تكاتفوا جميعًا في خدمة أمتهم فنهضوا بها إلى أسمى منازل الدول، فأخذتنا العبرة وتذكرنا حال دولتنا في العالم السياسي؛ فتشاغلنا عن تلك الهواجس بما بين أيدينا من مفاخر الآخرين؛ إذ لا فائدة من تلك الذكرى وإن عرفنا الداء، إذ لا سبيل لنا إلى الدواء. وتجولنا في أنحاء الدير، نتفقد المدافن والتماثيل، ونقرأ أسماء أصحابها، فإذا فيهم نخبة الساسة والعلماء والشعراء والخطباء وغيرهم يعدون بالمئات، ويضيق هذا المقام عن تعدادهم، فنذكر أمثلة من ذلك في مجاميع حسب الأماكن، منهم: وليم بت السياسي المتوفى سنة ١٧٧٨، وجون هولس دوق نيوكسل (١٧١١)، وجورج كانين السياسي (١٨٢٧)، والجنرال مالكولم، واللورد بالمرستون، واللورد متسفيلد، والأميرال ورين، والسير روبرت بيل السياسي (١٨٥٠)، وفي مجموع آخر جورج غوردون أرل إيردين، والسير توماس رافلس (١٨٢٦)، وتشارلس جيمس فوكس، وكابتن مونتاغيو، وغيرهم. وهناك زاوية خاصة بالشعراء والأدباء فيها تماثيل جورج غروت الشاعر، وماكولي المؤرخ ودوق أرغيل الشهير وشكسبير إمام شعرائهم، وروبرت برنس، وتنسن، وشارلس دكنس، وجون ملتن، ولو فلو، وغيرهم من الشعراء والأدباء. وهناك زوايا للشرفاء، وأخرى للأساقفة وغيرهم ممن يستغرق تعداد أسمائهم فقط عشرات من الصفحات، فكيف بذكر مناقبهم؟!

(٢-١٤) متاحفها

المتحف البريطاني

هو أعظم متاحف إنكلترا، ومن أعظم متاحف العالم، يشتمل على التحف والآثار مثل اللوفر بباريس، ويمتاز عنه باشتماله على مكتبة نفيسة يندر مثلها بين مكاتب أوروبا. وبناء المتحف فسيح تأسس سنة ١٧٠٠ ونما ببنائه ومحتوياته حتى بلغ ما هو عليه الآن، فنذكر تحفه التاريخية أولًا ثم نأتي إلى مكتبته.

دار التحف

هي عبارة عن المنحوتات والمصنوعات والمنقوشات من الآثار التاريخية، والفنون الجميلة، والتحف والذخائر، ويصح أن يُقال في وضعها إنها جمعت آثار الإنسان من أول عهد العمران إلى الآن في القارات الخمس، وفيها من كل شيء أحسنه، مرتبة على الدول والأمم في قاعات لآثار الآشوريين والبابليين والفينيقيين والمصريين والحثيين والفرس واليونان والرومان والهند والصين واليابان والعرب في الجاهلية والإسلام، وأمم أوروبا الحية وآثارها، وأمثلة من مصنوعات الأمم المتوحشة وآثارها ومظاهر عاداتها في أفريقيا وأوستراليا وأمريكا وجزائر المحيط. ومصنوعات الأمم المتمدنة من الفنون الجميلة، والتصوير، والنقش والحفر، وفيها أمثلة تدهش الناظر، ولكن هذا القسم من التحف في اللوفر أحسن منه في المتحف البريطاني وأوسع. وفي هذا المتحف مجموعة نفيسة جدًّا من النقود قديمها وحديثها، ومجموعة للأوسمة وطوابع البريد، وغير ذلك. غير آثار الإنسان قبل التاريخ.

وكل قسم من هذه التحف يشغل عدة قاعات، وبينها من النوادر ما لا يوجد عند الأمم الأصلية التي أُخذت التحف منها. مثال ذلك أن بين التحف المصرية مخطوطات من البردي لا مثيل لها في المتحف المصري بالقاهرة، وفيها حجر رشيد — نعني الحجر الذي حلُّوا منه القلم المصري القديم (الهيروغليف) على أثر حملة بونابرت — فإن هذا الحجر اتصل إلى المتحف البريطاني قبل إنشاء المتحف المصري، شاهدناه في صدر الآثار المصرية في خزانة، وهو أسود اللون مكسور من أعلاه، وفي المتحف المصري نسخة من هذا الحجر لكنها غير التي استعانوا بها على حل القلم المصري. وهناك آثار مصرية ثمينة، وموميات عديدة، ومصوغات.

وقس على ذلك الآثار الآشورية والبابلية ولعلها في المتحف البريطاني أغنى منها في سواه، وبينها ألوف من السجلات القرميدية المنقوشة بالحرف المسماري، بينها القرميدة التي عليها قصة الطوفان كما يرويها البابليون، غير قراميد الصكوك والعقود والمراسلات، وتماثيل قديمة جدًّا يُظن أنها نُحتت نحو ٤٥٠٠ قبل الميلاد. وفيها آثار نينوى وقصور آشورية كاملة نُقلت من بين النهرين إلى هذا المتحف بجدرانها وسقوفها وتماثيلها، وفي جملتها تماثيل رجال اشتهروا بالتاريخ مثل أسرحدون نقلًا عن صورته على صخر عند نهر الكلب في بيروت، وغير ذلك مما يطول بنا شرحه.

وهناك قاعات للآثار الدينية على اختلاف الأعصر والأمم، وفيها من المشابهة في الظواهر ما يدهش العقل، ومجموعة للساعات القديمة والحديثة والأسطرلاب وغيرها من صنع الأجيال الوسطى. وقد بحثنا بينها عن الساعة التي أهداها الرشيد لشارلمان فلم نقف على خبرها. وشاهدنا بين هذه التحف تمثال طاووس من فولاذ عليه نقوش فارسية وكتابة عربية وهو تمثال «طاووس» إله اليزيديين حملوه من بلد قرب ديار بكر، طوله متر وبعض المتر، واقف على قاعدة كالطاعة المقلوبة وعليها نقوش.

وفي قاعة المصنوعات الزجاجية مصنوعات عربية من مصابيح وكئوس ونحوها عليها كتابة عربية بعضها من القرن الثالث عشر للميلاد، وبينها قطع زجاجية عليها كتابة من عهد الدولة العباسية.

وفي قاعات العادات والأزياء والمصنوعات الشرقية، سيوف بعضها تاريخي يُنسب إلى بلاده في الهند والصين، وفي جملتها السيوف الدمشقية الشهيرة والفارسية والهندية والأفغانية لكل منها شكل خاص، الفارسية منحنية والهندية والأفغانية معتدلة وكذلك الدمشقية ولكنها شديدة الصقل، قبضتها من ذهب بعضها بحد واحد، والبعض الآخر بحدين، وقس على ذلك السروج وأشكالها.

مكتبة المتحف البريطاني

يعرف القراء غنى هذه المكتبة بالكتب العربية مما يقرءونه في تاريخ اللغة العربية عن الكتب الموجودة فيها، ويزيد عدد الكتب في هذه المكتبة على مليون كتاب في اللغات المختلفة، والمواضيع على اختلاف الأعصر، بينها مجموعة نفيسة من المخطوطات العربية، وفيها معرض لتاريخ الخطوط بينها خطوط مشاهير الملوك والقواد والعلماء، منها توقيع ملوك إنكلترا من ريكاردوس الثاني إلى الملكة فكتوريا، وتوقيع ملوك آخرين، غير المخطوطات القديمة للكتب الهامة، ولا سيما التوراة في العبرانية والسامرية واليونانية.

وهناك مجموع لتاريخ الطباعة فيه أمثلة من المطبوعات من أول عهد الطباعة إلى الآن، منها نسخة من التوراة باللغة الألمانية طبعها غوتنبرغ سنة ١٨٩٧ بمبلغ ٤٠٠٠ جنيه، وهي أقدم المطبوعات على الإجمال. ثم قاعات لتاريخ الطباعة في كل مملكة على حدة.

وفيها أمثلة من الكتب المصورة بالألوان، بعضها كُتب حوالي العاشر للميلاد، ومن المخطوطات الشرقية أقدمها إنجيل في العربية والسريانية كُتب على رق غزال في القرن العاشر للميلاد. وأقدم الكتب المخطوطة في العربية القرآن، ومنه نسخة في المكتبة الخديوية يُظن أنها كُتبت في القرن الثامن. ومن المخطوطات العربية المصورة بالمتحف البريطاني مقامات الحريري كُتبت في القرن الثالث عشر، وقد نشرنا صورة لها في الجزء الثالث من تاريخ آداب اللغة العربية.

(٢-١٥) متاحف أخرى

وفي لندن متاحف أخرى عديدة يطول بنا وصفها، أهمها «تيت كاليري»، ويُسمى متحف الصناعة الإنكليزية، وهو يشبه متحف لوكسنبرج في باريس، فيه أمثلة من صنع أمهر المصورين والنحاتين الإنكليز، أكثرها خيالي يُراد به الفن من حيث تشخيص العادات والأخلاق، أو الوقائع التاريخية تصويرًا بالألوان أو نحتًا على الرخام. ومن أجمل المنحوتات المتقنة فيه تمثال ولنتن على جواده وصورة منحوتة تمثل حادثة الابن الضال، ونحوها من الوقائع الشهيرة. ومن الصور صورة المارشال روبرتس على جواده، ونابليون على الباخرة التي حملته إلى منفاه، وأخرى تمثل الطوفان وغير ذلك.

ومتحف ويلز: أصله من المتاحف الخصوصية أهدته الليدي ولس المتوفاة سنة ١٨٩٧ للأمة الإنكليزية، وهو يساوي ٤٠٠٠٠٠٠ جنيه واشترت الحكومة المنزل لوضع المتحف فيه بثمانين ألف جنيه سنة ١٩٠٠، ويمتاز عن سائر المتاحف بدقة ما يحويه من المصنوعات، ويظهر للمتأمل في تحفه أن جامعها تأنَّق في انتقائها وسَخِي في ابتياعها، وأنه ذو ذوق سليم في الصناعة. ومن جملة ما شاهدناه فيها طاولة كتابة من زمن لويس الخامس عشر، وصورة الملك جورج الرابع، ومصنوعات مختلفة من القرن ١٧ و١٨، وهناك مجموعة صور محفورة في العاج أو الذهب أو العظم أو منزلة من ميناء في غاية الدقة. ومجموع ساعات وأسطرلابات وإبر مغنطيسية من صنع القرون الأخيرة وآلات هندسية. ورأينا مصباحًا عربيًّا عليه كتابة عربية منقول من أحد جوامع القاهرة. فهناك قاعة للأسلحة والأدراع والمدافع، بينها بنادق قبضاتها منزلة بالعاج عليها نقش جميل مدهش، وأدراع مذهبة نحو ما شاهدناه في برج لندن، لكنها أتقن وأثمن؛ وقاعات عديدة للصور الزيتية، منها صورة تمثل رحيل يعقوب مع أبنائه إلى مصر، وغير ذلك من الصور والمحفورات والمصنوعات.

ومتحف مدام تيسو: وهو كثير الشبه بمتحف جريفن في باريس، فيه مشاهد تاريخية ممثلة بالشمع كما حدثت؛ حتى يتوهم الناظر أنه يرى الحقيقة كما هي. كل مشهد في غرفة خاصة منها موقف ولنتن عند سرير نابليون وهو ميت، وتمثيل موت نلسن، ومقتل غوردون في الخرطوم، وتولية الملكة فكتوريا. والملك جون يوقِّع ما يسمونه «ماجنا كارتا»، ومشاهد أخرى شاهدنا مثلها في متحف غريفن. وتماثيل حديثة منها الملك إدوارد وقبطان التيتانيك، وسان يتسان صاحب الانقلاب الصيني. وجمهور من عظماء الإنكليز منهم: غلادستون، وسالس بوري، وتشمبرلن، ولويد جورج، واسكويث، وإمبراطور الروس، ومفاتيح قلعة متس. ومشاهير أمريكا مثل روزفلت وتافت وغيرهما، وإذا وقع نظرك على أحدهم ظننته ينظر إليك يوشك أن يخاطبك.

ومتحف فكتوريا وألبرت: وهو أثري تاريخي فيه مصنوعات إيطالية قديمة أكثرها ديني، بينها أمثلة من طرز البناء الإيطالي، ومصنوعات إيطالية من البرونز والطاسات والأباريق والتماثيل والأصنام الصغيرة. وصور صنع بلنسية بإسبانيا في أوائل القرن الخامس عشر، وهناك مصنوعات يونانية أكثرها كنائسي. وفي بعضها مصنوعات عربية منها قطعة من إفريز كتبوا عليه أنه منقول من جامع المؤيد بمصر. وساعة شمسية عليها كتابة عربية كاملة طولها متر وعرضها نحو نصف متر لم يذكروا مكانها. وقطعة من عتبة سبيل وغير ذلك. ومن التماثيل الضخمة في هذا المتحف تمثال من عمود تراجان في رومية في قطعتين طول كل منهما نحو ٢٠ مترًا، وعرض قاعدتهما ٢١ قدمًا بقدمنا. وهناك عدد كبير من الآثار الدينية، وأمثلة عديدة من آثار رومية منقولة بالجبس بينها رءوس عشرات من القواد الرومانيين والقديسين. وعدة قاعات فيها أنواع من النسج والتطريز نحو ما شاهدناه في متحف كليني في باريس. ولا شك أن أصحاب الأزياء (المودة) يستفيدون من الاطلاع عليها لوضع الزي الجديد. ومنحوتات تمثل حوادث دينية في القرنين ١٣ و١٤ وعلب وأقفال من العاج المخرم في جملتها علبة صُنعت في صقلية في القرن ١٣م على النمط العربي عليها صور مذهبة.

وفيها مصنوعات أخرى دقيقة تشبه ما في متحف ويلس. وقاعات للأزياء والملابس حسب الأعصر والبلاد، وهي مجموعة نفيسة لتاريخ الألبسة الشرقية والغربية. ويمتاز هذا المتحف عن سواه بهذه المصنوعات وإتقانها. ومنها سجادة طولها نحو ١٣ مترًا كُتب عليها «٩٤٦ للهجرة» وأنها حُملت من جامع أردبيل، وقس على ذلك.

ومن المتاحف التي تستحق الذكر في لندن المتحف الوطني (نيشنال كاليري)، وهو مجموع مصورات ومنوعات مثل متحف لوكسنبرج بباريس.

(٢-١٦) بلاد الإنكليز خارج لندن

جمعت لندن أهم المتاحف والآثار، ولكنَّ في غيرها كثيرًا مما يستحق الذكر. ونذكر منها ما وفِّقنا إلى رؤيته في أثناء هذه الرحلة في كامبردج وأكسفورد ومنشستر.

كامبردج: وجدنا كامبردج بلدًا عامرًا بالمدارس والكليات يكاد يكون قوام عمرانه على تلامذة المدارس، وأساتذتها ومَن يلحق بهم. وربما بلغ عددهم جميعًا نحو ٤٠٠٠ نفس. أما أهل البلد فلا يزيدون على ٤٥٠٠٠ نفس. ومما استلفت انتباهنا أبنية تلك المدارس التي يتألف من مجموعها «جامعة كامبردج» الشهيرة فإنها متشابهة الشكل قديمة الطرز، وهو طرز الأجيال الوسطى. والبناء عبارة عن مربع كل ضلع منه مؤلف من غرف متناسقة صفًّا واحدًا في ثلاث طبقات بعضها للتعليم والبعض الآخر للأكل أو النوم. ووسط المربع حديقة أو فسحة خالية. وفي كل مدرسة كنيسة، وتتألف المدرسة الواحدة من ثلاثة مربعات، أو أربعة متقاربة يستطرق بعضها إلى بعض. وأبواب الغرفة صغيرة على نسق واحد بسيط كثيرة الشبه بالأبنية الشرقية، وقد سهل علينا الأستاذ براون مشاهدة أجزاء هذه الأبنية، واستلفت انتباهنا إلى باب غرفته وهو ثخانة الحائط، فإذا كان الأستاذ في غرفته أغلق الباب الداخلي فقط، فإذا خرج أغلق البابين جميعًا.

والسبب في بقاء هذه المدارس على الطرز القديم أنها تأسست في الأجيال الوسطى، فبُنيت على طرزها، وحافظ أصحابها على ذلك الطرز. وقد وصفنا جامعة كامبردج وعدد مدارسها وتلامذتها غير مرة في الهلال.

وفي كامبردج متحف لا يُذكر بالنظر إلى متاحف لندن، لكننا شاهدنا فيه ترسًا مستديرًا عليه نقوش فارسية، بينها اسم السلطان نادر شاه، فإذا كان المراد به القائد الفارسي المشهور بهذا الاسم كان هذا الترس من التحف الثمينة.

أكسفورد: وهي تشبه كامبردج من أكثر الوجوه، وقد عُرفت بجامعتها واشتهرت بمكتبتها المعروفة بمكتبة بودليان؛ فإنها من المكاتب النفيسة في الآثار الشرقية. وقد جاء ذكرها مرارًا عديدة في أثناء ذكر أماكن الكتب بتاريخ آداب اللغة العربية. وفي كامبردج مكتبة نفيسة لكن هذه أوسع وأغنى. وقد سهل علينا الأستاذ مرجليوث رؤية كتب عربية نادرة فيها ذكرناها في أماكنها من تاريخ آداب اللغة. وفي مكتبة أكسفورد كتب خطية إنكليزية وأيرلندية دينية مصورة من القرن الثامن للميلاد.

منشستر: هي مدينة صناعية تكاد تكون معملًا كبيرًا لكثرة ما فيها من المعامل والمتاجر، يتوسم القادم فيها ذلك قبل وصوله إليها بما يشاهده من الدخان المتكاثف فوق أبنيتها؛ ولذلك كان أكثر سكن أهلها في الضواحي. وهي مثال للجد والعمل وتنافس المواهب الصناعية والتجارية، وقد أُتيح لنا مشاهدة معمل للغزل بجوارها فيه نحو ١٠٠٠٠٠ مغزل و٢٠٠٠٠ مغزل مزدوج و٩٠٠ عامل. ويدير مغازله آلات بخارية قوتها ٢٥٠٠ حصان. رأينا القطن يدخل بآلات ويخرج مغزولًا خيوطًا دقيقة في غاية الضبط. ويضيق بنا المقام عن وصف تجارة هذه المدينة، وفي شهرتها ما يغني عن الإطناب.

وقد سرَّنا ما شاهدناه فيها من تقدم إخواننا السوريين؛ فقد عرفنا منهم طائفة حسنة من كبار التجار كما شاهدنا في باريس، وبينهم غير واحد من أصحاب الثروة والتجارة الواسعة، وهم على الإجمال أهل سمعة حسنة، وقد تخلَّق أكثرهم بأخلاق الإنكليز من المحافظة على الوقت والصدق في المعاملة، والتأني في الحكم، وهي ميزة للسوري على سواه، نعني مقدرته العجيبة في تطبيق أحواله على الوسط الذي يعيش فيه. فتجده في فرنسا كأنه فرنساوي بحركاته وكلامه ومعاملته وسائر أحواله، وهكذا بإنكلترا أو أمريكا. والتجار السوريون في منشستر لهم معاملات واسعة مع أبناء بلادهم في أقطار العالم شرقًا وغربًا ولعملائهم ثقة عظيمة فيهم مثل ثقتهم بالتجار الإنكليز. ومن البيوت التجارية السورية في منشستر: محلات كحلا، وغبريل، وجبارة، ومطر، ومجدلاني، وخوري حداد، وفرح، وبحمدوني، وغيرهم.

(٣) القسم الثالث: سويسرا

ضاق المقام عن الإفاضة في وصف سويسرا، وقد زرنا منها: جنيف، ولوزان، وإيفيان. وهي من أحسن مصايف العالم لوقوعها حول بحيرة من أكبر البحيرات، تحف بها الشواطئ المكسوة بالغابات الغضة والقرى العامرة. وكنا لمَّا زرنا الآستانة منذ بضعة أعوام أدهشنا بوسفورها بما على شاطئيه من التلال المكسوة بالأشجار والقصور، وقلنا إنها فريدة في العالم، فلما شاهدنا جنيف وضواحيها إذا هي كثيرة الشبه بالبوسفور من حيث مناظره الطبيعية.

وفي جنيف بعض المتاحف والمعارض. وفيها جامعة شهيرة، وكذلك لوزان فإن جامعتها كبيرة. وأما إيفيان فقد عُرفت بمائها العذب يُحمل بالقناني المختومة إلى أنحاء العالم المتمدن.

ونختم كلامنا عن هذه الرحلة بفائدة اجتماعية فلسفية شاهدناها في فرناي بجوار جنيف، وهي القرية التي قضى فولتير أعوامه الأخيرة فيها، ومنزله هناك معروض للفرجة بما فيه من الأثاث والأدوات في غرفة للنوم والمكتب والمائدة، مما يبعث على التفكير في مصير الإنسان. وإنما أثَّر في خاطرنا على الخصوص تمثال لفولتير نصبه أهل القرية في مدخل قريتهم فوق قاعدة من الرخام نقشوا عليها بالفرنساوية ما ترجمته:

إلى فولتير المحسن لفرناي. وقد عمر لأهلها أكثر من مائة بيت، وبنى لهم كنيسة، ومستشفى، وحوضًا للماء، وسبيلًا، وكان يقرضهم النقود بلا ربا. وقد جفف المستنقعات، وأنشأ أسواقًا للبيع والشراء وأطعم أهلها في مجاعة سنة ١٧٧١.

وقفنا عند هذا التمثال برهة، ونحن نعيد قراءة ما نُقش عليه. وإن ما أدهشنا منه قوله «وبنى لهم كنيسة.» والقراء يعرفون فولتير ونظره في الكنائس، وما يتبعها، فكيف يبني للناس كنيسة؟ إنه لم يبنها لما يرجونه هم منها لأخراهم، بل بناها لاعتقاده أنها من أهم أسباب سعادتهم، وأنهم لا يستغنون عن الدين في معاملاتهم. وفي ذلك عبرة للذين يتوهمون استغناء الناس عن الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤