الفصل الحادي عشر

الثلج

بدأت حرارةُ الصيف تخبو تدريجيًّا؛ أصبحت الليالي باردةً بردًا مُعتدلًا، بالرغم من تظاهر الشمس في فترة الظهيرة بأن قوَّتها لم تضعُف. بدأَت جموعُ المستمتعين بالتراخي في الجو الدافئ تترك الجبلَ وشاطئَ البحر وتعودُ تدريجيًّا إلى المدينة، ولم يأتِ مزيدٌ من الرسائل من سانت بطرسبرج إلى التلة المجاورة لنهر هِدسون. أما بخصوص فتاتَينا، فقد انسدلَ ستارٌ من الصمتِ بين أوروبا وأمريكا.

كانت الشَّقة في ذلك الحين قد جُهِّزت، وقد حلَّت بدايةُ فصل الخريف على الصديقتَين وهما ساكنتان فيها. كان تحقُّق الحلم في هذه الحالة يفتقر إلى بهجة الترقُّب. أخيرًا صارت كاثرين هي تلك الفتاة العزباء مثلما كانت تصبو، لكنَّ مباهج الحرية لم تكن إلا سرابًا مُغريًا. أخيرًا تحرَّرت دورثي تمامًا من جميع أفكار العبودية، وأصبح لديها مالٌ غير محدودٍ تستطيع أن تفعل به ما يحلو لها، لكن ماذا أفاد المال في حلِّ المشكلة التي كانت تُلازمها نهارًا وتغزو أحلامَها ليلًا؟ لقد كانت تواجه العالَم بلا مُبالاةٍ ظاهرية؛ إذ لم يكن لها الحق في الحِداد، حتى وإن علِمَت أنه مات. إنه لم يُطالب بأي شيء؛ ولم يطلب منها حُبًّا؛ ولم يُرسل لها كلمةً واحدةً غير ما يُمكن للناس جميعًا أن يقرءوه. كانت تذهب كلَّ أسبوعٍ في رحلةٍ قصيرةٍ إلى القرية القريبة من نهر هِدسون لترى تطوُّر العمل في كنيستها، وكانت كاثرين تُرافقها في البداية، لكنها أصبحت الآن تذهب بمفردها. كانت كاثرين تتحلَّى بصراحةٍ شديدةٍ تمنعها من التظاهُر بالاهتمام بشيءٍ لا تشعر من داخلها أنها مهتمةٌ به. لم تكن تستطيع أن تتحدَّث عن فن العمارة وذهنها مشغولٌ برجلٍ ما وبمصيره. في بادئ الأمر حين لم تصلها رسالة جديدة لم تكن تطيق صبرًا ولا تكفُّ عن الشكوى. كانت تقول إن رسائلها قد وصلته ولا بُد، وإلَّا لكانت أُعيدَت إليها. غير أنَّها امتلأت بخوفٍ أبكمَ فيما بعد، وتملَّكها الصمتُ، وراحَت تغوص، بطاقةٍ متجددةٍ، في بحار كُتُبِها، والتحقت بمدرسة خاصة بالعلوم التطبيقية، وتلقَّت دروسًا، وظلَّ لونُها يزداد شحوبًا يومًا بعد يومٍ إلى أن حذَّرها مُعلِّموها من إجهاد نفسها. كانت كاثرين، بينها وبين نفسها، مُستاءةً من جمود شعور صديقتها التي كانت بين الحين والآخر تتشاوَر في هدوءٍ مع المهندس المعماري بشأن زخرفة الكنيسة، في حين أن الرجلَين قد جُرِّدا من حريتِهما، وربما من حياتهما. لقد نسجت في عقلها قصةً خياليةً عن الإخلاص والتفاني، وفي قصتها هذه ظلَّ حبيبُها يُحذِّر الرجلَ الإنجليزيَّ المُتبلدَ الحِسِّ من دون جدوى، حتى آل به الأمر في النهاية إلى أن تَورَّط في الخراب الذي جلبه عليهما معًا عِنادُ دروموند، وظُلمًا ورطَّتِ المرأةَ الهادئةَ التي تدعمها، في تَبِعةِ هذه التضحية. لقد تكلمَت مرةً أو مرتين، في نفاد صبرٍ مشوبٍ بالغضب، عن دروموند وغبائه، لكن دورثي لم تُدافع عنه ولم تُبرِّر أفعاله، وبهذا لم تقع حربٌ علنيةٌ بين الصديقتَين؛ إذ لا يمكن أن ينشبَ شِجارٌ من طرفٍ واحد.

لكن في حالةِ امرأةٍ في مثل مِزاج كاثرين كان لا بد للانفجار الأخير من أن يقع، وقد وقعَ في اليوم الذي بدأت فيه أولُ قطعةٍ من الثلج تسقط في الهواءِ الساكن، وراحَت رقاقاتٌ كبيرةٌ منه تتجاوز نوافذ الشَّقة وثبًا وتسقط بعيدًا في الأسفل فوق الشارع الموحل. كانت كاثرين تقف بجوار النافذة مُسندةً جبينها على لوح الزجاج، بتلك الطريقة نفسها التي كانت مُعتادةً عليها في غرفة الحياكة في بار هاربر، لكنَّ النقر المُتقطِّع الذي كانت تُحدِثه أصابعها على حافة النافذة بدا الآن لحنًا جنائزيًّا عن اليأس. كان الثلج المتساقط قد أظلم الغرفة، وكان ثمة مصباحٌ كهربائيٌّ متوهجٌ فوق المكتب الأنيق المصنوعِ على طراز الشِّيبندال الإنجليزي، والذي جلسَت دورثي إليه تكتب رسالةً. كان القلم ينسابُ فوق الورقة في انتظامٍ قذفَ بكاثرين في نوبة سخط؛ وفجأةً هوَت بقبضتِها على حافة النافذة في المكان الذي كانت أصابعها تنقر عليه.

وصاحَت قائلةً: «يا إلهي! كيف يُمكنكِ الجلوس هكذا كالإنسان الآليِّ والثلج يتساقط؟»

وضعَت دورثي قلمها على المكتب.

وردَّدت قول كاثرين متسائلةً: «والثلج يتساقط؟ لا أفهم شيئًا!»

«بالطبع لا تفهمين شيئًا. إنكِ لا تُفكِّرين في تيارات الهواء في سيبيريا، ولا في الرجلين اللذين عرفتِهما، وأمسكتِ بأيديهما، ووضعتِ فيهما الأصفاد، وسُقتِهما ليَسيرا فوق جليدها تحت سياطِ رجلٍ قوزاقيٍّ.»

نهضَت دورثي من مكانها بهدوءٍ، ووضعَت يدَيها على كتفَي الفتاة، فأحسَّت بجسدها يرتعد تحتهما.

وقالت بهدوء: «كاثرين.» لكن كاثرين نفضَت كتفيها في عصبيةٍ وتملَّصَت من مسكة صديقتها الودود.

وصاحت قائلةً: «لا تلمسيني. عودي إلى كتابة رسالتك. أنتِ والرجل الإنجليزي تشبهان بعضكما تمامًا؛ عديما الشعور، متحجِّرا القلب. إنه بعنادِه الأنانيِّ ورَّطَ رجلًا بريئًا في الكارثة التي سبَّبها غباؤه.»

«كاثرين، اجلسي. أريدُ أن أكلمكِ بهدوء.»

«بهدوء! بهدوء! نعم، هذا ما تقولينه. من السهل عليكِ أن تكوني هادئةً عندما لا تهتمين بشيء. لكنَّني أهتم، وأنا لا أستطيع الهدوء.»

«ما الذي ترغبين في فعله يا كاثرين؟»

«ماذا في وسعي أن أفعل؟ إنني فقيرةٌ للغايةِ وعالةٌ على غيري، لكنَّني عازمةٌ على أمرٍ واحد، وهو أن أذهبَ للعيش في بيت أبي.»

«لو كنتِ مكاني، ماذا عساكِ تَفعلين يا كاثرين؟»

«سوف أذهبُ إلى روسيا.»

«ماذا ستفعلين بعدما تصلين إلى هناك؟»

«لو كنتُ أملك ثروةً لأنفقتُها على شنِّ حملةٍ واسعةٍ من الرشوةِ والفساد في بلد الطُّغاةِ هذا حتى أُطلِق سراح رجلَين بريئَين. كنت سأكتشفُ أولًا مكانهما، ثم أستخدم كلَّ ما أملك من نفوذٍ مع السفير الأمريكي حتى أطلق سراحهما.»

«السفير الأمريكي يا كيت، لا يُمكنه أن يسعى في إطلاق سراح رجلٍ إنجليزيٍّ ولا روسيٍّ.»

«كنتُ سأفعل ذلك بطريقةٍ أو بأخرى. ما كنتُ لأجلس هنا كعصًا أو كحَجرةٍ أكتبُ رسائل إلى مهندسي المعماري.»

«هل أنتِ مُستعدةٌ للذهاب إلى روسيا بمفردك؟»

«لا، سوف أصطحب أبي معي.»

«هذه فكرةٌ مُمتازةٌ يا كيت. أنصحكِ بالتوجُّه إلى الشمال في قطار الليلة، إذا أردتِ، وقابليه، أو أرسلي إليه برقيةً كي يأتي ويقابلنا.»

اتخذت كيت لنفسها مقعدًا، وسحبَت دورثي الستائر على زجاج النافذة وأضاءت مجموعة المصابيح الكهربائية الموجودة في مُنتصَف الحجرة.

سألتها كيت بنبرةٍ ألطف من التي كانت تستخدمها منذ قليل: «هل ستأتين معي إذا توجهتُ إلى الشمال؟»

«لا أستطيع. سوف أُجري مقابلةً مع أحد الرجال في هذه الغرفة غدًا.»

صاحت كيت بسخرية: «المهندس المعماري، على ما أظن.»

«لا، بل مع رجلٍ ربما يُعطيني معلومةً عن لامونت أو دروموند.»

حدَّقَت إليها كاثرين وقد تملَّكتها الدهشة.

وقالت: «لقد كنتِ تُدبِّرين شيئًا إذن، أليس كذلك؟»

«كنتُ أحاول، لكن من الصعب أن أعرف ما يجب عليَّ فعله. لقد وصلتْني معلومةٌ تقول إن المنزل الذي كان يقيم فيه السيد لامونت والسيد دروموند أصبحَ مهجورًا الآن، ولا أحدَ يعرف أيَّ شيءٍ عن قاطنَيه السابقَين. لقد جاءتني هذه المعلومةُ بصورةٍ شِبه رسمية، لكنها لا ترشدنا كثيرًا. لقد بدأتُ التحقيقَ من خلال طُرقٍ مثيرة للريبة؛ بعبارةٍ أخرى، لقد لجأتُ إلى مساعدةِ جماعةٍ من مُؤيِّدي العَدَمية، ورغم أني عازمةٌ عزمًا أكيدًا على مرافقتكِ إلى روسيا، فلا تتفاجئي لو اعتُقلتُ في أول لحظةٍ تطأ فيها قدمي أرضَ سانت بطرسبرج.»

«دورثي، لماذا لم تخبريني؟»

«كنتُ أطمع في الحصول على بعض الأخبار الجيِّدة لكي أبلغكِ إيَّاها، لكنها لم تأتِ بعد.»

«آهٍ يا دورثي.» بهذا تأوَّهت كاثرين وهي تقاومُ الدموع التي أرادت أن تسيل من عينيها رغمًا عنها. في تلك اللحظة ربَّتت دورثي على كتفها.

وقالت: «لقد كنتِ ظالِمةً بعضَ الشيء، وسوف أُبرهن لكِ على هذا، عساكِ عندما أحاول الإصلاحَ تتوقَّفين عن القلق بشأن هذه الكارثة التي تُواجه امرأتَين وحيدتَين مسكينتَين. إنكِ تظلمين الرجل الإنجليزي، كما تَنعتينه. لقد أُلقيَ القبضُ على جاك قبل يومَين على الأقل من إلقاء القبض على دروموند. يقول جواسيس جماعة مؤيدي العَدَمية إنَّ كلَيهما مقبوضٌ عليه، الأمير أولًا، والرجل الإنجليزي بعده بعدة أيام. لقد تلقيتُ رسالةً من السيد دروموند بعد مدةٍ قصيرةٍ من وصول رسالة السيد لامونت إليكِ؛ لكنَّني لم أُطلعكِ عليها ألبتَّة، لكن الأمور الآن قد وصلت إلى حالةٍ لا يُمكِن أن تسوء بعدها أكثر من هذا، ولكِ مطلق الحرية في أن تقرئي الرسالةَ إذا أردتِ. إنها تتحدَّث عن اختفاء جاك، وعن كَرب دروموند وقلَّة حيلته في سانت بطرسبرج. ولمَّا لم تُرسَل بعدها أيُّ رسالةٍ أخرى، تأكدتُ أنه قد قُبِضَ عليه فيما بعد. لا أدري أيهما يستحقُّ اللومَ أكثر من الآخر على ما تَصفينه بالعناد، لكنَّني أعتقد أن علاقة الانفجار بإلقاء القبض عليهما أكبر من علاقة أي شيء آخر بذلك.»

قالت كاثرين وهي تَنتحِب: «وقد كنتُ أنا السبب في هذا.»

«لا، لا يا فتاتي الحبيبة. لا ذنبَ لأحدٍ سوى طاغية روسيا. اعلَمي أن أفراد جماعة مؤيدي العَدَمية يؤكِّدون أنه لم يُرسَل أيٌّ من هذَين الرجلَين إلى سيبيريا. إنهم يعتقدون أنهما في سجن «سانت بيتر آند سانت بول» لقد جاءتْني هذه المعلومةُ اليومَ في الرسالة التي كنتُ أكتب الرد عليها منذ لحظات. لهذا يا كاثرين، أعتقد أنكِ ظلمتِ الرجل الإنجليزي. لو كان أُلقي القبضُ عليه أولًا لربما كان هناك أساسٌ لِمَا تتهمينه به، لكن من الواضح أنهم أعطوه الفرصة للهرب. لقد وصله التحذير عندما اختفى صاحبُه، وكان أمامه عدةُ أيامٍ يخرج فيها من سانت بطرسبرج، لكنه صمد في مكانه.»

«أنا آسفةٌ يا دورثي. إنني حمقاء سخيفة، واليومَ، عندما رأيتُ الثلج؛ آهٍ، انفعلتُ إلى أقصى مدًى.»

«أعتقد أن لا أحد من الرجلين في الثلج، والآن سأقول شيئًا آخر، وبعدها لن أتكلم في الموضوع مرةً أخرى أبدًا. تقولين إنني لم أكن مُهتمَّة، وبالطبع أنتِ مُحقةٌ تمامًا؛ لأنني اعترفتُ لكِ بأنني غير مهتمة. لكن فقط تخيَّلي، تخيَّلي، أنني كنتُ اهتممتُ بالأمر. من الممكن أن تطلق الحكومةُ الروسيةُ سراحَ الأمير في أيِّ لحظة، وليس ثمَّة ما يُقال غير هذا. لن يحظى بأي تعويض، وسيتحمَّل ولا بد تَبِعات الجنسية التي يَحملها. أما إذا كانت الحكومة الروسيةُ قد ألقت القبض على الرجل الإنجليزي؛ إذا وضعوه في سجن «سانت بيتر آند سانت بول» فإنهم لا يَجرءون على الإفراج عنه، إلا إذا كانوا يَرغبون في أن يُواجِهوا حربًا. لا تملكُ الحكومةُ الروسيةُ أن تفعل شيئًا في حالته سوى الإنكار، والمُطالبة بإثبات، وطمس كل فرصةٍ قد تؤدِّي يومًا إلى ظهور الحقيقة. لقد هلكَ آلان دروموند؛ إنهم لا يَجرءون على إطلاق سراحه. والآن فكِّري لحظةً إلى أيِّ مدًى ستكون حالتي أسوأ من حالتكِ، لو أنني … لو أنني …» ارتجفَ صوتُها وضَعُفَ قليلًا، ثم استعادت السيطرةَ على نفسها بإغلاق قبضتَيها بإحكام، وأنهَت جملتها قائلةً: «لو أنني أعرتُ الأمر اهتمامي.»

نهضَت كاثرين من مكانها سريعًا، وقالت لاهثةً: «يا إلهي، دورثي، دورثي، دورثي!»

«لا، لا، لا تتسرَّعي في الوصول إلى أيِّ استنتاجٍ خاطئ. إنَّ كلتينا مُنهارة ثائرة الأعصاب اليوم. لا تُسيئي فهمي. أنا لا أكترث لشيءٍ، لا أكترث لشيءٍ، سوى أنني أكره الحكم الاستبدادي، وأنا أشعر بالأسى على ضحاياه.»

«دورثي، دورثي!»

«نحتاج إلى رجلٍ عاقلٍ في المنزل يا كيت. أرسلي برقيةً إلى أبيكِ لكي يأتي ويتحدَّث معنا. يجب أن أنهي رسالتي إلى جماعة العَدَميِّين.»

قالت كاثرين وهي تُقبِّلها: «دورثي!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤