الفصل العشرون

وصول اليخت ذي المحرك التوربيني

قبل أن يتمكَّن جاك من إطلاق النار، مثلما كان ينوي أن يفعل، ضربَ دروموند ذراعَه وأنزلها إلى الأسفل.

قال دروموند: «لا شيءَ من هذا يا جاك. من الواضح أنَّ الروسي الذي بداخلك قد اختفى، وبرز التتري إلى الأعلى. لقد أرسلَ المديرُ إشارةً، على ما أعتقد، أليس كذلك؟»

«بلى، لقد فعل، وقد ذهبَ هذان الاثنان بينما وقفتُ أنا أُثرثر هنا، شاعِرًا بالتعاطف مع الوغد العجوز. أهذا هو تيارُه العائد إذن؟»

قال دروموند: «لا لومَ عليه في هذا، إنها غلطتنا نحن بالكامل. كان أولُ ما يجب علينا فعلُه أن نحصل على هذا القارب.»

قال جاك مُتأوهًا: «وقد سار كلُّ شيءٍ على خيرِ ما يُرام، حتى هذه المرحلة، وخطأٌ واحدٌ يُفسد الخطة. لقد هلكنا يا آلان.»

قال الرجل الإنجليزي بهدوء: «ليست الأمور بهذا السوء يا جاك. إذا وصلَ هذان الرجلان إلى الساحل بأمانٍ، كما سيكون عليه الحالُ من دون شك، فربما يتسبَّب ذلك في بعض المتاعب لروسيا تحملهم على إخراجنا.»

صاحَ جاك: «يا إلهي! اللعنة على كل هذا! إنهم ليسوا في حاجةٍ إلى إخراجنا. كلُّ ما يَلزمُهم فعلُه هو أن يُبحرُوا بعيدًا عن الشاطئ ويتركونا لنموت جوعًا. ليسُوا مضطرِّين لإطلاق نار بندقيةٍ أو إنزال أي رجلٍ إلينا.»

«سيكون عليهم أن يُميتوا رجالهم من الجوع أولًا. ليس من المُحتمَل أن نجوع نحن ونُطعم أسرانا.»

«يا إلهي! نحن الروسيِّين لا نَكترِث لشيءٍ تافهٍ مثل هذا. ربما يُرسلُون مساعدةً، أو ربما لا يفعلون. من المُحتمَل أن تأتيَ طرَّادةٌ وتقف على مسافةٍ قريبةٍ وتُحاول أن تكتشف المشكلة. عندئذٍ سوف تبقى بعيدةً عنَّا بعضَ الشيء وتنتظر حتى يموتَ الجميع، وبعد ذلك تختار مُديرًا جديدًا وحاميةً أخرى.»

«إنَّ نظرتك تشاؤميةٌ جدًّا يا جاك. لا تَستطيع الطرَّادة في هذا الفصل من العام أن تقف في بحر البلطيق. ففصل الشتاء يَقترِب. وفي غضون شهر، سيغلق الجليد معظم الموانئ في فنلندا، وما من ملاذ في هذه الأنحاء للاحتماء به في حالة هبوب عاصفة. سوف يشنُّون هجومًا؛ ربما يَفتحون نيران المدافع علينا لفترة، ثم يحاولون إنزالَ فريقٍ لاقتحام القلعة. سوف نستمتع بهذا إذا كانت لديك بنادق جيدة وذخيرة وافرة.»

رفعَ جاك رأسه.

وقال: «يا إلهي، إننا مجهَّزون جيدًا، لو أنَّ لدينا فقط ما يكفي من الطعام.»

نهضَ واقفًا وقد تلاشى الاكتئابُ تمامًا، وقال للمدير:

«والآن يا صديقي، لا بد لنا أن نضعك في زنزانة. يؤسفني أن أفعل هذا، لكنه السبيل الوحيد المتاح أمامي. أين مخزن المُؤَن الخاص بكم، وما كمية المؤن المتاحة لديكم؟»

زادَت ابتسامةٌ مُوحشةٌ من كآبة وجهِ الرجل العجوز.

وقال: «يجب أن تكتشف هذا بنفسك.»

«أيوجد لدى الجنود الذين بالأعلى ما يكفي من الطعام؟»

«لن أُجيب عن أيٍّ من أسئلتكما.»

«حسنٌ، لا بأسَ أبدًا. أرى أنك شخصيًّا عازمٌ على مُعاناة الجوع بنفسك. لن يَحصُل أيُّ سجينٍ تحت مسئوليتي على أيِّ طعام حتى أطمئنَّ إلى وجود أكثر مما يكفيني أنا وصديقي. هذه شخصيتي عندما أكون سجَّانًا.» ثمَّ صاحَ بالإنجليزية وهو يلتفتُ إلى دروموند: «العجوز الحقير العنيد! لن يُجيب عن أسئلتي.»

«عمَّ كنتَ تسأله؟»

«أريد أن أعرف عن مخزن المؤن.»

«ليس ضروريًّا ألبتَّة أن تسأل عن الطعام؛ من المؤكَّد أنه يوجد الكثير منه.»

«لماذا؟»

«لماذا؟! لأننا بلغنا بداية فصل الشتاء، كما قلتُ من قبل. لا بد أنه ستمرُّ شهورٌ لن تستطيع أيُّ سفينةٍ أن تُنزِل خلالها شيئًا إلى هذه الصخرة. من المؤكَّد أنها مزوَّدةٌ بما يكفي من المؤن لعدةِ أشهرٍ قادمة على أقل تقدير. والآن، أول ما يجب علينا فعله أن نضع هذا الرجل العجوز في زنزانته الصغيرة، وبعدها سأخبرك أين يَكمن خطرُنا الأساسي.»

لم يُبدِ المديرُ اعتراضًا ولا تذمُّرًا، بل دخل إلى الزنزانة رقم تسعة، وأُغلِقَ عليه الباب.

قال دروموند: «والآن يا جوني يا صديقي، إنَّ مصدر قلقنا هو الجنود. فور أن يكتشفوا أنهم محبوسون سيكسرون هذين البابَين في نصف لحظةٍ فقط. نستطيع بالطبع إذا جلسنا أمام الباب السُّفلي ليلًا ونهارًا، أن نعترض طريقَ أول أربعة أو خمسة ينزلون إلى الأسفل، لكن إذا هجم علينا بقيتُهم، فسيتغلَّبون علينا لا محالة. من المحتمَل أن تكون لديهم كمية وفيرة من البارود، وربما بعض القذائف الحية، والمتفجرات، وغير ذلك؛ وكل هذا سيساعدهم في التخلص حتى من هذين البابَين المصنوعَين من السنديان بسرعة كبيرة. ماذا تقترح أن نفعل؟»

قال جاك: «أقترحُ أن نسدَّ سُلَّمهم اللولبي بالأسمنت. ثمة العديد من الجَوالق المليئة به في مستودع الأسلحة.»

حالت واقعةٌ غريبةٌ دون احتياجِهما إلى هذا العمل. كان الشابَّان جالسَين في غرفة المدير، وفي تلك اللحظة رنَّ جرسُ هاتفٍ على مكتبه. لم يلاحظ جاك وجود هذه الأداة من قبل، لكنه رفعَ السماعة الآن.

قال الصوت الصادر من الهاتف: «مرحبًا يا حضرة المدير، لقد أوصَدَ سجَّانُك الأحمقُ باب الدَّرَج، ولا نستطيع أن نفتحه.»

ردَّ جاك باذلًا غايةَ وسعه في محاكاة صوت المدير: «يا إلهي! أستميحك المعذرة. سوف أتولَّى أمره بنفسي في الحال.»

أنهى جاك المكالمةَ وأخبر رفيقَه بما حدث.

«سوف ينزل أحدُ هذين الضابطَين أو كلاهما الآن. إذا نجحنا في وضع الضابطين بأمانٍ في إحدى الزنازين فلن يكون ثمةَ أحدٌ ليقود الجنود، ومن المرجَّح جدًّا أن تكون مفاتيح غرفة البارود مع أحد الضابطَين. سوف أُطفئ المصابيح الكهربائية الموجودة في الرَّدهة وأُضيء المصباح النفطيَّ. أما أنتَ فاستعد عند أسفل الدَّرَج لإطلاق النار إذا أبدَيا أدنى مقاومة.»

نزل الضابطان على الدَّرَج اللولبي وهما يتذمَّران من تأخُّر فتح الباب. استغلَّ ليرمونتوف مشيهما المتثاقل بأحذيتهما الثقيلة العالية الساق على الدَّرَج الذي يُرجِّع صدى خطواتهما كي يُغلق المزلاج مرة أخرى، ثم تبِعهما، ووراءَه دروموند، إلى غرفة المدير. وبعدما أشعلَ الإضاءة الكهربائية قال:

«أيها السيدان، أنا الأمير ليرمونتوف، وأنا مسئولٌ مؤقتًا عن هذا السجن. المديرُ رهن الاعتقال، وأعتذر لأنني مُضطرٌّ إلى أن أطلب منكما تسليم سيفَيكما، رغم أنني مقتنعٌ تمامًا أنهما سيُعادان إليكما في غضون أيام قليلة للغاية بعدما أنتهي من تحقيقاتي.»

كان الضابطان مُعتادَين بدرجةٍ كبيرةٍ على التغيير المفاجئ في القيادة بحيث لمْ يَشعُرا بأيِّ غرابةٍ في هذا التحوُّل المفاجئ في مجريات الأحداث. كان ليرمونتوف يتحدَّث بوقارٍ شديدٍ مقنِعٍ للغاية، وكانت العبارات التي استخدمها من عبارات طبقة النبلاء. ولذا سلَّمه الضابطان سيفَيهما دون كلمةِ اعتراضٍ واحدة.

«يجب أن أسألكما إن كنتم قد تسلَّمتم حصتكم الشتوية من مخزون الطعام، أم لا.»

قال الضابط الأعلى رتبةً: «نعم، نعم، حصلنا عليها منذ شهرٍ تقريبًا.»

«هل تُخزَّن في القسم العسكري من الصخرة، أم بالأسفل هنا؟»

«إنَّ طعامنا يُخزَّن في غرفةٍ بالطابق العلوي.»

«يؤسفني، أيها السيدان، أنني مضطرٌّ لوضعكما في إحدى الزنازين إلى أن أنتهي من مهمتي. إذا كتبتَ طلبًا بحصة الطعام التي اعتدتما على تلقِّيها، فسأحرص على أن تصل إليكما. أما الآن، فاكتب أمرًا كذلك إلى مَن تُوكِل إليه قيادةَ الجنود في حال غيابِك بألَّا يَسمح لأيِّ أحدٍ بالنزول إلى الطابَق السفلي، واطلب منه أن يحرص على أن يَحصُل كلُّ جنديٍّ على الحد الأدنى من شراب الفودكا.»

جلسَ الضابط ذو الرتبة الأعلى على كرسيٍّ أمام المنضدة، وكتبَ الطلَبين. بعد ذلك وُضِعَ الرجلان في زنزانتَين متجاورتَين، دون أن تخطر ببالهما حتى فكرةُ المقاومة. لقد اعتقدا أنه توجد بعض التغييرات في مركز القيادة، وشعرا بشيءٍ من الارتياح عندما أكَّد لهما الأميرُ أن اعتقالهما سيكون مؤقتًا. أظهر المزيدُ من التحقيقات أنه لا خوفَ من وقوع مَجاعةٍ على مدى ستة أشهرٍ على الأقل.

في اليوم التالي تسلَّق جاك إلى قمة الجزيرة رغم الخطورة الشديدة لهذا الفِعل على حياته؛ لأنه كان يفكِّر في وضع راية الخطر إذا أمكن، لعلها تجذب انتباه إحدى السفن المارة. بالرغم من ذلك، فقد أدركَ فور وصوله إلى القمة الحادة، أنه لا يمكن نَصبُ ساريةٍ هناك، حتى ولو كان معه مثل هذه السارية. كانت الريحُ رهيبةً في الأعلى، وكان يُحدِّق حوله في بحرٍ فارغ.

بعد مرور أربعة أيامٍ بدءا يتطلعان إلى وصول قارب النجدة الروسي، الذي كانا يعلمان أنه سوف يبدأ رحلته إليهم فورَ وصول برقيةِ المدير إلى سانت بطرسبرج.

في اليوم الخامس نادى جاك على دروموند، وكان الأخيرُ واقفًا عند الباب.

«السفينة الروسية قادمة، إنها تتَّجه نحونا مباشرةً. إنها مُسرِعةٌ للغاية وتندفع بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ للمحرك، وتَنهبُ البحرَ كأنها مُدمِّرةُ زوارق الطربيد. أعتقد أنها طرَّادة. ليست ذلك المركب القديم البطيء الذي أتيتُ على متنه، على أيِّ حال.»

أجابه آلان: «فلتنزل إذن، وسوف …»

قاطعَته صرخةٌ قادمةٌ من الأعلى. إنَّ جاك، الذي استطاع من النظرةِ الأولى أن يفحص السفينةَ بدقةٍ ويَصيح بأوصافها لدروموند، قد أدارَ عينيه الآن إلى جهة الشرق ووقفَ مشدوهًا يُحدِّق في منظر الشروق.

سأله آلان: «ما الأمر؟»

ردَّد جاك: «الأمر؟ لا بد أنهم أرسلوا الأسطولَ الروسي كلَّه إلى هنا في كتائبَ لإلقاء القبض على شخصينا التافهَين. ثمَّة قاربٌ ثانٍ قادمٌ من جهةِ الشرق، وهو أقرب من اليخت بمسافة ميلَين. لو لم تستحوذ السفينة الأخرى على كامل تركيزي منذ اللحظة التي تسلَّقتُ فيها إلى هنا لكنتُ رأيتُه قبل ذلك.»

«هل هو يختٌ أيضًا؟»

«لا. تبدو كأنها سفينة شحن. قذرةٌ و…»

«ربما تكون سفينةً تجاريةً.»

«لا. إنها تحمل مدافع …»

«من المحتمَل أن تكون سفينة تجارية مجهَّزة لأغراض الهجوم. هذا هو نوعُ السفن الذي يُرجَّح أن ترسله روسيا إلى سجنٍ سريٍّ كهذا. ما العَلَمُ الذي …»

«لا يوجد عَلَمٌ على الإطلاق. لا يوجد عَلَمٌ على أيٍّ منهما. كلتا السفينتَين تتَّجه إلى الصخرة، بأقصى سرعة، ومن جهتَين متقابلتَين. أعتقد أنه ليس بإمكانِ أيٍّ منهما أن ترى الأخرى. أنا …»

«من جهتَين متقابلتَين؟ لا تبدو هذه حملةً مشتركة. إحدى هاتَين السفينتَين ليست روسية. لكن أيتهما؟»

نزلَ جاك إلى الأسفل ووقفَ إلى جانب آلان.

وقال: «لا بد أن نستعدَّ للدفاع في جميع الأحوال. بعد بضع دقائق سنتمكَّن من رؤية كلٍّ منهما من فوق مُنبسَط الدَّرَج السفلي.»

قال جاك متأملًا: «تهدف إحدى هاتَين السفينتَين إلى محونا من الوجود إن استطاعت. أما الأخرى، فلا يمكن لها أن تَعرف شيئًا عن وجودنا. بالرغم من ذلك، فما الذي تفعله هنا باتجاهها نحو الصخرة إذا كانت لا تعرف؟»

عندئذٍ هرولَ جاك ثم نزلَ وقفزَ إلى الأسفل. كان دروموند هادئًا ورزينًا للغاية. كانت البنادق الآلية مرصوصةً في صفٍّ على الجدار المقابل، وكان من السهل الوصول إليها، لكنها كانت بعيدةً بقدرِ ما يمكن عن تأثير القذائف المُحتمَلة. رقا الشابان في ذلك الوقت على المقعد الحجري الموجود بجوار الباب، والذي سمحَ لهما بفحص الحيد الصخري في البحر الشرقي. بعد قليلٍ ظهرت السفينة عند طرف الجزيرة، ناصعةَ البياض، تطفو مثل بجعةٍ على الماء، وتتقدَّمُ إلى الأمام بسرعةٍ كبيرة.

قال جاك: «يا للهول! إنها سفينةٌ جيدة. تبدو وكأنها يختُ القيصر، لكنني لا أعرفُ سفينةً روسيةً تستطيع أن تُبحر بمثل هذه السرعة.»

قال دروموند: «إنها تحمل العلامات المُميِّزة لشركة «ثورنيكروفت». يا إلهي يا جاك، ما أسعد حظَّنا لو اتضحَ أنها سفينة إنجليزية. غير أنه لا يُوجد عَلَمٌ يرفرف فوقها.»

قال جاك: «إنها تتَّجه ناحيتنا، ومن الواضح أنها تعلم الجانبَ الذي يوجد المدفع فوقه. إذا كانت روسيةً، فقد افترضوا أننا استولينا على المكان كلِّه وأننا نُسيطرُ على الأسلحة. انظر، إنها تستدير.»

أصبحَت السفينة بمحاذاة الصخرة، وربما أبعد عنها بثلاثة أميال. وفي تلك اللحظة اندفعَت بخفةٍ وقوةٍ في خطٍّ منحنٍ طويلٍ جميلِ المنظر ناحيةَ الغرب وتوقفَت على بُعد حوالي نصف ميلٍ شرقيَّ الصخرة.

قال دروموند: «يا للعجب! ليت معي نظارة جيدة! إنهم يُنزِلون قاربًا.»

ظهرت على جاك حماسةُ سكان النِّجاد وليس تبلُّد الحسِّ المشهور عن الروس، وذلك عندما شاهد قدومَ قاربٍ صغيرٍ، يركب الأمواج بصورةٍ جميلةٍ، وتسوقه بالمجاديف في براعةٍ مجموعةٌ من البحَّارةِ الذين يفهمون ذلك الفن. أما دروموند فوقفَ هادئًا وكأنه تمثال.

«إنَّ حركة هذه المجاديف حركة إنجليزية يا صديقي جاك.»

كان كلما اقتربَ القاربُ أكثرَ ازداد شعور جاك بالإثارة.

«أرجوك يا آلان أن تركِّز بعينَيك على ذلك الرجل الواقف عند الدَّفة. أظن أن بصري يخونني. دقِّق النظر. ألم يَسبق لك أن رأيته قبل ذلك؟»

«أظن أنني رأيتُه قبل ذلك، لكنني لستُ واثقًا تمامًا.»

«يا إلهي! إنه يبدو لي شبيهًا بحَمي المَرِح المهيب، القبطان كِمْت، ابن مدينة بار هاربر. محض سخافةٍ بالتأكيد؛ فهذا مُستحيلٌ.»

«إنه يشبه القبطان حقًّا، بيد أنني لم أرَه سوى مرة أو مرتَين.»

صاحَ جاك عبر المياه: «مَرحى! قبطان كِمْت، كيف حالُك؟»

رفعَ القبطانُ يده اليُمنى ولوَّح بها، لكنه لمْ يُحاول أن يرفع صوته حتى يصل إلى جاك. نزلَ جاك بعجلةٍ شديدةٍ على الدَّرَج، وتبِعه دروموند بوتيرةٍ أكثرَ تمهُّلًا. استدار القاربُ باتجاه الرصيف، وصاحَ القبطان كِمْت بمودةٍ قائلًا:

«مرحبًا أيها الأمير، كيف حالُك؟ وهذا هو المُلازم دروموند، أليس كذلك؟ آخِر مرةٍ سعدتُ بلقائك فيها، يا دروموند، كانت ليلةَ الحفل الراقص.»

قال دروموند: «نعم، لقد سعدتُ للغاية برؤيتك آنذاك، لكنني أسعد مائةَ مرةٍ برؤيتك اليوم.»

«لقد كنتُ فقط أستمتعُ بالإبحار في هذه المياه على متن يختي، وعنَّ لي أن أُلقي نظرةً على هذه الصخرة التي حاولتَ أن تمحوَها. لا أرى أيَّ ضررٍ ملحوظ، لكن ما الذي يتوقَّعه المرءُ من براعة الرَّمي البريطانية؟!»

«لقد قصفتُ الصخرةَ من الجهة الأخرى يا حضرة القبطان. أعتقد أن تعليقكَ قاسٍ، لا سيَّما أنني كنتُ لتوِّي أمتدح براعةَ رجالك في التجديف.»

سألَ القبطانُ كِمْت: «والآن أيها الفتيان، هل مَلَلتما هذا المنتجعَ الصيفي؟ هل حزمتما أمتعتكما، واستعددتما للرحيل؟ إنَّ معظم الأماكن الساحلية مهجورة في هذا الوقت من العام.»

صاحَ زوجُ ابنتهِ المستقبلي: «سوف نكون جاهزَين بعد لحظةٍ يا حضرة القبطان. يجب أن أُسرع بالصعود وأُحضِر المدير. لقد وضعنا عددًا من الرجال في السجن هنا، وسوف يتضورون جوعًا إن لمْ نطلق سراحهم. إنَّ المدير رجلٌ لطيفٌ جدًّا، رغم أنه تصرَّف معي بنذالةٍ منذ بضعة أيام»، ثم اختفى جاك بين سلالم الدَّرج مرةً أخرى.

سأل القبطان: «هل حرَّرتما السجناء بالقوة هنا؟»

«حسنٌ، شيءٌ من هذا القبيل. لقد حفرَ الأميرُ حفرةً في الصخر، وخرجنا. يمكن القول إننا ارتهنَّا الحامية، لكنني كنتُ في قلقٍ شديدٍ على مدى الأيام القليلة الماضية؛ لأنَّ اثنين من الحامية قد هربا على متن القارب الشراعي الذي كان لديهم هنا، وتوجَّها إلى البر الرئيسي حاملَين الخبر. لقد كنا نراقب يختك بقلقٍ، خشيةَ أن يكون روسيًّا. لقد حسبَ جاك أنه يخت القيصر. كيف حصلتَ على مثل هذا المركب يا حضرة القبطان؟ يا له من مركبٍ بهي المنظر!»

«حسنًا، لقد اشتريتُه قبل بضعة أيامٍ من مغادرتي نيويورك. فالمرء يحب السفر المريح كما تعلم. إنه مزوَّدٌ بالأفضل من كل شيء.»

صاحَ جاك من عند المدخل:

«دروموند، اصعد إلى هنا واقذف بهذه البنادق المُلقَّمة إلى البحر. لا يمكننا أن نتحمَّل المزيد من المخاطرات. سوف أُغلق حجرة الذخيرة وآخذ المفتاح معي تَذكارًا.»

«أستأذنكَ في الانصراف يا حضرة القبطان»، هكذا قال دروموند، الذي تبِعَ صديقَه، وبعد قليلٍ أخذَت حُزمٌ من البنادق تتساقط مقرقعةً على جانب الجُرُف، ثم تغطس في البحر. بعد ذلك نزلَ الاثنان على الدَّرَج، جاك في المقدمة، ووراءه دروموند والمدير بينهما.

قال جاك: «والآن أيها المُدير، سأُودِّعك للمرةٍ الثانية. ها هي ذي المفاتيح. إنْ قبلتَ أن تأخذها مني فلا بد أن تعاهدني على ألَّا تطلق القذائف على السفينة. إذا لم تُعاهِدني على ذلك فسألقي المفاتيح في البحر، ولتتحمَّل أنت العواقب.»

«أعاهدك على ألَّا تُطلقَ عليكم القذائف.»

«حسنٌ أيها المدير. تفضَّل المفاتيح، ومع السلامة.»

في غمرة الابتهاج بظهور اليخت نسيَ جاك ودروموند لوهلةٍ وجودَ الباخرة التي رآها الأولُ تتقدَّمُ باتجاه الصخرة.

الآن تذكَّرها لامونت فجأة.

فقال: «بالمناسبة أيها المدير، قاربُ النجدة الذي أرسلتَ في طلبه، بدافعٍ من فطنتك الشديدة، في طريقه إلى هنا. من المتوقَّع أن يصل إلى الصخرة في أيِّ دقيقةٍ الآن. في الحقيقة، أعتقد أنه ليس أمامنا الكثير من الوقت لنضيِّعه إذا كنا نُريد أن نتجنَّب وقوعَ أيِّ مناوشة. سيكون من المؤسف أن نُعتقَل الآن في آخِر لحظة. وداعًا مرةً أخرى.»

لكن المدير وقفَ بينه وبين القارب.

وقال بارتباكٍ واضح: «أنا … أنا رجلٌ عجوز. لقد أُرسِلتُ لتولي مسئولية هذا السجن عقوبةً لي لرفضي الانضمامَ إلى مؤامرةٍ لتنفيذ مذبحةٍ بحق اليهود. إنَّ الإدارة هنا لا تزيد ولا تنقص عن كونها سجنًا مؤبَّدًا. إنَّ زوجتي وأولادي في عِزبةٍ صغيرةٍ أملكها في السويد. لقد مرَّت إحدى عشرة سنةً على آخِر مرةٍ رأيتُهم فيها. أنا …»

«لو كانت هذه القصةُ حِيلةً لتأخيرنا …»

قال المديرُ مُعترضًا، ولمْ يكن ثمة شكٌّ في صِدقهِ المفعَم باللهفة والمثير للشفقة: «لا! لا! لكنني … لكنني سأُقتَل بالرصاص، أو سأُحتجَز في إحدى الزنازين ثم تُفتَح عليَّ المياه، جزاءً لي على ترككما تهربان. ألَا تأخذانَني معكما؟ سوف أعمل على السفينة في مُقابل السماح لي بالسفر. خُذاني إلى مدينة ستوكهولم. سوف أكون حُرًّا هناك؛ حُرًّا في الالتحاق بزوجتي والعيش إلى الأبد بعيدًا عن متناول كِبار الدوقات. خُذاني …»

أمره جاك وقد اتخذ قرارًا مفاجِئًا: «اقفز إلى القارب! يعلم الربُّ أني ما كنتُ لأحكم على أسوأ أعدائي بالعيش طوال العمر في هذه الصخرة. وقد كنتَ كريمًا جدًّا معنا، وفقًا لفلسفتك في الحياة. اقفز إلى القارب، لا وقتَ لدينا لنضيعه.»

ولم يُضِع المدير وقتًا في الامتثال للأمر. ثم تبِعه الآخرون، وانطلق القارب يشق طريقه في البحر. بالرغم من ذلك، فلم تكد المجاديفُ أن تلمس الماءَ حتى ظهرَ من ناحية النتوء الخليجي زورقٌ حربيٌّ ضخمٌ، منصوبٌ فوق مقدمته مدفعٌ سريع الطلقات. كان يحمل على متنه حوالي عشرين رجلًا يرتدُون ثيابَ الشرطة الروسية.

قال آلان في انفعال: «ابتعدوا عن «السفينة» ومدفعها مُوجَّهٌ إلينا.»

صاحَ جاك في المجدِّفين الذين كانوا يجِدُّون في التجديف: «ركِّزوا على عملكم!»

قال كِمْت متأوِّهًا: «لا فائدة! سوف يقترب إلى مسافةِ مائة ياردةٍ منا. لا مجال ليُخطئ المرمَى من مثل هذه المسافة القريبة وفي مثل هذا البحر الهادئ. كم كنتُ مغفَّلًا عندما …»

كان الزورق يندفع نحوهم بالفعل رغم بذل المجدِّفين أقصى جهدٍ لديهم، ولا بد أنه كان سيُوقفهم من دون شكٍّ قبل أن يتمكَّنوا من الوصول إلى اليخت.

استلَّ آلان مسدَّسه.

وقال بهدوء: «ليس أمامنا أيُّ فرصةٍ في التغلُّب عليه. ويبدو من الظلم أن «نُهزَم ونحن على مشارف الخَلاص.» لكن لِنبذُل وُسعنا.»

أمره كِمْت: «أعِد مُسدس الهواء هذا إلى جرابه. سوف يُغرقنا الزورقُ قبل أن يُصبح المسدسُ في نطاق فاعليته بكثير. سوف أرفع منديلي على أنه رايةٌ بيضاء.»

«نستسلم؟»

«ماذا نستطيع أن نفعل غير هذا؟»

«ويجُرنا هذا الرجلُ إلى الصخرة مرةً أخرى، كلنا؟ أما أنا فلا!»

كان الزورق في تلك اللحظة قد اقتربَ منهم، وكان كل رجلٍ على متنه يُحدِّق في القارب الصغير البائس ذي المجاديف.

«انتظروا!»

كان المدير هو مَنْ تكلَّم. نهضَ من مقعده في مؤخِّرة القارب، وحيَّا الضابط الذي كان يُسدِّد المدفعَ السريعَ الطلقات.

وناداه قائلًا: «حضرة المُلازم تشيرسكي!»

عند رؤية الرجل العجوز بهيئته الرشيقة وزيه الرسمي ينهض من بين بقية الموجودين على متن القارب الصغير، وقعَ انفعالٌ ودهشةٌ ملحوظان على متن الزورق. أدَّى الضابطُ التحيةَ العسكرية وأمرَ بإيقاف المحرِّك حتى يتمكَّن من سماع المدير بصورةٍ أوضح.

أعاد المدير نداءه: «حضرة المُلازم، أنا مدعوٌّ للحضور على متن يختِ سموِّ الدوق الأكبر فلاديمير. انطلِق إلى المرفأ وانتظرني ريثما أعودُ إلى الصخرة. لقد وقعَ تمرُّدٌ بين أفراد الحامية، لكنَّني قمعتُه.»

أدَّى الضابطُ التحيةَ مرةً أخرى، وأصدرَ أمرًا، فتوجَّهَت مقدمةُ الزورق باتجاه الصخرة.

قال لامونت عندما عادَ الرجلُ العجوز إلى مقعده مرةً أخرى: «أيها المدير، أنت الآن تستحقُّ رحلتك إلى ستوكهولم. لستَ مُضطرًّا إلى العمل في مقابلها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤