رَحِمٌ يتأهَّبُ١

تقولُها شقيقتي ثانيةً: «الماما المُنتفِخة٢ لن ترغبَ فيكَ.»

أخبرتُها من قبل كم تُزعجني جدًّا قولتُها تلك، لكنها لا تكترث. هي لا تكترث مطلقًا ولا تستمع. لذا أقرِّرُ للمرة الأولى ألا أضيِّع وقتي في التفكير والكلام. بدلًا من ذلك سأنتظر حتى تنام، ثم أمدَّ كلتَي يديَّ — هذان الذراعان الغبيَّان ما زالا نحيفَين جدًّا، قصيرَين جدًّا، الكفان والأصابع لم تكبر بما يكفي بعد — ثم أمسكُ بحبلِها السُّريِّ. أقبضُ عليه بيُمناي، على بُعدِ شبرٍ من النقطة التي يختفي فيها داخل بطنها البدين، ثم تلويه يدي اليُسرى إلى أسفل. قُطْرُ حبلِها السريِّ أكبرُ من حَبلي بمقدار الضِّعف، من أجل هذا هي كبيرة وأنا صغير. ليس بوسعي فعلُ شيءٍ حيال هذا الأمر. تُغني ماما الكبيرة حين تكون عكرة المزاج: «يا أطفالي، الحياة غيرُ عادلة.» وهي على حق. تعلَّمتُ ذلك مبكرًا حالما أدركتُ أن شقيقتي الشَّرِهة تلتهم، ليس فقط نصيبها مما تمنحنا الماما من غذاء وفير، بل نصف نصيبي أيضًا على الأقل.

أتوقفُ برهةً وأنظرُ إليها، لديَّ قدرةٌ فائقة على الإبصار الليليِّ، تطفو إلى جواري. هي مقلوبة، أو ربما أنا. الأمرُ نسبيٌّ كلُّه. أهزُّ رأسي وأقولُ لنفسي أنني على وشك ارتكاب خطأ غير محسوب، فشقيقتي الخنزيرة هي الأكبر حجمًا حتى وهي نائمة، هي الأكثر قبحًا وبشاعة، وتمثِّل أكثر الأشياء تهديدًا لي في فضائي الراهن، وأعرف أنها تكره معدتي وقناتي الهضمية التي تكوَّنَت حديثًا. حين تفكرون في ذلك الأمر ستجدون كم هو مُدهشٌ أنني ما زلت أحيا إلى الآن.

كلا، يجب ألا أفعل ذلك، أعلم أني يجب ألا أفعل. لكنَّني الآن غاضبٌ. الآن نالني ما يكفي من تغوُّطها: «ماما المُنتفِخة لن ترغب فيكَ.» وأريد قليلًا من الترضية، قليلًا من الثأر. لذلك سأمضي في طريقي. أحكمُ قبضتي على الحبل السريِّ لشقيقتي الفظَّة، أضغطُ بأكثر ما يُمكنني، ثم أعطيه شدَّةً محكمة عنيفة.

تستيقظُ ويعوى صوتُ تفكيرها في رأسي: «هيه، أنتَ يا كيس الحثالة! ماذا بحق الجحيم …»

تُطيحُ بيديَّ بعنف بعيدًا عن حبلها، وتركلُ بكعبِ قدمها اليمنى جانبَ رأسي، لكن حتى قدمها كانت مبطَّنة بكثيرٍ من الشحم لهذا لم تؤلم كثيرًا على كل حال.

أصرخُ فيها: «أخبرتُكِ من قبل، ليس لديك الحق في قول ما تقولين. أنتِ لا تعرفين، لا تعرفين المشاعر التي تحملُها الماما نحوي!»

شقيقتي الفظَّة تُمدِّدُ جسمها، تحتلُّ معظم فراغي الخاص. بوسعها تصفيتي في لحظات، كلانا يعرف ذلك.

قالت: «اسمع أيها التحفة الصغيرة، إذا كنتَ لم تلحظ، فأنا أكبر من ضعفيْ حجمك الآن، ويَزداد حجمي طيلة الوقت. والسبب الوحيد في أنكَ ما زلت تحيا حتى الآن هو أنني لا أريد أن يطفو جثمانك حولي هنا ويلوث سوائلي. هل تفهمُ ذلك؟»

أفكِّر في الخضوع لها، لكنني أقاوم ذلك. ما الذي يُمكن أن يحدث؟! اخترتُ المظهر الذي يبديني متمردًا، غير أني أومأتُ برأسي أيضًا.

«حسنًا، والآن دعني أخبرك بشيء آخر. أشكُّ في أنك ستنجو في عملية الولادة — أتمنى بإخلاصٍ ألا يحدث هذا — لكن إذا لمستَ حبلي مجددًا، إذا فقط وضعتَ عليه إصبعك الضئيل القذر، أضمن لك أنك لن تعرف طريقك أبدًا، أرجو ألا تُوصل الأمر إلى ذلك.»

تُعطيني ركلةً ممتازة. في ذات الموضع. لكن على نحوٍ أعنف هذه المرة.

– «اتفقنا أيها الدمية العتيقة؟»

– «على أي شيء؟»

– «هل كلامي واضح؟»

لم أُجب بالسرعة المناسبة، لذا ركلتني ثانيةً. سمينةً كانت أو غير سمينة، فإن قدمها آلمتْني هذه المرة. أراها تسحب ساقها للوراء للمرة الرابعة.

– «حسنًا، نعم كلامك واضح. الآن دعيني وشأني.»

ابتسمتْ وأظهرتْ بتأنٍّ لثتَها القذرة. لو لم أكن أعي الأمر لأقسمتُ أنها تمتلك مجموعةً كاملة من الأسنان.

– «وشيءٌ آخر …»

– «ماذا؟»

«إذا أردت لعضوِك البائس المثير للشفقة هذا ألا يُمضَغ، فالأفضلُ لكَ أن تُبعدَ هذا الشيء المقرف عن وجهي!»

أسقطتُ يديَّ لأغطي نفسي. لا أعتقد أن الأمر سيصل بها إلى هذا الحد، لكنني تعلَّمت من خبرتي السابقة أن الأفضل أن تكون آمنًا لا نادمًا. أحاول أن ألتفَّ بحيث أُعطيها ظهري، لكن هذا ليس سهلًا. نحن في شهرنا الثامن ولم يعد ثمة مكانٌ للمناورة.

بالتدريج عُدنا إلى حال التجاهُل المتبادلَة كالعادة.

أتكوَّر على نفسي وأنصتُ إلى الضجيج بالخارج. الماما المُنتفِخة لديها أصدقاء مدعوون على القهوة، يأتيني صوتها المكتوم عبر الجدران. أحبُّ صوتَها. حين أُولَد أتمنى أن تحبَّ ماما صوتي. أتمنى أن تحبَّني. أتمنى أن تحبَّني أكثر مما تحب شقيقتي الخنزيرة.

ماما المُنتفِخة تضحك لأن جنينَيها يتحركان ويخبطانها من الداخل. رَحِمُنا يترجرج، وثمة شخصٌ آخر يَضحك، وآيادٍ تضغط على بطنها فتؤلم جانب جبهتي حيث ركلتني شقيقتي البشعة. قاومتُ نفسي كيلا أحكَّ موضع الألم. هي تراقبُني، أعلم أنها تراقبُني، ولن أمنحها الشعور بالرضا.

أغمضُ عينيَّ وأحاول أن أهدأ، لكن رأسي يكاد يَنفجِر من فكرة أن أمي لو أتمَّت شهور الحمل، سيكون أمامي شهرٌ آخر في هذه الحال، وللحق، أنا لستُ واثقًا أن بوسعي تحمُّل ذلك والتعامل معه. شيءٌ قاتل أن تُسجن في فراغٍ محدود مع عَدوِّك اللدود. في المرات شديدة السوء أفكِّرُ أن أعضَّ حبلي الخاص وأنهي الأمر كلَّه، حتى قبل أن يبدأ.

غير أنني أفكر وقتئذ في «البنت». البنت التي تعدُّ نفسها «لتولد شرسةً». البنتُ تلك هي سري الخاص، قوتي الداخلية. أعرفُ أنها السبب الذي من أجله سأتجاوَز كل تلك الأوقات المظلمة. أُغيِّر رأيي في الأمور.

تعلمون؟ الأمور لم تكن دائمًا هكذا. أتذكر الأسابيع الأولى من الحمل، لا تبدو الآن شديدة السوء — أفضل من الآن على كل حال. صحيح أن الطفوَ داخل كائنٍ بشريٍّ آخرَ لم يكن أبدًا فكرتي عن البهجة — لكن على الأقل في تلك الأيام المُبكِّرة كان هناك متَّسع من الفضاء لتتحرَّك، لتتمدد، لتضرب بأطرافك هنا وهناك. وقتها لم أكن أعرف أن الأمرَ أفضل، لكنه كان. أنت تعيشُ، أنت تتعلَّم. لكن للأسف فبينما تعيش وتتعلَّم فإن حجمك يكبر أيضًا.

هناك أغنية أخرى تُلخِّص تلك الحال بالنِّسبة لي، أغنية تغنيها الماما المُنتفِخة. هي تحبُّ موسيقاها وتُغنِّيها أثناء تنظيف البيت. تلك الأغنية القديمة عن التاكسي الأصفر الكبير. تُؤدِّيها على نحو لا بأس به، ليس تام الإتقان، لكن بما يكفي لوضوح القصيدة والنغمة. «ألا تبدو الحياة مسرعةً على الدوام، حتى أنك لا تَستوعِب قيمة ما امتلكتَ إلا بعد أن يذهب؟»

كاتبُ تلك الأغنية يعرف شيئًا أو اثنَين. خذوني مثالًا، فبمجرَّد أن تصل إلى علامة «جنين ذي سبعة أشهر»، فإن الكلوستروفوبيا٣ تدخل بيتك فورًا. خاصةً إذا كنتَ مُجبرًا على مشاركة الحيِّز مع آخرين.

تلك هي المشكلة الكبرى لدى الشقيقة البَشِعة حسب ظني. هي لا تُجيد فنَّ المشاركة.

تعرفون؟ حين أولد سأَتعقَّبُ ذلك الرجل (أراهن بعُمري أنه ليس امرأة) الذي صمَّمَ الرَّحِم، وسوف أضعه أمام بعض الحقائق الأساسية. لقد ارتكب عدَّة أخطاءٍ برأيي المُتواضِع. لا أعني ضيق الحيِّز وحسب. بل أيضًا نُدرة وسائل التَّسلية (كتلك التي تُقدِّمها شركات الطيران على طائراتها مثلًا) ما يُعدُّ غيابُها جريمةً في تلك المرحلة من العمر. يا يسوع، أليس عجيبًا أن كلَّ جنينٍ قابلتُه كان مختلًا عقليًّا؟ ماذا تتوقَّع حين لا يكون هناك ما تفعله في تلك الأرحام المتأهِّبة للولادة سوى التصنُّت على الأصوات المكتومة لخفَقان قلوب الأمهات المنتفخات، أو ربما عد قرقرات المعدة؟ وطبعًا يُمكنك قياس كم كَبُرَ ذراعاك وساقاك، أو يُمكنك أن تمرَّ بإصبعك على فتحة اليافوخ لتستحثَّ مخَّك وتُوقظه، لكن تلك الأفعال سرعان ما تمر. حتى النشوة التي تُحصِّلها أخيرًا من امتصاص إبهامك (بعد أن ينمو لك فمٌ ليَمتصَّ، وإبهامٌ ليُمتَص) لا تستمر طويلًا.

المرة الوحيدة التي خفَّت فيها حال الضَّجر كانت في الماضي حين كنا جنينَين في شهرنا الخامس ولم تكن شقيقتي قد تحوَّلت بعد إلى ذلك الوحش. الماما المُنتفِخة أخذت ثلاثتنا إلى عيادة الطبيب وظللتُ طوال مدتنا هناك أتسمع إلى الأصوات. يروحون ويَجيئون. الخنزيرة لم يبدُ عليها أنها لاحظت، لم يُدهشني ذلك. فهي ليست ممَّن يمكن أن تعتبرهم مرهفي الحس.

كنتُ هناك، أطفو هنا وهناك مُنشغلًا بأموري الخاصة حتى سمعت فجأةً: «هذه المرأة بلهاء، بلهاء تماما. هذا حظي أن …»

لم يكن صوت الخنزيرة. النبرة مختلفة، الصوت مختلف. ثم سمعت واحدًا آخر. «إنه مُظلم، مُظلم جدًّا. ربما أمكنني أن أحفرَ نفقًا …»

استغرقتُ برهةً لأستوعبَ ماذا يحدث، لكنني فهمت في النهاية. المكان لا بدَّ مُكتظٌّ بأمهات مُنتفخات أخريات، العشرات منهن، وكلما مرَّت واحدة منهن متباطئةً على مقربة منا أسمع قرقرة جنينها عن طريق موجات الفكر. تعوَّدتُ على الكلام القذر الذي تطلقه شقيقتي — كان عادةً عن الطعام أو عن عروسة «باربي» التي سمعتْ عنها في تليفزيون الماما، أو عن مدى كراهيتها لي — لكنَّني لم أتخيل، حتى ذلك الوقت، أن بوسعي التقاط موجات أخرى من محطات خارجية كما حدث. كان هذا محفِّزًا طيِّبًا لكنه في ذات الوقت مخيفٌ جدًّا. صدقوني ثَمَّ الكثير من اللغط لأجنة تسبح في السوائل هناك.

كان هناك جنينٌ ظلَّ يُكرِّر نفس المقولة مراتٍ عديدة، نفس الصرخة العجيبة ذات النبرة العالية التي تأتيني عبر الذِّهن. «أيها المسيح في عليائِه … ليس من مكان يكفي ثلاثة! يا يسوع، المكان لا يتَّسع لثلاثة!» ظل يُكرِّرها مراتٍ ومرات، وكأنه يَستنجِد. أذكر أنني فكرت وقتئذ أن وضعي، رغم كل شيء، لم يكن بهذا السوء. شيء واحد مؤكَّد، أن أمَّه كانت في لحظة بهجة حين انبثق هو وإخوته.

عندئذ سمعتُها. البنت. سرى الحميم جدًّا، البنت التي سأَعثُر عليها يومًا. أحببتُ صوتَها فورًا لأنها كانت تغني الأغنية التي كانت ماما تغنيها أحيانًا، «ولدنا كي نكونَ شرسين»، يأتي صوتها ليطغى على صوت الضربات العالية والخافتة لأضلع أمها.

خُذْ دراجتك البخارية واركض،
اتجه صوب الطريق العام،
فَتِّشْ عن مغامرة،
ومهما يحدث في طريقِنا،
اجعله يحدُث يا عزيزي،
عانق العالم بحبٍّ،
أطلقْ كلَّ رصاصاتِك مرةً واحدة،
وفجِّرها في الفضاء،
مثل طفلِ الطبيعة الحقيقيِّ،
نحن وُلدنا،
وُلدنا،
كي نكون شَرِسين.
بوسعنا أن نتسلَّق عاليًا،
لا أريد أن أموت أبدًا.

كنت مُنوَّمًا مغناطيسيًّا. كان بوسعي أن أراها ترقص في الرحم، وكنت أتوق بكل قوة أن أُجاور البنت تلك، طِفلة الطبيعة الحقيقية، بدلًا من أن أُسجَن مع هذه الخنزيرة. هي وأنا، كان بوسعنا حالئذٍ أن نحصل سويًّا على الكثير من البهجة.

تعرفون؟ حين أجدُ طريقي، يومًا ما، سنَحصُل على بعض البهجة سويًّا. مهما قالت شقيقتي الخنزيرة، سوف أُولَد، وسوف أحيا وسوف تحبُّني الماما، وسوف أحبُّها بالمقابل. يومًا ما حين أغدو قويًّا وصحيحًا، حين أغدو كبيرًا، سوف أتعقَّب تلك الفتاة وأريها أن كلينا خُلق من أجل الآخر. نعم. سوف يجد كلٌّ منَّا الآخر، وسوف نظلُّ معًا، وسوف نقود دراجتَينا البخاريتيْن صوب الطريق العام وسوف نفعل كلَّ شيء يُمكننا فعله من أجل أن نجعل تلك الأغنية حقيقةً.

هذا حُلمي، وذلك ما سوف يكون.

صدقوني.

١  جائزة «بينيزورال» Peninsular Competition: العنوان الأصلي Waiting Womb.
٢  يعني الأم في حالة حمل. (ت)
٣  Claustrophobia رهاب نفسي يعني الخوف من الأماكن الضيقة. (ت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤