أحلام أسامة

١

الليلة، في مكانٍ ما بعيدًا عن نيويورك، ثمة امرأة شابَّة تحلم. اسمها «مارسيا». وحيدةً في فراشِها تحلم بالأوقاتِ الأجمل، بلحظات المشاركة: نزهاتٍ خلوية، رحلات إلى حديقة الحيوان، عرض سينمائي، دعوة إلى العشاء. تَبتسِم في نومِها حين تتحرَّك أصابع زوجها الميت فوق كفِّها، حين تُقبِّل شفتاه الميتتان النبضَ الحيَّ في أسفل عنقها. هي تحلم بالذي «كان»، تحلم بحفنة السنوات التي لم تكن فيها وحيدة.

في الليالي الطيبة ترسو أحلامها عند تلك اللحظات، تلك الأَمكِنة. لكن الليالي الطيبة نادرة، وهذه الليلة لم تكن واحدة منها. الليلةَ، أمام عينَيها الشاخصتَين، يَتناثر طعام نزهتها الخلوية فوق الأرض المُعشَوشِبة: يَتعكَّر، يتعفَّن، يفور بالديدان. الليلة تتحوَّل حيوانات الحديقة إلى حشود مُزمجِرة تطارد بالسياط وحوشًا وتهدم أقفاصَها. الليلة يرعبُها الفيلم السينمائي، والوجبة التي هي مُجبَرة على أكلها كان لها طعم التراب في لسانها، والرماد في حلقها.

الليلة، مرة أخرى، مارسيا تكافح وتتصبَّب عرقًا وتئنُّ، ورغم أنها قد باعت شقة نيويورك وانتقلت بعيدًا، بعيدًا جدًّا، إلا أنها تعلم أن ليس بوسعها أبدًا أن تَنتقِل بعيدًا بما يَكفي للهروب من أحلامها. أحلامها تتتبعها، تجدها أينما ذهبت، ليلة بعد ليلة. أحلام عن الأبراج، عن الطائرات، عن الحجارة المتكسِّرة المتساقطة، أحلام عن الموت.

الليلة، المرة تلو المرة تلو المَرة، ترى الجثث تتبعثَر من النوافذ، تسمع الأبراج تَنهدِم وتُدكُّ على الأرض، تشعر برُوحها تهوي إلى حُفرة لا قاع لها من الخسران والفقْد، كوَّة جحيمٍ من التشوُّش والحيرة.

والآن، هذه الليلةَ، ثمة أمرٌ جديد. الليلة، حين فتحت عينَيها الحالمتَين وجدت مدًى صَحراويًّا مُتراميًا أمامها. قفرٌ، جدبٌ قاحلٌ، وذو جمال غريب. الهواء المتحرِّك كان معبئًا بالغبار والدعاءات. الله، الله، الله.

في الصحراء وجدتْ متاهةً من الكهوف. وفي العُمق الأقصى، في أكثر الكهوف إعتامًا، وجدته يَرقُد مُجهدًا على سرير من الحبال. رجلٌ وسيم، أسود العينين، قاتم اللحية. رجل نائم، رجل أعزل غير محصَّن.

ووجدت مارسيا في قلبِها كراهية، وفي رُوحها رغبةٌ قاتمة، وفي يدها وجدت سكينًا. سكِّين صغيرة، نعم هذا حقيقي، لكن في مثل هكذا أوقات تستطيع السكاكين الصغيرة أن تُنجزَ الكثير. ومن بوسعه أن يعرف حقيقة السكاكين الصغيرة أكثر من هذا الرجل؟ سكيني حادة، فكَّرت مارسيا، نعم، حادَّة جدًّا.

«أنتَ قتلتَ زوجي، «تهمس». أنت قتلتَ نومي.»

والليلة، هذه الليلة، في صمت كهفٍ صحراوي، تركع مارسيا بهدوء جوار سرير الحبال وتحلم بأنها تأخذ الثأر.

٢

كمِسمار مُنتصِب على أحد المقاعد الخشبية في كنيستِه الخاصة، بينما المسيح على صليبه يَنظُر إليه من أعلى مثلما ينظر إلى نكتةٍ رديئة، يجلس الأب «أوو دونيل» سكرانَ قليل الإيمان. يَحلُم أيضًا. يحلم ويصرخ.

في حلمه، كان أيضًا راكعًا على ركبتَيه. يركع في الشوارع المُتكسِّرة. التراب في كل مكانٍ حولَه. شعره مبيضٌّ بالغبار، عيناه مكسوَّتان بالغبار، رئتاه محترقتان بالغبار. راكعًا، أبيض، مكسوًّا، محترقًا، كان الأب «أوو دونيل» يلعن الله.

«كيف أمكنك أن تسمح بذلك؟» يصرخ. «كيف أمكنك؟»

يحتضن رأس رجل يُحتضَر، يستمع إلى آخر همسة يقولها: مارسيا، مارسيا، مارسيا، مارسيا، مارسيا. لكن الله لا يقول شيئًا. الرب صامت.

«تكلَّمْ إليَّ!» يهتفُ الأب «أوو دونيل»: «دعني أفهم!»

البرج الثاني يسقط. غير واقعي. تصاريف الأحلام. شيء من أفلام سبيلبرج Spielberg.١

الرجل يموت.

الرب يتحرَّك بطريقة غامِضة، ولا يعبأ أن يناقشه.

والليلةَ يتقاسَم الأبُ «أوو دونيل» الصحراءَ البارِدة مع مارسيا، يشاركها الكهفَ، يَركع جوار سرير الحبال.

بينما عيناه مُثبتتان على نصل السكين اللامع يُخبرها: «هذا الرجل قتل إيماني … هذا الرجل قتل ربي.»

والليلةَ، الأب «أوو دونيل» سوف يَحلُم أيضًا بثأره.

٣

جورج، ابن جورج، يقضي الليلة بالخارج، يحلم أحلامه. البيتُ الأبيض ينبسط فوقه وحواليه مثل زوج من أجنحة عظيمة واقية، تحفظ وتؤمِّن حياةَ أكثر الرجال قوةً فوق الأرض. لكنه في أحلامه ليس سوى جورج الضعيف، جورج المُتعَب، جورج غير الآمن. في أحلامه يَبحَث عن شيء ما، يبحث، لكن لا يجد أبدًا. ومثل الأب «أوو دونيل» يركع على ركبتَيه في التراب، يرفع الصخور، ينظر تحتها. لا شيء. فقط المزيد من التراب.

طائرات (لعبة)، العشَرات منها، تئزُّ حول رأسه، تُشتِّت انتباهه، تزيد حنقه. يمدُّ يده ويُمسك واحدة، يحطمها.

«يا ألله!»

يَهتف الطيارُ المُتناهي الصغر وهو يسقط. يسحقه جورج في التراب تحت إبهامه. حين يَرفع يده يجد إبهامه مصبوغًا بحمرة الدم. يمسحه في جاكيت الرئاسة قبل أن يرفع صخرةً أخرى.

مُختبئَين تحت هذه الصخرة، يجد شخصًا نائمًا على سرير حبال، وامرأة وقسًّا يركعان كأنهما يُصلِّيان.

يسأل جورج: «هل يمكن أن أنضمَّ إليكم؟» مُكرمشًا جسمه، قلبه يدق بسرعة. الصخرة تغدو كهفًا. يركع بهدوء جوار الكاهن، يُحدِّق في الرجل النائم، ثم يشكر الله أن انتهى بحثه أخيرًا.

يقول: «العين بالعين، والسنُّ بالسن.»

تَهمِس مارسيا: «الثأر!»

يقول: يومئ جورج: «الثأر!»

٤

في صحراء ما، في كهفٍ ما، فوق سرير من الحبال، كان أسامة يحلم الليلةَ.

مرةً أخرى يرى نصف مليون أمريكيٍّ مُلحِد يَنهمرُون في أراضي السعودية، مدعوِّين، مدعوين إلى تربة بلاده، بينما جنود جيشه الخاص من «المجاهدين» الأمجاد مَمنوعون من قِبَل الحكومة الكافرة. لمرة أخرى يتذوق المهانة، ينزف ألمًا من جراء تدنيس الأرض المقدسة، الخيانة التاريخية التي ضربت مقدساته.

يحلُم بمكة، بالمدينة وبأورشليم، يحلم بالتحرير.

يرى أطفال أشقائه يَنسحقُون تحت عجلات الدبابات الإسرائيلية. يرى «الأمة»، يحلم بالأمة، يحلم بعقيدة غالية جدًّا، يحلم بأماكن مقدسة هي فوق الدماء، وفوق الأرواح!

يَهمِس لأشقائه: «التزموا بعهدكم، سيروا على تعاليم الله وصراطه وامشوا على درب الجهاد. دماؤكم دماؤنا، شرفكم شرفنا، وأطفالكم هم أطفالنا.»

كانت هناك خشخشة بجواره.

الليلة، مثل كل ليلة، كان أسامة يحلم بالثأر.

١  Steven Spielberg مخرج أمريكي شهير. (ت)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤