البومة١

كان الكوخُ بديعًا؛ كلُّ النوافذ من ألواح خشب الصنوبر الثقيلة بارتفاع من الأرض إلى السقف، على مدار ثلاثة أوجُه من أوجهه الأربعة. كان «سايمون» قد أحبَّ شكلَ الكوخ بمجرَّد أن رأى صورته في كُتيِّب الإجازات. غير أنه أحب الكوخ الحقيقي أكثر.

سأل «ماري» بينما تُخشخِش سيارتهما عند المدخل المغطى بالحصى الصغير: «ما رأيكِ؟»

التفتت إليه وتنهَّدت قائلةً: «أعطني فرصة.»

قال سايمون: «آسف!»

أوقفَ السيارة وهبطت ماري. مشتْ صوب سياج مطليٍّ يفصل واجهة الكوخ عن الحقل. سياجٌ من الأوتاد البيضاء، يُشبه ذلك الذي يعرف أنها حلمت به حين كانت فتاة صغيرة. تحقَّق حُلمها عبر قرار سايمون الأخير. كان هذا الحلم هو أحد أسباب اختياره هذا الكوخ تحديدًا وهذا الموقع تحديدًا.

راح يتأملُّها لحظةً، ويُفكر: «زوجتي، «ماري» التي تخصُّني.»

شاهدها وهي تُثبت أطراف أناملها واحدًا إثر واحد فوق حافة السياج، وتذكر كيف اعتادَت أن تفعل الشيءَ نفسه فوق ذراعه العارية. قبل زمنٍ من الآن. زمن طويل.

نزل من السيارة ولحق بها. كانت فرصة ليُريح ساقَيه ويمدُّهما. بالطبع شيء من الشراب القويِّ سيكون فيه راحة أكبر، لكنه كان قد وعدَ، وبوسعه أن ينتظر. وقف جوار سياج ماري، يُدلِّك عُقَد التوتُّر المتجمِّعة في عموده الفقري، يعبُّ من هواء الريف المضفور بروائح الأرض والغابة الدافئة والأعشاب النامية.

الحشائش الخضراء المُزالة من المرج العشبي الخَشِن أمامهما كانت منحدرةً بعيدة عن الكوخ — الذي سيكون كوخهما على مدى الأسبوعين القادمَين، أو طالما استطاعا أن يَبقيا في رفقة بعضهما البعض — ومكوَّمةً في اتجاه شلال المياه الذي يلمع في الوادي المنبسِط بالأسفل. وخلف الماء، ربما على بُعد خمسين مترًا، كانت ثمة غابة. جذوع الأشجار وأوراقها المتحوِّرة بدت رائعة الجمال في ضوء الشمس المائلة.

نظرت ماري نحو المشهد غير أنها ظلَّت صامتة، وتَصوَّر سايمون ماذا يُمكن أن يعني ذلك، كلٌّ منهما محبوسٌ داخل عالَمه الخاص المنفصل، هو يمشي وحيدًا خلال الغابة التي تُناديه، الغبار والجذور المُتكسِّرة تحت قدمَيه. هو لا يُريد ذلك.

قال: «حسنًا!» لمحة من التوتُّر شابتْ صوتَه. سرعان ما ندم عليها.

حوَّلت ماري عينيها إليه في ضوء الشمس المُحتضر، لكنها لم تَرفع يدها لتُظلِّل عينَيها. أطراف أصابعها كانت مربوطةً فوق قُضبان السياج.

أجابت: «إنه جيِّد.»

«جيد وحسب؟»

أدارت رأسَها ونظرت مجدَّدًا نحو الحقل. حاول أن يرى المياه والغابة خلال عينيها.

قالت: «كلا! ليس جيدًّا وحسب. أفضل من جيد. ربما مثالي!»

أومأ برأسه.

قال: «حسنًا، كل شيء على ما يرام إذن!»

بعد برهة عادا إلى السيارة وبدآ في تفريغ أغراضهما.

•••

كان بالكوخ سريران مُتشابهان. سألها إذا كانت ترغب في ضمِّهما معًا. نظرت إليه، لكنه لم يَستطِع قراءة التعبير فوق وجهها.

قالت: «هل يُزعجك إذا لم نَفعل؟ ليس الليلة على أية حال. ربما فيما بعد.»

•••

جلس على أحد المقاعد ذات المَساند داخل الكوخ، زجاجة خمر على الطاولة إلى جواره. شاهد «ماري» تَتجوَّل في الخارج. بعد بُرهةٍ عادت أدراجها إلى مكانها جوار السياج وزرعت نفسها هناك، مُتوجهةً بنظرها إلى القمر. كانت ليلةً دافئة. النشرة الجوية وعدت بهذا. كل شيء على ما يرام حتى الآن.

كانت الكلمات قليلة، لكنَّهما أفرغا أمتعتهما، أعدَّا وجبةً سويًّا، جلسا، تناولاها معا. أطلق نكتةً، وابتسمَت ماري. لم تذكر شيئًا بشأن إسرافه في الخمر. وهو لم يُثر مشكلة بشأن السريرَين.

قال للغرفة الخاوية: «هذا مكان جميل!»

رفع كأسه، وشاطر الكوخَ نخبَه، شرب نخبَ الغابة، شلال الماء، شرب نخب قراره. ثم نظر عبر الزجاج، ورأى ماري في ضوء القمر وقد تحوَّلت إلى تمثال من الذهب.

كان قد حجز للإجازة من غير أن يُخبرها، باغتها بالخبر أمس، وضعها أمام الأمر الواقع. اشتعلت غضبًا، وكادَت ترفض المجيء. مرَّ الوقت فيما يقود السيارة إلى هنا على نحوٍ غير مُريحٍ على الإطلاق. لكنَّهما هنا الآن، كان سعيدًا وتمنى أن تكون سعيدة أيضًا.

قال ثانيةً: «مكان جميل!» رجع الصوتُ إليه، دافئًا خشبيًّا عبر الكوخ الصنوبري.

التفتت ماري. توقفتْ. ثم رمتْ بصرَها إلى البعيد مجددًا.

في القديم كانت تستطيبُ صوتَه. كم قالت: «حسنًا، رغم إنك تُشبه الكلب، لكن على الأقل لك صوت لطيف!»

كانت تضحك ضحكة واسعة وتلوي شفتَيها بسعادة حين يعرض عليها أن يقرأ لها في السرير. كم أحبَّ أن يَراها تسقط في النوم على صوته فيما يقرأ. ما زال بوسعه أن يشعر بأناملها ترتاح فوق فخذِه، بوسعه أن يتذكر شعوره بالأمان وهي تَنجرف بعيدًا في قصص «ﻫ. إي بيتس»٢ أو «توماس هاردي». حتى بعد أن تنام كان يُواصِل الحكي، كان يحبُّها بصوته ويودُّ أن يُرسله إليها في أحلامها.

عند نقطة ما توقَّفا عن فعل ذلك. لا يتذكَّر لماذا، أو متى.

رشف من كأسه وفكر في اليوم الذي حملها فيه إلى أعلى السلَّم في بيتهما الأول، شقة ضيقة أعلى دكان بيع الطلاءات. تألَّم ظهرُه يومها، واضطر إلى النوم على الأرض ثلاث ليال. كانت تطعمه حساءً، وفي يوم جاءت البيت بكلبٍ صغير. في تلك السنوات الأولى كانوا غالبًا يجلسون ثلاثتهم في الشرفة يُشاهدون العابرين، وحركة المرور، ويشاهدون السيارات التي تزحف صوب الشارع الرئيسي.

قالت ذات مرةً: «تحبُّ أن تراقبَ الحياةَ، أليس كذلك؟»

تأملَ انعكاسَها الباهت على الزجاج، ورآها تَنظر إليه.

– «نعم. مراقبةُ الحياةِ ليست مخيفةً مثل معيشتها!»

داعبتْ شعره ولامسَت النافذة بأنفِها.

قالت: «مراقبة الحياة عبر الزجاج!» وبقيَت الكلمة معه.

ضحكا وقتها كثيرًا. حتى كلبهما ابتسَم. بالتأكيد لم يكونا قد عرَفا، لم يكونا قد قدَّرا الزمن قدرَه، ولا المكان.

•••

كان نصف نائم في مقعده حين دخلتْ ماري الكوخ راكضةً.

قالت: «تعالَ إلى الخارج، أسمعُ شيئًا.»

وضع كأسه وتبعها. استقبله الليلُ والنجوم والفضاء. شبحٌ أسود اللون قطع الهواءَ فوق رأسَيهما، بصوتٍ كالنداء.

همستْ: «أليست هذه بومة؟»

«لا أدري.» ردَّ هامسًا أيضًا: «جائز.»

جاء النداء ثانيةً، من وراء الشلال هذه المرة، هناك عند الغابة. صوتٌ حزين، هكذا فكَّر سايمون. صوتٌ محزون شجيٌّ شقَّ طريقه عبر حوائط دفاعه فتذكَّرَ طفلتَهما، طفلتهما تقريبًا. كانا سيدعُوانها «كيت»، اشتريا ملابس أطفال، ورسما الخطط. بلا جدوى. لم تعدْ ماري تتحدَّث عنها بعد ذلك. لم يُصبح أبًا، لكن ذلك لم يعدْ مُهمًّا الآن. حتى وقتها، لم يكن الأمر مهمًّا جدًّا. الأشياء كانت مرتبكة، و«كيت» كانت مجرَّد احتمال. ضاعت منهما. الكوخُ كان احتمالًا آخر، فرصةً، ربما فرصتهما الأخيرة. لا يُريد لتلك الفرصة أن تضيع منهما أيضًا.

قالت ماري: «أعتقد أنها كانت بومة.»

نظر إليها، عيناها تتألَّق في ضوء القمر. أراد أن يُقبِّلَها. تمنى لو لم يترك الخمر في الكوخ.

قال: «أعتقد ذلك أيضًا!»

لمس يدها. فابتسمت.

•••

في الثالثة صباحًا كفَّ عن محاوَلة النوم. تسلَّل خارج غرفة النوم. صبَّ كأسًا آخر من الاسكوتش، ثم عاد إلى مقعدِه جوار النافذة. كانت ماري أسدلت الستائر. قام ورفعها، ونظر إلى الخارج صوب الحقل المُضاء بنور القمر. كانت السياج شديدة البياض، بدتْ وكأنها تطفو في الظلام.

سألت قبل أسبوعين: «هل انتهى كل شيء؟» تذكر جهاز التليفزيون القابع في ركنه، يُغمغِم بأخبار السادسة.

أجابها ببطء: «ماذا؟» زلزالٌ آخر في مكان ما جنوب أمريكا. تظاهر بأنه يَستمِع.

– «هل انتهى الأمر؟»

لم يكن قادرًا على ملاقاة عينَيها. رشف من كأسه كما يَرشُف منها الآن.

قال أخيرًا: «لا أدري!»

لم تتكلَّم لبُرهة. ثم قالت: «أظن ذلك.»

من خلف السياج ذات الأوتاد البيضاء لمح شيئًا يَقترِب، شبحًا قاتمًا يُحلِّق في الهواء. كان هجومًا مباغتًا، قويًّا بما يكفي لجعل الكوخ يَرتعِد، وعالي الصوت بما يكفي لجعله يَنكفئ إلى الوراء، فاندلق الخمر على السجادة.

تصدَّعت النافذة طوليًّا من أعلى إلى أسفل. ثم سمع ماري تَصيحُ من غرفة النوم.

– «سايمون؟ ما هذا؟ يا إلهي! ماذا فعلت؟»

ردَّ عليها: «لا شيء! شيءٌ ما خبط النافذة. أنا ذاهبٌ لأرى.»

كان ضوء القمر خافتًا لكنه ساطعٌ. استغرق ثوانيَ قليلة ليُحدِّد موقع الطائر الجريح. كان هناك جوار السياج. راقدًا على جانبِه، يَنتفِض بعنفٍ. ركض سايمون نحو المدخل ذي الحصى المجروش، وقرفص جواره.

هتفت ماري من باب الكوخ، حبكَت قميص نومها ليَقيَها هواء الليل. وكان شعرها معقوصًا لأعلى.

سألت: «ما هذا؟»

احتوى الطائر بيديه ثم انتصب واقفًا. كان الطائر يَرتعِد بين يديه ولم يكن فيما يبدو واعيًا.

قال: «هذه بومة … أعتقد أنها بومة من نوعٍ ما!»

أحد الجناحين كان مُتدليًا بزاوية عجيبة، العظام تطقطق بوضوح، والرأس لم تكن في موضعها.

قالت ماري فيما تَلحق به عند السياج: «ماذا بوسعنا أن نفعل؟»

هزَّ سايمون رأسه: «لا أعتقد أن بوسعنا فعل أي شيء، أظنُّ أنها ماتت بالفعل.»

– «لكنها تَتحرَّك. انظرْ إليها. يالَلكائن المسكين! فقط انظر إليه.»

اهتزَّت البومة بين يدَيْ سايمون. فتحت منقارها في ارتجافة أخيرة، ثم توقَّفت الرعشة. اختبر سايمون النبض بجسدِها، لم يكن واثقًا أين يضع إصبعه. لكن شيئًا لم يكن هناك على الإطلاق.

قال: «ماتت.»

نظر إلى ماري ورأى الدموع بعينيها.

قال: «لا أظن أنها تألمتْ طويلًا، إنها صفعت النافذة وحسب، ربما طارت مباشرة صوب تلك النافذة اللعينة. أعتقد أنها خبطتها فماتت من فورها.»

مدَّت ماري يدَها وداعبت ريش البومة. لا دم هناك. لا قطرة واحدة. نفس الشيء كان مع «كيت». نفس الشيء تمامًا.

قالت ماري: «إنها جميلة جدًّا، هل تعتقد أنها هي ما سمعناها تنادي؟ أظنها هي. يا إلهي، ياللعار!»

ثمة شيءٌ في نبرة صوتها حرَّك ثقلًا جبارًا في صدره. كان عليه أن يَزدرِد لعابه قبل أن يُمكنه الكلام.

قال: «سوف ندفنها في الصباح، سنأخُذُها إلى الغابة في الأسفل هناك، ونبحث عن بقعة جميلة وندفنها سويًّا.»

رفعت ماري بصرها إليه وقالت: «نعم، يبدو هذا مناسبًا. فلنفعل!»

ألقت لمحةً سريعة إلى الكوخ ثانيةً ثم همست: «وربما علينا أن نأتيَ بأحدهم ليُصلح تلك النافذة. إذا قامت عاصفة سوف تُطيح بنا.»

أومأ سايمون. كانت على حق، لكن شيئًا داخله لا يُريد للنافذة أن تُصلح. فقد نال الكثير من مراقبة العالم عبر الزجاج.

قال: «لا أظن أن عاصفةً سوف تهبُّ.»

وقَفا للحظة جوار السياج، ينظران خلال ضوء القمر إلى جسد الطائر بين كفَّي سايمون. تتأرجَح ماري قليلًا من جانب إلى آخر، كعادتها حين تقوم بتقدير الأشياء والتفكير بها. ثم لمسَت ذراعه بأطراف أناملها، انحنَت إلى الأمام، ثم طبعت قُبلة مفاجئةً على وجنتِه.

قالت: «سوف أضمُّ السريرَيْن إلى بعضهما، أنا مجهدة يا حبيبي. هل تأتي؟»

أزاح خصلة من شعرها فوق وجنتها وقال: «سآتي خلال دقيقة.»

– «لا تتأخر!»

شاهدها تعود إلى الكوخ، رفَع يده إلى البُقعة التي قبَّلتْه فيها. ثم أخذ البومة إلى السيارة وأرقدها بعناية على المقعد الخلفي «شكرًا لكِ!» قال. طوى جناحها المكسور برقَّة، وأراح ريشها الطويل الغزير الناعم. «شكرًا لكِ!»

أخرج كتابه المفضَّل من تابلوه السيارة. مجموعة من القصص القصيرة ﻟ ﻫ. إي. بيتس. وضعه في جيب بيجامة النوم وأغلقَ السيارة.

عند مدخل الكوخ وقف في الهواء المُنعِش لدقيقة أو اثنتين، ينظر صوب القمر. ثمة بومة تمرُّ عبره، تنادي نداءً حزينًا وخافتًا.

استدار. دخل إلى الكوخ. ثم أغلق الباب.

١  جائزة جاكي بينيت الأدبية Jacqui Bennett Writers Bureau.
٢  Herbert Ernest Bates (١٩٠٥–١٩٧٤م) قاصٌّ وروائي إنجليزي اشتهر بقصص الريف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤