تاريخ صاحب المعالي سعد زغلول باشا

صفحات ناصعات في تاريخ مصر الحديثة

نحن الآن إزاء تاريخ مصر الحديثة كله مجتمعًا في تاريخ رجل، بل نحن الآن حيال ترجمة الأمة مجتمعة في ترجمة واحد، وكأني بالقوة الأزلية تراعي وجوه الاقتصاد في خُلق الناس وتوزيع ثروة العقول عليهم، فهي إذا شاءت أن تخلق عظيمًا، أو أرادت أن تجود بعقل جبار جمعت إليها آلافًا من العقول الإنسانية فدمجتها في عقل جبار عظيم، ولقد يمر الجيل فيعدو إلى القرن، والأقدار لا تزال تهيئ للأمة عقلًا مفردًا هائلًا يغنيها عن نصف عقولها، ويكون بمثابة الغذاء التاريخي لها، هذا ونساء الأمة في كل ساعة يحملن وحبالاها في كل يوم يلدن، ومرضعاتها في كل لحظة يرضعن، وإنك لتقرأ إحصائية المواليد في الأسبوع الواحد فترى العشرات والمئات قد خرجوا للعالم من منابت مختلفة، وأصلاب وترائب متباينة، فما يخطر ببالك أن سيكون من هذه الأدمغة الصغيرة عقل للأمة كبير، ثم انثن فاطلع إلى إحصائية الوفيات تجدها لا تزيد ولا تنقص عن تلك إلا شيئًا يسيرًا، فمن ذلك تعلم أن الطبيعة تزيد على عدد الأمة في صبحها ما تنقصه منها في مغربها لكي يطرد بها بقاء التوازن الحيوي في الأمة، ثم هل جاءك نبأ أمة الصين وهل سمعت بتعدادها، وهل علمت أن قد مضى ما يربى على ألفي عام، والأقدار لم تصغ بعد من هذه الملايين العديدة رجلًا آخر على مثال كونفوشيوس، فكأنها لم تطبع من كونفوشيوس إلا نسخة واحدة.

فإذا ما أخرجت الأمة عظيمًا، فكأنما لم تتسع في عهده إلا له وحده، وكأن روحه وعقله وأخلاقه ومميزاته عدسات تبصر منها أمته عقلها وأخلاقها ومميزاتها، وكأنه يجلو بصر كل منا، ويزيل عن عينيه حجاب الأنانية فلا ننظر إلا له ولعظائم فعاله، ولا تكون الأمة منه إلا كما يكون من الصبية إزاء معلمهم، إذ كانت الحياة تجري على قاعدة مدرسية بحتة، والناس يحترمون عظيمهم لأنه أبدع قالب يحاولون أن يصوغوا أنفسهم على نحوه ومثاله.

ونحن بني الدنيا نعيش ونتغذى من العظمة، ونحس في وجود العظيم بيننا أنَّا جميعًا عظماء، ونشعر في حضرة العقل الكبير أنَّا بجملتنا جمع عقلاء؛ لأنه ينبه منا خامد عقولنا، ويثير في قلوبنا هاجع حميتنا، ويوقد بين أضالعنا فاتر أرواحنا ويكرهنا على أن نتناول كل عمل يعمله بحثًا وتفكيرًا، ويريدنا على أن نتناول كل كلمة يقولها شرحًا وتفسيرًا، ويطالبنا بأن ننهض لحسناته تحبيذًا وتكبيرًا؛ لأن الناس يستحبون الحمية، وإن لم يكونوا هم مادتها، ويتطلبون الحرارة النفسية، وإن لم يكونوا هم أنفسهم نشأتها، ولا تقوى أعصاب الأمة إلا بالمصل الذي يحقنها به قادتها، ولا تشتد عضلاتها إلا بالحركات الرياضية التي يمرنها عليها رجالاتها، وكان خليقًا بقادة الشعوب أن يكونوا أعلم بطب النفوس، وأخبر بالأدوية النواجع التي توافق أمزجة شعوبهم.

هذا ولو لم تكن الجمعية التشريعية تضم بين أعضائها صفوة رجال الأمة، وخلاصة مجموعها، لما رأيت من عرض الأمة فردًا واحدًا متنبهًا متيقظًا، ولأسدل السبات ستره على الأمة والجمعية معًا، فلا تكون محاضر الجمعية إلا مواعيد نوم تبتدئ وتنتهي بدقات أجراس أول من ينام وأول من يصحو من أعضائها، وإذن لما سمعت في النوادي والمجتمعات والأسمار هذه الشروح القيمة والتأويلات الجليلة، والاستنباطات الدقيقة والاستنتاجات الثمينة، والاقتراحات السديدة، والآراء الوجيهة، التي يلقاك بها القوم على اختلاف طبقاتهم، وتباين أقدارهم، وتعدد أوساطهم، ولما رأيت نبض السياسة على ما شهدت من قوة، وعاينت من ضربان وانتظام.

وهذه الروح السياسية القويمة: وهذا التطور الفلسفي الذي وثبت إليه الأمة: هما فيض من روح رجل عظيم: كان أكبر ثمرة جادت بها الأقدار على هذا البلد المجدب رجالًا: الخصيب زرعًا، المريع نباتًا؛ بل هو المادة الواسعة التي يتغذى منها تاريخ مصر الحديث: وهو الكوكب الإنساني الذي في كل قلب مصري منه وميض: وفي كل عقل مصري من سناه قبس وضياء، وفي كل نفس مصرية من وهجه شعاع ولألاء، ولا أحسب القارئ يعوزه بعد ذلك التفهيم، ولا أظنه بحاجة إلى زيادة الإيضاح والتبيين، بلى: هو سعد زغلول باشا قائد الأمة اليوم: ووزيرها بالأمس: وقاضيها من قبل ذلك ومحاميها، بل هو أول محامٍ راح في الأمة قاضيًا: وأول قاضٍ كان وزيرًا: وأول وزيرًا أضحى في هذا الجيل نائبًا!

وأنت فستقرأ في الصفحات الآتية تاريخه الحافل بالعظائم، وتعي ترجمته المترعة بالمحاسن والمكارم؛ فتتبين كيف يكون العظيم في قوة الإرادة، وما قوة الإرادة إلا انتصار للقوة الإلهية الكامنة في الإنسان، وما القوي في إرادته إلا من يكوِّن لنفسه قانونًا وشرعة ونظامًا، يعلم علم اليقين أنه إذا نزل على رأيك وحكمك، وعمل بأمرتك وإرادتك، وخضع لسيطرتك وسلطتك، عطل فيه الإرادة التي تحركه وأفسد على الله الميكانيكية التي يركبها فيه لتسيره وكأني بقوة الإرادة من النباتات التي قَلَّ ما تنمو في هذا الجو المصري، وندر ما تطب في تربته؛ وأنك إن تظفر من القوم برجل قوي الإرادة، فكأنك ظفرت منه بمادة هذه القوة وعنصرها. ومَن الذي ينكر على صاحب هذا التاريخ أنه في طليعة مَن ذكت قوة إرادتهم: واشتد في نفوسهم الاستقلال في الرأي، وقليل هم.

ولا يغيب عنك قوة منطقه وسحر بيانه، وشدة عارضته: فكأنما يكسب قضيته في ذاكرته، قبل أن يقف لها في ساحة المحاجة والجدال: كما كان نابوليون العظيم يهزم عدوه فوق خريطته الحربية: قبل أن تضمه وإياهم سوح١ الحرب وتجمعه بهم ميادين القتال.

وُلد سعادة سعد زغلول باشا بناحية ابيانا من أعمال مركز فود عام ١٨٦٠: فهو اليوم في الحول الرابع والخمسين، ولكنك لو أشرفت عليه لرأيت ثم شيخًا أشيب يسند في حدود السبعين، وكذلك عظماء الرجال تذيب جسومهم تلك الحرارة المتأججة في أجوافهم وجنوبهم وكلما ازداد ضرام تلك الحرارة الروحانية استمد وقوده من اللحم والدم، وأنت فلا ترى رجلًا نابغة إلا وجدته أبدًا أكبر من عمره الحقيقي حتى إنك لتلقى الشاعر العبقري — والشاعر أحر خلق الله روحًا، وأكثر عباد الله توهجًا — يبدو لك في مظهر الشيخ الوقور، وهو لا يعدو أن يكون شابًّا في مقتبل العمر وحداثة الشباب، ولشد ما يخطئ الناس إذ يقدرون عمر الرجل العظيم كما يقدرون أعمار سائر البشر، كأنهم لم يعلموا أن دقيقة العظيم تعدل يوم غيره.

فلما حبا إلى السابعة من عمره دخل مكتب القرية وظل به حوالي خمسة أعوام، ثم شخص إلى دسوق لتجويد القرآن فجوَّده على الشيخ عبد الله عبد العظيم وكان أخوه الرجل الطيب الشناوي أفندي زغلول يومذاك رئيس مجلس مركز دسوق، ولم يلبث المترجم به في دسوق طويلًا، بل جاء إلى القاهرة موطن عظمته ومهد شهرته ومعهد نباهته ودخل الأزهر ولبث يتلقى فيه العلوم خمس سنوات، وكان السيد جمال الدين الأفغاني حينذاك بالقاهرة، فلم يكد يستقر بصاحب الترجمة المقام في القاهرة حتى تعرف إليه وإلى تلاميذه أمثال المرحوم الأستاذ محمد عبده والهلباوي والباجوري والشيخ عبد الكريم سلمان، فتلقى على الأستاذ محمد عبده القطب على الشمسية وبعض كتب في التوحيد وكان الأستاذ إذ ذاك من علماء الأزهر، ثم تعين بعد ذلك صاحب الترجمة محررًا في الوقائع المصرية وكان يرأس تحريرها الشيخ عبده، وكان من بين كُتابها ومحرريها الشيخ سلمان والسيد وفا زغلول شقيق نصر بك زغلول المحامي، وأقام في تحرير الوقائع سنة وبضعة أشهر يكتب بتوقيعه مقالات في الاستبداد والشورى والأخلاق، وكان قبل تعيينه في الوقائع المصرية قد لخص كتاب ابن مسكويه وطبع منه أغلبه، وكان يكتب مقالات في جريدة مصر وكان يديرها ذلك الكاتب الحمي الأنف الأبي القلم أديب بك إسحاق، وكان بين الذين يشايعون تلك الجريدة من الكُتاب سليم نقاش، وكذلك كان يوافي بكتاباته صحف البرهان والمحروسة والتجارة، وكلها كانت للمأسوف عليه سليم نقاش، وكان الشيخ حمزة فتح الله يكتب إذ ذاك في صحيفة البرهان.

والقارئ يرى من ذلك أن المترجم به بدأ حياته العظيمة بشباة القلم وسنان اليراع يستنفد في جميع ما يكتب عصارة ذلك الذهن القوي بطبيعته الذي لا عون له إلا روح الزمن، ولا خلابة له إلا من روح صاحبه، وماذا أنت متصور من مبلغ سحر كاتب يكتب ليستمع لرنات براعته وتوقيعات قلمه أمثال أديب إسحاق ومحمد عبده وسليم نقاش ومن علمت من الفحولة الأعلام، ولعمري ما كانت الصحف وقتذاك كما ترى منها اليوم يتهجم على ميدانها التلميذ والسوقة والكاتب الفج والدعي والغبي والركيك حتى لا تكاد تقرأ في كثير منها بعد أحداث اليوم وأنبائه إلا موضوعات إنشائية لعلها نماذج المعلمين في المدارس، ولا تأخذ عينك بين أعمدتها وأنهارها إلا قصائد نسيب يصف فيها بعض هؤلاء الرصاصين وجه حبائب ولدن لهم في مخيلاتهم يشببون بوجوه لهن سافرات — وإلى جانب هذه القصائد السافرة مقال مطول في وجوب الحجاب — إلى آخر ما يقرع سمعك من كل مضحك مبكٍ.

ولا تعجب بعد ذلك إذ تعلم أن مقالات صاحب الترجمة في الوقائع والبرهان كانت من مهيئات الثورة ومضرماتها، فكأنما ألقت إليه الأقدار ذلك القلم الذي وضعته من قبل بين أنامل جان جاك روسو، فأقام به العالم وأقعده.

وعين المترجم به بعد تحرير الوقائع معاونًا في الداخلية ثم ناظرًا لقلم قضايا الجيزة على أنه لم يلبث بذلك القلم إلا بضعة أسابيع حتى إذا فصلت الثورة العرابية فصل من وظيفته، وكان انفصاله بتهمة أنه من تلاميذ الشيخ محمد عبده، وأنه من المنتمين إلى المرحوم البارودي واكتفوا من عقابه بفصله.

ويجمل بنا أن لا ننسى تلك الحسنة الكبرى التي أسداها المترجم به إلى اللغة؛ إذ كان يصحح ركيك المقالات، وفاسد الأساليب وعاثر العبارات، التي كانت تنتهي إلى الوقائع أيام كان من محرريها، فكان ذلك درسًا عمليًّا لنشر اللغة، واتساع نطاقها، وإبرائها من ذلك الاضطراب العامي الذي يأبى أشباه العامة إلا أن تصاب اللغة منه بعدواهم، وكانت طريقته في ذلك أن ينشر الرسائل بنصها، ثم يجيء بعدها بما هو أصح منها لغة وأفصح سياقًا، حتى يتبين الصحيح من المعتل، وينكشف السليم من المختل، وحتى يعلم الذين في ألسنتهم مرض — لا زادهم الله مرضًا — أن بضاعتهم قد بان فسادها، وأن تجارتهم اللغوية قد وضح وكسها وكسادها — ونحن أن نعجب فعجب لهؤلاء الذين يأبى العرف اليوم إلا أن نسميهم من باب المجاز كُتَّابًا، وإنك لتشفق عليهم أن يبدو للناس عوارهم فتنقح لهم عبارة قد فسدت أو جملة ركت أو اصطلاحات أخلقت أو تراكيب ابتذلت على أنهم ما يزالون يريدونك على تهريب هذه المواد المحظورة ونشرها على حساب اللغة وحساب ضميرك، ثم هم بعد ذلك ساخطون غاضبون لأساليبهم «العصرية» في حسناتهم؛ وهي إن انتسبت إلى أي عصر لبرأ إلى الزمن كله من الانتساب إليها، وإذا أنت جئتهم من جانب النصح والاستدراك تشفع بعضهم إليك أنهم إنما يكتبون موضوعات علمية، فكأنما قد كُتب على أبواب الموضوعات العلمية «ممنوع دخول اللغة الصحيحة».

وما كان من تلك الطريقة المثلى التي سنها المترجم به إلا أن صحت لغة الدواوين من علتها وقامت نهضة مدهشة في مصالح الحكومة بلغ منها أن سواد الموظفين كانوا يهرعون إلى المدارس الليلية لتعلُّم اللغة العربية الفصحى.

ثم دخل في سلك المحاماة مع المرحوم حسين أفندي صقر، وكان هذا رئيس قلم في نظارة الداخلية ثم فُصل بسبب الثورة، فانتقل صاحب الترجمة معه في المحاماة أمام المجالس الملغاة، ولم تكن المحاماة في ذلك الحين شفوية، بل كانت بتقارير تتبادل بين طرفي الخصوم أو وكلائهما، ثم اتُّهم بالاشتراك في جمعية سرية كان قد ألفها شخص فرنسي جاء من الجزائر واجتمع ببعض القوم في مصر فأقاموا منهم جمعية سرية سموها جمعية الانتقام، على أن هذه التهمة التي قرفوه بها والظنة التي أخذوه بأسبابها لم تكن لتروعه ولم تكن لترهبه؛ لأن الرجل الكبير كالكرة المطاطية تقذف بها إلى الأرض وتأبى هي إلا سموًّا وارتفاعًا، ولا ترى التهم تُروَّج إلا حيث يروج الكذب ولا يروج الكذب إلا حيث تُذل النفوس وتفسد الطبائع والناس كما علمت يحبون التهم الحب كله ويخفون للظنون ويبتهجون، وهم لا يريدون فيها قضاة ولا يسألون عليها دفاعًا ولا يطلبون لها شهودًا ولا محلفين؛ لأنهم يخافون أن يُفسد التحقيق عليهم تلك اللذة النفسانية التي أحدثتها التهمة فيهم، فإذا ما برَّأ القضاة متهمًا فاعلم أن في الناس ألوفًا لا يزالون يعتقدون بإدانة ذلك المتهم البريء.

ولا جرم أن تكون التهمة التي تجنوها على صاحب الترجمة إفك أفاك وفرية مفتر وانتقام حقود، وهل كانت الطبيعة القوية الوثابة التي فطره الله عليها، لتستطيع أن تعمل ساعة واحدة في ظل المكامن والمخابئ، هذا ولم يكن لصاحب الترجمة معرفة بأحد من رجال هذه الجمعية ولا من أعضائها ولكن لما اكتشفت الحكومة أمر هذه الجمعية سنحت لبعض رجال الحكومة الفرصة المطاوعة فعمدوا إلى الانتقام من أعدائهم فكأنهم لم يكتشفوا «جمعية الانتقام» إلا ليقيموا لأنفسهم مثلها؟

وكان من الذين استهدفوا لشرة هذا الانتقام صاحب الترجمة وشريكه المرحوم حسين أفندي صقر، وتألفت لجنة لمحاكمتها مع زعماء هذه الجمعية من بعض القضاة الأجانب الذين جيء بهم من بلجيكا للاشتراك في تشكيل المحاكم الأهلية تحت رئاسة قاضٍ منهم يسمى فلمنكس وعضوية مسيو دهولس الذي كان مستشارًا في محكمة الاستئناف وانفصل عنها منذ زمن قريب، وحسين بك واصف — حسين باشا واصف الآن — والمرحوم حامد بك محمود ومحمود بك سالم.

فلما تناولت اللجنة القضية وبحثتها تبين لها براءة صاحب الترجمة وشريكه وعجبت لإدخالهما في هذه التهمة النكراء، وأقرت بأن لا وجه ثمت لإقامة الدعوى عليهما ولامت الحكومة على اتهامهما ظلمًا وعدوانًا وأمرت بإخلاء سبيلهما للتو واللحظة، وقد لبثا في السجن سبعة أيام، على أن الحكومة لم تنفذ هذا الأمر بل أبقتهما ٩٨ يومًا وحاولت نفيهما إلى السودان، وأعد عثمان باشا ماهر المعروف بالسنيورة محافظ مصر وقت ذلك مشروعًا بذلك تقدم إلى مجلس النظار، ولكن المجلس لم يقر عليه إذ لاحظ المرحوم فخري باشا ناظر الحقانية إذ ذاك أن النفي المطلوب يعد ضربة للقضاة الأجانب الذين التجأت مصر إلى عونهم على توزيع وجوه العدل في هذا البلد ولا سيما أن القرار الذي أصدره بأن لا وجه لإقامة الدعوى كان باكورة أعمالهم، ولكن على الرغم من هذه المعارضة ظل المترجم به رهن المحابس حتى رفعت ظلامته إلى المستر مكسويل وكان نائبًا عموميًّا أمام المحاكم الأهلية، فأخذه العجب لذلك وأمر على الفور بإطلاق سراحهما فكان ما أمر.

وعاد المترجم به بعد أن رُدت إليه حريته الشخصية إلى الاشتغال بالمحاماة مع شريكه، وكان ذلك إبان افتتاح المحاكم الأهلية وكان أول من تقيد اسمه في محكمة مصر محاميًا وكان ذلك عام ١٨٨٤.

وانفسح إذ ذاك المجال في قضايا الجنايات للقوة الخطابية، وبدأ المحامي يدلي بدفاعه أمام منصة القضاء ويبسط حججه بلسانه ويستنصر ببلاغة مذودة، وهنا تجلى للناس صاحب الترجمة يحمل تحت لسانه وفي تضاعيف صوته موهبة عظيمة الشأن جليلة القدر كانت حرارتها من قبل ذائبة في مداد قلمه، وإذا به ذلك الخطيب المفوه العظيم الذي إذا خطب الناس قاد آراءهم وقاد مع آرائهم إراداتهم، وإذا تكلم رفعهم فوق أنفسهم وأحدث فيهم قوة جديدة لم تكن تجري في شرايينهم وإذا أراد أن يهزم أفكار سامعيه، ويفتح أذهانهم نثر فيهم روحه فكلهم إذ ذاك قطعة منه لا تزال تنجذب إليه بقوة المغناطيسية المنطقية.

وكانت صناعة المحاماة في ذلك العهد على أسوأ حال وأحقر مكان وأحط قدر لا يلقي بنفسه في تيارها الكدر إلا الذين استهدفوا لسوء القالة وشين السمعة وخسران الكرامة، وقد كان من ضعف ثقة القوم بأهل هذه الصناعة وخشية شرهم ورهبة ضيرهم وأذاهم أن لقبوهم بالمزورين ودعوهم بالأشرار أو ما هو في اصطلاحهم العامي «المرازين» ولكن المترجم به كان العامل على تطهير سمعة هذه الصناعة الإنسانية الكبرى وإعلاء كلمتها والنهوض بها في عثرتها والسمو بها من كبوتها ورد كرامتها عليها، ولم يكن ليخشى على مكانته الشخصية أن يصيبها شيء من سوء تلك السمعة إذ لا يضير الفيل العظيم أن يكون مركبًا للملوك والعظماء، وما كان في ذلك إلا كالشمس تنفذ بضيائها إلى الأماكن الوخمة والقيعان الوبيئة والمراتع المظلمة فتبدد وضمها وتقتل جراثيمها وتهتك حجاب ظلماتها وترسل في جوها مادة الحياة وتنشر في منافسها مادة الصحة.

ولبث يرفع من شأنها برفعة شأنه ويطهر ذكرها بطهارة ذكره حتى عام ١٨٩١؛ إذ سمت مكانتها واستوثق لها أمرها وشرفت سمعتها، وما كاد هذا العام ينصرم ويقبل العام التالي حتى اختارته محكمة الاستئناف نائب قاضي بها، وبذلك كان أول محامٍ في مصر رفع قاضيه، وقد كان لهذا التعيين نشوة ابتهاج وهزة جذل بين لداته المحامين فلما كان اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام ١٨٩٢ أقام له جلة المحامين وخيرتهم مأدبة كبرى في نُزل حديقة الأزبكية، واشترك معهم في تلك الحفلة الكبرى رئيس محكمة الاستئناف في ذلك العهد أحمد بليغ باشا — وإسماعيل بك صبري — إسماعيل صبري باشا — وكيلها، وأحمد حشمت بك — حشمت باشا — الأفوكاتو العمومي للمحاكم الأهلية، فلما انتظم عقد الحفل انبرى رأس شعراء هذا الجيل سعادة إسماعيل بك صبري — باشا — فقال: إن تعيين حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول عضوًا في محكمة الاستئناف لدليل على أن المحاماة والقضاء إخوان رضيعا لبان، وغصنان صنوان، حتى لقد راقني أن أتمثل بقول أبي الطيب المتنبي:

هذي منازلك الأخرى نهنيها
فمن يمر على الأولى يعزيها

ثم تلاه إسماعيل بك عاصم المحامي وإليك ما قال: «إنما يُعرف صلاح الأمة بصلاح الحكومة وإنما يُعرف صلاح الحكومة بحزمها والحزم هو أن يوضع كل شيء في مكانه ويُصرف في وجوهه، وبابه أن تُعطى الوظائف لأهليها وتُسند المناصب لذويها، وهذه قاعدة فلسفية فأية حكومة لا تعطي الوظائف للخليقين بها انحطت وأية حكومة اتخذت ذلك الحزم قانونًا لها تقدمت، وقد شاهدنا حكومتنا اليوم تعطي الوظائف في المحاكم الأهلية لمن هم أجدر بها وأصلح لها، ولما كانت صناعتنا المحاماة مشتبكة مرتبطة بالقضاء فقد كان لنا جزيل السرور أن رأينا في محكمة الاستئناف الأهلية مِثل سعادة رئيسها وحضرة وكيلها الفاضلين، وبينما نحن منشرحو الصدر مثلجو الأفئدة لظهور هذا التطور والارتقاء في إصلاح خطة القضاء بانتخاب الأكفاء لها إذ رأينا الحكومة قد نشطت لخطة جديدة مثلى فانتقت من صناعة المحاماة أصوليًّا نابغة وهو حضرة سعد أفندي زغلول فعينته في محكمة الاستئناف، ولم يكن قبل في صناعة دنيا فنقول اليوم إنه ارتقى ونهنئه على ارتقائه، بل كان في مهنة شريفة سامية وكانت تفخر به وتزهى بجانبه فما كان من القضاء إلا أن نفسه علينا فضمه إليه من بين أظهرنا، وكان ذلك دليلًا على انتهاج سبيل الإصلاح إذ كان سعد أفندي زغلول يصلح في الحقيقة لمنصب أرقى مما انتُخب له وأسمى مكانًا.

وقد اجتمعنا نحن عصبة المحامين الليلة لنهنئ أنفسنا بانتخاب الحكومة لحضرة الفاضل في سلك القضاء ولنهنئ حضرته؛ لأنه سيوجد مع رئيس اشتهر بصفات الكمال ومكارم الأخلاق وطهارة الذمة وحب الاستقلال وسعة العلم، وأعتذر إليكم أيها السادة لعجزي عن إبداء كل ما يختلج ضميري من الفرح والسرور الحقيقيين.

ثم وقف بعده «المرحوم» إبراهيم أفندي اللقاني فقال: «يا سعد» وفي هذا اللفظ من معنى الإجلال والتعظيم ما يكفيني مؤونة المقال، فيا سعد قد عز عليَّ القول في هذا المقام مع ما لي من الأثرة والاختصاص بك والاحتفاظ بجليل فضلك إلى حد يحتبس معه لساني ويعجز عن الإفصاح والبيان، وأقتصر الآن على أن أهنئك من قلب يخالطه الأسف عن انفصالك من بيننا، وقد كنت واسطة عقدنا، وعلى قدر هذا الأسف تكون تهنئتنا على دخولك في سلك القضاء، ولكن علام هل انتقلت إلى مقام تكون فيه أكثر ثراء وأوسع دينًا مما كنت فيه، كلا بل إلى مقام يحبس فيه رزقك، على راتب زهيد فعلام إذن نهنئك — أم هل انتقلت إلى مقام تزاول فيه علمًا لم تزاول أو تزداد سعة منه ووفرًا وكنت فيه قصير الباع — كلا … فعلام إذن نهنئك؟

بلى، نهنئك لأنك كنت تناضل عن الحق، وتحارب للإنصاف، وتجاهد للعدل، ولم يكن بيدك فأصبحت والعدل واليوم بيدك يطالبك بحقه، ألا فلنشرب على سر استلامك زمام الحق ونصرته.

ثم وقف أحمد حشمت بك — حشمت باشا — النائب العمومي فقال: إخواني قد علمتم أن النيابة العمومية والمحاماة خصمان مختلفان، ولكن كل منهما يناضل عن الحق والإنصاف، ويجدُّ لمحو عوامل الاستبداد والاعتساف، وقد كان حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول من أشد أولئك الخصماء وأقواهم حجةً ودفاعًا عن الحق وذودًا عن العدل، فأصبح اليوم في صف الحاكمين بين الخصوم، فحق للنيابة العمومية أن ترحب به فيصلًا يقضي بالحق كما عهدناه في دور خصومه نصيرًا له.

وانبرى في أثره عدة خطباء يزيدون عن العشرة، يعددون جميعًا حسنات المترجم به في المحاماة ومناقبه ومميزاته، حتى جاء دور ذلك الخطيب المصقع البليغ والمحامي النابغة المنطيق، الأستاذ إبراهيم بك الهلباوي فوقف يقول: «إذا التمست من حضراتكم المعاذير، وطلبت الصفح عن التقصير، فلي شفيع قائم بين أيديكم ألا وهو كوني أخطب الآن أثر ثلاثة عشر خطيبًا، كلهم قد خلب الألباب، وأخذ بمجامع القلوب، ولكن لا أسألكم عذرًا لأن موضوع خطب شخص كله فضائل ومهما قال الخطباء فبحر الفضل واسع لا تنفذ مادته، ولست أقصد بمقالي إلى الأسف على فراق سعد أفندي زغلول لطائفة المحامين فإنا ما اجتمعنا هنا لتوديعه منها، بل لنهنئ هذه الطائفة التي يحق لها أن تفخر إعجابًا بما نالته بتعيينه من الشرف وعلو الشأن.

تقولون إن حرفة المحاماة شريفة وفضلها مقرر، وأقول كان ذلك لها ولكن على القرطاس، وفي القواعد الفلسفية، أما المشاهد فليس كذلك ما كان.

فمنذ تسع سنوات كانت أبعد عن اسم الشرف والفضل، وتعلمون أنتم أن المحاكم الأهلية حلت محل المجالس الملغاة التي كان أمامها محامون يسمون بوكلاء الدعاوي ليس صاحب السمعة فيهم إلا مَن كان أخبر بأغراض القضاة وأعرف بحاجاتهم، فكان ولا ريب هذا الفن ضائع الاعتبار بين أيدي طبقة مضيعة لشرفه خافضة لمكانته فلما تألفت المحاكم الأهلية لم يجسر أحد أن يسوق بنفسه ضحية لهذا الفن وذبحًا إلا رفيقنا سعد أفندي زغلول فظل يعالج مرضه ويرتق فتقه ويقيم أوده، ويجاهد في سبيل إعلاء كلمته حتى أسدل الستار على كثير من فضائحه ومعايبه فأقدم إذ ذاك أرباب الشرف على الاحتراف به، ولهذا كان سعي رفيقنا بادئ بدء جهادًا مستمرًّا، ولولاه ما استطاع أحد منا الاشتغال بهذا الفن الذي أصبحنا نعده اليوم فنًّا شريفًا ومهنة سامية عالية. فالفضل كل الفضل في سمو مكانتها لحضرة سعد أفندي زغلول، فلذلك وجب علينا أن نهنئ المحاماة بانتقاله منها وارتقائه إلى منصة القضاء، فهو هو الذي صيرها أهلًا لأن يرتقي منها مثله إلى محكمة الاستئناف.

ومن الغريب أنه لما عرض تعيين حضرة صديقنا المفضال سعد أفندي زغلول عضوًا في محكمة الاستئناف قال قائل إن حضرته على الرغم مما أحرزه من الفضل وسعة الاطلاع في القوانين لم تكن لديه شهادة «ليسانسيه» فلما بلغ هذا القول سعادة الفاضل رئيس محكمة الاستئناف أجاب بأنه إذا كان معترفًا بفضله وسعة اطلاعه في القانون أفلا يكون اضطلاعه بدراسة الشريعة الإسلامية الغراء شفيعًا له وقائمًا مقام شهادة الليسانس، وهذه حجة دامغة ومقال رشيد، وهل مَن ينكر بعد هذا فضل حضرة سعد أفندي زغلول وقد عرف فضله كل مصري حتى أصبح الفلاح في زوايا القرى يعتمد على اسمه في مقاضاة خصمه إن كان محقًّا وتخور قواه وتهن عزيمته عند ذكر اسمه إذا كان مبطلًا، فهل مثل هذا الفاضل تكبر عليه وظيفة مندوب في قلم قضايا الحكومة وقد أكبرتها من قبل ذلك الأغراض، ثم كادت أن تكبر عليه وظيفة نائب قاضٍ في محكمة الاستئناف وهي الوظيفة التي نحتفل اليوم لها؟ وأنتم يا حضرات الإخوان تعترفون في سركم وعلانيتكم بأنه أفضلنا وأجدرنا بالرقي واستلام زمام الحكم في أكبر مصالح الحكومة، فالمحاماة التي رفعها إلى ذروة الشرف لا تزال تطالبه بأن يتسنم بها أعلى سنام الرعاية والاعتبار، وأن يمحو عنها ما بقي من رسوم الزراية والاحتقار حتى إذا طلب أحدنا فيما بعد إلى منصب أرقى مما نال اليوم لا يجد دونه معترضًا.

كلكم تعرفون يا حضرات المحامين أن القضايا كانت تُرفع إلى المحاكم وفي كل مئة منها سبعون أو ما يزيد تُرفع فيها المسائل الفرعية فتُقبل لخطأ في الشكل وجهل بالطرق القانونية، فأصبحت وليس في المئة خمس قضايا مما تُقبل فيها الفرعيات، ومرجع الفضل في ذلك كله إلى سعد أفندي زغلول إذ كان قدوة وأستاذًا للمشتغلين بصناعة المحاماة، بل كان أستاذ الكثيرين من القضاة، وهذه تقاريره الشرعية والعقلية محفوظة لدينا يرجع إليها كل من استبهم عليه أمر قانوني فلم يعد بعد من حاجة إلى بقائه بيننا، فقد أتم دروسه علينا سواء من حيث الصدق والاستقامة وطهارة الذمة أو من حيث البلاغة والفصاحة أو من حيث المسائل القانونية الدقيقة المعضلة، فليت شعري لأي شيء نتأسف من فراقه، وليس بنا من حاجة إليه إلا ما يُطلب منه في دوره الجديد.

أي مشكل قانوني أو أية حادثة قانونية أخذت بطبيعتها شكلًا من الأشكال والالتباس — وللحوادث طبائع تختلف حتى مع وحدة القانون — ولم نرَ مرجع الفضل في حله إلى حضرة الفاضل سعد أفندي زغلول؟ بل في أي وقت تنازعنا في مبدأ قانوني وكان الحكم بين الفريقين غيره، أو لم يكن الرجوع إلى آرائه في الأحكام السابقة التي بسبيل هذا المبدأ، وانتقاله اليوم إلى سلك القضاء لا يحزننا بل يملأ صدورنا فرحًا واغتباطًا؛ إذ به تزول عنا بقية الوصمة التي لم تبرأ حرفتنا من عابها حتى الآن، فلو قال لنا قاضي من القضاة بعد اليوم أن فيكم من لا يصلح لشيء أجبناه، بل إن فينا من شرف منصب القضاء. ا.ﻫ».

(١) خطبة صاحب الترجمة

فلما انتهى الأستاذ من هذه الخطبة البليغة، وانتهى الحضور من التصفيق والهتاف ودلائل الاستحسان والإعجاب، قام في أثره صاحب الترجمة يرسل بينهم ذلك الصوت العذب السحري وينثر فيهم ذلك البيان الجزل السحباني، يشكر لهم احتفالهم به وشهادتهم بفضله وإقرارهم بنبوغه وعبقريته، بل إن شئت قل قطعة من اعترافاته وناهيك باعتراف العظماء، قال: حفظه الله.

إخواني وسادتي

قد عهدتموني وليس من شيمتي الحسد؛ إذ ليس الحسد بنافع أحدًا مطلقًا، كما أنه لم يكن من طبعي الافتخار، فأنا آمن بما عهدت فيكم من أن ترموني به، ولكني أرى نفسي اليوم على غير ما طُبعت عليه، أراني حاسدًا نفسي فخورًا بما أنا اليوم فيه؛ إذ كنت موضوع اهتمامكم ورهين عنايتكم وكنت أود لو أني بينكم أهنئ غيري من بين صفوفكم، بما يناله عن جدارة واستحقاق.

إخواني وسادتي

قد كنت أعرف في نفسي القدرة على البيان، وتقرير الحقائق، بل كنت أعتقد — ولو كنت مخطئًا في اعتقادي — أني على شيء من البلاغة والفصاحة واللسن، وما عهدت نفسي كالآن عيبًا محصرًا محتسبًا عاجزًا عن القيام بما يجب لحضراتكم في بيان مقام الشكر لكم، وأراكم اختلفتم في الوجهة وتباينتم في الأسلوب وقد اتحدتم في المعنى واجتمعتم فماذا يسعني من أساليب البيان لأداء ما يحق لكل منكم، بماذا أشكركم وقد هجرت الكلام شهرًا، ولولا أن مظاهر السرور على وجوهكم تدفعني للمقال، وأن لساني محض معبر عما يليه إحساسي الخالص ما استطعت الكلام الآن بعد أن اقتنعت من نفسي بأني عاجز عن مجاراة كل منكم في حلبة الفصاحة والبيان.

إخواني

أراني لا أزال واحد منكم، وأن نهاية الشرف عندي أن تقبلوني كذلك لأنكم أنتم الذين تخدمون الحقيقة ولا زلتم تجدُّون في طلبها، ولم يكن من أمري إلا أن ضعفت عن مجاراتكم واحتثاث السير معكم في هذا الطريق المحمود فجلست وسرتم.

هذا ما دعاني لأن أكون قاضيًا، بعد أن كنت معكم محاميًا، استرحت بعد العناء، لا زراية بشرف المحاماة؛ لأنها حرفة إظهار الحق لمن تولى أمر القضاء بين الناس، وأرى أن أفخر حُلي الشرف أني كنت بينكم زمنًا طويلًا أسعى معكم في إظهار الحقائق، والله يعلم أني ما سعيت إلا لهذا المقصد الشريف، ولكني أشهد أنكم أشد مني عزيمة إذ قعدت وأنتم نهوض.

إخواني

إنني ما سبقت إلى اتخاذ فن المحاماة شعارًا إلا لأنها الحرفة التي تستلزم بسط آراء المشتغل بها على حضرات القضاة الفضلاء والأقران وجماهير العامة، فهي من ثم الحرفة الوحيدة التي تظهر فيها قيمة المرء في وسطه.

والحق أقول ما كنت بمستطيع أن أخالط من كانوا مشتغلين بهذا الفن يوم لبست شعاره، كما قال أحد إخواني أثناء كلامه وإني محدثكم الحديث.

أول ما هممت بالاشتغال بفن المحاماة وحدثتني نفسي بشأنها، نظرت فإذا من رزئت به من الذين كانوا عنوان سمعتها وذكرها، كأنهم الشوك يؤذي الناس ويعذبهم وذلك أنهم كانوا يسيئون إلى عباد الله بخيانتهم وزيغهم عن طريق الحق والهدى، ولذلك ترددت بادئ بدء ثم قلت في نفسي ما ضرك لو كنت وردة بين هاتيك الأشواك، ولو كنت الآن ما حدثتها هذا الحديث «فمن حسن حظي أني أجيل البصر في هذا المحفل الحافل فلا أجد أثرًا لذلك الشوك» فلما استقر بخاطري أن القيام بالواجب خير للمرء حتى وإن كان بحرفة هي بأهلها من سقط المتاع أقدمت مستحصد العزم على الاشتغال بهذه الحرفة بين أولئك الذين عددتهم شوكًا، والحمد لله إذ قد لفظهم الزمان لفظ النواة، وطهر الله مواضع نظرنا أن تقتحمهم في هذه الليلة.

إخواني

لا أحب أن أخوض في حديث أولئك القوم، ولكني أقول كما قال أحد إخواني أنه كان أقصى واجبات تلك الشرذمة إرضاء خواطر أولئك القضاة الذين محقهم الحق، وذهب بهم العدل.

ذلك ما أقول بصفتي محاميًا بالأمس واليوم قاضيًا لا يليق بي في الحالتين أن أكذب على نفسي وعلى غيري.

والذي حبب إليَّ الاشتغال بهذه الصناعة أني كنت مشتغلًا من قبلها بوظيفة من شأنها الإطلاع على أحكام المحاكم الملغاة التي كانت تنشر في الجريدة الرسمية يوم كنت عضوًا في هيئة تحريرها، وكان من حظي أن عهد إليَّ أمر نقد تلك الأحكام، وتلخيص معانيها، ثم انتقلت من هذه الوظيفة إلى وظيفة ناظر قلم قضايا مديرية الجيزة، وهي كما تعلمون أشبه بوظيفة القاضي؛ إذ كان من خصائصه، أن تصدر الأحكام في كثير من المواد الجزئية، فلما انفصلتُ من هذه الخدمة كما تعلمون وصفا الجو من الأحداث لم يرق عيني أن أطرق باب أحد التماسًا للرجوع في وظيفتي أو وظيفة غيرها وإن كنت ممن يحب التواضع استغفر الله، بل إني رجوت من توسمت فيه الخير أن يساعدني لنيل وظيفة، فأعرض جهلًا منه عني ونأى بجانبه، فكبر عندي الأمر وازددت ميلًا إلى الاشتغال بحرفة المحاماة وقلت لنفسي: علام تحتمل يا سعد منة جهول، وما ضرك أن تكون مستقيمًا بين مفسدين، بل ما ضرك أن تكون وردة بين الأشواك، فهان عليَّ إذ ذاك أن احترف حرفة لم يكن فيها مناضل عن حق لوجه الحق.

هذا ما كان يحيط به حديث نفسي يوم أردت الاشتغال بحرفة المحاماة، وأن في العالم الكوني وجودًا يجب صاحبه أن يشعر به، وذلك هو الوجود الإنساني فكان يخيل لي أن استقامتي في حرفة مُنيت بالفساد والضلال لا بد من أن يعرف قدرها الوجود فأجتني ثمارها، وكنت لذلك أتوسم أن تأتي ظروف أحبها وتحبني.

إخواني

إنني اشتغلت بالمحاماة متنكرًا عن أهلي وأصحابي وكلما سألني سائل هل صرت محاميًا أقول: معاذ الله أن أكون كقوم خاسرين.

وجملة القول إني كنت أجتهد أن لا يعرفني إلا أرباب القضايا وإن كنت أجهل ماذا تكون العاقبة، وقُدر لي أني حُبست في أول اشتغالي بهذه الحرفة ظلمًا وعدوانًا فنفعني مشروعي فيها وقد كنت أدافع عن الخصوم بالكتابة عن التقارير التي كانت تقدَّم إليَّ للإجابة على ما فيها من المسائل، فانظروا يا إخواني في أمر محامٍ كان يناضل عن الحق وهو منه سليب، وبعد أن انقضت مدة سجني عدت إلى مزاولة هذه الصناعة لا أبغي بها غير الحقائق مطلبًا — وكنت أحب أبدًا أن يحترمني القاضي فأحذر كل ما يؤدي إلى غير ذلك — ولعل سعادة الرئيس يذكر أنه لما كان بين أعضاء لجنة الامتحان التي طلبتني أمامها وسألتني ما هي واجبات المحامي كان جوابي درس القضية جيدًا — والمدافعة عن الحق واحترام القضاء.

سادتي، تعلمون أن الحق صعب الاكتشاف، وأن الحقيقة إذ تكون ضالة تتشعب طرق نشدانها على الباحث ويعلم الله كم من ليالٍ مضت ما كان أمرها عندي لا لأني كنتُ في عيش ضنك ولا لأني قليل الميسرة، ولكن لأن الحقيقة ضائعة لا أجدها في طريق نشداني لها بين أناس عهدتُ إليهم أمانة ولا من يؤديها منهم لأهلها — كنت أرى القانون يكرهني على احترام القضاة وضميري يأبى الامتثال لاحترام كثير منهم فكنت أجمع بين الاحترام والتحقير ولا أستطيع التوفيق بين الظاهر والباطن — فاعجبوا أيها الأفاضل من مطيع غير مطيع — ولا جناح عليَّ لأن القوانين لا حكم لها على السرائر والضمائر — أقول الحق إني كنت أسأل من القاضي حقًّا ومن النيابة واجبًا فلا أجد هذا ولا ذاك — أما الآن فكلنا يعترف في سره وعلنه بأن القضاء ارتقى والحق عنه مسؤول، وما زلت إخواني أعدُّ نفسي محاميًا عن الحقيقة التي أردنا المحاماة عنها جميعًا.

وإني شاكر فضلكم منشرح الصدر من كونكم عددتموني جوهرًا شفافًا سطعت عليه أشعة العدل وأنوار الحق — فادعوا الله معي أن يؤيد روح الحق في بلادنا ويزيد في نشر الفضيلة والعدل. ا.ﻫ.

(٢) القاضي سعد

بلغنا بالقارئ من ترجمة رجل مصر العظيم، سعد زغلول باشا، منطيق الأمة ومقولها، والمحامي عنها ومذودها، إلى تلك الحفلة الكبرى التي أقامها المحامون لتكريمه على أثر انتخابه نائب قاضٍ بمحكمة الاستئناف، وكان ذلك في اليوم الثامن عشر من شهر يوليه عام ١٨٩٢ أي منذ اثنين وعشرين حولًا، وجئنا بالخطبة المؤثرة الرقيقة التي ألقاها المترجم به بين جماعة المحتفلين، وفيها تلك الاعترافات البليغة التي فاض بها قلب من تلك القلوب الخفاقة النباضة، وجاشت بها نفس من تلك النفوس العبقرية الغياضة، وإن للنفوس لعبقرية هي في أغلب الأحيان أشد من عبقرية الأذهان، وما عبقرية النفوس إلا قوة الشعور بالواجب، الإيمان بالحق، ومنابذة الباطل، وهي الوحي الإلهي الذي يتنزل على النفوس الخصيبة، فيملؤها روحانية، ويرسل في نواحيها مادة الإحساس الشفاف، وإذا كانت القوة الإلهية لا تكثر في الإنسانية من عداد العبقريين عقولًا وأذهانًا، فما أقل خلقها للعبقريين نفوسًا ووجدانًا لأن القوة الإلهية تدأب في عملها، وتجد في إخراج قوالبها، على أنك لتهز إليك جذع الشجرة المثمرة، فلا تستطيب من متساقط ثمارها، ولا تستعذب من متناثر بواكرها إلا ثمرة أو ثمرتين، وأنت فتجد أنواع الزهر الذي لا رائحة له ولا عرف، أكثر بأضعاف من أنواع الأزاهر ذات الشذى والأريج إذ كانت لذة الجميل أن لا يكون شائعًا، ولا يروح فاشيًا ذائعًا، ولعل أكبر الدلائل على العظمة الإلهية أن تخلق عظيمًا واحدًا، بين ألوف كلهم صغار، وأن تصور امرأة حسناء وسيمة، في أسرة كل نسائها قِباح دميمات، وما أجمل مظهر الخير، وما أروع موقفه، إذا اكتنفه الشر من كل مكان.

كذاك كان نصيب سعد باشا زغلول من عبقرية الذهن، وكذاك كان قسطه من عبقرية النفس، وهما لم يجتمعا في قالب إنساني إلا أحدثا توازنًا في جميع عواطفه، فإنك ترى أكثر العبقريين أذهانًا، أقرب إلى الحيوانية من غيرهم، وأشد إسفافًا إلى البهيمية من سواهم، ولو كان أمثال الفردده موسيه وبيرون ونابوليون، عبقريي النفوس، لما هام الأول بحب البغايا، ووصل الفاجرات، وما استرسل الثاني في هوى الغادات الفاتنات، ولا ركب الثالث رأسه، فطاح بملايين النفوس والمهجات.

ونحن اليوم عائدون فآخذون في ذلك التاريخ العظيم ونحن له أشد روحًا وأخف نشاطًا؛ لأنا نرى في خلاله دروس الحكمة تلقى من فم التاريخ، ونشهد في تضاعيفه مزايا العظمة تطل من الماضي إلى الحاضر، واثبة إلى المستقبل فدافعة إلى الأبدية.

•••

دخل المترجم به في سلك القضاء، بتلك الشخصية القوية التي ما أسند إليها عمل عظيم، إلا استكان لها، وتشكل بشكلها، واصطبغ بصبغتها، وتضاءل إزاء قوتها، وما كان أكبر الأعمال، وأرفع المناصب، إلا ليضيق بصاحب الشخصية القوية، وإن اتسع لألوف الناس، ورحب بعديد ضعاف النفوس واحترام النفس من أسمى معالم العظمة النفسية، ونحن لشد ما نروح معجبين مكبرين، إذا وقفنا على رجل من عرض العامة، في قهوة أو منتدى، يستمسك برأيه، ويستند إلى حجته، لا ينزل عنهما ولا ينكص، وقد اجتمع الجلوس كلهم على نقيض رأيه، واتفقوا جميعًا على دحض حجته، بل إنك لتمتلئ إعجابًا وإكبارًا لشأن الرجل العامي الحقير، يجيئك بكيس نقود فقدته، ويأبى أن يقبل منك على ما أحسن أجرًا ولا عطاء، ويرفض أن ينال منك على ما صنع مكافأة ولا جزاء.

وما أروع الشخصية القوية في منصة القضاء، وما أشد جلال القاضي المهيب، وإذا اجتمع جلاله بجلال مقعده، والتقت روعة شخصيته، بروعة سدته، وعلى قدر قوة الشخصية في القضاة، تكون قوة الإنكار في المجرمين والجناة، حتى إنك لتلقى المتهم إزاء القاضي القوي الشخصية، مضطربًا مذهولًا حائرًا مذعورًا إذ يخيل إليه أمام تلك القوة الخفية — قوة الجاذبية، القوي والضعيف أن قد انفتحت مغاليق نفسه، وانكشفت حيالها مجاهل ضميره وبدت أعماق سريرته، وأنه قد أصبح بين يدي القاضي، وكله ثغور تطل منها ذنوبه، وتشرف من خلالها جرائمه، حتى إذا بلغ منه تأثير تلك القوة السحرية كما يبلغ من المنوِّم تأثير مغناطيسية المنوِّم، أدلى إلى القاضي باعترافه وهو هادئ ساكن وأشهده على جريمته، ليتخلص من ذلك التأثير الشخصي الذي يصدمه به القاضي ويهدم فيه كل عزيمة للإنكار، وكل إصرار على التنصل والتكذيب.

وكم من جرائم ما كان ليجدي في اكتشاف جناتها دقة التحقيق، وما كانت لتفنى في الاهتداء إلى مرتكبيها شدة التحري والاستقصاء، وقوة البحث والاستهداء، ولا ذكاء الشرطة وحيلهم، ولا مهارة المحققين وخدعاتهم لو لم تقع في يد قاضٍ قوي الشخصية، اهتدت قوة شخصيته إلى المجرم من الجلسة الأولى.

•••

وبعد، فإن صاحب الترجمة، كما قالت صحيفة الإيجيبت عنه منذ ثمانية أعوام، من فريق القضاة العصريين، الذين يعتقدون أن القانون لا يعاقِب رغبة في الانتقام، ويرون أن من الواجب الأخذ بالرفق في تنفيذ القانون؛ وذلك لأن العقاب لا يطهر المجرم، ولا يزيل عنه أقذار الجريمة، ولكنه على نقيض ذلك أشد إفسادًا للمجرم من الجريمة نفسها ولا تظن أنت أن المجرم يصبح بعد العقاب نفس مرتكب الجرم، بل كأن غيره الذي احتمل العقاب على فعلته، وقاسى تبعة جريمته، وليس الانتقام إلا عدلًا وحشيًّا، وما كان القانون إلا عدلًا إنسانيًّا؛ ومن ثم لا ينبغي أن يشوب العقاب القانوني شائبة من وحشية الانتقام وإنما يجب أن تمازجه إنسانية العدل، ولا أظن القانون يعاقب اللصوص والقتلة وغيرهم من الآثمين والجناة لينزع من قلوبهم تلك الأنانية الشديدة التي دفعتهم إلى الاعتداء على حقوق غيرهم ونفوسهم وأموالهم، وليست جرائم السرقة والقتل وغيرهما هي التي نفسها جعلت بين الناس قتلة ولصوصًا ومعتدين.

ولعل صرامة العقاب القضائي، وشوائب الانتقام التي تشوبه، وأمارات التِّرة البادية عليه، هي التي تجعل من الأمور المستحيلات، أن نصبح في مجتمع إنساني يعلن المجرم فيه عن جريمته، ويذيعها على أفراد جنسه، ويملي هو الحكم بعقابه وهو معتز مفتخر بأنه بذلك يوقر القانون الذي سنه بيده، وأنه بعقاب نفسه ينفذ القوة المخولة له، ونعني بها قوة المشرع، وسلطة واضع القانون، ولا يكون من ذلك العقاب الاختياري إلا أن المجرم يرفع نفسه ويعلو بها فوق جريمته ويمحو آثارها بصراحته وعظمته وسكونه.

وذلك هو المجرم الذي يطلبه صالح الجمعية البشرية، وتريده القوانين الإنسانية، شعاره «لا أخضع في عظيم الأمور وحقيرها إلا إلى القانون الذي وضعته أنا بيدي».

والمترجم به كذلك في طليعة المصريين الحريين، كما شهدت له بذلك صحيفة الغازت الفرنسية منذ ثمانِ سنين أيضًا، يرى أن المحافظة لا تلائم سنن التطور، ولا تسير بالجماعات في طريق الرقي، وإنما تقف بها في مكان واحد على حين أن الحياة تجري كل يوم إلى طور جديد، ولا ترى عقيدة المحافظة على القديم إلا ضعيفة الحجة، حقيرة الرأي، لأنها تقبض بيدها على حقيقة واحدة، ولا تريد أن تفتح عينها لترى حقيقة أخرى خيرًا منها وأفضل أثرًا ولذلك تجد عقيدة المحافظة أبدًا معتذرة، محتجة بالظروف والضرورات، وعندها أن التغيير معناه الإفساد، وأن التجديد مرادفه التبديد، ولكنك ترى مذهب الحرية أبدًا على الحق، منتصرًا فائزًا، يقاتل وهو موقن بالنصر والفوز، ومذهب المحافظة يستند إلى أن للإنسان حدود مقررة، ويحتج مذهب التجديد إلى أن ليس هناك أثر لحدود الإنسان، والمذهب الأول يقوم على الظروف ولكنك تجد المذهب الثاني يقوم على القوة، ذاك يطلب الراحة والسكون وهذا لا يريد إلا العمل والحركة ذاك سلبي وهذا إيجابي، والمذهب الأول يعتمد في جميع حياته على ذاكرته وماضيه وأما المذهب الثاني فيركن إلى عقله وحاضره.

وإليك ما قالته عن صاحب الترجمة جريدة التيمس الكبرى في عام ١٩٠٦ «هو من شيعة المرحوم محمد عبده الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب، وهم الذين أسماهم اللورد كرومر فريق الجيروند في النهضة الوطنية المصرية وهو مصري عريق في وطنيته، أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به لما اشتُهر عنه من الاستقامة والاستقلال.».

ونحن نقول إن شيعة المرحوم الأستاذ محمد عبده ما نبغت من الأزهر، وذكت في ربوعه، إلا لأنها كانت من أصحاب العقول القوية بفطرتها، والأرواح الخصيبة بطبيعتها، ولا تجد من طلاب الأزهر، نابغة ولا عبقريًّا، إلا وكان أول أمره ذا عقل قابل، وذكاء فطري وروح وثابة ناهضة لأن الأنبات الإنسانية الضعيفة، والعقول المظلمة، والأدمغة المعتمة، لا تذكو ولا تطيب في تلك التربة الأزهرية القوية، ولا تتفق مع جوها، ولا تنمو تحت قبتها، بل إنها لتزداد كلما بقيت ضعفًا وتأودًا، وكلما سُقيت من سقي ذلك المعهد ورُويت من ريِّه أسرعت إلى الزبول والاضمحلال، أما الذين يعيشون في جو الأزهر من الأقوياء طبائع وأذهانًا وأرواحًا، فلا ينون في ذلك المعهد يزدادون قوة على قوتهم، وذكاء على ذكائهم لأن الأزهر يخدم النبوغ، وإن لم يكن فيه من هذا النبوغ مادته، وينضج الذكاء الفطري، حتى يكون منه العقل الجبار، والذهن العبقري، وإن لم يكن يعمل على إيجاد هذا الذكاء. والأزهر لا يفيد إلا أهل الاستعداد، ولا يصلح إلا للقابلين للنبوغ والرقي.

فلا عجب بعد ذلك أن نرى الأزهر مقلًّا من إخراج الثمار الطيبة الصالحة: على كثرة عديد طلابه: وألوف الدارسين فيه، وإذا ما أخرج الأزهر يومًا عبقريًّا واحدًا: فلا تظن أن المدارس كلها مستطيعة أن تُخرج آخر على شكله وغراره، وهل كانت مدارسنا قادرة على أن تُخرج رجلًا على نحو الأستاذ الإمام ومثاله، وأنت إذا رجعت إلى الأزهر واطلعت إلى إحصائيات طلابه لألفيت عدد ما يذبل بين جدرانه، ويذوى بين حيطانه يربى على المئات، ويسمو على الألوف، ثم إذا أنت نظرت إلى عدد النوابغ من خريجيه والعبقريين من طلبته: لما وجدتهم إلا نفرًا قليلًا.

هذا؛ ولا غرو أن يسمي اللورد كرومر شيعة الأستاذ الإمام بفريق الجيروند في النهضة المصرية؛ إذ كان الجيروند هم حزب طلاب الإصلاح في إبان الثورة الفرنسية، وهم المعتدلون الذين كانوا يريدون إصلاحًا لا يلطخه دم، ولا يشوبه قتل ولا جرم، وهم العقلاء من دعاة الملكية الدستورية، لم يطلبوا أن يُطاح برأس ذلك الملك المخلص الضعيف، ولا أن تدق عنق تلك الملكة الغر الطائشة؛ وإنما يريدون حق كل فرد عند الحكومة دون أن يستعدوا عليها قوة ذلك الفرد، ولولا «الجبليون»٢ المتطرفون ولولا المجازر التي أقاموها والدماء التي سفحوها والنفوس التي أسالوها: لما كان للثورة الفرنسية ذلك الاسم المرعب، والتاريخ المخوف الرهيب، ولا تجد الثورة إلا لنشبه الداعي إليها في كل أطواره وحالاته، فليست الثورة الفرنسية إلا لتحكي چان چاك روسو في كل أحواله الطبيعية، ومزاجه الثوري: وعواطفه الحارَّة المضطربة: والداعون إلى الثورة يبدأون بطلب حق مهضوم، وينتهون بأن يصبحوا لحقوق غير حقهم هاضمين، وهل ترى روبسبيير ومورات ودأنتون٣ كانوا يُقتلون ويُذبحون إلا لأنهم يريدون أن يستخلصوا حق الشعب من الأرستقراطية والكهنوت، لا ليردوه للشعب ويعيدوه، بل ليستفردوا هم به وحدهم، ولعل الشعب في الثورة وتحت الجمهورية الأولى، كان أسوأ حالًا منه تحت الملكية، فلما جن روبسبيير بالسلطان، وأذهلت لبه مشاهد الدماء، وذهبت بعقله روعة «الجلوتين» أراد الشعب على دين جديد ينسخ به الدين القديم، وأسمى دينه ذاك «عبادة المخلوق الأعلى»، وما كان المخلوق الأعلى في هذه العبادة إلا روبسبيير نفسه، فهل كان هذا من حقوق الشعب المهضومة؟
ولذلك لا نجد طلاب الثورة في أكثر الأحايين إلا طلاب المآرب وإذا لم يكونوا بادئ بدء طلاب مآرب، فإن الثورة جاعلتهم٤ ولا ريب كذلك والمترجم به في صف أولئك العبقريين كبار النفوس المنضوين تحت ذلك اللواء الذي يحمله في طليعتهم جون ملتون، الشاعر الإنجليزي الخالد، وهو «أعطني حرية القول، وحرية التفكير، وحرية الضمير، ولا تعطني قبل ذلك شيئًا» وإنك لتسمع من كل فم، وتلفى على كل شفة، اسم صاحب الترجمة مقرونًا بتلك الصفة العظمى، والسجية الكبرى ونعني بها حرية الرأي وصراحة القول والمبدأ، يرى الطبيعة التي فطره الله عليها شرعًا إلهيًّا مقدسًا ينبغي أن لا يغير فيه الناس ويبدلوا، ولا يمحوا فيه ويثبتوا.

وما كان الرجل العظيم إلا ليدلي برأيه أمام العالم كله: وإن اجتمعت أمته وأمم الأرض جميعًا على مخالفته في ذلك الرأي وأنت فلا تسمع لأولئك الذين يقولون: إن صوت الشعب هو من صوت الله، فلعله في أكثر الأحايين من صوت الشيطان وضرورة الحكومة الخارجية للإنسان لا تكون إلا على نقيض نسبة القوة التي يستعين بها الإنسان على حكومة نفسه، فإذا استكملت الثانية واستجمعت، قَلَّت الحاجة إلى الأولى ونقصت، ومن ثَم كلما ازدادت الفضيلة بضروبها وفروعها: ازدادت الحرية وعمت، والرجل الذي يقذف بأغراض الناس وآرائهم ويعمل بإرادته لا بإرادتهم، ويفكر بذهنه لا بأذهانهم، ليس إلا رجلًا تنزلت الإلهية على قلبه وصَفَت مشاعره من شوائب الحيوانية، وتنزهت عواطفه عن نقائص البشرية.

وترى الرجل العظيم يجهر عالي الصوت برأيه في يومه، فإذا جاء عليه الغد، أعلن رأي غده في مثل جهارة صوته، ورفعة روحه، حتى وإن نقض رأي الغد رأي أخيه الأمس، لا يحفل بأن لا يفهم الناس من أمره شيئًا.

وهل فهمت الإنسانية كلها في جميع أجيالها فيثاغورس وسقراط ولوثر، وغاليليه ونيوتون، وكل مَن على شاكلتهم من كل ذي روح نقية حكيمة ركبها الله في جسم ودم. والعظمة أخلق بأن لا تطلب الوضوح للناس، وأحرى بأن تدق على أنظار صغار الناس، وتغيب عن أفهام عاديي الرجال، وكل ما ترى من عظمة العظماء، ونبل أرواحهم وصراحة أفكارهم، وحرية ضمائرهم، ربيب العزلة، ووليد الابتعاد عن غمار الجماعات؛ إذ كان المجتمع في كل مكان يعمل على قتل رجولة كل فرد من أفراده، وما المجتمع إلا شركة مساهمة يدفع لها كل عضو من أعضائها حريته وفكره ثمنًا لسهمه، ولا ينال من أرباح هذا السهم إلا خبزه وطعامه وأمانه، ولذلك كان عظماء العالم ومفكروه وقادته وعبقريوه هم الذين نشئوا بعيدين عن المجتمع، خارجين على قوانين هذه الشركة الغابنة رافضين أرباحها وسهامها، عاملين على إفلاسها، وإصلاح موادها وبنودها، وإن أكبر مزايا المفكرين والعظماء، أمثال سقراط، وأفلاطون، وسبنسر، إنهم لم يعتدوا بالجماهير ولا اكترثوا بآراء الناس، ولا بالعادات والقوانين التي يعيش عليها الجماعات، وإنما جاءوا بآرائهم على نقيضها، وأتوا بأفكارهم هادمة لأفكارها.

(٣) قوة الإرادة

نعود فنسترسل في ترجمة هذا الرجل العظيم الذهن، الكبير الروح، المتوثب الوجدان، ونعود فنأخذ في دروسنا الجليلة التي نستمدها من الحياة العظيمة، والشخصية الكبيرة، وما كانت حياة العظيم إلا الجزء الأكبر من حياة الإنسانية نفسها، ولو أردت أن تستلخص تاريخًا حيًّا حارًّا لأمة من الأمم، فالتمِسه في تراجم عظمائها وقائمة أبطالها، ولو أنت تجاوزت ذلك إلى حياة عامة أفرادها، وعادي رجالها، لما كان تاريخك إلا مذكرات يومية بطعام الأمة وشرابها، وشبعها وريها، وحيوانيتها وعجماواتها، وليست تراجم كبار الرجال إلا برامج سامية للجنس، وخططًا عالية للنوع، هى أشد أثرًا في تطور الإنسانية من الفلسفة والعلم، وابتكارات الذهن، ومخترعات العبقرية، لأن هذه لا تهذب نفوس الناس، ولا تطهر من أخلاقهم، ولا توقد من وجداناتهم، بل إن الفلسفة والعلم والآداب والمبتكرات في كل يوم تقتل نفسها، ويمحو اليوم منها ما يثبت الأمس، وأما حياة العظيم، فلا تني تخلق عظيمًا مثلها أو أشد عظمة، وهي بعد مطهرة لدهماء الناس، مهذبة لأخلاقهم ووجوه الحياة عندهم، وما كانت حياة نابوليون إلا نسخة أخرى من حياة هنيبال أو الإسكندر، بل كم خلقت ترجمة نابوليون من نابوليون صغير، له روح نابوليون العظيم ومشاعره وليست له قوته، وليس له حظه.

•••

تكلمنا فيما مضى عن نواحي شتى من شخصية سعد زغلول باشا ومزايا عظمته ونحن اليوم ذاكرون شيئًا من قوة عزيمته، وقوة دأبه وإرادته، فمن ذلك أن المترجم به تعلم اللغة الفرنسية، وهو يكاد يناهز الأربعين من سنه، ولم يلبث غير قليل حتى حذقها، وأتقن معرفتها، وبلغ من إلمامه بها، أن أدى الامتحان بها في علم الحقوق وهو قاضٍ في الاستئناف، ونال بذلك شهادة الليسانسييه. وأنت ترى من ذلك أن هذا الرجل الكبير كان ينزل عن منصة القاضي ليجلس مجلس التلميذ، وذلك لأن العظمة لا تخجل من أن تستخدم ما تحتها في سبيل كماليتها، وأن الشاعر العبقري لا يضيره أن يجالس البغي لكي يستعين بتحليل نفسها على الإبداع في قصيده وخواطره، والفيلسوف لا تسمو نفسه عن أن يماشي السكير لكي يدرس طبائعه وعوارضه، والبحاثة العالم لا يترفع عن أن يصحب السوقة ليكونوا مادة له في بحثه وتفكيره، والناس كلهم طلاب معرفة، وأشدهم في طلب المعرفة نوابغهم؛ لأن المعرفة في التعريف الفلسفي، هي ضرب من القوة.

هذا؛ ولقد كانت الإرادة القوية عاملًا من أكبر العوامل في تطور العالم وارتقائه، وازدياد وسائل المدنية وأساليبها ومستلزماتها، فهي التي رفعت الإنسانية من ظلمة الخمول وحمأة الانحطاط، هي التي كشفت العالم الجديد، وفتحت مجاهل العالم القديم، وظهرت على متن العالم الجليد٥ هي ذللت الكيمياء الحديثة وأحماضها، وهي أخرجت مكتشفات الطب الجديد وجراثيمه وأدويته ومضاداته، وهي اخترعت عجائب الطيران ومدهشاته.

ولا أحسب الرجل الذي يحاول اختراق الطريق مسرعًا فتدهمه العجلات كان يعجز عن بلوغ الجانب الآخر، لو لم تتعطل فيه قوة إراداته، فعطلت فيه قوة ساقيه، ألا ترى اللص الهادئ، يعدو والشرطي في أثره، وإذا به قد وقف بغتة عن عدوه، وكان سابقًا الشرطي بالمسافة البعيدة، ذلك لأن قوة الإرادة فيه قد اضطربت، فاضطرب لها مجموع جسمه.

إن أمام الإرادة القوية الوثابة لا تتطاول صعاب الأمور وعسيراتها ولا تستكبر عظائم الخطوب وجليلاتها، بل إن اجتياز نابوليون هضاب الألب وجباله، وثلوجه وشعابه، هو الذي علمه أن يقول إن كلمة «مستحيل» ليست في اللغة.

(٤) من القاضي إلى الوزير

ننتقل الآن من ترجمة القاضي إلى حياة الوزير، ونترك منصة القضاء إلى مسند الوزارة، وليس في أعمال الجمعية البشرية عمل هو أخطر من عملها، وليس بعد الصحافة كما يقول اللورد روزبري من وظيفة هي أشق ولا أكبر مكانًا منها، وما كان في أبهة هذا المنصب وعظمته وضخم أعطيته ما يغني عن متاعبه ومشاقه وأخطاره، وأنت لا ترى الوزارة تجعل من الرجل عظيمًا، ولا تخلق منه نابغة، بل هي تحبوه ليس غير بالعطاء الكبير واللقب العظيم والمركب السني، وهو الذي يعلو بالوزارة ويهبط وينحرف بدفتها ويستقيم إذ كانت الوزارات مقاييس حرارة لرجالها، وموازين دقيقة لكفاءات أربابها، هي التي تريك مقدار الجزء الإنساني من الوزير، وتشعرك بمبلغ الشعور الأهلي في الحكوميِّ، وتُفهمك مقدار علمه بالنفسية الأمية، والوجدانات القومية؛ إذ كان حقًّا على الوزير أن يكون عليمًا بسيكولوجية الشعب وشعوره، ومطالبه ومراميه، وطبائعه ومزاجه، وهل كان جراي ودلكاسيه وأشباههما إلا من أكبر علماء النفس، وأعظم الملمين بروح الاجتماع وأسراره؛ ذلك لأن الوجدانات الأهلية أشبه بالوجدانات الطفولية، سريعة التحول، متناقضة المبادئ ضعيفة الاستنتاج، قابلة للتأثير، خوَّارة أمام الشخصية الحكومية الكبيرة، ولذلك كان من الوزير الكبير أن يحتال لعوارضها ويتحصن من تقلباتها، ويعمل على مصانعتها وإظهار شخصيته عليها، ولذلك كانت الوزارات قصيرة الأعمار سريعة السقوط، مستمرة التجديد؛ إذ على قدر معرفة الوزارة بنفسية شعبها والعمل على مطاوعة هذه النفسية ومواتاتهما يكون عمر الوزارة من القصر أو الطول ومكانها من الاحترام في التاريخ.

كان انتقال صاحب الترجمة من محكمة الاستئناف إلى وزارة المعارف من أكبر العوامل في حياته فقد أخذت شخصيته القوية من ساحة القضاء لتعرض في ساحة الأمة، ولم تعد تلك الفضائل الإنسانية العظيمة التي تنطوي عليها روحه تبدو فقط للمجرمين والمتهمين وأرباب الظلامات، وذوي الحقوق المضيعة والشكايات، بل هنا جعلت تتجلى للجميع، وهنا بدأت حرارتها تزداد، ونطاقها يتسع، وأثرها يعظم ويطول، لأنها تريد أن تشمل كل فرد في الأمة وتعم المجتمع المصري بجملته، ولقد كانت وثبته من مرتبة القاضي إلى كرسي الوزير دليلًا بيِّنًا على علو شأنه، ورفعة روحه؛ لأن الامتياز باستقلال الرأي واحترام الذات والبُعد عن الزلفى والملق لأصحاب السلطات، كان كفيلًا بأن يأخذ بيده إلى منصب سامٍ لم يكُن يومذاك يفكر فيه أو يطلبه، بل أعجب ما في ذلك أن المترجم به حتى يوم تعيينه في الوزارة كان أبعد الناس عن فكرة مفارقة وظيفته التي ألفها واطمأنت نفسه إليها وحبس آماله وكفاءاته عليها، وأنه لما ذُكر نبأ تعيينه الجديد حسبه مزاح مازح ودعابة مداعب؛ ذلك لأنه كان قليل الاختلاط بالقابضين على أزمة الأمور، في معزل عن أولي السلطة والنفوذ مخلدًا إلى وظيفته يخلص إليها ويتوفر على إظهار نبوغه فيها، وليست هذه الحادثة إلا أمثولة طيبة، جديرة بالعظة، خليقة بالاعتبار، هي مقياس لنتائج الخلق الكريم، والذهنية العظيمة، والروح العالية، فقد كانت سنة الرقي من وظيفته التي كان بها أن يدرج منها إلى وكيل للمحكمة فرئيس لها فوكيل للوزارة حتى ينتهي إلى الوزير، وكان في البلاد كثيرون من هؤلاء هم خلقاء برتبتهم وألقابهم ومناصبهم بأن يظفروا بالمنصب دونه، ولكن المزايا الذهنية والروحانية التي نبغت في سعد زغلول بك٦ كانت بحيث تحتاج إليها الوزارة أكثر من المحكمة، وكانت باعثة على هذه الطفرة السريعة، وسترون مما سننشره من أعمال المترجم به في وزارة المعارف أن ذلك الانقلاب في سنة الرقي الحكومي، جاء بالخير العظيم للأمة والإصلاح العلمي الكبير، وكثيرًا ما يكون الانقلاب السريع خيرًا وأفعل أثرًا من التطور الهادئ البطيء.

وقد كان دخول سعد زغلول بك الوزارة عنصرًا حيويًّا جديدًا في الحكومة إذ كانت الوزارة الفهمية قد ظلت إحدى عشرة سنة وأشهرًا وهيئتها على حالها لا تغيير ولا تعديل، وكانت وزارة المعارف تحت المرحوم حسين فخري باشا يشرف عليها وهو في وزارة الأشغال، كعمل هين إضافي، فكانت وزارة المعارف بحاجة إلى قائد يبث فيها روحًا حارة، وذهنًا كبيرًا نشيطًا، ويسير بها في طريق الإصلاح السديد، فلم تجد الحكومة لها أكفأ من المترجم به فعينته.

الرطانة ما جعلهم وسطًا بين المغاربة والمشارقة، وقد كان لسعي ذلك الوزير القوي الروح الكثير الشخصية فضل على الدين؛ لأن اللغة العربية هي لغة الإيمان ولسان القرآن ولو ضعفت مكانتها لعدا بسوء حالها على العقائد، ولو تردت عن سموها لتردت المبادئ الإسلامية من سمائها، ولكن أبت عظمة الرجل عليه إلا أن يرفع مستوى اللغة، ويعلي مكانتها ويمشي بأدبها إلى الظهور، ولعل رقي أساليب الكتابة في السنين الأخيرة وعناية المتأدبين بالأدب وكثرة الكُتَّاب المجيدين من الشباب واحتفال الأدباء بالتجويد واختراع المعاني وبراعة المناحي كل أولئك من آثار تلك الخطة التي أنفذها سعد باشا وأخذ على نفسه العهد إلا أن ينجزها.

ونحن نعلم أن مكان الوزير في وزارته لا يزال موقفًا حرجًا وموطنًا مستنفدًا الصبر، ضيق المضطرب إذ تمتد حوله الأيدي، تغل يده عن عمله إذا أراد عملًا، وتغلق مفاتيح السعي إذا ابتغى سعيًا، وتضع له من العقبات في طريقه ما يسد عليه السبيل ويحميه السنى.

وكانت وزارة المعارف هي الوزارة التي لا يكون فيها الوزير إلا حامل خواتيم وواضع توقيعات، وممهر رسائل ومكاتبات وهو حاجب من الحُجاب على وزارته، وكبير في مظهره وإن كان صغيرًا في حقيقته، ولكن إذا وزر سعد عليها وألقيت إليه ودفع إليها وهو يعلم ما كان من الوزراء قبله وما حظ الوزير منها اختط الخطة لنفسه لأن العظمة تأبى أن تصغر دون ما هو أهل لها وتنكر على نفسها أن تضؤل فتكون في يد الناس آلة، وفي خدمة القوم أداة.

والعظيم لا يتطامن للأكاذيب وإن لبست ثوب الحقائق ولا يسكن للتمويه وإن ارتدى بردة اليقين؛ لأن العظيم إنما يأخذ من نفسه ولا يرضى أن يأخذ الناس من روحه، ولخير له أن يفقد الناس جميعًا أرواحهم، وتعيش الدنيا بلا أرواح من أن يفقد روحه، ويسيء إلى ضميره، ولو أكره الناس عظيمًا على مكان خفض ومركز مهين، لما رضي أن يسلك فيه، ولو تقبله لرفع من شأنه، وطهر من مقاذره، وهذب من حواشيه، وجعله عليًّا ساميًا، حتى يوازن بين عظمة نفسه وعظمة المكان الذي هو فيه.

فلا تعجب إذن إذا علمت أن بطل هذا التاريخ كان في وزارة المعارف الوزير العامل المنفذ لإرادته، المحتفظ بشخصيته، وأنه أطلق نفسه منذ ذلك الأسار الذي ارتضاه الوزراء قبله وبعده، وتحرر من السلطة التي عاهدت نفسها إلا أن تحتكر كل شيء دون الوزير ويده، وتخلص من تلك الشورى العنيدة التي هو في غنى عنها، وقبض على أزمة الوزارة وأشرف على جميع شئونها، حتى أصبحت السلطة كلها في يديه يصرفها كما يشاء عقله الكبير، وذهنه الجبار، ويقلبها على الوجوه الصالحة التي ترتضيها رويته وحكمته ورزانته.

وكان سعد بعد كل هذا في وزارة المعارف الوزير المصري الأوحد الذي عرف كيف يكون جليلًا أمام تلك السلطة الإشرافية، رائعًا أمام النير الذي يحوطه، قويًّا أمام الذين يريدون أن ينقصوا من قوته، فكان عهده في وزارة المعارف، عهد خير وإصلاح، ومقدمة تهذيب ورقي.

(٥) في الوزارة السعيدية

في عام ١٩١٠ انحلت الوزارة البطرسية على أثر حادثة الورداني، فتألفت وزارة سعيد، فأصاب فيها سعد وزارة الحقانية، ونحن لسنا في مقام الكلام عن تلك الوزارة، ولا بسبيل أولاء الرأي التاريخي عنها؛ لأن ذلك فريضة المؤرخ العام، ودأب المتصدين له، ولكنا نجزئ القول فنقول: إن سعيدًا وثب من الجماعة التي نهض في صفوفها سعد، وهي جماعة القضاء، وأساطين القانون، ولو كان يحمل في جوانحه البذور الصالحة للأجل العظيم لكان، ولو كانت تضطرب في حياته روح النزاهة، وحمية الإخلاص، ووفدة الصدق، لظهرت في وزارته وتجلت في سيرته، ولكن سعيدًا أوتي ذهنًا طيبًا، وذكاء لا بأس به، ولكن لم يؤتَ قلبًا جميلًا، ولم تمنحه الطبيعة العاطفة القوية، ولم تبذر في فؤاده البذور الشريفة الناهضة السامية.

وأنت ترى أن في الناس عظماء أذهان، تنهض على قلوب من الطين، وأفئدة من الآجر، وعظماء أرواح، لا قوة لأذهانهم، ولا عظمة تمتزج بألبابهم، على حين تجد أقدر العظماء وأقلهم عدادًا، منهم عظماء أرواح وأذهان معًا، وهؤلاء لا تسرف في خلقهم القوة الإلهية، ولا تفرط في حشدهم للدنيا والإنسانية، وإنما تبعث الفرد منهم على فترات الأجيال، وعلى هون من القرون والأعوام، ليتم الغرض المقدس الذي أرادت أن تنفذه في هذا الكوكب الأرضي، فأما عظماء الأذهان الذين تنهض أذهانهم الجبارة على قلوب ضعيفة متأودة مريضة ملوثة، فهؤلاء أقرب إلى الشر منهم إلى الخير، وأنعر مما يطلب عظمة الروح، وذكاء القلب، وأجنح إلى ما يجتمع فيه الدهاء والخسة، ويلتقي فيه الخداع وألاعيب العقل، بالصغار والحقارة، ثم أليس في اللصوص عظماء أذهان، وأليس في المحابس مجرمون من كبار العقول أهل البديهة الحاضرة، والمهارة الذهنية الغريبة، وما ساق بهم إلى غياباتها إلا أن ذكاءهم لم يجد سلطانًا عليه من أرواحهم، وإن عقولهم لم ترَ ضابطًا يضبط زيفها ويقتل إغراءاتها، ويطهر من أدرانها، ويمحو من ضلاتها، على أن خارج حيطان السجون، وجدر المحابس، من هؤلاء الأذكياء الضعفاء الأرواح الذين يجرمون في كل يوم عن كثب من القضاء، وجهل من الشرطة، ويحشدون من خدائع العقل وسقوط الوجدان، ما لو اضطلعت عليه لوليت منهم فرارًا ولقلت إنهم أحق بالسجون ممن في غياباتها ودورها وحجراتها.

ومن هذا يتبين لك أن عظماء القلوب هم الذين يملأون الدنيا خيرًا وهم جمال العالم وزين الخلق وهم الملائكة الأرضيون ورسل الصلاح الطهرة الأبرار، أما عظماء الأذهان فهم الذين يملأون الدنيا دموعًا ويرسلون في جوانب الحياة عبرات، وهم أكثر الناس إحداثًا للشر وإخراجًا للأذى؛ لأن العظمة الذهنية الخلو مما تعتمد عليه من الروح الشريفة لا تزال نقمة على الناس وحربًا على أهلها.

إذا أدركت ذلك فاعلم أن الوزارة السعيدية كانت رأسًا بلا قلب وكانت دهاء «بلا ضمير» ولذلك عاشت أعوامًا أربع أو نحوها ولو وزنت بمقدارها وقدرت لها السن الواجبة لما عاشت إلا أيامًا أربع أو ما دونها.

وعجيب أن يعيش سعد في تلك القطعة من الأمن وهو في عظمة ذهنه وروحه تحت وزارة لا تعيش إلا برأسها وتسعى لصالحها وصالح الذين يشرفون عليها دون صالح الأمة التي تقلدوا مقاليد الحكم فيها، ولكن لعمري ماذا يستطيع أن ينقض سعد وحده ما يبرم الرئيس وصنائعه من وزرائه، وماذا يجد من القوة لمحاربة الضعف والمهانة التي حشدت حشدها بين زملائه، ونحن نعلم أن الشر قد يستطيع زمانًا أن يطفئ لمعة الخير وقد يسوق الخير في أزياله ويحمله فوق ظهره، ويلبسه لبوسه ويقنعه بترك أمره، على أنه وإن اشترك هذا الرجل العظيم مع الوزارة السعيدية فيما أحدثت من النكر وجاءت به من الأذى، فلا نرى له أبدع شفاعة من صراحة ولا نجد معاذير خيرًا من معاذيره إذ قال يومًا في موقف مشهود في الجمعية التشريعية: «أعترف أني وأنا وزير قد عملت بحسن نية وإخلاص عملًا لو عُرض عليَّ اليوم لكنت أول المعارضين فيه، فقد عرض عليَّ قانون المطبوعات فعارضت فيه أولًا، ثم لم ألبث أن وافقت عليه واشتركت في تطبيقه لظروف بررتها في ذلك الوقت أمام نفسي وها أنا اليوم نادم على ما فعلت بالأمس — «وقال أيضًا» «كنت قاضيًا وكنت وزيرًا وها أنا اليوم عضو بينكم في الجمعية التشريعية وأحس من نفسي بأن شعوري كان يختلف باختلاف تلك المراكز جميعها، وأني ربما كنت أرى الرأي في حالة ثم أرى غيره في حالة أخرى، ومع ذلك فقد كنت حَسن النية في جميع الحالات، فلا تهولنكم أشخاص الوزراء ولا الفضل الذي تعرفونه عنهم فقد تتغلب عليهم مراكزهم فيعملون بحسن نية ما يظنون أن فيه فائدة للأمة وهو ليس كذلك.».

هذه هي العظمة التي لا تأنف من أن تعلن عن هناتها، وتشرح للناس هفواتها، لأن العظماء يرون أنهم أكبر من أن يدعوا أن الخطأ لا يداخل عملًا من أعمالهم، وأن الهفوات ليست منهم وليسوا منه، وإنما صغار الناس والمتكبرون الطائشون هم الذين يكبر عليهم أن يعترفوا بخطأ أو يكاشفوا الدنيا بهفواتهم؛ لأن حياتهم سلسلة من الأغلاط وتاريخهم هو تاريخ الخطأ الإنساني كله ولا تجدن عظيمًا يبيح لنفسه أن يبرئها من الزلل؛ لأنه يعلم أن تلك صفة لم تقع للجنس الإنساني وإنما اختصت بها القوة الإلهية.

وكذلك سقطت وزارة سعيد في عام ١٩١٣ فاعتزل سعد منذ ذلك العهد المناصب الحكومية ووقف بعد ذلك مواقفه عن الأمة، فكان تاريخه فيها أنصع من تاريخه في حياته الحكومية.

(٦) نائب الأمة في الجمعية التشريعية

لم يلبث بعد أشهر قضاها صاحب الترجمة مخلدًا إلى العزلة بعيدًا عن ضجة الحياة السياسية، أن أنشئت الجمعية التشريعية فكان فيها العضو المنتخب عن الأمة بجانب العضو المنتخب عن الحكومة وقد ظفر بذلك المنصب على رغم أعدائه.

ونال هذا اللقب بعد أن دُست الدسائس لحرمانه، وتألب الخونة وصغار النفوس والمارقون المالقون، وأرادوا أن يحولوا في الانتخابات بينه وبينه ولكن الحق أبى إلا أن يدفع الباطل، فوقف الرجل مكانه العظيم المشهود في تاريخ الجمعيات البرلمانية وجال في الجمعية التشريعية جولته والذين اطلعوا على ما كان يجري من المناقشات في تلك الجلسات ورأوا سعد زغلول خطيبًا وشهدوه قائدًا من قواد الإنسانية العظماء، رأوا ثم قلبًا يتدفق على فم سحري عذب، ومنطقًا متينًا جياشًا بليغًا، ودفاعًا مستمكنًا حارًّا ملتهبًا.

ويلوح لنا أن للخطيب البليغ فضلًا على الكاتب البليغ؛ لأن الكاتب يستطيع أن يجد من زمنه وجلوسه إلى مكتبه حول كتبيه وتواليفه ومراجعه ومعاجمه المكنة التي تعينه على العناية بمعانيه والاحتفال بأسلوبه، ولكن ليس للخطيب البليغ إلا مكانًا بين لسانه وجنانه يربط سلسلة أفكاره ويوازن بين معانيه وليس لديه من الزمن ما يمكنه من ذلك.

ولولا القوة الخفية التي تدعى إلى الخطيب بالمعاني الثرة المستفيضة ولولا الوحي الذي يتنزل على قلبه وهو في موقفه الرهيب، ولولا أن الخطيب إنما يتلقى معانيه وآراءه جاهزة من يد الطبيعة مفصلة تامة من لسان الكون لما استطاع خطيب أن يقع في قلوب السامعين أو يريد القوم على ما يريده منهم وقد وعيت جميع ما أتاه به صاحب الترجمة وما جاء في عرض أحاديثه وخطبه ومواقفه السياسية فما هزني منها ولا راعني من ناحيتها إلا مبدأ واحد وفكرة فذة؛ وهي أن سعد زغلول رجل ديموقراطي النزعة حريُّ المبدأ، ولعل تلك الكلمة العظيمة التي ألقى بها إلى أعضاء الجمعية التشريعية … وهي … يجب أن لا نكون ملوكيين أكثر من الملك «هي الشعار الذي يوحي إلى الناس الدليل على تلك النزعة، وهي شاهد حق صادق على استمكان تلك العاطفة من فؤاد الرجل ومبلغ أثرها في لبه.

ويظهر لي من إضعاف كلمه وآرائه أنه رجل منطقي لا يستهويه الشعر ولا يجب أن تمتزج الأفكار الشعرية الهوائية؛ بالحياة لأنه يعتمد على الحقائق ويرى أنها العنصر الواجب في حياة الأمم، ولا يميل إلى التأثير على الناس واجتذاب القلوب من ناحية العواطف ولا يستخدم لغة الأفئدة، وإنما أكبر ما يحتفل به في التأثير على الناس أن يسرد لهم الحقائق ويجيء إليهم من ناحية العقل؛ إذ يخشى أن تروح لغة العواطف في بعض الأحايين لغة كاذبة، وزخرفًا باطلًا؛ لأن أكثر ما تغتذي القلوب من الخيال والأوهام، وأما العقول فلا يصح لها ولا يجمل لديها إلا الحقائق والمشاهدات والنظريات الثابتة.

ولعل صاحب الترجمة اكتسب هذه النزعة الطيبة من كثرة قراءته كتب القانون، وتوفره على درس الكتب المنطقية وجلوسه إلى رجال القضاء، وامتزاجه بالمفكرين والعقليين، ولا تحسب أن ذلك حائل دون الرجل والأسلوب الرقيق، الذي يتغلغل إلى صميم القلوب، ويأخذ بأعنة الأفئدة، بل لا يزال الرجل عذب المنحى في خطابته، سلس التعبير، يدعو البيان فيجيبه، وتتدفق المعاني على شفتيه في ألفاظ رقيقة تجمع نفسها من حرارة وجدانه، والتهاب مشاعره، وصدق طويته.

وما علمنا قبل اليوم زعيمًا سياسيًّا في هذا البلد تلتقي في خطابته رقة الأسلوب بحلاوة المنطق، إلا مؤسس النهضة المصرية، البطل مصطفى كامل باشا، وهذه مزية لا بد فيها للزعامة، ولازمة لا غناء لقواد الأمم، وأبطال الشعوب عنها، وإلا فقدوا جزءًا عظيمًا من نجاح مهمتهم، وكان افتقارهم منها خسارة كبرى وعقبة قد تقف في طريقهم، وفي الناس كثيرون من المفكرين أو السياسيين كانوا على خصوبة أذهان وقوة تفكير، ولكن وقف بهم أنهم عجزوا عن أن ينادوا في الجماهير بها، وحال بينهم وبين الخلود حرمانهم من هذه الموهبة الإلهية.

وظل كذلك صاحب الترجمة رائعًا في كل موطن من المواطن العصيبة في ندوات الجمعية التشريعية، يناضل عن موقفه، ويحارب عن إخلاص في سبيل المهمة التي أنابته الأمة عنها لها، حتى حق عليه أن يقول صادقًا، كلمته الكبرى التي فاه بها في تلك الجمعية، لست آلة في يد أحد غير نفسي! …».

فلما انتهت الجلسات في دور انعقادها الأول لم تلبث الظروف أن تغيرت، ووقعت من الأحداث الغريبة ما أوقف سير تلك الجمعية، إذ أعلنت الأحكام العرفية بعد نشوب الحرب بزمن يسير، وذلك في شهر نوفمبر عام ١٩١٤ فعاد سعد زغلول إلى العزلة وأخلد إلى الحياة الهادئة.

(٧) في حياة العزلة

نشبت الحرب الكبرى وتغيرت الحكومة المصرية من خديوية إلى سلطنة وعُين الأمير حسين كامل يومذاك السلطان الأول، وبقيت الوزارة الرشدية العاقلة الرزينة تعمل باحتراز وتتخذ طرائق تمشي بها في تلك الملمة السياسية العصيبة، واعتقلت السلطة العسكرية البريطانية خلقًا كثيرًا من مختلفي الطبقات فذهبت بهم إلى المنفى وتقطعت الأسباب بالذين نُفُوا في الغرب وحِيل بينهم وبين بلدهم العزيز

وفي وسط تلك الزوبعة السياسية الهوجاء كان رجل عظيم في ركن من هذا البلد يعيش معتزلًا الدنيا ناعمًا في ظل الوحدة هادئًا لا يعبأ بالقلاقل التي حوله ساكنًا لا تنفذ إلى جنابه الضجة ولا تثيره الضوضاء ولم تمسسه السلطة العسكرية بسوء، ولم تفكر في اعتقاله لأنها رأت أمامها رجلًا عاقلًا تتخذ على نفسه عهدًا أن لا ينهض بشر ولا ينهد من سكونه في خلال الحرب، وعلمتْ أن لا خطر عليها وعلى نواياها وأغراضها وخططها وطرائقها منه في عزلته؛ لأنها أدركت أن الرجل العظيم لا يعمل في خفية ولا يتستر على ما يعمل ولا يدس الدسيسة في المكامن وينجز مهماته في الخفاء، ولذلك لم تشأ السلطة العسكرية أن تحرمه حريته بل تركته لشأنه فلزم داره وأخلد إلى بيته، ولكن رجلًا مفكرًا عاش طوال عمره على الجهاد والدأب لم يكن يستطيع أن يدع نفسه بلا عمل أو يستنيم للقعود والعطل؛ لأنه يعلم أنه ولا ريب لا يلبث أن يصدأ ويفقد لمعته وبريقه لأنه من معدن حساس رقيق لا يطيق صبرًا على برودة السكون والعيش في ظلال الخمول.

وإذ ذاك رأينا الرجل الذي شهدناه في الرحلة الرابعة من عمره يجلس إلى درس اللغة الفرنسية، وينكب على تفهم أسرارها وقواعدها قد عاد في الحلقة السادسة وهو يحطم الربيع الخامس والخمسين فأمسك بالكتاب يتهجى في لغة جديدة ويفك الخط في حروف لم يعرفها من قبل، وراح يتعلم اللغة الألمانية ويطالع كتبها الأولية حتى ينقذ ذهنه الكبير من برودة الفراغ ويخلص روحه من مفسدة التبطل وحتى يعرف طرفًا من لغة هذا الشعب الذي وثب في هذا العصر فقذف بالعالم كله في شعلة نار عظيمة أحرقت جميع نشاط الدنيا، وهدمت الحضارات، وجاءت بأفكار جديدة، وأنشأت عصبة الأمم، وأخرجت ذلك الأستاذ الفيلسوف الإنساني الخالد، الرئيس ويلسون وهو يحمل رسالة جديدة من الوحي السياسي، ويصرخ في العالم بنداء رفيق، وينادي الدنيا إلى مبادئ سامية عالية، ويريد أن يقتل شبح الحرب من الأرض، وينشئ السلام العام المقيم، ويخرج الشعوب الصغيرة من أسار الاستعباد، ويرد الحرية إلى الأمم الصغيرة والكبيرة على السواء.

فلما وقفت رحى الحرب وخمدت شعلة القتال، وتهادن الأعداء، ومشى الجمع بكلمة الهدنة في الصفوف واللواء، لم يلبث المترجم به أن قذف بكتاب اللغة التي كان يتعلمها جانبًا ونهض مجفلًا من سكونه على هذا الصوت الأجش العميق الذي تردد في أركان العالم بأسره، ووثب وثبته من عزلته؛ إذ علم أن الفرصة قد جاءت وكان منها على مرتقب به، وأن السانحة سنحت وكان منها على مرصد، ورأى أنه لا يخلق به أن يعتزل العالم وقد سمع ويلسون ومبادئه العالية، ووجد أن أمته حَرِيَّة بأن تظفر بتحقيق أمانيها القومية، قمينة بأن تشترك مع الشعوب المطالبة بالحرية، فجعل يضع المذكرات ويجمع حوله الأنصار والصحابات فلم يلبث أن استقال الأستاذ الكاتب الاجتماعي الخالد أحمد لطفي السيد من وظيفته على رأس دار الكتب السلطانية وانضم إلى الجمع الوزير إسماعيل صدقي باشا، ثم شعراوي باشا، وحمد باشا الباسل، ومحمد باشا محمود، وطائفة من عيون الأمة وأبطالها ومفكريها وقرروا أن يكون منهم وفد يحضر مؤتمر السلام، ويمثل الأمة المصرية وينضح عن قضية الشعب المصري في عصبة الأمم، وكذلك مضوا في عملهم ومشو ا على سننهم غير مزحزحهم خوف أو واقف بهم تردد أو ريب حتى إذا كان الشهر الماضي «مارس عام ١٩١٩» لم تلبث الأمة أن فزعت ونهضت مروعة على نبأ استكت منه المسامع ووقرت له الآذان وكسفت له الوجوه وهو نبأ اعتقال الزعماء الكبار سعد ورفاقه الثلاثة إسماعيل صدقي وحمد الباسل ومحمد محمود ونفيهم إلى مالطة.

ووقعت أحداث ومظاهرات وقلاقل وملمات كان منها أن أفرج بعد أيام عن أولئك العظماء وأجيز لهم السفر إلى المؤتمر فركبوا الباخرة كاليدونيا الفرنسية شاخصين إلى مرسيليا وقد رحلوا هم ورفقاءهم الذين سافرو ا للحاق بهم من مصر إلى باريس في اليوم الثاني عشر من شهر أبريل عام ١٩١٩ وقد أعدوا العدة للدفاع، وحشدوا ما في النفوس من قوة للنضال عن الأمة المصرية أمام سادة أهل الغرب وساستهم والمفكرين والشهود العدول والعظماء المنصفين.

•••

هنا نمسك القلم عن الخوض ونقف موقف المؤرخ المرتقب النتائج المتمهل للحوادث المنتظر دورة الزمن غير مستعجلين القضاء ولا مستقدمين الحكم ولا متكهنين بالنبوءة، وندع للتاريخ حق التسجيل والتدوين، ونرجو أن يعود هذا الرجل العظيم يحمل كتاب الحياة الجديدة ومطالع المستقبل النضير وبواكر العهد الجديد في تاريخ مصر الحديث.

(٨) حياة الأسرة

ما أرحم قلب الطبيعة وأبدع حكمة الكون إذ تهب القوة الإلهية الرجل النابغة والمفكر العظيم الذهن امرأة ذات خلق وسيدة ربة ذكاء تسهم وإياه في عمله الذي أراد الله به أن ينفذ، وتحمل عنه أعباء حياته الخطيرة وتقوم على مواساته ومشاطرته عواطفه ونزعاته، وأنت قد رأيت مما قرأت من سجل المخلدين والنوابغ وأبطال الإنسانية وهداة الدنيا أن العظيم لا غناء له عن المرأة تحمل طرفًا من البناء الذي يعمل على تأسيسه وترسل في ثنايا روحه حرارة النشاط، وتمده بتلك القوة الهائلة التي لا بد منها لعمله، وأن أكثر عظماء التاريخ لم يصيبوا الخلود ولم يظفروا بالذكر الذائع، ولم تتم لهم المقاصد وتنجز الفعال الجسام إلا وكان بعض الفضل لزوجاتهم ونصف العمل موكلًا بنسائهم.

وإن كان التاريخ يخص بالفضل كله الرجال وتروح أسماء النساء معلقات في أذيالهم متضائلات بجانب أساميهم، وتجد آخرين من أهل البطولة جبابرة العقول كانوا ولا ريب ستعتريهم برودة الحياة ويقعون في الخمول وتنحط فيهم مداركهم ويسفون إلى الحضيض ويخسرون الصفحة الناصعة التي أعدت لهم في سجل البررة الأخيار والنوابغ الكبار لو لم تنهض لهم من جوف الأقدار سيدة أو زوجة فحملت عنهم أوزارهم وخففت بيدها البضة جراحهم، وأعدت لهم الخلود مقامًا عليًّا، ولولا أن جوزفين وقعت من حظ نابوليون وهو في نشأته الأولى وشبابه الغض وبواكر عمله ونبوغه لما كان منه نابوليون الخالد الذي دوخ الغرب وثلَّ عروش الأكاسرة ورمى بلاد المغرب في شعلة حرب ظلت أعوامًا طويلة مشبوبة لا تخمد سعيرها؛ حتى لكأنما كانت جوزفين وهي بعيدة عن زوجها بونابرت الشاب المتوقد النشاط وهو في ميدان القتال يرسم الخطط للمعارك، ويضع الطرائق للمواقع هي التي توحي إليه بالوحي، وهي التي ترسم بيده صور القتال وهي التي تجري ريشته على الخرائط في ميدان النزال.

وكانت جوزفين هي التي أحرزت الوقائع الأولى أشباه مارنجو وأخواتها حتى كتبت لزوجها النصر ورفعته إلى مقام الإمبراطور، فلما بشم نابوليون بالسلطان وبلغ الذروة من العظمة وواتاه جميع ما أراد وتحقق له جميع ما اشتهى قامت برأسه نزوة من النزوات الطائشة وتلجلج بخاطره رأي غير صالح؛ إذ مد عينه إلى جعل الإمبراطورية الفرنسية إرثًا من بعده، وود لو أنه رُزق بغلام حتى يكون وريث تلك الدولة وشبل ذاك الأسد، فطلق زوجته جوزفين تلك الروح العالية التي كانت تمتزج بروحه وتوحي إليها أسمى ضروب الوحي، وهي التي كانت تدفع بها إلى النصر وتكتب لها الفخر، فلما فعل ذلك لم يلبث الحظ أن أدبر عنه وتنكر له القدر؛ إذ انطفأ ذلك السراج الذي كان يضيء له الشبهات وأفل من سماء حياته ذلك الكوكب الذي كان يدلج على ضيائه في الملمات، فما أغنت عنه ماري لويز النمسوية ولا سدت مسد جوزفين ولا أرسلت إليه رسل الإلهام مثلها، بل انقطع عنه وحي العظمة وخسر بعد دولته الكبرى جوزفين العظيمة دولته الدنيوية فرنسا المجيدة.

من هذا تعلم أن العظماء لا يزالون بحاجة إلى أزواج نوابغ ونساء على خُلق عظيم، وأن الزوجة الذكية للزوج النابغة هي اللازمة الأولى والمطلب الأكبر، وأن طائفة من العظماء لم تمنحهم الطبيعة هذه المنحة ولم تحبهم بهذه الهبة، بل رُزقوا بنساء شريرات أو زوجات غير صالحات فكن لهم الويل العظيم وفقدوا من جرائهن النعمة الكبرى ففسدت أذهانهم وقتلت عظمتهم، وخسرت الإنسانية شيئًا كثيرًا مما كانت به ولا ريب ظافرة لو أنهم نجوا من تلك الشقوة النكراء. ولا نذكر الناس بحديث سقراط وزوجه فقد كانت السوأة الملعونة في حياته، وكانت شقاءه وكانت مصيبته ونكبته.

•••

إذا وعيت جميع ذلك فاعلم أن المترجم به من صفوف أولئك العظماء الذين منحتهم القوة الإلهية ما منحت به مَن قبله من هداة الإنسانية وأعني به الزوجة الصالحة، فقد تزوج يوم كان قاضيًا في الاستئناف سليلة بيت من أكبر بيوتات الشرف وكريمة بيت من بيوت الوزارة، وسيدة من ربات الذكاء الراجح والعقل الخصيب والخلق الكريم، وهي بنت الوزير الطائر الذِّكر مصطفى فهمي باشا.

رَبَّاهَا أبوها الشيخ الوقور على خير ما يربي العظماء بناتهم، وأدَّبها أحسن تأديب وأنشأها نشأة النبلاء فهي تعرف اليوم الفرنسية والعربية والتركية، وهي بعد كل هذا شريكة زوجها في عواطفه وقرينته في مشاعره وإخلاصه لأمته ومشاطرته في حميته وآماله وعلالاته، وقد كان أهل المغرب يرمون المرأة الشرقية بالجهل، ويقرفونها بالجمود ويتخذون من كلمة «الحريم» معنى الموت في البيت، والقبر في الخدر ويتفاخرون على نسائنا نحن المشارقة بنسائهم معشر المغاربة، ويعتزون بمدنياتهم وآرائهم ويزهون بأن المرأة الغربية هي الوحيدة في بلاد الدنيا التي تشارك الرجل في عواطفه وتنادي بمبادئ المدنية وتسهم في مطالب الحضارة، وتتطالب بالحرية وتشعر في جوانبها الوطنية على أن المرأة المصرية قد راحت اليوم لا تقل عن نساء الغرب في شرف عواطفها ونبل مطالبها، وقد نهضت اليوم تشارك الرجال في أسمى نهضات الشعوب وتشاطرهم أمانيهم القومية، وكانت زوج المترجم به في رأس تلك النهضة وعلمًا من أعلام النساء في هذا البلد وروحًا عالية تجري وروح زوجها العظيم في منحى واحد وتماشيها في سنن عالٍ شريف، وقد اعتُقل زوجها فكانت على ثبات عظيم وقامت بأعبائه بما لا ينهض به أعاظم الرجال، وكانت معبدًا تخشع عنده نفوس الأمة، وكانت منارة عليا ترسل ضوءها السني على الحياة المصرية، وقد كانت تلقى الوفود بالتشجيع والحمية حتى أعلنت أنها تتنازل عن جميع حجرات قصرها لزعماء النهضة وأبطال الفكر، وتقتنع من تلك الدار الفسيحة بحجرة صغيرة في سطح البيت، وتلك دلائل بينة على تلك النفس العالية والمشاعر السامية والنزعة الحارة المخلصة التي تجري في فؤاد تلك السيدة العظيمة قرينة بطل النهضة المصرية الكبرى.

١  جمع ساحة.
٢  هم الحزب المتطرف، وسموا بالجبليين؛ لأنهم كانوا يجلسون في مقاعد مرتفعة كأنهم متسنمون غارب الجبل.
٣  هم زعماء الثورة في عهد الإرهاب.
٤  أي ستجعلهم، وفي القرآن وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا أي سأفعل.
٥  هو القطب.
٦  كان وقتذاك سعد زغلول بك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤