الشجاعة والشئون السياسية

هذا كتاب يتناول أكثر الفضائل الإنسانية إثارة للإعجاب، ألا وهي الشجاعة التي قال إرنست همنغواي في تحديده لها: «إنها جمال الخلق عند الشدة.» وهذه قصص الضغوط التي تعرض لها ثمانية من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، وجمال الخلق الذي جابهوا به هذه الضغوط، بما في ذلك المغامرة بحياتهم السياسية، ومقت الطرق التي ساروا فيها والقدح في أخلاقهم، وفي بعض الأحيان — وبعض الأحيان فقط لسوء الحظ — تبرير سمعتهم ومبادئهم.

ومن غير المحتمل أن تعمد أمة نسيت صفات الشجاعة التي جعلتها في الماضي من مميزات الحياة العامة إلى الإصرار على تلك الصفات أو إلى مكافأة قادتها المختارين اليوم بإضفاء هذه الصفات عليهم، والواقع أننا قد نسينا؛ فقد نذكر كيف أصبح جون كوينسي آدمز رئيسًا بفضل المناورات السياسية التي قام بها هنري كلاي، ولكننا نسينا كيف تخلى وهو شاب عن حياة سياسية مفعمة بآمال النجاح في «السنيت» أو مجلس الشيوخ الأميركي ليقف إلى جانب الأمة، وقد نذكر دانيال وبستر لخنوعه للمصرف الوطني خلال قسم كبير من حياته السياسية، ولكننا نسينا تضحيته من أجل المصلحة الوطنية عند انتهاء تلك الحياة السياسية، إننا لا نذكر، وقد لا نعبأ.

خرج والتر ليبمان، بعد ما يقرب من نصف قرن أمضاه في دراسة دقيقة، بحكم قاسٍ في كتابه الأخير على رجل السياسة وجمهور الناخبين على السواء؛ إذ قال:

«فيما عدا حالات نادرة للغاية تعتبر من عجائب الطبيعة، فالساسة الديمقراطيون الناجحون رجال غير آمنين، وعرضة للتخويف والترهيب، يسيرون قدمًا في الميدان السياسي ما داموا يهادنون ويسترضون، وما داموا يرشون ويغرون ويخادعون، وما داموا يتمكنون من معالجة العناصر المتطلبة التي تشكل خطرًا عليهم في دوائرهم الانتخابية، والعامل الحاسم في الموضوع لا يكمن في جودته، وإنما في مدى ما يلقى من شعبية، لا في ما إذا كان سيحسن العمل ويثبت وجوده، وإنما في ما إذا كان سيلقى فورًا أذنًا صاغية لدى الناخبين المعروفين بكثرة ثرثرتهم.»

ولست متأكدًا بعد أن عشت وعملت سنوات وسط «ساسة ديمقراطيين ناجحين» أنهم جميعًا «رجال غير آمنين وعرضة للتخويف والترهيب»، ولكنني مقتنع تمامًا بأن تعقيدات الأعمال العامة، والتنافس في اجتذاب الرأي العام، قد حجبت مشاهد لا تُحصى من الشجاعة السياسية — كبيرها وصغيرها — تجري كل يوم تقريبًا في قاعة مجلس الشيوخ الأميركي، وإنني مقتنع كذلك بأن الانحطاط، إن كان هناك انحطاط، كان في مجلس الشيوخ أقل منه في تقدير الرأي العام لفن السياسة ولطبيعة التوازن والحل الوسط وضرورتهما، وطبيعة مجلس الشيوخ الأميركي كهيئة تشريعية، وإنني مقتنع أخيرًا، بأننا انتقدنا أولئك الذين انقادوا للجمهور وانتقدنا في الوقت ذاته الذين تحدوه؛ لأننا لم نتفهم كليًّا مسئولية عضو مجلس الشيوخ تجاه دائرته الانتخابية أو الصعوبات التي تجابه سياسيًّا يرغب وهو مرتاح الضمير كما يقول وبستر «في دفع قاربه بنفسه من الشاطئ» إلى خضم بحر هائج حاقد.

ولعل الشعب الأميركي إن هو تفهم بصورة أوفى، الضغوطَ الهائلة التي تثبط ضروب الشجاعة السياسية، والتي تدفع بعضو مجلس الشيوخ إلى التخلي عن ضميره أو خنق صوت ذلك الضمير، لكان على الأرجح أقل انتقادًا لأولئك الذين يختارون السير في الطريق السهلة، وأكثر تقديرًا لأولئك الذين لا يزالون يتمتعون بالقدرة على سلوك درب الشجاعة.

والضغط الأول الذي يجب ذكره هو ضغط من نوع قلَّ أن يدركه عامة الناس، فالأميركيون يريدون أن يكونوا موضع محبة، وأعضاء مجلس الشيوخ لا يشذون عن ذلك، فهم بطبيعتهم — وبالضرورة — حيوانات اجتماعية، فنحن نجد متعة برفقة زملائنا وأصدقائنا وتأييدهم، ونفضل المديح على الذم، والشعبية على المهانة، ونحن إذ ندرك أن درب المتمرد الحي الضمير على قرارات حزبه، لا بد وأن يكون في كثير من الأحيان دربًا وحيدًا، فإننا نحرص على السير مع زملائنا في الهيئة التشريعية، ومع زملائنا الأعضاء في الندوة، كما نحرص على الانصياع لأنظمة الندوة وقواعدها، وعلى عدم السير في طريق فريد مستقل قد يحرج الأعضاء الآخرين أو يثيرهم، وندرك بالإضافة إلى ذلك، أن نفوذنا في الندوة — والمدى الذي نستطيع معه تحقيق أهدافنا وأهداف ناخبينا — يتوقفان إلى حد ما على ما يكنه لنا أعضاء آخرون في مجلس الشيوخ من احترام وتقدير.

والتطلع إلى الحملة الانتخابية التالية — الرغبة في إعادة الانتخاب — هو الضغط الثاني الذي يتعرض إليه العضو ذو الضمير الحي في مجلس الشيوخ، على أنه يجب ألا يُنظر تلقائيًّا إلى هذه الرغبة على أنها دافع ناجم عن الأنانية — رغم أنه من الطبيعي أن يسعى أولئك الذين احترفوا السياسة، للمضي قدمًا في حرفتهم — لأن أعضاء مجلس الشيوخ الذين يُهزمون في دفاعهم عبثًا عن مبدأ واحد لن يتوفروا مرة ثانية ليكافحوا في سبيل ذلك المبدأ أو أي مبدأ آخر في المستقبل.

والضغط الثالث، وهو أهم هذه الضغوط التي تثبط الشجاعة السياسية لدى عضو مجلس الشيوخ أو عضو مجلس النواب ذي الضمير الحي — وتنطبق جميع المشكلات تقريبًا التي يتحدث عنها هذا الفصل على أعضاء المجلسين على السواء — ينبع من دائرته الانتخابية، من أصحاب المصالح، من كتاب الرسائل المنظمين، من التكتلات الاقتصادية، بل حتى من الناخب العادي، ولا شك في أن مواجهة هذه الضغوط، أو تحديها، أو إرضاء مَن يمارسونها، مهمة شاقة يصعب تذليلها؛ ففي كثير من الأحيان تجد الدافع للاقتداء بجون ستيفن ماكغرورتي ممثل ولاية كاليفورنيا في مجلس النواب الذي كتب إلى ناخب في سنة ١٩٣٤ يقول:

«من المنغصات العديدة التي تلازمني في مجلس النواب، اضطراري إلى تلقي رسائل وقحة من غبي مثلك تقول فيها إنني وعدت بإعادة تحريج جبال سييرا مادرا، وها قد مضى عليَّ شهران في مجلس النواب ولم أفعل ذلك، هل لك أن تركض ثم تقفز قفزتين لتستقر في جهنم.»

ولحسن الحظ أو لسوئه، قليلون هم الذين يستجيبون لهذا الدافع، ولكن عنصر الاستفزاز قائم، ليس فقط في رسائل غير معقولة ومطالب يستحيل تنفيذها، ولكنه قائم أيضًا في سيل من المطالب المتناقضة والظلامات التي لا نهاية لها.

هذه إذن بعض الضغوط التي يتعرض لها رجل ذو ضمير، فهو لا يستطيع تجاهل هذه الضغوط أو تجاهل دائرته الانتخابية أو حزبه أو زمالة رفاقه أو شئون عائلته أو اعتزازه بمنصبه أو الضرورة لإيجاد تسوية، وأهمية بقائه في منصبه، وعليه أن يختار الطريق التي يسير فيها، وأن يقرر الخطوة التي تساعده على تنفيذ المثل التي التزم بها أو تعرقل تنفيذ هذه المثل، وهو يدرك أنه متى بدأ يزن كل مشكلة في ضوء فرص إعادة انتخابه، ومتى بدأ يتساهل في مبادئه بالنسبة إلى قضية بعد أخرى خشية أن يضع عدم التساهل حدًّا لحياته السياسية ويحول دون كفاحه في المستقبل في سبيل مبدئه، فإنه يفقد — والحالة هذه — حرية الضمير ذاتها التي تبرر استمراره في احتلال منصبه، ولكن اتخاذ قرار حيال النقطة التي يغامر بها وعندها بمستقبله السياسي إنما هو أمر صعب ومتعب للغاية.

واليوم يبرز تحدي الشجاعة السياسية أكبر منه في أي وقت مضى؛ لأن حياتنا اليومية باتت الآن مشبعة بطاقة مواصلات ضخمة بحيث إن السير في طريق غير شعبية أو طريق ملتوية يثير عاصفة احتجاجات لم يكن لجون كوينسي آدمز — الذي تعرض لحملات في سنة ١٨٠٧ — أن يتصورها أبدًا، وقد باتت حياتنا السياسية باهظة الثمن وخاضعة لنظام آلي يسيطر عليه ساسة محترفون ورجال علاقات عامة إلى درجة يستيقظ عندها ذلك المثالي — الذي يحلم بانتهاج طريق سياسي بعيد عن المؤثرات — على قرع أجراس ضرورات الانتخابات والإنجازات.

وهكذا، وفي الأيام المقبلة، لن يتمكن غير أولئك الشجعان من اتخاذ القرارات الصعبة غير الشعبية اللازمة لبقائنا في الصراع مع عدو قوي، عدو قلَّ أن يفكر زعماؤه في حب الشعب لهم، وقلَّ أن يهتموا بالرأي العام الذي يسيطرون عليه، زعماء يستطيعون إرغام مواطنيهم، دون خوف الانتقام عند الانتخابات، على التضحية بالابتسامة في الوقت الحاضر في سبيل المجد في المستقبل، ولن يستطيع غير الشجعان الإبقاء على حياة روح الفردية والخلاف في الرأي اللذين أديا إلى مولد هذه الأمة وغذياها كالرضيع، وسارا بها عبر أقسى التجارب حتى وصلت إلى سن البلوغ.

ولنكن على يقين أننا سنحتاج إلى تساهل في الأيام القادمة، ولكن هذا التساهل سيكون، بل يجب أن يكون، تساهلًا في مسائل لا في مبادئ، وليس بالضرورة أن يعني التساهل جبنًا، والواقع هو أن مَن يتساهلون أو يسترضون هم الذين يواجهون باستمرار أقسى تجارب الشجاعة السياسية وأمرها لدى معارضتهم الآراء المتطرفة التي تنطلق من دوائرهم الانتخابية، وكان أن تعرض دانيال وبستر لتنديد لم يعرف التاريخ السياسي له مثيلًا؛ لأنه في سنة ١٨٥٠ فضل بدافع من ضميره، التساهل والحل الوسط.

وقصته جديرة بأن تُذكر اليوم، وجدير أن نذكر كذلك قصص أعضاء آخرين في مجلس الشيوخ، كانوا رجالًا تغلب ولاؤهم لأمتهم على جميع الاعتبارات السياسية والشخصية، رجالًا أظهروا المعنى الحقيقي للشجاعة وأظهروا إيمانًا حقيقيًّا بالديموقراطية، وجعلوا مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة أكثر من مجرد مجموعة أناس آليين يسجلون بكل إخلاص آراء دوائرهم الانتخابية، أو مجرد ندوة لتوفير الوقت برعت في التنبؤ بمشاعر الناس، وفي السير وفقًا لتيارات هذه المشاعر.

ومهما تكن الفروق بين الساسة الأميركيين الذين تُروى قصصهم هنا، فإن هؤلاء تقاسموا تلك الصفة البطولية الوحيدة الشجاعة، ولقد حاولت في الصفحات التالية أن أبين سيرة حياتهم والمثل التي عاشوا لأجلها والمبادئ التي ناضلوا في سبيلها، وفضائلهم وزلاتهم وأحلامهم وتحررهم من هذه الأحلام، والمديح الذي كِيل لهم والإساءات التي تعرضوا لها، وقد سُجل هذا كله في صفحات مطبوعة، ومن واجبنا أن نكتب عنهم وأن نقرأ عنهم، ولكن كان هناك في حياة كل منهم شيء يصعب على الصفحة المطبوعة استيعابه، شيء وصل إلى منزل كل مواطن في كل مكان من هذا البلد وزاد تراثه خصبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤