الزمان والمكان

إن الشيوخ الأميركيين الأصليين الاثنين والعشرين الذين اجتمعوا في نيويورك سنة ١٧٨٩ بدوا لأول وهلة أنهم حققوا توقعات مَن وضعوا الدستور، وكان مجلس الشيوخ كتجمع ممتاز متألق من ساسة بارزين متمرسين أكثر أبهة وشكليات من مجلس النواب، وقاعاته أكثر زركشة، وكان أعضاؤه أكثر اهتمامًا بأناقتهم وملابسهم ومكانتهم الاجتماعية، وكان مجلس الشيوخ يجتمع وراء أبواب مغلقة، دون أن يعتمد لجانًا دائمة، يتشاور شخصيًّا مع الرئيس واشنطن، وكان يتصرف تقريبًا كجزء لا يتجزأ من الإدارة.

ولكنه لم يكن بد للسياسة أن تدخل مجلس الشيوخ الأميركي شأنها في ذلك شأن جميع المجالس التشريعية الأخرى، وعندما انقسم الحزب الفدرالي بسبب السياسة الخارجية، واستقال توماس جفرسون من الوزارة لينظم أنصاره، أصبح مجلس الشيوخ منبرًا لانتقاد الفرع التنفيذي، وتولت دور المجلس التنفيذي وزارة اعتمد الرئيس عليها في مشاطرته آراءه، وفي كونها مسئولة أمامه.

وتولى مجلس الشيوخ تدريجيًّا مزيدًا من مظاهر الهيئة التشريعية، ففي سنة ١٧٩٤ سمح باستخدام الشرفات العامة التي يحتلها الشعب، وذلك في الجلسات التشريعية العادية، وفي سنة ١٨٠١ سمح للمراسلين الصحفيين بالدخول، وما إن حلت سنة ١٨٠٣ حتى كان المجلس يتناقش فيمن يجب أن يُمنح امتياز الدخول إلى قاعاته، وتم الاتفاق على أن يُمنح أعضاء مجلس النواب، والسفراء، ورؤساء الدوائر والحكام، ولكن السناتور رايت انبرى قائلًا: «وماذا عن السيدات؟» وأكد «أن وجودهن يبعث حيوية في المناقشة مقبولة ولازمة، ويصقل حجج الخطباء ويلطف من أسلوبهم»، ولكن جون كوينسي آدمز، الذي ستلاحظ صراحته المتزمتة في مثل هذه المناسبات في مكان آخر من هذا الكتاب، أجاب بقوله:

«إن السيدات يحملن معهن ضجة وبلبلة إلى مجلس الشيوخ، وستطول المناقشات بغية اجتذاب أنظارهن (وهُزم اقتراح إدخال السيدات بأكثرية ١٦ صوتًا في مقابل ١٢ صوتًا، على الرغم من أن سياسة استثنائهن نُقضت في سنوات لاحقة إلا أن إعادة تطبيق هذا الاستثناء لم تتم إلا في العصور الحديثة).»

وعلى الرغم من أن كل سناتور (عضو في مجلس الشيوخ) كان يتلقى مبلغًا سخيًّا هو ستة دولارات في اليوم الواحد، وتضمنت امتيازاته حق استعمال علب السعوط الفضية الكبيرة في قاعة المجلس، فإن العادات الأرستقراطية التي ميزت أول مجلس كانت شاذة عندما أصبحت قرية واشنطن الصغيرة الكادحة عاصمة في سنة ١٨٠٠؛ لأن وعورة الأراضي التي كانت تحيط بها تباينت كل التباين مع تلك التي كانت تحيط بالعاصمتين المؤقتتين في نيويورك وفيلادلفيا، وظلت الشكليات في نهج المجلس قائمة، وعلى الرغم من أن آرون بير نائب رئيس الجمهورية الذي كان موضع سوء سمعة؛ لأنه قتل هاملتون في مبارزة، كثيرًا ما اضطر إلى دعوة أعضاء مجلس الشيوخ إلى النظام؛ لأنهم كانوا «يقضمون التفاح والكعك في مقاعدهم»؛ ولأنهم كانوا يتمشون بين أولئك الذين انهمكوا في بحث ونقاش.

ومع ذلك فإن المجلس التشريعي الذي كان صغيرًا إلى درجة لا يمكن اعتباره معها هيئة للمداولة طغى على مجلس الشيوخ فيما يتعلق بالسلطة السياسية خلال العقود الثلاثة الأولى من حكومتنا، وقال ماديسون إنه «لما كان شابًّا يطمح إلى تعزيز سمعته كسياسي، لا يستطيع قبول مقعد في مجلس الشيوخ» الذي كانت مناقشاته ذات أثر ضئيل في الرأي العام.

كان ذلك الوقت وقت تغيير في مجلس الشيوخ وفي صورة حكومتنا، وفي تطور نظام الحزبين وفي انتشار الديمقراطية إلى المزارع والحدود وفي الولايات المتحدة الأميركية، وكان الرجال الذين تميزوا بالمرونة وأولئك الذين كانوا يستطيعون مسايرة تيارات الرأي العام المتقلبة أو مغالبتها، وأولئك الذين كانوا يستطيعون مسايرة تيارات الرأي العام المتقلبة أو مغالبتها وأولئك الذين سعوا لتحقيق أمجادهم عن طريق هيبة مجلس الشيوخ، لا فيما يحققه من إنجازات تشريعية، هؤلاء كانوا رجالَ مثل تلك الأوقات، ولكن جون كوينسي آدمز الشاب ممثل مساتشوستس لم يكن رجلًا من هذا النوع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤