الزمان والمكان

لم يسترجع الصراع العسكري الباهظ الثمن بين الشمال والجنوب، السلام والوحدة إلى الجبهة السياسية. وقد أنهت معركة أبوماتوكس (التي استسلم فيها الجنرال لي قائد الجنوبيين للجنرال غرانت) إطلاق النار بين الأخ وأخيه، ولكنها لم توقف الغزو السياسي وعملية النهب الاقتصادي والكراهية بين الأقاليم، التي كانت تعصف ببلاد مقسمة، وظلت نار العداوة المريرة على جانبي خط ماسون-ديكسون، وهي العداوة التي لفَّت في طيَّاتها دانيال وبستر، وتوماس هارت بنتون، وسام هيوستون، مستعرة دون هوادة طوال ما يقرب من عقدين بعد الحرب.

ولكن الخلافات القديمة الناجمة عن تحرير العبيد والتعمير زالت تدريجيًّا، وجلب استثمار الغرب الذي فُتحت أبوابه، والجنوب الذي قُهر وأُذل، جلب مشاكل جديدة ووجوهًا جديدة إلى مجلس الشيوخ، فلم يعد المجلس مكانًا لكبار محامينا الدستوريين؛ لأن المشكلات الدستورية لم تعد تهيمن على الحياة الأميركية العامة، وإذا بالأموال السهلة التحصيل والثروات المفاجئة والأجهزة السياسية المتزايدة القوة، والفساد المستشري، قد غيَّرت الكثير من معالم الأمة، وبات مجلس الشيوخ كما يُنتظر من هيئة تشريعية ديمقراطية، يمثل الأمة بدقة، وكان محامو الشركات والمؤسسات والمتنفذون من رجال السياسة — لا الخطباء الدستوريون — الناطقين بلسان هذا العهد العاصف، على الرغم من أن كثيرين من رجال الأمة الموهوبين وجدوا أن الشهرة والثروة أسهل منالًا في عالم الصناعة والتجارة منها في العمل الحكومي الثقيل الذي لم يكن ليلتفت إليه أحد (وعلَّق أحد المحررين في إحدى الصحف بقوله، إنه لو عاش دانيال وبستر في ذلك العصر «لما كان مدينًا ولما كان في مجلس الشيوخ»). وضُمت إحدى عشرة ولاية بسرعة إلى الاتحاد بتطور الغرب، وأدى انضمام اثنين وعشرين شيخًا جديدًا وقاعة جديدة واسعة إلى الابتعاد عن ذلك الجو القديم المميز، وابتُليت مداولات مجلس الشيوخ المتعلقة بالشئون الداخلية بالإقليمية والتكتلات السياسية وبحركات تتميز بما يشبه التعصب، كانت بدايتها حركة «الفضة الحرة» (وهي حركة نادت بحرية سك القطع النقدية الفضية مع تحديد قيمتها بما يساوي جزءًا واحدًا من ١٦ جزءًا من الذهب تورط لامار فيها).

وقال وليام ألن وايت: إن الشيوخ لم يكونوا يمثلون الولايات فقط، ولكنهم كانوا يمثلون كذلك «مناطق النفوذ والقوى والمصالح التجارية.»

«فقد كان شيخ مثلًا يمثل شبكة سكك حديد الباسفيك الاتحادية، بينما كان ثانٍ يمثل شركة الهاتف في نيويورك، وثالث يمثل مصالح التأمين … وكان للفحم والحديد مجموعة من الشيوخ … كما كان للقطن حوالي ستة شيوخ، وهكذا كان الوضع … إقطاعية بلوتوكراتية … ذات احترام كبير، وكان طوق أية مؤسسة مالية كبيرة يُرتدى بفخر واعتزاز»، وهكذا انحط مجلس الشيوخ في نهاية القرن التاسع عشر إلى أسفل دركاته من حيث السلطة والمهابة على السواء، وقد بدأت سلطات مجلس الشيوخ تتدهور بعد انتهاء رئاسة الجنرال غرانت بقليل، وكان مجلس الشيوخ الذي أذل الرئيس جونسون قبل ذلك وسيطر كليًّا على الرئيس غرانت، قد استكان مرتاحًا لما بدا شبيهًا جدًّا بنوع من حكم برلماني. ولكن قوة الكونغرس التي بلغت ذروتها أخذت تتضاءل بسبب المقاومة الناجحة التي تصدى بها الرؤساء هيز، غارفيلد، وآرثر، وكليفلاند، لمحاولات مجلس الشيوخ فرض التعيينات الرئاسية، وعادت الحكومة إلى النظام الأميركي الأكثر تقليدًا من حيث العودة إلى الدستور وموازينه.

وقد سبق تدهور قوة مجلس الشيوخ تدهور سريع في هيبته حتى قبل أن يحل الخلاف على المسائل الاقتصادية محل الصراع الإقليمي والدستوري، وتمسك الدبلوماسيون البريطانيون والكنديون بالقول إنهم أمنوا الموافقة على معاهدة المعاملة بالمثل المعقودة في سنة ١٨٥٤، بتأكدهم «من أنها عامت على أمواج من الشمبانيا … وإذا اضطررت إلى التعامل مع أناس شرهين فماذا بإمكانك أن تفعل؟» ولكن المجلس لم يكن يتألف كليًّا من أشخاص شرهين على الرغم من تدهور قوته وانحطاط احترامه العام خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ فقد كان فيه رجال شجعان جديرون بالاحترام، بينهم أدموندج، روس وأولئك الذين وقفوا إلى جانبه خلال محاكمة جونسون بتهمة التقصير، وضحوا بأنفسهم في سبيل إنقاذ البلاد من التهور في إساءة استعمال السلطة التشريعية، وبينهم كذلك لوشيوس لامار الذي بدماثته وثبات عزيمته على أن يكون سياسيًّا، كان فعالًا في إعادة توحيد الأمة استعدادًا للتحديات الجديدة التي كانت تنتظره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤