الزمان والمكان

رجلان مستقيمان نزيهان كلاهما جمهوري ومن الولايات الوسطى الغربية، يختلفان كل الاختلاف في فلسفتهما السياسية وتصرفاتهما الشخصية، هما أفضل مَن يبيِّن أثر القرن العشرين في مجلس الشيوخ ككل، وجو الشجاعة السياسية بوجه خاص.

هذان الرجلان هما جورج و. نوريس وروبرت أ. تافت، اللذان تداخل وجودهما في مجلس الشيوخ لفترة قصيرة قبل سبع عشرة سنة، وكانا سيدَي العمليات التشريعية وزعيمين لفئتين سياسيتين متعارضتين في أساسهما، كما كانا رجلين عظيمين من حيث تفسير العقائد الدستورية كل بطريقته الخاصة، وكان من أهم ما حققاه تلك الهيبة والاحترام المتزايدان اللذان أغدقاهما مع كثيرين غيرهما على مجلس الشيوخ الأميركي؛ ذلك لأن الطريق إلى الشهرة والقوة لذوي الكفاءات والمواهب، كانت تكمن عند انتهاء القرن، في الصناعة لا في السياسة. ومن هنا تميز موقف الناس من احتراف السياسة في كثير من الأحيان بالجمود واللامبالاة وعدم الاحترام، بل حتى بالتسلية.

وقد أسهم مجلس الشيوخ نفسه في فقدان هيبة المهنة السياسية، ويعود السبب في ذلك من ناحية إلى رد الفعل لدى الناس لذلك النوع الجديد من المشرعين الذين كان بينهم في أحيان كثيرة في سنة ١٩٠٠ محامي المؤسسات الكبيرة والزعيم السياسي المتسخ، وبدا المجلس وقد فقد عناصر الإثارة والدراما التي كانت إلى حد بعيد جزءًا من وجوده في السنوات التي سبقت الحرب الأهلية، كما فقد تلك القوة والهيبة اللتين انتزعهما بتحدٍ في عهدي جونسون وغرانت، وكان ذلك من ناحية ردة فعل لتعقيدات المشكلات التشريعية وكثرتها المتزايدة وبدت التجارة بين الولايات أقل إثارة وربحًا من «حرية الفضة»، ولم تعد أسماء كبار أعضاء مجلس الشيوخ حديث المنازل كما كانت أيام الثلاثي العظيم، ولم تعد الأمة بأسرها تتابع مناقشات مجلس الشيوخ وقد حبست أنفاسها كما كان الحال خلال مناقشة التسوية الكبرى أو محاكمة جونسون، ولم يعد طلبة المدارس الأذكياء في البلاد، الذين كانوا قبل ستين أو سبعين سنة يحفظون رد وبستر على هاين عن ظاهر قلب، يبدون اهتمامًا بالسياسة كمهنة.

وكان أولئك المواطنون الذين يهتمون اهتمامًا فعليًّا بمناقشات مجلس الشيوخ لدى دخول القرن العشرين، ينظرون إلى المجلس بصورة عامة بحذر أكثر منه اعتزاز. وظهرت في مختلف أنحاء البلاد مجموعة ملحوظة من المصلحين، ومن رجال أخذوا على أنفسهم فضح المرتشين من الموظفين والسياسيين، وحركات تهدف إلى إقامة حكومة مستقيمة، مثلت في مجلس الشيوخ بفئة جديدة من المثاليين والمستقلين وبرجال ذوي كفاءة وحصافة سياسية يمكن لهم أن يقفوا في مستوى أعظم رجال الماضي، ولكي يتمكن هؤلاء المصلحون من وقف الاتجاه المزدوج نحو عدم مبالاة الناخبين بشيوخهم وعدم مبالاة الشيوخ بناخبيهم حققوا تغييرًا في الجهاز الانتخابي كان يجب أن يتحقق منذ زمن بعيد، فانتزعت سلطة اختيار أعضاء مجلس الشيوخ من الهيئات التشريعية في الولايات، وفتحت للشعب رأسًا.

ولم تكن توجد حينذاك (ولا توجد الآن) طريقة إحصائية أو علمية لقياس أثر انتخاب الشيوخ مباشرة من قبل الشعب في نوعية المجلس نفسه، ولم يكن قليلًا ذلك الانتقاد المهين الذي وجه إلى مجلس الشيوخ كمجموعة وإلى الشيوخ كأفراد أو المديح الذي كيل لهم، ولكن مثل هذه الأحكام تكون في كثير من الأحيان أحكامًا عامة من قضايا أو تجارب محددة، فالرئيس وودرو ولسون مثلًا رفض قبل وفاته بقليل، وبعد أن صدمه مجلس الشيوخ في مساعيه لإنشاء عصبة الأمم وعقد معاهدة فرساي، رفض اقتراحًا بترشيح نفسه لمجلس الشيوخ عن ولاية نيو جيرزي قائلًا: «إن مجلس الشيوخ خارج الولايات المتحدة لا يساوي شيئًا، أما داخل الولايات المتحدة فالمجلس موضع احتقار؛ إذ لم تصدر فكرة واحدة عنه طوال ٥٠ عامًا.» وهناك كثيرون ممن وافقوا الرئيس ولسون على قوله هذا في سنة ١٩٢٠، وهناك مَن قد يوافقه على ذلك الشعور في هذه الأيام.

ولكن البروفسور وودرو ولسون قبل أن يعمد بنيران السياسة كان قد اعتبر مجلس الشيوخ الأميركي واحدًا من أكثر مجالس العالم التشريعية قدرة وكفاية، وقد انبثقت هذه القوة في بعضها، وما تطلبته من مقدرة في شخص أولئك الشيوخ الذين سعوا لاستخدامها، انبثقت من النفوذ المتزايدة للهيئة التشريعية الفدرالية في الشئون الداخلية، ولكن حتى الأهم من ذلك، هو سلطة مجلس الشيوخ التي تزايدت تدريجيًّا في الشئون الخارجية وهي سلطة تضاعفت بنمو مركز أمتنا في الأسرة الدولية، سلطة جعلت مجلس الشيوخ في القرن العشرين هيئة أكبر شأنًا، باعتبار النتائج الفعلية لقراراته، من تلك الهيئة البراقة في أيام وبستر وكلاي وكالهون التي جاهدت دون كلل في قضية الرقيق، ولكن جهودها لم تعطِ نتيجة.

وكما احتاجت الأمة التي مزقتها أزمة داخلية إلى شيوخ شجعان في سنة ١٨٥٠ فإن الأمة التي تورطت في أزمة دولية احتاجت كذلك إلى مثل هؤلاء الشجعان، ولقد أدرك جون كوينسي آدمز ذلك قبل ١٠٠ سنة من قدوم جورج نوريس إلى واشنطن، ولكنه لم يكن ليتكهن بأن دور هذه الأمة في العالم سيحمل أبدًا أزمات متكررة ومشكلات مزعجة إلى مجلس الشيوخ الأميركي، أزمات من شأنها أن ترغم رجالًا من أمثال جورج نوريس على الاختيار بين ضميره وناخبيه، ومشكلات من شأنها أن ترغم رجالًا أمثال بوب تافت على الاختيار بين المبادئ والشعبية.

وليست قصة هذين الرجلين هي قصة الشجاعة السياسية الوحيدة في القرن العشرين، وقد لا تكون أبرز القصص أو أكثرها أهمية، غير أنه يبدو أن الطبيعة المتغيرة لمجلس الشيوخ وأعماله وأعضائه، قد خففت من السرعة التي تستلهم بها الأمة موقفًا خاليًا من الأنانية ينبثق من التمسك بمبادئ عظيمة لا تلقى تأييدًا من الشعب، ولعلنا ما زلنا قريبين جدًّا في الزمن من أولئك الموجودين بيننا الذين قد تمهر أعمالهم المستقلة من وجهة نظر تاريخية بأنها جديرة بالدخول في سجلات الشجاعة السياسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤