الفصل الأول

جون كوينسي آدمز

القاضي خادم الله … لا خادم الشعب
تململ السناتور الشاب من مساتشوستس في كرسيه حين علا ضجيج المناقشة، وكانت جنبات قاعة المجلس التي امتلأ نصف مقاعدها، تردد صدى صوت زميل من مساتشوستس هو السناتور بيكرنغ الذي كان يندد، وربما للمرة المئة، بالحظر التجاري الذي فرضه الرئيس جفرسون عام ١٨٠٧، وفي الخارج كانت الأمطار — في يوم متجهم قاتم من أيام شهر كانون الثاني (يناير) — قد حولت قرية وشنطن الموحشة إلى مستنقع، بل إلى بحر من الوحول، وراح جون كوينسي آدمز يفرز البريد الملقى أمامه على مكتبه من مساتشوستس، ووقعت عيناه على خط غريب غير مألوف لم يُكتب عليه عنوان صاحبه، وأمسك السناتور بالورقة الكتابية الناعمة الوحيدة التي كانت داخل الغلاف، وقرأ سطورها المبهمة وهو عابس الوجه، للمرة الثانية، قبل أن يعرك بيده الرسالة والغلاف ويلقي بهما في سلة للمهملات كانت إلى جانب مكتبه:

لوسيفر، يا ابن الفجر، كيف سقطت! نأمل ألا يكون سقوطك نهائيًّا، تذكر مَن أنت يا آدمز، عُد إلى مساتشوستس! عُد إلى بلدك، ولا تساعد على تدميرها! فكِّر في العواقب! أفق، وانهض في الوقت المناسب.

فدرالي

فدرالي! تأمل آدمز الكلمة بمرارة، ألم يكن هو ابن آخر رئيس فدرالي؟ ألم يخدم إدارات فدرالية في السلك الدبلوماسي في الخارج، ألم يُنتخب كفدرالي للهيئة التشريعية في مساتشوستس ثم كعضو في مجلس الشيوخ الأميركي؟ والآن؛ ولأنه وضع المصلحة الوطنية فوق الاعتبارات الحزبية والإقليمية، هجره الفدراليون وتخلوا عنه، نعم، ردد في خلده، أنا لم أهجرهم كما يزعمون بل هم الذين هجروني.

وكتب في مفكرته في تلك الليلة: «إن آمالي السياسية أخذت في الانهيار، وإنني باقتراب نهاية المدة المقررة لعضويتي في المجلس، أقترب باستمرار من حتمية عودتي إلى وضع المواطن العادي، وآمل أن أتمكن من أن أعد نفسي إلى درجة كافية لهذا الحدث، وفي هذه الأثناء إنني أضرع إلى تلك الروح التي ينبثق منها كل ما هو حسن وكامل، أن تأخذ بيدي وتمكنني من تقديم خدمات جوهرية لبلادي، وألا تتحكم بي في تصرفاتي العامة أية اعتبارات غير واجباتي.»

ليست هذه مجرد مشاعر عضو شجاع في مجلس الشيوخ، ولكنها كذلك كلمات سياسي متزمت؛ ذلك لأن جون كوينسي آدمز كان من ممثلي الشعب العظماء، ومن ذلك النوع من الرجال الذين تركوا أثرًا لا يُمحى في حكومتنا وطريقة حياتنا، فقد كان شديد المراس عنيدًا، صلبًا كريف نيو إنكلاند الصخري، الذي صبغ نظرته إلى العالم بأسره، وقد أضفى «البيوريتاني» على الأيام الأولى للجمهورية الأميركية معنًى وثباتًا وطابعًا خاصًّا بها، ونقل شعوره الكئيب بالمسئولية نحو خالقه إلى كل مرحلة من مراحل حياته اليومية، فكان يؤمن بأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله، وبالتالي آمن بأنه على مستوى المتطلبات الاستثنائية للحكم الذاتي، وكان هذا البيوريتاني «السياسي المتزمت» يعتنق الحرية ويحب القانون، وكان يتمتع بالعبقرية التي تمكنه تمامًا من تحديد النقطة التي يمكن عندها التوفيق بين حقوق الدولة وحقوق الفرد.

ولكن هذه المميزات في جون كوينسي آدمز، لم تكن تتفق، لسوء الحظ، مع الدسائس الحزبية والأهواء السياسية في ذلك الحين، فقبل هذه الشهور المثبطة للعزيمة التي تميزت برسائل تلقاها في مجلس الشيوخ الأميركي والتي تميزت برسائل حفلت بالإهانات من فدراليي مساتشوستس، وحتى قبل أن يدخل مجلس الشيوخ، سجل في مذكرته الأخطار التي تجابه البيوريتاني الذي يدخل ميدان السياسة وقال: «إنني أشعر بإغراء قوي يدفعني إلى الخوض في المعترك السياسي، ولكن … يجب أن يكون السياسي في هذه البلاد رجل حزب، وأنا يسرني أن أكون رجلًا لبلادي بأسرها.»

وقليلون هم الذين ولدوا ولهم مميزات جون كوينسي آدمز، هذا إن كان قد ولد أحد بهذه المميزات. فقد ولد وله اسم معروف، فأبوه كان شديد الذكاء وعمل دون انقطاع في سبيل تنمية مواهب ابنه الطبيعية، وكانت أمه تختلف عن باقي النساء! فقد ولد في الواقع وحوله كل ما يعد بحياة سعيدة وناجحة، اللهم إلا تلك الصفات التي تبعث الطمأنينة في النفس، فعلى الرغم مما وفرته له الحياة، فإن شعورًا بعدم الكفاية كان يراوده أبدًا، شعورًا بخيبة الأمل وبالفشل. ومع أن ضميره القاسي كأحد أبناء نيو إنجلند، ومواهبه المدهشة دفعت به في طريق من النجاح لا يوازيه نجاح، فإن شعورًا بالفشل الدائم كان يراوده منذ البدء.

ومع ذلك فإن الحياة التي استعاذ منها صاحبها بالله كانت منقطعة النظير في التاريخ الأميركي؛ فقد احتل جون كوينسي آدمز حتى وفاته في الكابيتول وهو في الثمانين مناصبَ أكثر أهمية، وشارك في أحداث أكثر خطورة من تلك التي احتلها أو شارك فيها أي شخص آخر في تاريخ أمتنا، فعمل وزيرًا لدى حكومة لاهاي، ومبعوثًا إلى إنكلترا، ووزيرًا لدى بروسيا، وعضوًا في مجلس شيوخ الولاية، وعضوًا في مجلس الشيوخ الأميركي، ووزيرًا لدى روسيا، ورئيسًا لبعثة أميركية للتفاوض على الصلح مع إنكلترا، ووزيرًا لدى إنكلترا، ووزيرًا للخارجية، ورئيسًا للولايات المتحدة، وعضوًا في مجلس النواب، ولعب بصفة أو بأخرى دورًا بارزًا في الثورة الأميركية وفي حرب سنة ١٨١٢ وفي مستهل الحرب الأهلية، ومن معارفه وزملائه الذين دُونت أسماؤهم في مفكرته، سام آدمز (أحد أقاربه)، وجون هانكوك، وواشنطن، وجفرسون، وفرانكلين، ولافاييت، وجون جاي، وجيمز ماديسون، وجيمز منرو، وجون مارشال، وهنري كلاي، وأندرو جاكسون، وتوماس هارت بنتون، وجون تايلار، وجون كالهون، ودانيال وبستر، ولنكولن، وجيمز با كانان، ووليام لويد غاريسون، وأندرو جونسون، وجفرسون ديفيس، وكثيرون غيرهم.

ولم يكن من غير الطبيعي أن ينشط جون كوينسي في شئون حزب والده لدى عودته إلى بوسطن من العمل في السلك الدبلوماسي في الخارج إثر هزيمة والده في انتخابات الرئاسة أمام توماس جفرسون، وأعجب بالفدراليين كمؤسسي الدستور وكأبطال للقوة البحرية، وكحصن منيع في وجه انتشار أثر الثورة الفرنسية.

غير أنه لم يكد هذا الدبلوماسي السابق يُنتخب بوصفه فدراليًّا لعضوية المجلس التشريعي لولاية مساتشوستس، حتى أظهر بكل جرأة ازدراءه للحزبية الضيقة الأفق، واقترح، دون أن يستشير مَن هم أعلى رتبة منه من زملائه في الحزب، وبعد مرور ٤٨ ساعة على انتخابه، تمثيلَ الحزب الجمهوري (الجفرسوني أو الديمقراطي) تمثيلًا نسبيًّا في مجلس الحاكم (ولاحظ آدمز في وقت لاحق أن هذا الإجراء المستقل عن الحزبية «كان المبدأ الذي تميزت به حياتي العامة بكاملها، من ذلك اليوم إلى هذا اليوم»).

وبالتالي، ربما افترض زملاء آدمز الشاب في المجلس التشريعي للولاية عندما اختاروه لعضوية مجلس الشيوخ، أن إغداق هذا الشرف على شاب في مثل سنه قد يساعد على أن يترك في نفسه انطباعًا بأنه مدين لحزبه.

غير أن آدمز أشار لدى وصوله إلى واشنطن، إلى عدم اهتمامه بالانتماء إلى الأحزاب، وبالصمت الذي يعتصم به عادة كل عضو جديد، وعلى الرغم من أن مرض أحد أفراد عائلته حال دون وصوله إلى واشنطن في الوقت المناسب ليصوت إلى جانب إبرام معاهدة عقدها الرئيس جفرسون لشراء منطقة لويزيانا، فإنه أثار فور وصوله عاصفة من الجدل حين أصبح الفدرالي الوحيد الذي أيد مباشرة في المجلس تلك السابقة المكتسبة، وصوت إلى جانب اعتماد مبلغ ١١ مليون دولار لتنفيذ عملية الشراء، وحملته مبادئه الديمقراطية على محاربة إجراءات الإدارة التي هدفت إلى فرض حكم وضرائب على سكان منطقة لويزيانا، وبالتالي تعرض لمقاومة زملائه الجمهوريين على السواء، ولكنه كأميركي امتد بُعد نظره إلى حدوده القارية، اعتبر آدمز بطولة جفرسون الظاهرة في إبعاد نابليون عن حدودنا في الوقت الذي عمل فيه على زيادة أمتنا ثروة، أهم بكثير من دهشة الفدراليين الناقمين من زملائه، وكان شغل هؤلاء الشاغل المحافظة على سيادة نيو إنكلاند وسيطرتها، وخشوا أن يؤدي التوسع نحو الغرب إلى الحد من النفوذ السياسي والاقتصادي الذي كانت تتمتع به المدن التجارية في الشمال الشرقي، وإلى تخفيض قيمة الأراضي الشرقية التي كانوا يهتمون بها ماليًّا، وإلى تزويد الجفرسونيين بأكثرية دائمة في الكونغرس، كما أن الفدرالي الشاب من مساتشوستس — وكأنه تناسى موقفهم — زاد النار وقودًا على نقمة الفدراليين بأن حضر مأدبة أقامها الجفرسونيون احتفاء بشراء لويزيانا.

إن امتلاك آدمز لذلك الاسم المتسم بالعزة والفخر، لم يمنع — بل ربما استعجل — ظهور السناتور الشاب تدريجيًّا ليكون أقلية قوامها شخص واحد، وحتى لو كانت فلسفته السياسية أكثر شعبية، فإن تصرفاته الشخصية ما كانت لتسهل عليه إقامة تحالفات؛ فقد كان على كل حال «واحدًا من أسرة آدمز … رزينًا، بعيدًا عن الكياسة، وينصاع كليًّا إلى صوت الضمير.» إن جون كوينسي، وهو ابن إنسان غير محبوب، وخارج على حزبه، وبالنظر إلى اندفاعه كعضو جديد في مجلس الشيوخ، لم يسعَ إلى إنشاء تحالف أو نفوذ سياسي، كما أنه لم يعرض عليه الانضمام إلى مثل هذا التحالف.

ولكن إذا كان الحزب الفدرالي قد تعلم كيف يمقت الشاب حتى أكثر من مقت الحزب لوالده، فإنه يجب القول إن أي حب فدرالي لجون كوينسي لم يكن ليعود بأية فائدة على كل حال؛ ذلك لأنه أصبح شديد الاحتقار للحزب الفدرالي.

إن هذا الشاب، كوطني أميركي عاش قسمًا كبيرًا من حياته القصيرة في الخارج، لم يكن ليتخلى عن تفانيه من أجل المصلحة الوطنية، ويأخذ بتلك النظرة الحزبية الضيقة المناصرة لبريطانيا التي سيطرت على أول حزب سياسي في نيو إنكلاند، واتهمه علنًا زملاؤه السابقون في الهيئة التشريعية للولاية، بالجحود في «تصرفه المكيافيلي»، ولكنه كتب إلى والدته يقول: إنه يشعر كعضو في مجلس الشيوخ بأنه أحسن مَن يعرف ما هي أفضل مصالح مساتشوستس، «وإنه إذا كانت الفدرالية تقوم على التطلع إلى البحرية البريطانية كدرع وحيدة لحريتنا، فإنني لا بد وأن أكون هرطوقيًّا سياسيًّا.»

وكان كثيرون من أعضاء مجلس الشيوخ قبل سنة ١٨٠٤ وبعدها يقاومون الآثار السيئة للقب هرطوقي سياسي الذي كان يطلقه عليهم زعماؤهم عن طريق بناء شعبية قوية لهم داخل دوائرهم الانتخابية، وقد ازداد هذا احتمالًا عندما أصبح حق التصويت للرجال عامًّا في أوائل القرن التاسع عشر، ولكن لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى جون كوينسي آدمز؛ فقد قال زميل له في مجلس الشيوخ إنه كان يعتبر كل إجراء عام يُعرض عليه وكأنه اقتراح مطلق صادر عن إقليدس، غير مقيد بأية اعتبارات ذات اتهام سياسي، وكان النجم الذي يهتدي به هو مبدأ البيوريتانية السياسية الذي وضعه والده قبل ذلك بسنوات طويلة، وهو: «القاضي هو خادم الله، لا خادم شهواته ورغباته، كما أنه ليس خادم الشعب.»

غير أن الانشقاق بين الحزب والسناتور لم يصبح أمرًا يتعذر إصلاحه إلا في سنة ١٨٠٧، ونددت به أكثرية دائرته الانتخابية، كما ندد به زعماء الحزب، وكان طبيعيًّا أن يعود سبب انفصاله عن الحزب بصورة نهائية إلى سياسة البلاد الخارجية، فعندما ساءت علاقاتنا مع بريطانيا العظمى واستولى البريطانيون على سفننا وصودرت بضائعنا، و«تأثر» بحارتنا بالطرادات البريطانية وأُرغموا على العمل — كرعايا بريطانيين كما زعم — في بحرية الملك، وجُند ألوف من البحارة الأميركيين على أساس منظم، وضلت السفن طريقها في عرض البحر لنقص في البحارة، وفي كثير من الأحيان كانت السلطات البريطانية لا تسمح بالعودة حتى لأولئك الذين يثبتون جنسيتهم الأميركية، وثارت غريزة حب الوطن في آدمز؛ واشتد غضبه لأن التجار الفدراليين أنفسهم الذين هوجمت بواخرهم قرروا أن مهادنة بريطانيا هي الحل الوحيد لمشكلتهم، وذهب زملاؤه الفدراليون حتى إلى حد تبرير هذه الإجراءات العدوانية بالحديث بغموض عن مصاعب بريطانيا في حربها مع فرنسا وعن اللهجة الودية التي نبديها نحو هذه الأخيرة، وعمد آدمز في سنة ١٨٠٦، ودون أن يخفي احتقاره لهذا الموقف، إلى إعداد سلسلة من الاقتراحات — فيما وصفه في مفكرته بتجربة فريدة له — تندد بالعدوان البريطاني على البواخر الأميركية، وتطلب إلى الرئيس أن يطالب بإعادة هذه البواخر المصادرة والتعويض عنها، وقد نجح في حمل مجلس الشيوخ على تبني هذه الاقتراحات، وعارض الفدراليون طبعًا اقتراحات آدمز بشدة كما فعلوا بالنسبة إلى قانون أعدَّه آدمز وأيدته الإدارة يدعو إلى فرض قيود على الواردات البريطانية، وأصبح آدمز بعد ذلك ولجميع الأغراض العملية رجلًا دون حزب.

وأخيرًا وفي صيف سنة ١٨٠٧ أطلقت البارجة الحربية البريطانية ليبارد النارَ على سفينة أميركية حربية صغيرة هي تشيسبيك بالقرب من رأس فيرجينيا، بعد أن رفضت السفينة الأميركية الخضوع للتفتيش أو تسليم أربعة من بحارتها ادعى الإنكليز أنهم رعايا بريطانيون، وقُتل عدد من البحارة الأميركيين أو جُرحوا، واقتنع آدمز الساخط بأنه سواء كان هناك حزب أم لم يكن فإن الوقت قد حان للقيام بإجراء قوي ضد مثل هذه الأعمال التي لا تطاق، وناشد المسئولين الفدراليين المحليين عقد اجتماع على مستوى المدينة في بوسطن احتجاجًا على الحادث، وازداد سخط آدمز عندما رُفض اقتراحه وحاول فدرالي بارز تبرير حادث الهجوم الذي قامت به ليبارد، ووجد ما يبعث ارتياحًا مقرونًا بالكآبة في نفسه أن الحزب الجمهوري قرَّر عقد اجتماع مماثل في مجلس الولاية في الأسبوع ذاته.

وحذَّر الحزب الفدرالي أتباعه المؤمنين من أن الاجتماع لا يمثل إلا «نوعًا من نهج صاخب شاذ يجب أن يمتنع كل رجل شريف وصادق» عن حضوره، ولكن جون كوينسي آدمز حضر الاجتماع، وعلى الرغم من أنه رفض أن يعمل كوسيط فإنه كان فعالًا في صياغة مشروع قتالي أقره المجتمعون وتعهدوا بموجبه للرئيس بأرواحهم وثرواتهم تأييدًا «لأية إجراءات مهما تكن خطورتها.»

وثار سخط الفدراليين، ومع أنهم دعوا على جناح السرعة إلى اجتماع رسمي على صعيد المدينة ليتعهدوا نفاقًا ورياء بتأييدهم للرئيس أيضًا، فإنهم قالوا علنًا إنه «يجب قطع رأس جون كوينسي آدمز لارتداده … ويجب ألا يعتبر أن له أية صلة بالحزب» لاشتراكه في اجتماعات الجمهوريين وقضاياهم، وقال السناتور في وقت لاحق: «لقد كانت تلك هي المرحلة التي أبعدتني اعتبارًا من ذلك اليوم وإلى الأبد عن مجالس الحزب الفدرالي.»

وعندما دعا جفرسون الكونغرس في ١٨ أيلول (سبتمبر) سنة ١٨٠٧ إلى الانتقام من البريطانيين بفرض حظر فعال على تجارتهم الدولية — وهو إجراء بدا مدمرًا بالنسبة إلى مساتشوستس التي كانت أكبر ولاية تجارية في البلاد — كان جون كوينسي آدمز ممثل مساتشوستس، هو الذي اعتلى منصة الخطابة في مجلس الشيوخ، ودعا إلى إحالة رسالة الرئيس على لجنة مختارة، كما كان الرجل الذي ترأس اللجنة، والذي وضع تقريرًا عن مشروع قانون فرض الحظر وعلى مشروع قانون ثانٍ أعده هو نفسه يمنع البواخر البريطانية من دخول المياه الأميركية.

وقال آدمز الشاب يحدث زميلًا له عندما انتهت اللجنة من عملها، وبدأ أعضاؤها يتوجهون إلى قاعة مجلس الشيوخ: «إن هذا الإجراء سيكلفك ويكلفني مقعدينا، ولكن يجب ألا توضع المصلحة الخاصة في مستوى المصلحة العامة.»

وأصر الزعماء الفدراليون على أن فرض الحظر محاولة يقوم بها جفرسون للقضاء على ازدهار نيو إنكلاند ولاستفزاز إنكلترا ودفعها إلى الحرب ولمساعدة الفرنسيين، وعلى الرغم من أن الجمهوريين في نيو إنكلاند رفضوا تأييد مشروع القانون الذي عرضه رئيسهم، فإن الحزب الفدرالي استغل المسألة ليسجل انتصارًا في مجلسي الهيئة التشريعية لولاية مساتشوستس، وعندها أصبح الحديث عن انفصال نيو إنكلاند أمرًا شائعًا.

غير أنه مهما تكن شدة كراهيتهم لجفرسون والحظر الذي فرضه فإن فدراليي مساتشوستس وتجارها وغيرهم من المواطنين كانوا أكثر شعورًا بالمرارة؛ لأن ممثلهم في مجلس الشيوخ «هجر» صفوفهم وانضم إلى العدو، فقالت صحيفة هامبشير غازيت التي كانت تصدر في نورثامبتون إنه «كناس حزب وواحد من الساسة الطموحين، يعيش في الماء وعلى الأرض، يلجأ إلى الماء تارة وإلى الأرض طورًا، ولكنه يستقر في النهاية في الوحل.» وقالت صحيفة سالم غازيت، إن آدمز رجل «يسعى لكسب الشعبية … ويخطب ود الحزب المهيمن، وهو واحد من شيوخ بونابرت». وقالت صحيفة غرينفيلد غازيت إنه مرتد «انضم إلى قتلة شخصية أبيه.» وتحولت ضده دوائره الاجتماعية ذاتها في بوسطن، بما في ذلك الأغنياء والمثقفون وأصحاب النفوذ، وقال أحد كبار المواطنين في بوسطن وهو يرفض حضور مأدبة عشاء حضرها آدمز «لن أجلس إلى المائدة ذاتها التي يجلس إليها مرتد.» وكتب فدرالي بارز إلى المتنفذين في الحزب في واشنطن متهللًا يقول: «إنه يسير في شارع الولاية في الساعة المعتادة ذاتها ولكنه يبدو غير معروف بالمرة.»

وعقدت الهيئة التشريعية الفدرالية اجتماعًا مشتركًا في نهاية شهر أيار (مايو) سنة ١٨٠٨، «بهدف رئيسي» واحد — كما قال حاكم مساتشوستس الجمهوري — «هو تدمير جون كوينسي آدمز سياسيًّا وشخصيًّا»، وما إن انتظم عقد المجلس حتى اختارت الهيئة التشريعية فورًا خلفًا لآدمز قبل تسعة أشهر من انتهاء عضويته، ثم تبنت مشاريع قرارات تطلب إلى ممثليها في مجلس الشيوخ الدعوة إلى نقض الحظر.

وأدرك آدمز «أن الانتخاب أُجري بغية دمغي فقط؛ ذلك لأنه ما كان ليجري وفقًا للنظام قبل الدورة الشتوية للهيئة التشريعية.» وشعر بأن القرارات التي ألزمت بها «ممثليها في مجلس الشيوخ كانت تصرفًا يرفضه تقديري ولا تطيقه روحي أو تصبر عليه.»

ولم يبق أمامه ضميريًّا، غير سبيل واحد، فاستقال من عضوية مجلس الشيوخ ليدافع عن سياسات ذلك الرجل الذي أبعد والده عن منصب الرئاسة.

وكتب يقول: «لقد كانت مسألة احتلال مقعد دون حرية تامة أمارسها بنفسي ووفقًا لشعوري دون سواي، كما هو حق، أمرًا غير وارد بالمرة.»

«وأود أن أقول أيضًا إنني لست آسفًا على أي عمل قمت به وعانيت ما عانيت في سبيله، ولو كُتب لي أن أقوم بهذا العمل مرة ثانية لقمت به حتى لو ارتفعت مخاطر المهانة والكراهية والتشريد إلى عشرة أضعافها.»

وعاد جون كوينسي آدمز الذي مقته الفدراليون وكان موضع شك من جانب الجمهوريين، عاد إلى الحياة الخاصة، وكتب لنجمه أن يظهر من جديد، ولكنه لم ينس هذه الحادثة ولم يتخل عن شجاعة ضميره (ويقال إنه حين كان رئيسًا للجمهورية كسياسي مستقل اقترح أحدهم شرب نخبه قائلًا «ليبعث الفوضى في صفوف أعدائه»، فقال دانيال وبتسر بجفاء معلقًا «كما فعل بأصدقائه من قبل»)، وما إن اعتزل آدمز البيت الأبيض في سنة ١٨٢٩ حتى طلب إليه الناخبون في منطقة بليموث تمثيلهم في الكونغرس، وتجاهل نصح أفراد أسرته وأصدقائه ورغبته في أن يتوفر له الوقت ليعكف على كتابة سيرة والده، ووافق على قبول المنصب إذا هو انتخب له، ولكنه اشترط أولًا: ألا ينتظر منه أن يتقدم كمرشح يسعى لكسب الأصوات، ثانيًا: أنه سيسير في طريق داخل الكونغرس مستقل تمامًا عن الحزب وعن أولئك الذين ينتخبونه، واختير آدمز على هذا الأساس بأكثرية ساحقة وظل يحتل مقعده في الكونغرس إلى حين وفاته، وهنا كتب ما قد يعتبر أكثر الصفحات إشراقًا في تاريخه؛ لأنه «كرجل مسن بليغ» وقف هيبته المدهشة وطاقاته التي لا تنفد على الكفاح ضد الرق.

وكانت عودته على هذا الأساس المستقل إلى الكونغرس الذي خرج منه بشكل مهين قبل ذلك باثنين وعشرين عامًا، تجربة جد مؤثرة للسناتور السابق الشجاع، وكتب في مفكرته باعتزاز يقول: «إنني عضو منتخب في الكونغرس الثاني والعشرين، ولم يبعث أي انتخاب أو تعيين مثل هذا السرور في نفسي، ولم يكن انتخابي رئيسًا للولايات المتحدة ليبعث في صميم روحي نصف مثل هذا الارتياح.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤