الفصل الثاني

دانيال وبستر

… ليس كرجل من مساتشوستس ولكن كأميركي …

لم تكن تلك الليلة العاصفة في ٢١ كانون الثاني (يناير) سنة ١٨٥٠ في واشنطن، ليلة تسمح لرجل مسن مريض بالخروج من منزله، ولكن هنري كلاي الذي كان يمازج تنفسه صفير، وتعتريه نوبات من السعال، شق طريقه عبر العاصفة الثلجية إلى منزل دانيال وبستر، كان في رأسه مشروع لإنقاذ الاتحاد، وكان يدرك أنه لا بد له من الحصول على تأييد أدهى ساسة الشمال، وأبلغهم خطابة، وكان يعرف أن ليس لديه وقت يضيعه؛ ذلك لأن الرئيس تيلور بعث بعد ظهر ذلك اليوم برسالة إلى الكونغرس يطلب فيها قبول كاليفورنيا كولاية حرة، وبالتالي صب وقودًا على ألسنة النار المستعرة التي تهدد بالتهام الاتحاد. وتساءل الشماليون عن السبب الذي أخفق معه الرئيس في أن يذكر نيو مكسيكو في رسالته. وقال الجنوبيون وماذا عن وضع قانون العبيد الهاربين، موضع التنفيذ؟ وماذا عن تجارة الرقيق في منطقة كولومبيا ومناطق حدود يوتاه وتكساس؟ والتهبت المشاعر، وبدأت المؤامرات تتكشف، وعم الشقاق البلاد.

ولكن كان لدى هنري كلاي مشروع، مشروع لتسوية كبيرة جديدة للإبقاء على الأمة. ومضت ساعة وهو يشرح تفصيلاته لدانيال وبستر في منزل هذا الأخير، وقد ساد اجتماعهما جوٌّ من الحرارة والارتياح، وتحدث الاثنان عن كيفية إنقاذ الاتحاد، وقليلة هي الاجتماعات في تاريخ أميركا التي أثمرت على نحو ما أثمر هذا الاجتماع، والتي كانت نتائجها شديدة السخرية؛ ذلك لأن تسوية سنة ١٨٥٠ أضافت إكليل غار جديد إلى هنري كلاي كصانع سلام، أما تأييد دانيال وبستر الذي ضمن النجاح للتسوية، فقد أدى إلى صلبه سياسيًّا، كما أدى إلى تنديد التاريخ به طوال نصف قرن أو أكثر.

كان ذلك الرجل الذي زاره هنري كلاي في تلك الليلة الممطرة، من أغرب الشخصيات في تاريخ أميركا السياسي. وينظر كثيرون منا إلى دانيال وبستر الآن، كرجل خاض معركة ضد الشيطان من أجل إنقاذ روح جابزستون في قصة ستيفن فينسنت بينيت، ولكنه خاض إبان حياته عدة معارك ضد الشيطان في سبيل إنقاذ روحه، وخسر بعض هذه المعارك. وكتب أحد أصدقائه المقربين يقول: إن وبستر «مزيج من القوة والضعف، ومن التراب والألوهية.» أو كما قال أمرسون، كان «رجلًا عظيمًا قليل الطموح.»

ولا مجال هناك للشك في أنه كان رجلًا عظيمًا، فقد بدا رجلًا عظيمًا، وتحدث كرجل عظيم، وعومل كرجل عظيم، وأصر على أنه رجل عظيم، وكان دانيال وبستر بكل أخطائه ونقائصه الشخصية الأكثر موهبة التي عرفها الكونغرس في تاريخه، ليس من حيث مقدرته على كسب تأييد الناس لقضية ما، فقد كان هنري كلاي أبرع منه في ذلك، وليس من حيث مقدرته على صياغة فلسفة حكومية؛ فقد كان كالهون أقدر منه على ذلك، ولكن من حيث مقدرته على بعث الحياة والسمو في المعنى الكامن للوحدة والاتحاد الذي شعر به جميع الأميركيين، والذي لم يتمكن من الإعراب عنه غير القليلين.

كان وبستر خطيبًا بطيئًا جدًّا، ولم يكن معدل عدد كلماته يزيد على مئة في الدقيقة، ولكنه كان يجمع بين سحر صوته الموسيقي العذب كالأرغن، وحيوية الخيال والمقدرة على سحق خصومه بسيل من الوقائع، وأسلوب تتجلى فيه الثقة والتروي، وبمظهر خلاب كان يجعل من خطاباته مغناطيسًا يجتذب الجماهير مسرعة إلى قاعة مجلس الشيوخ، وكان يعد خطاباته بعناية فائقة، ولكنه قلَّ أن كان يكتبها، ويقال إنه كان يفكر في خطابه جملة جملة ويصحح الجمل في فكره دون استعمال أي قلم، ثم يلقي الخطاب كما فكَّر فيه تمامًا.

ومما لا شك فيه أن ذلك المظهر المدهش كان نصف سر قوته، وكان يُقنع كل من تطلع إلى وجهه بأنه ولد ليحكم الناس، وعلى الرغم من أن طوله كان أقل من ست أقدام فإن بنيته النحيلة إذا قورنت بكتفيه العريضتين كانت تضفي عليه وجودًا مسرحيًّا قويًّا، ولكن رأسه الغريب الشكل هو الذي وجد فيه معاصروه ما يستحق الذكر، ووصف كارليل معالم هذا الرأس بحيث يتذكره الجميع، فقال «بشرة لوحتها السمرة، ووجه شاذ الشكل أشبه بصخرة شامخة، وعينان سوداوان باهتتان تقبعان في قعر هوة تحت حاجبين تشبه كل منهما أتون فحم خامد ينتظر شعلة ليتقد، وفم أشبه بفم كلب كبير قوي أطبقت شفتاه.» ووصف أحد المعاصرين وبستر بأنه «كذبة حية لأنه لا يمكن لأي رجل على الأرض أن يكون في مظهره عظيمًا مثله.»

ومهما تكن أخطاء دانيال وبستر فإنه ظل أعظم خطباء عصره، وأكبر المحامين الأميركيين، ومن أشهر زعماء الحزب الجمهوري، وكان السناتور الوحيد الذي يستطيع أن يوقف كالهون عند حده، وهكذا عرف هنري كلاي أن عليه أن يستعين بهذه المواهب كلها تأييدًا للحل الوسط الكبير الذي أعده. وقد أثبت الزمن وأثبتت الأحداث أنه كان على صواب.

وحين كان دانيال الشبيه بالآلهة يصغي صامتًا، بذل كلاي المريض محاولته الكبيرة الأخيرة للإبقاء على الاتحاد متماسكًا، وكانت النقط الرئيسية في مشروعه خمسًا، وهي: (١) إدخال كاليفورنيا ولاية حرة لا مكان للرقيق فيها. (٢) تنظيم نيومكسيكو ويوتاه كمنطقتين دون قوانين لصالح الرقيق أو ضده، مناقضًا بذلك شرط ويلموت الذي كان موضع نقاش حاد والذي قصد به تحريم الرقيق في المناطق الجديدة. (٣) التعويض على تكساس عن بعض أراضٍ تضم إلى نيومكسيكو. (٤) إلغاء تجارة الرقيق في مقاطعة كولومبيا. (٥) سن قانون أكثر صرامة وتطبيقًا ضد العبيد الهاربين يضمن إعادتهم إلى أسيادهم لدى اعتقالهم في الولايات الشمالية. وكان لا بد من أن تكون هذه التسوية موضع تنديد من جانب المتطرفين الجنوبيين الذين رأوا فيها محاولة تهدئة وعلى الأخص بالنسبة إلى البندين الأول والرابع، ومن جانب الشماليين الذين يدعون إلى إلغاء الرقيق؛ لأنهم رأوا فيها تنازلات للجنوبيين تشكل ٩٠٪ وإعطاء الشمال ١٠٪ كاسترضاء لا معنى له، وعلى الأخص بالنظر إلى البندين الثاني والخامس، هذا بالإضافة إلى أن قليلين من الشماليين تمكنوا من هضم أية تقوية لقانون العبيد الهاربين، الذي كان أكثر القوانين التي سنها الكونغرس مثار كراهية وعصيان إلى حين قانون منع الخمور. وذهبت ولاية مساتشوستس إلى حد اعتبار تنفيذ أي شرط من شروطه داخل الولاية جريمة يعاقب عليها القانون.

وإذن كيف يأمل هنري كلاي أن يكسب تأييد دانيال وبستر ممثل مساتشوستس لمثل هذا المشروع؟ أوليس وبستر من أعداء الرق ومن مؤيدي الشرط الذي وضعه ويلموت؟ أوليس هو الذي قال في مجلس الشيوخ خلال مناقشة أوريغون: سأعارض انتشار الرقيق، وزيادة تمثيله في جميع الأماكن والأوقات، ومهما تكن الظروف حتى في وجه جميع المغريات وضد كل تحديد مفترض للمصالح الكبرى وضد جميع التكتلات وفي وجه جميع التسويات. وفي الأسبوع ذاته كتب إلى صديق يقول: «إنني أعتبر الرقيق منذ أيام شبابي شرًّا أخلاقيًّا وسياسيًّا كبيرًا … ولذلك عليك ألا تخشى من أن أصوت إلى جانب أي حل وسط أو أن أفعل شيئًا لا يتفق والماضي.»

ولكن دانيال وبستر خشي أن تؤدي حرب أهلية «إلى تقوية سلاسل العبيد»، وكان الإبقاء على الاتحاد أعز بكثير على قلبه من معارضته للرق.

وهكذا وفي تلك الليلة المصيرية من شهر كانون الثاني (يناير) وعد دانيال وبستر هنري كلاي بتأييد مشروعه تأييدًا مشروطًا وسجل آراءه في الأزمة المحيطة به، وقد شارك في بادئ الأمر آراء أولئك النقاد والمؤرخين الذين سخروا من إمكانية الانفصال في سنة ١٨٥٠، ولكن بعد أن تحدث إلى الزعماء الجنوبيين لاحظ قائلًا «أعتقد أن حالة البلاد والنتيجة المحتومة لترك المشادات القائمة دون حل سيؤدي إلى حرب أهلية.» وكتب إلى ابنه يقول: «بت على وشك الانهيار نتيجة للإرهاق والقلق، ولست أعرف كيف أجابه الحالة الراهنة أو بأي سلاح يمكنني أن أقضي على حماقات الشماليين والجنوبيين التي تهب الآن متساوية في التطرف … فمعنوياتي ضعيفة وشجاعتي قليلة.»

وكانت مجموعتان تهددان بالانفصال عن الولايات المتحدة في سنة ١٨٥٠، ففي نيو إنكلاند كان غاريسون يقول علنًا «أنا أنادي بتحرير العبيد؛ ولذلك فإنني إلى جانب حل الاتحاد.» وأعلن اجتماع حاشد عقده أنصار تحرير العبيد الشماليون «أن الدستور ميثاق مع الموت واتفاق مع الجحيم.» وفي الجنوب كتب كالهون إلى صديق له في شهر شباط (فبراير) سنة ١٨٥٠ يقول: «إن انفصام عرى الاتحاد هو البديل الوحيد المتروك لنا.» وفي آخر خطاب عظيم في مجلس الشيوخ تُلي بالنيابة عنه في الرابع من آذار مارس؛ أي قبل أسابيع قليلة من وفاته، وكان يجلس وقد بلغ به الضعف بحيث لم يعد يقوى على الكلام: «إن الجنوب سيضطر إلى الاختيار بين تحرير العبيد والانفصال.»

وحث مؤتمر تمهيدي عقده الجنوبيون بإيعاز من كالهون على عقد مؤتمر واسع النطاق للجنوب في ناشفيل في شهر حزيران (يونيو) من تلك السنة المشئومة لنشر فكرة حل الاتحاد.

وكان الوقت مؤاتيًا للانفصال، وقليلون هم الذين كانوا على استعداد للحديث في جانب الاتحاد، وحتى ألكسندر ستيفنز ممثل جورجيا، وكان حريصًا على المحافظة على الاتحاد، كتب إلى أصدقائه في الجنوب ممن كانوا يعطفون على آرائه، يقول: «إن الشعور بين الأعضاء الجنوبيين بالنسبة إلى حل الاتحاد … بات أكثر شمولًا، وبدأ الناس يتحدثون عنه الآن بصورة جدية، وكان هؤلاء الناس لا يسمحون لأنفسهم بمجرد التفكير فيه قبل ١٢ شهرًا … والأزمة ليست بعيدة … وإنني أعتبر الآن انحلال هذه الجمهورية أمرًا محتومًا.»

وخلال الشهر الذي سبق الخطاب الخطير الذي ألقاه وبستر، وافقت ست ولايات جنوبية، كان لها أن أعلنت الانفصال بعد ١٠ سنوات، على أهداف مؤتمر ناشفيل وعينت مندوبيها إليه.

وهكذا كانت الحالة الخطيرة في البلاد في الأشهر الأولى من سنة ١٨٥٠.

ولم تأتِ نهاية شهر شباط (فبراير) حتى قرر السناتور من مساتشوستس الخط الذي سيسير فيه، ورأى دانيال وبستر أن الحل الذي وضعه كلاي قد يحول دون الانفصال والحرب الأهلية، وكتب إلى صديق يقول إنه يعتزم أن «يلقي خطابًا صادقًا يضمنه الحقائق ويدعم الاتحاد بحيث يريح ضميره.» وعندما عكف على إعداد ملاحظاته تلقى تحذيرات كثيرة من الحملات التي قد يثيرها خطابه، وحثه أبناء دائرته الانتخابية وصحف مساتشوستس بعدم التردد في موقفه الثابت من تحرير العبيد، وحثه كثيرون على وجوب استعمال لهجة أشد ضد الجنوب، ولكن وبستر عقد عزمه كما قال لأصدقائه في السادس من آذار (مارس) «على دفع قاربي بنفسي من الشاطئ»، وعلى أن يعمل وفقًا للعقيدة التي تحدى بها مجلس الشيوخ قبل ذلك بعدة سنوات:

«إن ثمة ما يبرر في كثير من الأحيان التقلب في الرأي الناجم عن تغييرات في الظروف، ولكن هناك نوعًا واحدًا من تقلب الرأي لا يُغتفر هو التناقض بين إيمان الفرد وصوته، بين ضميره ومسلكه، ولن يستطيع أحد أن يتهمني بهذا النوع من التقلب.»

وهكذا جاء السابع من آذار (مارس) سنة ١٨٥٠.

أنعش وبستر — الذي أدرك بعد أشهر من الأرق والسهد أن هذا هو آخر جهد كبير تسمح به صحته — قوته بأكسيد الزرنيخ وعقاقير أخرى، ووقف وقته ذلك الصباح على تنقيح الملاحظات التي أعدها لخطابه، وقبل الموعد المحدد لاجتماع مجلس الشيوخ بساعتين غصت قاعات مبنى الكابيتول وشرفاته والغرف الخلفية والممرات بأولئك الذين قضوا عدة أيام في السفر، قادمين من مختلف أنحاء البلاد ليستمعوا إلى دانيال وبستر.

وعندما نهض واقفًا على قدميه خيم الصمت على الجمهور وتسمرت الأنظار على الخطيب، ولم يكن أحد غير ابنه يعرف ما الذي سيقوله.

واستنجد وبستر لآخر مرة بسحر مقدرته الخطابية فتخلى عن معارضته السابقة للرق في الولايات، وتخلى عن مقت أبناء دائرته الانتخابية لقانون العبيد الهاربين، وتخلى عن مكانته في تاريخ أبناء بلده وقلوبهم، وتخلى عن آخر فرصة للهدف الذي كان يسعى له منذ أكثر من عشرين عامًا — الرئاسة، وفضل دانيال وبستر المغامرة بحياته السياسية وبسمعته على المغامرة بالاتحاد.

واستهل خطابه بقوله: «سيدي الرئيس، لا أود أن أتحدث اليوم كرجل من مساتشوستس أو كرجل من الشمال، ولكن كأميركي وكعضو في مجلس الشيوخ الأميركي … إنني أتحدث اليوم إلى جانب الاتحاد، فأرجو الاستماع إلى ما سأقول.»

ودافع وبستر طوال ثلاث ساعات وإحدى عشرة دقيقة لم يعد خلالها إلى ملاحظاته غير مرات قليلة عن قضية الاتحاد، وبعد أن سرد ظلامات الجانبين دعا إلى التوفيق والتفاهم باسم حب الوطن، وقال إن الشغل الشاغل لمجلس الشيوخ هو الإبقاء على الولايات المتحدة الأميركية لا تعزيز الرق أو إلغاؤه، وانتقد بمرارة وبحجج منطقية مقنعة وبعد نظر مدهش فكرة «الانفصال المستكين»:

«سيدي، لم يكتب لعينيك أو عينيَّ أن تشهدا تلك المعجزة، معجزة تقطيع أوصال هذه البلاد الواسعة، دون أن ينتابها التشنج، ومَن هو ذلك الأحمق … الذي يتوقع أن يشهد مثل هذا الأمر؟ … وبدلًا من أن نتحدث عن احتمال الانفصال ومنافعه، وبدلًا من أن نعيش في كهوف الظلام هذه … دعونا نتمتع بنسيم الحرية والاتحاد العليل … ولنجعل جيلنا حلقة من أقوى الحلقات وأكثرها إشراقًا في تلك السلسلة الذهبية التي كُتب لها كما أعتقد جازمًا، أن تشد شعوب جميع الولايات إلى هذا الدستور لعصور كثيرة قادمة.»

وهكذا زال خطر الانفصال الفوري وسفك الدماء، وقد جرَّد خطاب وبستر كما قال السناتور ونثروب «الجنوبَ من السلاح وهدَّأه، وحوَّل مؤتمر ناشفيل إلى حطام.» وقالت مجلة التجارة بعد ذلك بشهور «إن وبستر فعل أكثر من أي رجل آخر في البلاد وعلى حساب شعبيته للقضاء على تيار الانفصال ودحره إلى الوراء، التيار الذي كان يهدد في سنة ١٨٥٠ بهدم دعائم الدستور والاتحاد.»

وبعثت روح المصالحة في خطاب وبستر في نفس الشمال شعورًا حقًّا بأنه قام بكل محاولة لمعاملة الجنوب معاملة عادلة، وبات المدافعون عن الاتحاد أكثر اتحادًا وقوة ضد ما شعروا بأنه انتهاك جنوبي لهذه التسويات بعد عشر سنوات، ورأى الشماليون من الناحية العسكرية أن تأجيل المعركة لعشر سنوات يمكِّن الولايات الشمالية من زيادة شعبيتها وقوتها الانتخابية، ومن زيادة الإنتاج وتوسيع شبكة الخطوط الحديدية.

ولا شك في أن هذا كان موضع فهم لدى كثيرين من أنصار وبستر بمن فيهم رجال الأعمال وأصحاب المهن في مساتشوستس الذين ساعدوا على توزيع مئات الألوف من نسخ خطاب السابع من آذار (مارس) في مختلف أنحاء البلاد.

ولكن الذين كانوا ينادون بتحرير العبيد، لم يفهموا ذلك، شأنهم شأن أعضاء حزب التربة الحرة الذي شُكل في سنة ١٨٥٠ لتوسيع تجارة الرقيق، وندد اجتماع حاشد عُقد في قاعة فونيل بالخطاب ووصفه بأنه «غير جدير بسياسي حكيم ورجل طيب»، وقرر أنه «سواء كان هناك دستور أم لم يكن، أو كان هناك قانون أم لم يكن، فإننا لن نسمح بأن يؤخذ عبد هارب من مساتشوستس.» وفي الوقت الذي اتخذ فيه المجلس التشريعي في مساتشوستس قرارات أخرى تناقض روح خطاب السابع من آذار، وصف أحد الأعضاء وبستر «بابن مساتشوستس الخائن العاق الذي يسيء تمثيلها في مجلس الشيوخ.» وقال ثانٍ: «إن دنيال وبستر سيكون رجلًا محظوظًا إذا أبقى الله بما لديه من رحمة على حياته مدة كافية ليتوب عن فعلته، ويمحو هذه الوصمة التي لطخت اسمه.»

وأُذل دانيال وبستر إلى الأبد في تاريخنا الأدبي بكلمات جارحة صدرت عن أديب عُرف أبدًا بدماثته ونعومته هو جون غرينليف ويتيير في قصيدته الخالدة «إيشابود»:

هكذا سقط وهكذا ضاع، وزالت هالة
النور التي كانت تلفه، وتلاشى إلى الأبد المجد
الذي كان يجلل شعره الأشيب …
لم يبقَ من أولئك الذين أحببناهم وكرَّمناهم
غير سطوتهم واقتدارهم.
كبرياء تفكير ملاك ساقط
لا يزال قويًّا في سلاسله …
إذن قدِّموا واجبات احترام الأيام السالفة
لشهرته الميتة
وسيروا إلى الوراء وأشيحوا بوجوهكم عنه
واستروا العار والخزي.

وبعد ذلك بسنوات قال ويتيير إنه كتب هذا الشعر المرير «في لحظة من أتعس اللحظات في حياتي.» وكانت حملة ويتيير مرة بنوع خاص لدانيال وبستر المتغطرس، ومارد العصور الذي كان يزدري كل شيء، ويترفع عن الأحقاد السياسية، وحاول إلى درجة ما، تجاهل مَن يحملون عليه، وعدم الالتفات إليهم قائلًا إنه كان يتوقع أن يتعرض للتشهير والقذف والمهانة، وعلى الأخص من جانب مَن كانوا ينادون بتحرير العبيد، والمثقفين الذي سبق لهم أن أبدوا احتقارهم له، كما أُهين جورج واشنطن وآخرون سبقوه، وكان يكتفي، بالنسبة إلى الذين كانوا جديرين، بسردٍ سريعٍ لقصة ذلك الشماس الذي قال لأصدقاء له حين وقع في ورطة «إن لي قاعدة أتبعها هي ألا أنظف الطريق قبل أن يتوقف سقوط الثلوج.»

وفي السنة التالية، وعلى الرغم من بلوغه السبعين قام وبستر بجولة خطابية واسعة النطاق، دافع فيها عن موقفه قائلًا «إنه لو كان الاحتمال بنشوب حرب أهلية واحدًا في الألف، لشعرت بأن من الواجب الحذر من ذلك الاحتمال مهما تكن التضحية.» وعندما نجحت جهوده وجهود كلاي ودوغلاس وغيرهم في سبيل التسوية في النهاية قال متهكمًا إن كثيرين من زملائه «يقولون الآن إنهم كانوا يعتزمون أبدًا الوقوف إلى جانب الاتحاد حتى النهاية.»

ولكن حُكم بالخيبة على آمال دانيال وبستر في أن يمكنه هذا التأييد الكامن من السعي لرئاسة الجمهورية؛ لأن خطابه دمَّر هذه الآمال كليًّا بحيث إن عودة شعبيته لم تكن لترضي جماهير الناخبين في نيو إنكلاند والشمال، ولم يفز بالترشيح لمنصب الرئاسة الذي تطلع إليه، ولكنه لم يتمكن كذلك من القضاء على الرأي، الذي لم يعرب عنه نقاده الذين عاصروه فقط وإنما مؤرخون عديدون في القرن التاسع عشر، القائل: إن هدفه الرئيسي من خطاب السابع من آذار (مارس) كان محاولة لكسب تأييد الجنوبيين له في سعيه لمنصب الرئاسة.

ولكن «أنانيته العميقة» التي يؤكد أمرسون أن الخطاب مثلها، لم تكن من دوافعه. «فلو كان يسعى للرئاسة» كما يقول البروفسور نيفنز: «لعمد إلى تشذيب عباراته، ولضمَّن خطابه كلمات مراوغة بالنسبة إلى نيو مكسيكو والعبيد الهاربين، والحيطة الأولى التي يلجأ إليها كل مَن يصبو إلى الرئاسة هي التأكد من ولايته، والدائرة الانتخابية التي ينتمي إليها، وكان وبستر يعرف أن خطابه سيثير صيحات استنكار تتردد أصداؤها بين ماونت مانسفيلد وموناموي لايت.»

وهكذا مات دانيال وبستر، الذي لم يكن ليقصد بخطابه تعزيز شعبيته السياسية، والذي لم يسمح لأطماعه بأن تُضعف من تمسكه بالاتحاد، ميتة رجل يائس ثبطت عزيمته في سنة ١٨٥٢، وقد تركزت عيناه على ذلك العلم الذي كان يخفق على سارية مركب شراعي كان قد ألقى بمرساته في البحر على مرأى من نافذة غرفة نومه، ولكنه كان حتى النهاية حريصًا على متانة خلقه؛ فقد قال وهو على فراش الموت مخاطبًا زوجته وأولاده وطبيبه «آمل بهذه المناسبة، ألا أكون قد قلت شيئًا غير خليق بدانيال وبستر.» وكان حتى النهاية مخلصًا للاتحاد ولمبدئه العظيم الذي يتميز بالشجاعة، ففي كلماته الأخيرة إلى مجلس الشيوخ خط وبستر شاهدة قبره:

«سأظل أقف إلى جانب الاتحاد … متجاهلًا كل التجاهل الاعتبارات الشخصية، وما هي الاعتبارات الشخصية … إذا قيست بالخير أو الشر اللذين قد يصيبان بلدًا عظيمًا في أزمة مثل هذه؟ … ولتكن العواقب ما تكون، فلست آبه لها، ولا يتألم أي امرئ فوق طاقته ولا يمكن لأي امرئ أن يسقط قبل أوانه، إذا هو تألم أو سقط دفاعًا عن حريات بلاده ودستورها.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤