الفصل الخامس

أدموند ج. روس

تطلعت إلى قبري المفتوح …

في قبر منعزل منسي ومجهول يرقد «الرجل الذي أنقذ رئيسًا»، والذي ربما بالتالي حفظ لنا وللأجيال القادمة حكومة دستورية في الولايات المتحدة — الرجل الذي قام في سنة ١٨٦٨، بما وصفه أحد المؤرخين «بأعظم عمل بطولي في التاريخ الأميركي، تصعب مضاهاته بأي عمل باسل في ميدان المعركة» — ليس هذا الرجل إلا عضوًا في مجلس الشيوخ الأميركي، لا يذكر اسمه أحد، إنه: أدموند ج. روس من كنساس.

وكانت محاكمة الرئيس أندرو جونسون بتهمة التقصير — وهي الحدث الذي قدر لروس المغمور أن يلعب فيه دورًا دراماتيكيًّا — ذروة الصراع المثير بين الرئيس الذي عقد العزم على السير في سياسة المصالحة مع الجنوب المهزوم التي اتبعها أبراهام لنكولن، والزعماء الجمهوريين الأكثر راديكالية في الكونغرس، الذين أرادوا معاملة الولايات الجنوبية كمقاطعات مغلوبة فقدت حقوقها بموجب الدستور. وبالإضافة إلى ذلك كانت المحاكمة صراعًا بين الهيئتين التنفيذية والتشريعية.

وكان أندرو جونسون الرجل الشجاع ابن تنيسي — وإن افتقر إلى الكياسة — العضوَ الجنوبي الوحيد في الكونغرس الذي رفض الانفصال لولايته، وقد ألزم نفسه بسياسات المحرر الأكبر بعد أن خلفه في منصبه نتيجة لرصاصة مغتال، وكان يعرف أن لنكولن اصطدم قبل وفاته مع المتطرفين في الكونغرس الذين عارضوا أسلوبه في إعادة التعمير بطريقة دستورية وخيرية، وحاولوا جعل الهيئة التشريعية فوق الهيئة التنفيذية، وقضى طبعه الميال إلى الخصام على كل أمل في أن يوافقه الكونغرس في تنفيذ سياسة لنكولن من حيث السماح للجنوب في استعادة مكانه في الاتحاد بأقل ما يمكن من تأخير وجدل.

وعندما دخل أدموند روس مجلس الشيوخ في سنة ١٨٨٦ لأول مرة، كانت كل من الهيئتين تمسك بخناق الأخرى، وهي تزمجر غضبًا، ولكن الرئيس رفض القوانين الواحد تلو الآخر بحجة أن هذه القوانين لم تكن دستورية، وأنها بالغة القسوة في معاملتها للجنوب، وأنها تمديد غير ضروري للحكم العسكري في زمن السلم، أو بحجة أنها تتدخل دون مبرر في سلطة الهيئة التنفيذية، وللمرة الأولى في تاريخ أمتنا، أقرت إجراءات عامة مهمة على الرغم من رفض الرئيس لها وأصبحت قانونًا دون تأييده.

غير أن التجاوز لم يصب جميع الإجراءات التي نقضها أندرو جونسون، وسرعان ما أدرك الجمهوريون «الراديكاليون» في الكونغرس أن الحاجة تتطلب خطوة نهائية واحدة قبل أن يتمكنوا من سحق عدوهم الحقير (وفي حمى المعركة السياسية أصبحت فكرة انتقامهم من رئيسهم أقوى من فكرة الانتقام من أعدائهم العسكريين السابقين في الجنوب)، وكانت تلك الخطوة المتبقية، هي ضمان أكثرية ثلثي الأصوات في مجلس الشيوخ؛ ذلك لأن هذه الأكثرية كانت ضرورية بموجب الدستور لإبطال مفعول الفيتو الذي يمارسه الرئيس، والأهم من ذلك هو أنه لا بد من مثل هذه الأكثرية بموجب الدستور، لتحقيق هدف أكبر لم يكن سرًّا، هو إدانة الرئيس بتهمة إساءة استعمال السلطة وطرده من منصبه.

وكان الجمهوريون الراديكاليون يدركون أن ليس في استطاعتهم، إن هم أرادوا إدانة الرئيس بتهمة التقصير، الاعتماد على أكثرية الثلثين المؤقتة غير الثابتة التي مكنتهم في عدة مناسبات من إقرار قوانين في مجلس الشيوخ بعد إبطال الفيتو الذي مارسه الرئيس، وأصبح الهدف الرئيسي للكونغرس، هو تعزيز هذه الأكثرية وتمتينها فيما يتعلق علنًا أو ضمنًا بقراراته بالنسبة إلى مسائل أخرى، وعلى الأخص إدخال ولايات جديدة إلى الاتحاد وإعادة إدخال الولايات الجنوبية وتقرير أوراق اعتماد أعضاء مجلس الشيوخ. وبطرق مبهمة للغاية حُرم سناتور موالٍ لجونسون من مقعده في مجلس الشيوخ، وتجاوزًا لنقض الرئيس، أُدخلت نبراسكا إلى الاتحاد، وبذلك ازداد عدد أعضاء مجلس الشيوخ المعادين للحكومة عضوين اثنين، وعلى الرغم من أن مناورات جرت في اللحظات الأخيرة أخفقت في ضم كولورادو رغمًا عن الفيتو الذي مارسه الرئيس (وكانت كولورادو القليلة السكان قد رفضت صفة الولاية في استفتاء جرى فيها)، فإن مأساة لم تكن متوقعة استدرَّت دموعًا كاذبة، وبعثت آمالًا يانعة في إجراء تصويت جديد في كانساس.

وكان السناتور جيم لين ممثل كانساس جمهوريًّا «محافظًا» يعطف على سياسات جونسون من حيث السير في سياسات التعمير التي انتهجها لنكولن، غير أن ولايته الواقعة على الحدود كانت من أكثر الولايات راديكالية في الاتحاد، وعندما صوت لين إلى جانب ممارسة جونسون حق نقض قانون الحقوق المدنية لسنة ١٨٦٦، وعرض مشروع قانون الحكومة الذي يدعو إلى الاعتراف بالحكومة الجديدة في أركنسو، ثارت ثائرة كانساس، وشهَّر اجتماع حاشد، عُقد في لورنس، بالسناتور لين، وكال له الشتائم وتبنى بسرعة قرارات تندد بقوة بموقفه. وانتحر جيم لين في أول تموز (يوليو) سنة ١٨٦٦ بعد هذا الإذلال وبعد إصابته بمس في عقله واعتلال في صحته وبالنظر إلى تألمه لاتهامه بتلاعب مالي.

وتطلع الجمهوريون الراديكاليون في واشنطن، بعد أن أُزيلت هذه الشوكة من جوانبهم، إلى كانساس واختيار خلف للين، وتحققت أمنيتهم؛ إذ إن الشيخ الجديد من كانساس كان أدموند ج. روس الرجل الذي عرض في لورنس القرارات التي نددت بلين.

ولم يكن هناك أدنى شك في معرفة مكامن ميول روس؛ لأن حياته السياسية بأسرها كانت حتى ذلك الحين تتميز بمعارضة قوية للولايات الجنوبية — التي تمارس الرق — وأساليبها وأصدقائها.

وأُعد المسرح للمشهد الأخير (طرد جونسون). ففي أوائل سنة ١٨٦٧، سنَّ الكونغرس، رغم النقض الذي مارسه الرئيس، قانون حصانة الموظفين الذي يمنع الرئيس دون موافقة مجلس الشيوخ من إعفاء الموظفين الجدد، الذين يتطلب تعيينهم مصادقة هذا المجلس، ولم يكن هذا القانون في ذلك الوقت إلا ضجة أُثيرت لتحقيق مزيد من السيطرة؛ ذلك لأن أعضاء الوزارة كانوا أصلًا غير مشمولين بهذا القانون.

وفي الخامس من شهر آب (أغسطس) سنة ١٨٦٧، طلب الرئيس جونسون من أروين م. ستانتون وزير الحربية الذي تولى منصبه بعد لنكولن، الاستقالة فورًا بعد أن اقتنع بأنه كان آلة بيد الجمهوريين الراديكاليين، وبأنه كان يسعى لأن يصبح دكتاتورًا على الجنوب لا يُنازع، ولكن ستانتون أجاب بوقاحة بأنه لن يستقيل قبل جلسة الكونغرس القادمة. ولم يكن الرئيس رجلًا ينحني أمام هذه الوقاحة فكف يده بعد ذلك بأسبوع وعين مكانه الجنرال غرانت، الرجل الوحيد الذي لم يكن ستانتون ليجرأ على مقاومته. وفي ١٣ كانون الثاني (يناير) سنة ١٨٦٨، أبلغ مجلس الشيوخ المشتعل غضبًا، كلًّا من الرئيس وغرانت أنه لا يوافق على كف يد ستانتون، فأخلى غرانت المنصب لدى عودة ستانتون، ولكن الوضع أصبح لا يُطاق؛ لأن وزير الحربية لم يتمكن من حضور اجتماعات الوزارة أو الاشتراك مع زملائه في الحكم. وفي ٢١ شباط (فبراير) عمد الرئيس جونسون؛ حرصًا منه على استطلاع رأي المحكمة في هذا الإجراء الذي اعتقد أنه كان غير دستوري، إلى إشعار ستانتون بكف يده دون إبطاء.

وفي الوقت الذي رفض فيه ستانتون الانصياع، ولزم مكتبه، تحوَّل الرأي العام في البلاد بقوة ضد الرئيس؛ لأنه تعمد كسر القانون وحال بصورة دكتاتورية دون تنفيذ إرادة الكونغرس، وعلى الرغم من أن اقتراحات باتهام الرئيس بإساءة استعمال السلطة هزمت في السابق في المجلس بكامله وفي لجانه، فإن اقتراحًا جديدًا أُعد بصيغة عاجلة حظي بموافقة المجلس بأكثرية كبيرة في ٢٤ شباط (فبراير).

وبعد اتهام المجلس للرئيس بدأت المحاكمة في جوٍّ محموم لإدانته أو تبرئته بموجب مواد قانون محاكمة الموظفين، وقد انعقدت الجلسة في مجلس الشيوخ برئاسة رئيس المحكمة العليا، وذلك في الخامس من شهر آذار (مارس).

وأقسم كل عضو في المجلس اليمينَ بأن يكون «نزيهًا» (بمن فيهم السناتور الراديكالي المتصلب من أوهايو بنجامين ويد الذي كان بوصفه رئيسًا مؤقتًا لمجلس الشيوخ، صاحب الحظ الثاني لمنصب الرئاسة)، وكان رئيس هيئة الادعاء الجنرال بنجامين ف. بتلر (جزار نيو أورليانز)، وكان عضوًا موهوبًا في الكونغرس، من مساتشوستس، عُرف بفظاظته وغوغائيته (وعندما فقد مقعده في سنة ١٨٧٤ كرهه حزبه وخصومه على السواء، إلى درجة أن بعث جمهوري ببرقية ينبئ فيها بانتصار الديمقراطيين الكاسح، ويقول «هُزم بتلر وضاع كل شيء آخر»).

واستمرت المسرحية من الخامس من آذار (مارس) حتى السادس عشر من أيار (مايو)، وأقر المجلس إحدى عشرة تهمة، منها ثمانٍ تتعلق بتنحية ستانتون وتعيين وزير حربية جديد خلافًا لقانون حصانة الموظفين، وتعلقت التهمة التاسعة بحديث أجراه جونسون مع ضابط برتبة جنرال يُقال إنه يغري على انتهاك قانون اعتمادات الجيش، وتقول التهمة العاشرة إن جونسون ألقى خطابات متطرفة نارية ذمَّ فيها الكونغرس وشهَّر بقوانين الولايات المتحدة. أما التهمة الحادية عشرة فكانت مزيجًا غامضًا من جميع التهم السابقة.

وتبين من سير المحاكمة أن الجمهوريين الذين نفد صبرهم لم يريدوا توفير محاكمة عادلة للرئيس على أساس المسائل الرسمية التي بُنيت عليها التهم، وإنما أرادوا خلعه من البيت الأبيض بأية حجة، سواء كانت حقيقية أو خيالية، لرفضه اعتماد سياستهم، ومنع بشكل تعسفي الإدلاء بأية إفادة في مصلحة الرئيس، وأعلن معظم الشيوخ حكمهم سلفًا وبصورة مكشوفة، وتفشت محاولات الرشوة وأنواع أخرى من الضغط، ولم ينحصر الاهتمام الرئيسي في المحاكمة أو في البينة، وإنما في جمع الأصوات اللازمة للإدانة.

وكان وجود سبع وعشرين ولاية (باستثناء الولايات الجنوبية غير المعترف بها) في الاتحاد يعني أربعة وخمسين عضوًا في مجلس الشيوخ، وكانت أكثرية ثلثي الأصوات اللازمة لإدانة الرئيس تتطلب ستة وثلاثين صوتًا. ووضح أن أصوات الديمقراطيين الاثني عشر لا فائدة منها، وعرف الجمهوريون الاثنان والأربعون أنهم لا يستطيعون أن يفقدوا من أصواتهم غير ستة إذا هم أرادوا عزل جونسون، وأصيبوا بخيبة أمل عندما لمح ستة من الجمهوريين الشجعان في اجتماع تمهيدي جمهوري، إلى أن البينات التي قُدمت حتى الآن لا تكفي في رأيهم لإدانة جونسون بموجب قانون محاكمة الموظفين، وقالت صحيفة برس التي تصدر في فيلادلفيا: «يا للفضيحة! تعرضت الجمهورية للخيانة في منزل أصدقائها.»

غير أنه إذا تمسك الجمهوريون الستة والثلاثون الباقون بموقفهم فإنه لا مجال للشك في النتيجة، وعليهم جميعًا أن يتلاحموا ويقفوا معًا، ولكن شيخًا جمهوريًّا واحدًا لم يعلن حكمه في الاستفتاء الأولي، كان ذلك الشيخ هو أدموند ج. روس ممثل كانساس.

وأصرَّ الجمهوريون على أن صوت روس سيكون حتمًا إلى جانبهم، وعقدوا العزم على الحصول عليه مهما تكن الوسائل المتوفرة التي يتبعونها. ويقول دي ويت في كتابه محاكمة أندرو جونسون: «إن مركز الصراع كله تحوَّل في النهاية إلى شيخ كان موقفه موضع شك، هو أدموند ج. روس.»

وعندما عُرض قرار الاتهام على المجلس قال السناتور روس صدفة إلى السناتور سبريغ ممثل رود آيلاند: «اسمع يا سبريغ، باتت المسألة هنا، وكل ما يهمني حتى الآن، وعلى الرغم من أنني جمهوري أعارض المستر جونسون وسياسته، هو أن تكون محاكمته نزيهة كمحاكمة أي رجل آخر متهم يمثل أمام القضاء على هذه الأرض.» وعلى الفور ترددت أقوال بأن «موقف روس متأرجح»، وكتب روس بعد ذلك يقول «ومنذ تلك الساعة لم يمضِ يوم واحد إلا وحمل إليَّ فيه البريد أو البرق أو محادثاتي الشخصية نداءات تناشدني التمسك بشدة بالإدانة، وحذر عدد غير قليل من هذه النداءات بالاقتصاص مني إن أنا أظهرت أي دليل على فتور في موقفي.»

وكان روس وزملاؤه من الجمهوريين المشكوك في موقفهم عرضة للمضايقة والضغط وللتجسس عليهم يوميًّا، وكانت منازلهم موضع مراقبة مشددة، شأنها في ذلك شأن ارتباطاتهم الاجتماعية، وكانت كل حركة يقومون بها هم ورفاقهم تُسجل عليهم سرًّا، ووجهت صحف الحزب تحذيرات إليهم، وتصدعت رءوسهم بخطابات أبناء دوائرهم الانتخابية، وتلقوا تحذيرات قاسية تهدد بنبذهم سياسيًّا، بل حتى باغتيالهم.

وقالت صحيفة نيويورك تريبيو: إن أدموند روس بشكل خاص «كان موضع جذب وشد لا هوادة فيهما بين الجانبين، يُطارد ليلًا ونهارًا كما يُطارد الثعلب، ويضايقه زملاؤه ويضغطون عليه وكأنه جسر أركولا يدوسه اليوم جيش وغدًا جيش آخر.» وكان ماضيه وحياته موضع تمحيص دقيق، وتبعه أبناء دائرته الانتخابية وزملاؤه إلى واشنطن للحصول على ما قد يدل على رأيه، وبات هدفًا لكل عين، وأصبح اسمه على كل لسان، وراحت كل صحيفة تتكهن بنواياه، وعلى الرغم من أن هناك بينات تدل على أنه لمَّح لكل من الجانبين إلى أنه يقف معه، وحاول كل من الجانبين أن يدعي علنًا أن روس معه، فإنه في الواقع أبقاهما في حالة حيرة بالتزامه الصمت وعدم الإدلاء برأيه القانوني.

وفي الليلة السابقة للجلسة التي قرر فيها مجلس الشيوخ إجراء التصويت الأول لإدانة جونسون أو تبرئته، تلقى روس البرقية التالية من كانساس:

سمعت كانساس البينات وهي تطالب بإدانة الرئيس.

التوقيع: د. ر. أنتوني و١٠٠٠ آخرون
وفي ذلك الصباح المصيري من اليوم السادس عشر من شهر أيار (مايو) ردَّ روس بقوله:

إلى د. ر. أنتوني و١٠٠٠ آخرين: إنني لا أعترف بحقكم في مطالبتي بالتصويت إلى جانب الإدانة أو ضد الإدانة، لقد أقسمت على أن أكون نزيهًا وفقًا للدستور والقوانين، وأثق بأن لديَّ من الشجاعة ما يمكنني من التصويت وفقًا لتقديري ولمصلحة البلاد العليا.

التوقيع: أ. ج. روس

وفي ذلك الصباح راقب الجواسيس روس حتى وهو يتناول طعام إفطاره، وقبل التصويت بعشر دقائق حذَّره زملاؤه من كانساس بحضور تاديوس ستيفنز من أن التصويت إلى جانب البراءة يعني أن التهم ملفقة وبالتالي موته سياسيًّا.

ولكن الساعة حانت ولم يكن هناك مجال للتهرب أو التأخير أو التردد. وكتب روس فيما بعد يصف الوضع ويقول: «كانت الشرفات غاصة بالحضور، وكانت أسعار الدخول مرتفعة جدًّا، ورفع المجلس جلسته، وكان جميع الأعضاء في قاعة الاجتماعات، ولم يبق مقعد في القاعة لم يشغله شيخ أو وزير أو أحد مستشاري الرئيس أو واحد من أعضاء المجلس.» وكان كل شيخ في مقعده، وحمل غرايمز شيخ أيووا المريض جدًّا إلى القاعة.

وتقرر إجراء التصويت الأول بموجب المادة الحادية عشرة من قرار الاتهام التي كان يعتقد أنها ستنال أكبر قسط من التأييد، ذكر رئيس المحكمة العليا لدى إعلانه أن التصويت سيبدأ، ذكَّر «المواطنين والغرباء في الشرفات بوجوب التزام الصمت والنظام التام»، ولكن صمتًا أشبه بصمت الموت كان يخيم على القاعة. وقال عضو في الكونغرس في وقت لاحق: «إن الشحوب علا وجوه بعض الأعضاء بجواري، وبدوا وكأنهم مرضى تحت وطأة الترقب والقلق.» ولاحظ روس أن حركة الأقدام هدأت كما هدأ حفيف الملابس الحريرية وحركة المراوح وتوقف الحديث.

وبدأ التصويت في جو مشحون بالتوتر. وما إن وصل رئيس المحكمة العليا إلى اسم أدموند روس حتى كان أربعة وعشرون قد صوتوا إلى جانب الإدانة، وكان هناك عشرة آخرون اعتُبر تصويتهم إلى جانب الإدانة مضمونًا، وواحد اعتُبر صوته مضمونًا تقريبًا. ولم يبق غير صوت روس للحصول على أكثرية الأصوات الستة والثلاثين اللازمة لإدانة الرئيس، غير أنه لم يكن أي امرئ في القاعة يعرف كيف سيصوت هذا السناتور الشاب، ولم يستطع رئيس المحكمة العليا أن يكتم مشاعر القلق والعاطفة التي تجلت في صوته وهو يوجه سؤاله إلى روس «أيها السناتور روس، ماذا تقول؟ هل المدَّعى عليه أندرو جونسون مذنب أو غير مذنب بتهمة إساءة استعمال السلطة بموجب هذه المادة؟» وكُتمت الأنفاس، وتركزت كل عين في شيخ كانساس، كما تركزت في هذا الرجل الواحد آمال عشرات السنين الماضية ومخاوفها وكراهياتها ومرارتها.

ووصف روس تلك اللحظة، فقال:

«تطلعت تقريبًا إلى قبري المفتوح، فالصداقات والمركز والثروة وكل ما يجعل الحياة أمرًا مرغوبًا فيه بالنسبة إلى رجل طموح، كانت على وشك أن تجرفها أنفاسي، وربما إلى الأبد.» ثم جاء الجواب بصوت لا يمكن إساءة فهمه، جاء وافيًا ونهائيًّا وقاطعًا لا تردد فيه ولا إبهام: «غير مذنب»، وتم العمل وأُنقذ الرئيس، وانتهت المحاكمة ولم تكن ثمة إدانة.

ورُفعت الجلسة لمدة عشرة أيام، عشرة أيام مضطربة تكفي لتغيير الأصوات بالنسبة إلى التهم الباقية، وبُذلت محاولة لإقرار مشاريع قوانين على جناح السرعة، تهدف إلى إعادة ست ولايات جنوبية إلى المجلس كان مضمونًا أن يصوت شيوخها الاثنا عشر إلى جانب الإدانة، ولكن إقرار هذه المشاريع تعذر في الوقت المناسب، وكان روس مرة ثانية، الرجل الذي لم يلزم نفسه بأي جانب بالنسبة إلى التهم الأخرى، والرجل الوحيد الذي لا يمكن التنبؤ بصوته سلفًا، وتعرض من جديد لضغط كبير، وتلقى برقية من «د. ر. أنتوني وآخرين» تقول له: «إن كانساس تتبرأ منك كما تتبرأ من الكَذَبة الخائنين والظربان (حيوانات منتنة الرائحة).»

وعادت الشائعات الكثيرة تقول إنه أمكن كسب روس إلى جانب الإدانة، وعندما عاد مجلس الشيوخ إلى الاجتماع كان روس الوحيد بين الجمهوريين السبعة المرتدين الذي صوَّت مع الأكثرية بالنسبة إلى مسائل إجرائية أولية، غير أنه عندما تُليت التهمتان الثانية والثالثة، وعندما جاء دور روس للتصويت في جو القلق ذاته الذي خيم قبل ذلك بعشرة أيام، جاء جوابه الهادئ مرة ثانية: «غير مذنب.»

لماذا صوَّت روس — الذي استمرت كراهيته لجونسون — «غير مذنب»؟ إن الأسباب التي حدته على ذلك تظهر بوضوح في كتاباته هو نفسه عن الموضوع بعد ذلك بسنوات، في مقالات نشرتها مجلتا سكرينبر وفورم:

كان استقلال الهيئة التنفيذية كفرع مساوٍ في الحكومة، بمعناه الأوسع، قيدَ المحاكمة … فإذا … نحَّى الرئيس عن منصبه … رجلًا يلاحقه الخزي والعار ومنبوذًا سياسيًّا … دون إثباتات كافية ولاعتبارات حزبية، فإن مكانة منصب الرئيس ستنحط ولن يعود هذا المنصب فرعًا له مكانته في الحكومة، فضلًا عن أنه سيظل إلى الأبد رهنًا بإرادة الهيئة التشريعية، ولو تم ذلك لأحدث ثورة في نسيج جهازنا السياسي الرائع، وحوَّل هذا الجهاز إلى أوتوقراطية يمارسها الكونغرس … ولم يسبق للحكومة أن واجهت مثل هذا الخطر الغدار … سيطرة أسوأ عناصر السياسة الأميركية … أما إذا أُبرئت ساحة أندرو جونسون بصوت غير حزبي … فإن أميركا ستجتاز نقطة خطر الحكم الحزبي، وذلك التصلب الذي كثيرًا ما يتميز به تسلط الأكثريات الكبيرة ويجعل هذه الأكثريات شديدة الخطر.

مَن هو أدموند ج. روس؟ من الناحية العملية لم يكن شيئًا، فلا يوجد قانون واحد في البلاد يحمل اسمه، ولا يوجد كتاب تاريخ واحد يتضمن صورته، كما أنه لا توجد قائمة بأسماء «العظماء» من الشيوخ تذكر خدماته، وكان العمل الشجاع الوحيد الذي قام به موضع نسيان. إذن مَن كان أدموند ج. روس؟ هذا هو السؤال ذلك لأنه كان في إمكان روس، بإتقانه اللغة واختياره التام للكلمات المناسبة، وما له من خبرة سابقة ممتازة في الشئون السياسية، وما كان له من مستقبل باهر في مجلس الشيوخ، أن يبز زملاءه هيبة وقوة طوال عمله الطويل في المجلس، ولكنه قرَّر بدلًا من ذلك أن يتخلى عن كل هذا النفوذ، في سبيل عمل واحد أملاه عليه ضميره.

ولست أستطيع إنهاء الحديث عن أدموند روس دون أن أتطرق إلى الحديث بشكل مناسب عن أولئك الجمهوريين الشجعان الستة الذين وقفوا إلى جانب روس وتحدوا الاستنكار والتنديد لينقذوا أندرو جونسون، ولكن أدموند روس تحمل أكثر من أي من هؤلاء الزملاء الستة قبل التصويت وبعده، وتوصل إلى قراره الذي استوحى به ضميره بصعوبة أكبر وأثار أكبر اهتمام وقلق قبل ١٦ أيار (مايو) باعتصامه بالصمت المطبق وعدم إلزام نفسه بأي موقف، وسيرته كتصويته هي المفتاح إلى مأساة المحاكمة، غير أنه يجب أن يذكر الجميع الجمهوريين السبعة الذين صوَّتوا ضد الإدانة لشجاعتهم، ولم يفز أحد منهم في أي انتخاب ثانٍ، ولم ينج أحد منهم من مزيج دنس من التهديدات والرشوات ومناورات الضغط والإكراه التي حاول بها زملاؤهم الجمهوريون حملهم على التصويت إلى جانبهم، كما أن أحدًا منهم لم ينج من آلام الانتقادات الشديدة بسبب تصويتهم إلى جانب البراءة، وهؤلاء الجمهوريون الستة هم:

وليام بيت فيسندن، ممثل ولاية مين، ومن أبرز الشيوخ والخطباء والمحامين في عصره، ومن أبرز الزعماء الجمهوريين، وكان من المعجبين بستانتون ويكره جونسون، وقد اقتنع في المراحل الأولى من اللعبة «بأن الأمر كله حماقة وجنون».

جون ب. هندرسون، ممثل ولاية ميسوري، ومن أصغر أعضاء مجلس الشيوخ سنًّا، وقد سبق له أن أظهر شجاعة سياسية كبيرة عندما تقدم بالتعديل الثالث عشر لإلغاء الرق؛ لأنه كان يعرف أن هذا التعديل سينجح إذا تبناه شيخ يمثل ولاية تمارس الرق، وكان يعرف كذلك أن مصير هذا الشيخ هو الموت سياسيًّا.

بيتر فان وينكل، ممثل وست فيرجينيا، آخر جمهوري مشكوك في صوته يُدعى إلى التصويت في ١٦ أيار (مايو)، كان مثل روس «مغمورًا»، ولكن صوته الحاسم الذي انطلق بعبارة «غير مذنب» قضى على آخر بارقة في الأمل الذي حطمه أدموند روس.

ليمان ترامبول، ممثل إيلينوي، ومن قدماء أعضاء المجلس، وقد هزم أبراهام لنكولن في انتخابات مجلس الشيوخ، وهو واضع مشاريع قوانين كثيرة تتعلق بالأعمار نقضها جونسون، وقد صوَّت إلى جانب التنديد بجونسون عندما أقصى ستانتون عن منصب وزير الحربية.

غير أن صحيفة برس التي كانت تصدر في فيلادلفيا قالت: «إن مقدرته السياسية تحولت إلى أنانية»؛ لأنه صمد أمام الضغط الهائل الذي تعرض له وصوَّت ضد الإدانة.

جوزيف سميث فاولر، ممثل تنيسي، وهو مثل روس وهندرسون وفان وينكل، عضو جديد في مجلس الشيوخ، وقد ظن أول وهلة أن في الإمكان محاكمة الرئيس، غير أن هذا الأستاذ السابق في جامعة ناشفيل صُعق عندما عصفت عواطف محمومة بالمجلس ووافق على مشروع قرار بمحاكمة جونسون بموجب قرائن مبنية على «الكذب والزيف» لفقها بن بتلر الفاسد الحقير والرجل الشرير الذي يسعى إلى تحويل مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة إلى مقصلة سياسية.

جيمز و. غرايمز، كان رجلًا ذا شجاعة بدنية وأدبية على السواء، وقبل أن يبدأ التصويت في ١٦ أيار (مايو) حمل أربعة أشخاص هذا الشيخ الشاحب اللون، ممثل أيووا، إلى مقعده. وكتب بعد ذلك يقول «إن فيسندن أمسك بيده وابتسم له مشجعًا … واليوم لن أستبدل أرفع أوسمة الفخار بتلك الذكرى.» وقال رئيس المحكمة العليا: إنه يسمح له بأن يدلي بصوته وهو جالس، ولكن السناتور غرايمز وقف على قدميه بصعوبة وبمساعدة أصدقائه ليقول بصوت حازم بعث الدهش في سامعيه: «غير مذنب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤