الفصل السابع

جورج نوريس

عدت إلى الوطن لأقول لكم الحقيقة

في تمام الساعة الواحدة من بعد ظهر أحد أيام الشتاء، وفي أوائل سنة ١٩١٠ ترك جون دالزل ممثل بنسلفانيا كرسي الرئاسة وقاعة مجلس النواب ليتناول فنجانه اليومي من القهوة وقطعة من الكعك في مطعم مبنى الكونغرس، ولم يكن خروجه أمرًا غير عادي؛ لأن النائب دالزل الذي كان المساعد الأول لجو كانون رئيس المجلس في إدارة المجلس من كرسي الرئيس كان دائمًا يغادر القاعة في هذه الساعة بالضبط وكان يخلفه دائمًا في الكرسي والتر سميث ممثل أيووا، ولكن بعد ظهر ذلك اليوم من شهر كانون الثاني (يناير) عندما توجه دالزل إلى صحن المجلس، كانت عينان ترقبانه بارتياح غريب، لقد كانتا عيني نائب كث الشعر يرتدي حلة سوداء بسيطة وربطة عنق صغيرة أشبه بشريط حذاء، ولم يكد مساعد رئيس المجلس يصل إلى الباب حتى توجه هذا النائب الجمهوري وهو جورج و. نوريس ممثل نبراسكا إلى النائب سميث وسأله إن كان سيسمح له بالكلام دقيقتين، ووافق سميث وكان من أفراد زمرة كانون-دالزل الجمهورية، وصديقًا لنوريس.

وكم كانت دهشته عندما سعى نوريس إلى تعديل مشروع القرار الذي كان قيد المناقشة حينذاك — وهو مشروع قرار يدعو إلى إنشاء لجنة مشتركة للتحقيق في خلاف بين بولينجر وبينشو — بأن طلب من مجلس النواب بأسره تعيين أعضاء في لجنة التحقيق التابعة للمجلس، بدلًا من منح سلطة اختيار الأعضاء لرئيس المجلس كما جرت العادة على ذلك.

وأسرع حجاب المجلس للبحث عن كانون ودالزل، فهذا تمرد في الصفوف، والمحاولة الأولى للحد من سلطة «القيصر» كانون التي لم يكن لها حدود في الماضي، ولكن نوريس أصر على أن كل ما كان يرغب فيه هو إجراء تحقيق نزيه لا تحقيق تلفقه الإدارة، وانضم إليه أنصار بينشو، والمتمردون من زملائه الجمهوريين وجميع الديمقراطيين تقريبًا، فنجح تعديله بأكثرية ضئيلة هي ١٤٩ صوتًا في مقابل ١٤٦ صوتًا.

وكانت تلك أول نكسة يُمنى بها رئيس المجلس القوي، وأقسم على ألا ينساها أبدًا، ولكن الانتصار في مشروع قرار التحقيق كان مجرد خطوة أولى بالنسبة إلى نوريس؛ ذلك لأن الجيب الداخلي من معطفه الأسود الرث كان يحتوي على مشروع قرار كان قد أعده قبل ذلك بسنوات، ينص على أن يتولى المجلس ذاته لا رئيسه تعيين أعضاء لجنة الأنظمة، وهي اللجنة التي تتمتع كليًّا بصلاحية وضع برنامج المجلس، والتي كان يسير رئيس المجلس عليها كليًّا.

وفي عيد القديس باتريك سنة ١٩١٠ وقف نوريس ليخاطب «القيصر»، وكان كانون قبل بضع دقائق قد قرر أن مشروعًا للإحصاء عرضه أحد أتباعه، أمر نصَّ عليه الدستور، ووقف نوريس ليقول: «حضرة الرئيس، إنني أعرض مشروع قرار ينص عليه الدستور.» وأجاب كانون بغرور ودون أن يدري أن الحملة عليه باتت وشيكة: «فليعرض السيد مشروع قراره.» وعندها أخرج جورج نوريس تلك الورقة المهلهلة من جيب معطفه، وطلب من الكاتب أن يقرأها بصوت عالٍ.

ودب الذعر في قيادة الجمهوريين، فقد سبق أن لمحت شائعات ترددت في غرفة الملابس إلى طبيعة مشروع القرار المقترح الذي أعده نوريس، ولكن هذا المشروع كان موضوع تهكم واستهزاء لدى الجمهوريين النظاميين الذين كانوا يعرفون أن لديهم القوة الكافية لدفنه إلى الأبد داخل لجنة الأنظمة ذاتها، وكان القرار الذي اتخذه كانون بالنسبة إلى مشروع قانون الإحصاء تأييدًا لصديقه، قد وفر لنوريس — ومشروعه يستند بوضوح إلى نص الدستور المتعلق بأنظمة المجلس — ثغرةً نفذ منها نائب نبراسكا ليتزعم جميع القوى المتمردة والديمقراطية، وكان كانون وأنصاره سادة المناورات البرلمانية؛ ولذلك فإنهم لم يكونوا على استعداد للتسليم فورًا، وحاولوا تأجيل الجلسة أو رفعها للراحة أو العمل على فقدان النصاب القانوني، وواصلوا النقاش حول ما إذا كان مشروع القرار يتفق والدستور، في وقت أسرع فيه المخلصون للحزب في العودة من الاحتفالات بعيد القديس باتريك، وأبقوا على المجلس في حالة انعقاد دائم أملًا منهم في كسر تضامن المتمردين الأقل تنظيمًا، وظل المتمردون جالسين في مقاعدهم طوال الليل غير مستعدين لترك المجلس للإغفاء ولو قليلًا لئلا يتخذ كانون قرارًا في غير مصلحتهم خلال تغيبهم.

وأخيرًا، وبعد أن فشلت جميع محاولات التخويف والتسوية، قرَّر كانون، كما كان متوقعًا، أن مشروع القرار خارج على النظام، واستأنف نوريس القرار فورًا، وتمكَّن الديمقراطيون والجمهوريون المتمردون من إلغاء قرار رئيس المجلس بأكثرية ١٨٢ صوتًا في مقابل ١٦٠، ثم ووفق بأكثرية أكبر من هذه على مشروع قرار نوريس الذي كان قد عُدل ليحظى بتأييد الديمقراطيين، وعندها قدم أكثر رؤساء مجلس النواب قسوة وأوتوقراطية في تاريخ المجلس استقالته، ولكن جورج نوريس الذي كان يصر على أن كفاحه يستهدف إنهاء السلطات الدكتاتورية التي يتمتع بها مَن يحتل المنصب لا معاقبة فرد، صوَّت ضد الاستقالة، وبعد ذلك بسنوات قال كانون له:

«نوريس، إنني لا أتذكر حادثة واحدة طوال جدلنا المرير، كنت فيها غير نزيه، ولست أستطيع أن أقول هذا في كثير من رفاقك، وأود أن أقول لك الآن إنه إذا كان لا بد من اختيار واحد من زمرتك اللعينة عضوًا في مجلس الشيوخ فإنني أفضل أن تكون أنت ذلك الرجل على أي منهم.»

وكسر سقوط «الكانونية» سيطرة الزعماء الجمهوريين المحافظين على الحكومة والأمة، وأنهى كذلك كل منة كان يتلقاها ممثل نبراسكا منهم في السابق، وكان منصب رئيس المجلس في عهد «القيصر» يتمتع بسلطات بدت في بعض الأحيان وكأنها مساوية لصلاحيات رئيس الولايات المتحدة ومجلس الشيوخ بأسره، وكانت تلك صلاحيات تضع الاعتبارات الحزبية فوق جميع الاعتبارات، صلاحيات تقوم على الولاء للحزب ولزعامته والمنظمات السياسية، صلاحيات ظلت دون تحدٍ طوال سنوات على الرغم من عدم الارتياح لها في مختلف أنحاء البلاد باستثناء الولايات الشرقية، وعلق رئيس تحرير إحدى الصحف قائلًا: «ولكن رجلًا لا مركز له وقف ضد ٢٠٠ رجل تلاحموا في أقوى جهاز سياسي عرفته واشنطن وهزمهم في عقر دارهم مرتين، والمستر جورج نوريس رجل جدير بالمعرفة والمراقبة.»

ولا يمكن لفصل واحد أن يسرد بصورة وافية جميع المعارك الشجاعة والمستقلة التي قادها جورج نوريس، وكانت أهم منجزاته في ميدان تعميم الكهرباء، وقلَّ أن يوجد ما يوازي كفاحه الطويل في سبيل تزويد سكان وادي تنيسي بالكهرباء بأسعار ضئيلة على الرغم من أنهم كانوا يعيشون على مسافة ١٠٠٠ ميل من ولايته نبراسكا، غير أنه خاض ثلاث معارك في حياته تشهد له بشجاعة خاصة هي إسقاط «القيصر» كانون، وقد سبق الحديث عنها، وتأييده لآل سميث لمنصب الرئاسة في سنة ١٩٢٨، ومعارضته قانون تسليح السفن التجارية في سنة ١٩١٧.

فعندما قرر وودرو ولسون آسفًا اتباع سياسة «الحياد المسلح» في أوائل سنة ١٩١٧ ومثل أمام اجتماع متوتر مشترك للكونغرس طالبًا سنَّ قانون يخوله سلطة تسليح السفن الأميركية التجارية، أعلن الرأي العام الأميركي موافقته الفورية، كانت حرب الغواصات الألمانية غير المحدودة تفرض حصارًا شديدًا كان يحاول قيصر ألمانيا مع تجويع الجزر البريطانية وإرغامها على الاستسلام، وأبلغ لانسينغ وزير الخارجية بلطف أن كل باخرة أميركية تُشاهد في المنطقة الحربية ستُنسف بالطوربيد، وكانت بواخر أميركية قد فُتشت وأُسرت وأُغرقت وامتلأت أعمدة الصحف بروايات عن الفظائع التي تعرض لها بحارتنا.

وعندما بدأت مناقشة مشروع القانون علمت الصحف بمؤامرة جديدة تحاك ضد الولايات المتحدة ضمنت رسالة بعث بها زيمرمان وكيل وزارة الخارجية الألمانية إلى الوزير الألماني في المكسيك، واقترحت الرسالة المزعومة (لأنه كان هناك شك في صحتها وفي الأسباب التي حدت بالحكومتين البريطانية والأميركية على كشف النقاب عنها في ذلك الوقت بالذات) اقترحت خطة لتأليب المكسيك واليابان على الولايات المتحدة، ووعدت المكسيك في مقابل استعمال أراضيها قاعدة لمهاجمة الولايات المتحدة بإعادة «المستعمرات الأميركية» التي استولى عليها سام هيوستون وأبناء جلدته قبل أكثر من سبعين عامًا.

وعندما تسربت محتويات رسالة زيمرمان إلى الصحف انهارت فورًا كل مقاومة في مجلس النواب لمشروع قانون تسليح السفن التجارية، وتمت الموافقة على المشروع بسرعة في هذا المجلس بأكثرية ساحقة هي ٤٠٣ أصوات في مقابل ١٣ صوتًا، وقد عكست هذه الأكثرية بوضوح الرأي العام الذي أيد خطوة الرئيس، ولا شك في أن التأييد الساحق الذي حظي به مشروع القانون من ممثلي نبراسكا في مجلس النواب، عكس مشاعر تلك الولاية.

غير أن مشروع قانون تسليح السفن التجارية اصطدم لدى مناقشته في مجلس الشيوخ في الثاني من آذار (مارس) ١٩١٧ بمعارضة شديدة من جماعة قليلة العدد متمردة من الحزبين، تزعمها روبرت لافوليت من وسكونسن وجورج نوريس من نبراسكا، ولما كان جورج نوريس عضوًا جديدًا في المجلس يمثل ولاية انتخبت في السنة الماضية هيئة تشريعية ديمقراطية، وحاكمًا ديمقراطيًّا، وشيخًا ورئيسًا ديمقراطيين، فإنه خلافًا للافوليت لم يكن سياسيًّا ثبَّت أقدامه في منصبه بعد، كما أنه لم يكن واثقًا من أن سكان ولايته يعارضون ولسون وسياسته.

وقد أيَّد الرئيس في الأشهر السابقة في مسائل رئيسية تتعلق بالسياسة الخارجية بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة الألمانية، وعلى الرغم من أنه كان من المتطرفين في الدعوة إلى السلام وإلى عزلة الولايات المتحدة فإن طبيعته ذاتها منعته من أن يكون عقبة تعترض سبيل جميع المسائل الدولية أو حزبيًّا صغيرًا يعارض جميع طلبات الرئيس (والواقع هو أن مناداته بالعزلة تلاشت إلى حد بعيد باقتراب الحرب العالمية الثانية).

ولكن جورج نوريس كان يكره الحرب وكان يخشى من أن تكون المؤسسات الصناعية والتجارية الكبرى — التي كان يعتقد أنها توفر الحوافز للسير بنا في الطريق إلى الحرب — ميالة إلى دفع الأمة إلى حرب دامية ضروس لا فائدة تُرجى منها، كما كان يخشى من أن يحاول الرئيس، بدلًا من أن يكسب ثقة الشعب، إثارة خوف الرأي العام بحيث يضغط على مجلس الشيوخ لحمله على دخول الحرب، ويخشى كذلك من أن يكون مشروع قانون تسليح السفن، أداة لحماية مكاسب مصانع الذخيرة الأميركية بأرواح أميركية، وأداة قد تدفعنا مباشرة إلى صراع نكون فيه بلدًا مقاتلًا دون أية مداولات أخرى في الكونغرس ودون وقوع هجوم ألماني فعلي على الولايات المتحدة، وكان يخشى ما ينطوي عليه من سلطات واسعة تُمنح للرئيس، ونفر من الأسلوب الذي اتُّبع لإقراره في الكونغرس، وليس من المهم الآن تحديد ما إذا كان نوريس على صواب أو على خطأ، ولكن المهم هو الشجاعة التي أظهرها تأييدًا لمبادئه.

وقال السناتور نوريس مرة: «قد لا يصدق الناس ذلك ولكنني لا أحب دخول قتال.» ولكن هذا الشيخ الجديد من نبراسكا، أعد العدة في سنة ١٩١٧ سواء أراد ذلك أم لم يرد لمعركة من أشد المعارك ضراوة وأقساها في تاريخه السياسي، ولما كانت هذه الفترة قد سبقت التعديل العشرين الذي أعده نوريس نفسه (المتعلق بالفترة المؤقتة التي يقضيها المجلس أو العضو في القيام بالأعباء بين هزيمته في انتخابات جديدة وبين تولي الفائز منصبه رسميًّا)، فقد كانت مدة الكونغرس الرابع والستين تنتهي ظهر الرابع من آذار (مارس) حين تبدأ ولاية جديدة للرئيس؛ ولذلك كان في الإمكان الحيلولة دون إقرار مشروع القانون في ذلك الكونغرس إذا حِيل بين مجلس الشيوخ والتصويت عليه قبل تلك الساعة، وكان نوريس وأعضاء مجموعته الصغيرة يأملون في أن ينضم الكونغرس الذي انتخبه الشعب خلال حملة الرئاسة في سنة ١٩١٦ التي قامت على شعار «أنه أبقانا خارج الحرب» إلى معارضة مشروع القانون أو دراسته على الأقل بمزيد من العناية، ولكن الحيلولة دون إجراء تصويت خلال اليومين التاليين كان يعني كلمة واحدة فقط هي «الإعاقة».

وتبنى جورج نوريس، وهو الذي ينادي بتغيير أنظمة مجلس الشيوخ لتصحيح مساوئ الإعاقة والعرقلة، هذا الأسلوب ذاته «على الرغم من اشمئزازي منه»، ولكنه كان يشعر بقوة أن المسألة تنطوي على احتمالات حرب، ولما كان زعيم كتلته البرلمانية، فإنه أعد خطباء ليتأكد من عدم أي توقف في المناقشة يمكِّن من طرح المشروع على التصويت.

واستمرت المناقشة ليلًا ونهارًا، وفي صباح الرابع من آذار (مارس) كان المجلس مسرحًا لفوضى سادها التعب، وكتب نوريس فيما بعد يقول: «إن هذه الدقائق الأخيرة تعيش في ذاكرتي.»

«أصبح الناس في تلك القاعة عبيدًا للعاطفة، فلم يسبق في تاريخ الولايات المتحدة، في رأيي، أن اصطدم الغضب والمرارة بمثل هذه الصورة. وعندما أشارت عقارب الساعة إلى حلول الظهر أعلن الرئيس رفع الجلسة وانتصر أسلوب الإعاقة، ولم يحظَ مشروع القانون، الذي يدعو إلى تسليح السفن الأميركية، بموافقة الشيوخ … وخيم جو من الإثارة المقرونة بالتوتر على البلاد بأسرها وبصورة خاصة على مجلس الشيوخ ذاته … وشعرت منذ ذلك الحين وما زلت أشعر حتى هذا اليوم بأن أسلوب الإعاقة كان له ما يبرره … ولم أعتذر أبدًا عن الدور الذي قمت به فيه … وقد اعتقدنا بإخلاص أننا بالإجراءات التي اتبعناها في ذلك الصراع جنبنا الولايات المتحدة الاشتراك في الحرب.»

ولكن انتصارهم كان سريع الزوال؛ ذلك لأن الرئيس — بالإضافة إلى دعوة الكونغرس إلى دورة خاصة تبنى خلالها مجلس الشيوخ نظامًا لتحديد المناقشات (بتأييد من نوريس) — أعلن أيضًا أن مزيدًا من الدراسة للدستور أظهر أن السلطة التنفيذية تتمتع بحق تسليح السفن دون الحاجة إلى موافقة الكونغرس، وأطلق الرئيس كذلك عبارة كانت كالقنبلة لا تزال تتردد حتى الآن ضد «فئة صغيرة من الرجال المتصلبين العنيدين، لا يمثلون رأيًا غير رأيهم الذين جعلوا حكومة الولايات المتحدة العظيمة حقيرة لا حول لها ولا طول.»

وكان يُعتقد في واشنطن بأن ضمير ذلك الرجل الجديد من نبراسكا سار به — كما قال مراسل صحفي في واشنطن — إلى «موته السياسي»، واتخذت الهيئة التشريعية الساخطة في ولاية نبراسكا، وبحماسة بالغة، قرارًا يعرب عن ثقة الولاية بالرئيس ولسون وسياساته.

وحزن جورج نوريس بسبب ما يشبه الإجماع الذي ندد به «أبناء شعبي بي، جازمين أنني أسأت تمثيل ولايتي.» وعلى الرغم من أن الشعبية لم تكن أبدًا المقياس الذي يسترشد به فإنه حاول، كما كتب يقول في وقت لاحق، طوال عمله بالسياسة: «أن أفعل ما كنت أعتقد من صميم قلبي أنه صواب من أجل الشعب كمجموعة.» ولما كان غير مستعد «لتمثيل شعب نبراسكا إن كان لا يريدني» فإنه اتخذ قرارًا دراماتيكيًّا هو عرض تقديم استقالته من مجلس الشيوخ وعقد انتخاب خاص في الولاية «ليقرر الناخبون فيه إن كنت قد مثلتهم أو أسأت تمثيلهم في واشنطن.» وبعث برسالة إلى كل من حاكم الولاية والرئيس الجمهوري للهيئة التشريعية في الولاية يدعو فيهما إلى عقد انتخاب خاص ويعلن قبوله بالنتيجة وتنازله عن كل حق دستوري يحميه من الإقالة نتيجة التصويت.

وأعلن السناتور أنه سيعقد اجتماعًا في الهواء الطلق في لنكولن ليشرح موقفه، ولكن الصحافة تجاهلته وهو يسافر متجهًا إلى ولايته، وطلب من رئيس لجنة الجمهوريين الوطنية رئاسة ذلك الاجتماع، فحذره هذا بأن «من المستحيل أن يُعقد هذا الاجتماع دون مشاكل، وأظن أن الاجتماع سيُرفض في فوضى أو على الأقل سيكون الحضور معادين بحيث يتعذر عليك إلقاء أي خطاب متماسك.»

ولم يتمكن نوريس من العثور على صديق واحد أو نصير واحد يرأس الاجتماع، ولكنه مع ذلك قرر المضي قدمًا في عقده، وقال لمراسل صحفي وحيد قابله في غرفة الفندق المهجور الذي نزل فيه: «أنا نفسي استأجرت القاعة وسيكون الاجتماع اجتماعي، ولن أطلب من أحد رعايتي أو رعاية أعمالي، وليس هناك ما أعتذر عنه أو أسترده.»

وسار نوريس من فندقه إلى قاعة الاجتماعات في المدينة في ليلة جميلة من ليالي الربيع، ولاحظ بقلق أن أكثر من ٣٠٠٠ شخص هم القلقون والمشككون ومحبو الاستطلاع ملأوا القاعة، وكان كثيرون يقفون في الممرات وفي الشارع خارج المبنى، وسار بهدوء ولكن وهو يرتعش إلى المسرح أمامهم، ووقف صامتًا لحظة في حلته السوداء الواسعة وربطة عنقه الدقيقة، وكتب يقول فيما بعد: «كنت أتوقع جمهورًا معاديًا؛ ولذلك فإنني سرت إلى الأمام يعتريني بعض الخوف، وعندما دخلت باب القاعة الخلفي وصعدت إلى المسرح خيم صمت يشبه صمت الموت فلم يصفق أحد، ولكنني لم أكن أتوقع تصفيقًا وسررت في الواقع لأن أصوات الاستنكار لم ترتفع.»

وبصوته البسيط الهادئ الذي يتميز بالحدة، استهل السناتور نوريس كلماته بالعبارة البسيطة «عدت إلى الوطن لأقول لكم الحقيقة.»

وعندها دوَّت عاصفة من التصفيق في جميع أرجاء القاعة، ولم يسبق في حياتي أن كان لمثل هذا التصفيق وقعه الحسن في نفسي … فقد كان في قلوب الناس العاديين اعتقاد بأن الخداع وسوء التمثيل والقوة السياسية والنفوذ تخفي كلها شيئًا اصطناعيًّا عن الدعاية.

ولم تنشب أعمال عنف، ولم يكن هناك مضايقات، وأطلق الجمهور الغفير هتافاته عندما كان يوجه حملاته إلى منتقديه، وبلغة بسيطة إنما ثابتة، وبصوت غاضب هادئ النبرة، أخذ بمجامع قلوب الحاضرين، وأصر على أن صحفهم لم تنقل إليهم الحقائق، وأنه على الرغم من التحذيرات التي وجهت إليه بوجوب البقاء بعيدًا إلى أن يُنسى دوره في الإعاقة، فإنه يريد لذلك الدور أن يظل ماثلًا في الأذهان.

وأطلق الجمهور صيحات الاستحسان والموافقة بعد خطاب استمر أكثر من ساعة، غير أن الصحف لم تقتنع بسهولة أو لم تكن مستعدة للصفح، وقالت صحيفة وورلد هيرالد: «إن شرحه المنمق البارع كان هراء وحماقة … وبيانًا سمجًا بعث الاشمئزاز في نفوس الناس.» وقالت صحيفة ستيت جورنال «إن السناتور أمضى قليلًا من الوقت في معالجة المشكلة كما جرت حقًّا، وكان يجب ألا يترك فرصة لمنتقديه للإخلال بموازينه.»

ولكن السناتور نوريس — الذي طُلب منه المثول أمام جماعات كثيرة ليشرح ما كان يشعر بأنه المشاكل الحقيقية — قوبل بالتأييد في مختلف أنحاء الولاية، ولما أعلن الحاكم أنه لن يدعو الهيئة التشريعية لإقالته بانتخاب شعبي خاص، عاد السناتور إلى واشنطن وهو في وضع أفضل يمكنه من الصمود أمام الإساءات التي لم تكن قد توقفت كليًّا بعد.

وفي السنوات الإحدى عشرة التالية تضاعفت شهرة جورج نوريس كما تضاعف معينه السياسي، وفي سنة ١٩٢٨، وعلى الرغم من استمرار خلافاته مع الحزب الجمهوري وإداراته، فإن شيخ نبراسكا كان من أبرز أعضاء الحزب ورئيسًا للجنة القانونية في مجلس الشيوخ والمرشح المحتمل لرئاسة الجمهورية، ولكن نوريس نفسه سخر بهذا الاحتمال الأخير قائلًا:

«لست أتطلع إلى ترشيحي للرئاسة؛ لأن المنصب محرم على رجل سار في الطريق السياسية التي سرت فيها … وإنني أدرك تمامًا أنه لا يمكن لرجل يتبنى الآراء التي أتبناها أن يُرشح لمنصب الرئاسة.»

ورفض اقتراحًا، وشفع رفضه بقسم، يدعوه إلى خوض المعركة مع هربرت هوفر كنائب للرئيس، وحمل على مؤتمر الحزب الجمهوري وعلى الأسلوب الذي اتبعه في اختيار مرشحيه، وفي هذه السنوات التي سبقت إنشاء سلطة وادي تنيسي، كان شيخ نبراسكا من أكثر المنادين بالسلطات العامة حماسة، وكان يعتقد أن «شركة احتكار القوة» هي التي فرضت ترشيح هوفر وقاعدة الحزب الجمهوري.

ورفض نوريس أن يُلزم نفسه بالحزب الديمقراطي الذي عارضه أبدًا والذي كانت قاعدته ضعيفة في رأيه كقاعدة الحزب الجمهوري، فقام بجولات في البلاد داعيًا لزملائه التقدميين بغض النظر عن حزبيتهم، غير أنه عندما بدأت الوعود الانتخابية للمرشح الديمقراطي آل سميث، وهو من نيويورك، تتفق ووجهات نظر نوريس جُوبه شيخ نبراسكا بأصعب مشكلة سياسية واجهته في حياته.

كان جورج نوريس جمهوريًّا ينتمي إلى إحدى ولايات الوسط الغربي، وكان بروتستانتيًّا ينادي بمنع الخمور، وكذلك كان هوفر، أما آل سميث، وهو ديمقراطي ينتمي إلى جمعية تاماني ومن شوارع نيويورك وكاثوليكي يحبذ إلغاء تحريم الخمور، فلم يكن يتمتع بأي من تلك الصفات، ولم يكن آل سميث ليحظى بأي تأييد في نبراسكا، وهي ولاية وسط غربية وبروتستانتية وتعادي الخمور بطبيعتها، فهل يمكن لنوريس أن يتخلى عن حزبه وولايته وناخبيه في مثل هذه الظروف؟

كان في استطاعته ذلك؛ إذ إنه كان دومًا يقول إنه «يود إلغاء المسئولية تجاه الحزب، وينشئ بدلًا منها مسئولية شخصية، وعلى كل رجل حتى وإن كان من أكثر الجمهوريين تصلبًا أن يتبع معتقداته ويصوت ضدي إن كان لا يؤمن بصواب ما أنادي به.» وهكذا وفي سنة ١٩٢٨ أعلن نوريس بصورة نهائية أن التقدميين لا مكان لهم ينزلون فيه غير معسكر سميث … فهل نكون حزبيين إلى درجة نضع معها حزبنا فوق بلادنا، ونرفض السير مع القائد الوحيد الذي يوفر لنا فرصة التخلص من تحكم الاحتكارات؟ … ويبدو لي أننا لا نستطيع سحق ضمائرنا فنؤيد رجلًا نعرف سلفًا أنه يعارض ما نكافح في سبيله منذ سنوات كثيرة.

ولكن ماذا عن آراء سميث الدينية؟ وماذا عن موقفه من قضية الخمور؟

إن في إمكان المرء في الحياة العامة أن يفرق بين معتقداته الدينية ونشاطه السياسي … فأنا بروتستانتي وأنادي بتحريم الخمور، ولكنني مع ذلك أؤيد رجلًا كاثوليكيًّا يؤيد إلغاء تحريم الخمور شريطة أن أؤمن بأنه مخلص في تأييده تنفيذ القانون، وعلى حق فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية … وإنني أفضل أن أثق برجل شريف ينادي بإلغاء تحريم الخمور ويكون تقدميًّا وشجاعًا على أن أثق بساسة يدَّعون أنهم ينادون بتحريم الخمور، ولكنهم لا يفعلون شيئًا لجعل التحريم فعالًا أكثر مما يفعله أولئك الذين يهربون الخمور في البلاد.

وكانت هذه مشاعر تتحلى بالشجاعة، ولكنها لم تلقَ أذنًا صاغية في ولايته الساخطة.

وكتب رئيس تحرير صحيفة التايمز في والتهيل يقول: «إنني أقول بحزن إنني قطعت علاقتي مع نوريس، فقد ضاع في متاهة بعيدًا عن أصدقائه القدماء التقدميين.»

وقال محامٍ من لنكولن كان مقربًا من معسكر نوريس: «قد يكون ثمة عذر لمزارع جائع أو لرجل متعطش للخمور ذي تقدير سياسي دون تقدير الرجل العادي، غير أنه لا عذر لسياسي في مقدرة نوريس وخبرته.»

ولكن جورج نوريس سعى لمساعدة المزارع الجائع حتى وإن كان ذلك يعني مساعدة المتعطش للخمر، ولم يأبه بالحملات أو النداءات التي وجهت إليه، فألقى خطابًا قويًّا في أوماها لصالح سميث، وقال إن حاكم نيويورك ارتفع فوق ما تمليه عليه جماعة تاماني، في حين أن الأساليب الفنية التي استغلها المؤتمر الجمهوري من شأنها أن تجعل تاماني هول يبدو وكأنه قديس في حلة بيضاء ناصعة. وأشار في خطاب إلى أنه كان يسير «في ركاب جماعة مرموقة جدًّا» بتأييده مرشح الحزب المعارض؛ لأن هوفر نفسه كان قد تصرف بالطريقة ذاتها قبل ذلك بعشر سنوات، غير أن خطابه كان في معظمه حملة شنها على جماعة احتكار السلطة — التي وصفها بأنها «أخطبوط ذو أصابع لزجة يفرض إتاوة على كل موقد» — وعلَّق على رفض هوفر البحث في هذه المسائل، وقال: «إن ارتكاب الخطيئة بالصمت حين يتوجب علينا الاحتجاج يحوِّل الرجال إلى جبناء.»

وأنهى نوريس خطابه بالحديث صراحة عن المشكلة الدينية:

«إن من واجبنا كمحبين للوطن أن ننبذ هذا المبدأ غير الأميركي، ونؤنب أولئك الذين رفعوا شعلة التعصب، ففي استطاعة جميع المؤمنين مهما يكن مذهبهم الاتحاد والمضي قدمًا في عملنا السياسي لتحقيق أقصى ما يمكن من السعادة لشعبنا.»

إن فوز هوفر الكاسح في كل مقاطعة وقرية تقريبًا في نبراسكا وفي البلاد كمجموعة، أثار مرارة في نفس نوريس الذي أعلن أن هوفر حقق الانتصار على أساس مسألتين زائفتين، هما الدين وتحريم الخمور في وقت تتركز فيه المشكلة الحقيقية في الكهرباء وإغاثة المزارع، وقال إن المصالح الخاصة والساسة الأدوات «وضعوا مسألة الدين وتحريم الخمور في الطليعة على الرغم من أنهم كانوا يعرفون أنها مسألة زائفة وشريرة وغير عادلة.»

وقد أخفق أسلوب الإعاقة الذي لجأ إليه نوريس بالنسبة إلى مشروع قانون تسليح السفن في هدفه المباشر من حيث الحيلولة دون إجراء يتخذه الرئيس، ومن حيث محاولة إبقاء الأمة خارج الحرب التي زجت فيها بعد ذلك ببضعة أشهر، كما أخفقت حملته لانتخاب آل سميث، وكان إخفاقها محزنًا، ومع ذلك فإن السناتور أفضى لأحد أصدقائه بعد ذلك بسنوات بما يلي:

«كثيرًا ما يحدث أن يحاول المرء أن يفعل شيئًا ويخفق، فيشعر بفتور همة، ومع ذلك فإنه يكتشف بعد ذلك بسنوات أن ذلك الجهد الذي بذله كان السبب الذي دفع بإنسان آخر إلى مواصلة ذلك الجهد وتحقيق النجاح، وإنني أعتقد حقًّا أنه مهما كانت الفائدة التي قدمتها للحضارة التقدمية، فإن تلك الفائدة تحققت في الأمور التي أخفقت فيها، لا في الأمور التي قمت بها فعلًا.»

وقد صادف جورج نوريس النجاح والفشل على السواء خلال المدة الطويلة التي أمضاها في الكونغرس، والتي شملت ما يقرب نصف قرن من الحياة السياسية الأميركية، ولكن جوهر الرجل وعمله تجليا في معرض إشارة مرشح الرئاسة الديمقراطي في شهر أيلول (سبتمبر) سنة ١٩٣٢ بالسناتور الجمهوري من نبراسكا: يتساءل التاريخ:

هل كان الرجل مستقيمًا؟

وهل كان الرجل مجردًا من الأنانية؟

هل كان الرجل يتحلى بالشجاعة؟

وهل كان الرجل يتحلى بالثبات؟

وقليلون هم رجال السياسة في أميركا اليوم الذين يرتقون بصورة قاطعة وواضحة إلى مستوى الرد الإيجابي على هذه الأسئلة كما يرتقي إليه جورج و. نوريس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤