الفصل الثامن

روبرت أ. تافت

حرية الفرد في أن يفكر تفكيره الخاص

لم يكن السناتور الراحل روبرت أ. تافت، ممثل أوهايو، رئيسًا للولايات المتحدة أبدًا، ومن هنا كانت مأساته الشخصية وكانت عظمته الوطنية.

فالرئاسة كانت هدفًا تطلع إليه تافت طوال عمله في مجلس الشيوخ، ومطمعًا حلم تافت — وهو ابن رئيس جمهورية سابق — أبدًا بتحقيقه، وقد أصيب «السيد الجمهوري» الذي كان من دعائم الفلسفة الجمهورية طوال أكثر من عشر سنوات بخيبة أمل مريرة لفشله في ثلاث مناسبات مختلفة حتى بالفوز بترشيح حزبه له.

ولكن روبرت أ. تافت كان كذلك رجلًا تمسك بقوة بالمبادئ الأساسية التي كان يؤمن بها، وحين كانت هذه المبادئ الأساسية موضع نقاش لم يكن حتى سحر البيت الأبيض أو حتى احتمالات الإساءة إلى ترشيحه لتمنعه من الكلام، لقد كان سياسيًّا قديرًا ولكنه اختار في أكثر من مناسبة أن يخطب دفاعًا عن موقف لم يكن ليؤيده أي سياسي آخر تراوده المطامع ذاتها، وكان بالإضافة إلى ذلك محللًا سياسيًّا رائعًا، عرف أن عدد الناخبين الأميركيين في حياته الذين وافقوه على المبادئ الأساسية لفلسفته السياسية كان مقدرًا لهم أن يكونوا أقلية دائمة، وأنه لا يمكن له أن يأمل في تحقيق هدفه إلا إذا تملق كتلًا جديدة تؤيده مع تفادي إبعاد أية فئة تضم بين أفرادها ناخبين يحتمل أن يصوتوا إلى جانب تافت، ولكن مع ذلك عمد في كثير من الأحيان إلى الضرب عرض الحائط بالقيود التي نصحه بها تحليله ورفض التزام الصمت بالنسبة إلى أية مشكلة.

وقد لا نزال قريبين جدًّا — من الناحية الزمنية — من العناصر المثيرة للجدل في حياة السناتور تافت السياسية بحيث نتمكن من قياس حياته من زاوية تاريخية؛ ذلك لأن رجلًا يستطيع التأثير في ألد أعدائه وفي أخلص أنصاره على السواء، إنما يمكن الحكم عليه على أفضل وجه بعد مرور سنوات كثيرة، سنوات تكفي لتستقر معها رواسب المعارك السياسية والتشريعية بحيث نستطيع تقدير وقتنا بصورة أكثر وضوحًا.

ولكن ومنذ سنة ١٩٤٦ تقضى من الوقت ما يكفي ليمكننا من تكوين فكرة مستقلة عن العمل الشجاع الذي قام به السناتور تافت في تلك السنة.

لم يقد هذا العمل، خلافًا للأعمال التي قام بها دانيال وبستر أو أدموند روس، إلى تغيير التاريخ، كما أنه لم يؤد، خلافًا لأعمال جون كوينسي آدمز أو توماس هارت بنتون، إلى اعتزاله من مجلس الشيوخ، ولم يتم هذا العمل الشجاع، خلافًا لأعمال الشجاعة السابقة التي تحدث عنها هذا الكتاب، في قاعة مجلس الشيوخ، وهو كمجرد عمل اتسم بالصراحة — في فترة كانت الصراحة فيها غير مستحبة، وكدعوة جريئة إلى العدالة في وقت ساد فيه التعصب والخصومات — جدير بأن نتذكره هنا.

ففي شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩٤٦ كان السناتور روبرت أ. تافت من أوهايو، كبير الناطقين بلسان الحزب الجمهوري في واشنطن، وكان بطل حزبه في الميدان السياسي الوطني، والمرشح الجمهوري المحتمل لرئاسة الجمهورية في سنة ١٩٤٨، وكان ذلك وقتًا لا بد فيه لشيخ، حتى وإن اشتهر بالحديث بصراحة وبإطلاق كل ما يدور في خلده من أن يتحفظ في كلامه وعلى الأخص شيخ مثل بوب تافت، يغامر بالشيء الكثير، فالحزب الذي كان كل حياته، والجمهوريون الذين تحدث نيابة عنهم في الكونغرس، كانوا على وشك إحراز انتصارات في انتخابات الخريف، ولا شك في أنه إذا نجح تافت في انتزاع السيطرة لحزبه على مجلسي الكونغرس، فإن ذلك سيعزز مكانة بوب تافت وحقه في ترشيح الحزب له لمنصب الرئاسة ويمهد الطريق لدخوله منتصرًا إلى البيت الأبيض الذي أخرج منه والده في سنة ١٩١٢ بصورة غير مجيدة نوعًا ما، أو هكذا بدا الحال لمعظم المراقبين السياسيين في ذلك الوقت الذين افترضوا أن الزعيم الجمهوري لن يقول شيئًا يخل بسير الأمور، ولما كان الكونغرس غير منعقد، والتيار يسير بقوة ضد الديمقراطيين، فإنه بدا أن لا ضرورة هناك لأن يدلي السناتور بأكثر من الخطابات العادية في الحملة الانتخابية حول القضايا العادية، ولكن السناتور تافت كان منزعجًا، وكان من عادته أن يتحدث عندما يعتريه الانزعاج، كان منزعجًا من محاكمة مجرمي الحرب من قادة المحور، التي كانت قد انتهت في ألمانيا وعلى وشك أن تبدأ في اليابان، وقد لقيت محاكمات نورمبرغ التي أُدين فيها أحد عشر نازيًّا سيئ السمعة بموجب قرار اتهام صيغ لغة مؤثرة «بشن حرب عدوانية» شعبية كبيرة في مختلف أنحاء العالم، وعلى الأخص في الولايات المتحدة، وحظي حكم الإعدام الذي أصدرته المحكمة العليا على هؤلاء بشعبية مماثلة.

ومع ذلك، ما الذي يرغمه على قول أي شيء؟ فمحاكمات نورمبرغ لم تكن في أي وقت من الأوقات موضع بحث في الكونغرس، ولم تكن بأي شكل من الأشكال مسألة انتخابية، ولم يتخذ أي من الحزبين الجمهوري أو الديمقراطي أي موقف معين من المشكلة التي صفقت لها البلاد كلها بحماسة، ولا يمكن لأي خطاب يلقيه شيخ أميركي مهما يكن قويًّا، أن يحول دون تنفيذ أحكام الإعدام، والحديث دون ضرورة سيكون باهظ الثمن من ناحية سياسية ودون جدوى.

ولكن بوب تافت تكلم.

ففي السادس من شهر تشرين الأول (أكتوبر) سنة ١٩٤٦ مثل السناتور تافت أمام مؤتمر حول التراث الإنكليزي-الأميركي عقد برعاية كلية كنيون في أوهايو، ولم تكن محاكمات مجرمي الحرب مشكلة ينتظر من الخطباء أن يعلقوا عليها، ولكن تافت الذي وضع خطابه بعنوان «المساواة في العدالة بموجب القانون» طرح جانبًا نفوره العام من الحديث بأسلوب روائي دراماتيكي، وقال وهو يتحدث إلى الحضور الذين أصغوا بانتباه وبنوع من الدهشة: «إن محاكمة المهزوم أمام المنتصر لا يمكن أن تكون نزيهة مهما كانت الطرق التي تتبع لتطبيق العدالة.»

«إنني أتساءل إن كان شنق هؤلاء الذين كانوا — مهما تكن حقارتهم — زعماء الشعب الألماني ستحول دون شن حرب عدوانية؛ لأنه ما من دولة تشن حربًا عدوانية إلا وهي تتوقع الانتصار، وتكمن وراء هذا الحكم كله روح انتقام، وقلَّ أن يكون الانتقام عدالة، وسيكون شنق ١١ رجلًا جرموا، وصمة في السجل الأميركي سنندم عليها طويلًا، وقد قبلنا في هذه المحاكمات بالفكرة الروسية فيما يتعلق بالغاية من المحاكمات — سياسة الحكومة لا العدالة — دون الاهتمام بالتراث الإنكليزي-الأميركي؛ وإننا إذ نُلبس السياسة ثياب الإجراءات القانونية، إنما نحط من فكرة العدالة كلها في أوروبا لسنوات كثيرة قادمة، وعلينا في التحليل النهائي بل حتى عند انتهاء حرب مخيفة، أن ننظر إلى المستقبل بمزيد من الأمل إذا ظن حتى أعداؤنا أنا عاملناهم بعدالة بموجب تصورنا — نحن الناطقين بالإنكليزية — للقانون، من حيث الإغاثة والتصرف النهائي بالأرض.»

انطلق هذا الخطاب في وسط معركة انتخابية حامية الوطيس، وكان أن اختبأ المرشحون الجمهوريون في مختلف أنحاء البلاد، واغتنم الديمقراطيون الفرصة للتقدم، وثارت ثائرة أناس كثيرين جدًّا نتيجة لأقوال تافت، وأبدى أولئك الذين قاتلوا أو أولئك الذين قاتل ذووهم، وربما لاقوا حتفهم، لدحر المعتدين الألمان، أبدوا ازدراءهم لهذه العبارات المنمقة التي صدرت عن سياسي لم يسبق له أن شاهد معركة، وأصيب بصدمة أولئك الذين كان أقاربهم أو أبناء بلدهم سابقًا، بين اليهود والبولنديين والتشيكوسلوفاكيين وغيرهم ممن أثار هتلر وزبانيته الرعب في نفوسهم. كانت ذكريات غرف الغاز في بو خنفولد وغير ذلك من معسكرات الاعتقال النازية، وروايات الفظائع الشنيعة التي تجددت بمعلومات جديدة ظهرت في محاكمات نورمبرغ، والآلام والأحزان التي كانت تحملها كل قائمة جديدة بأسماء القتلى إلى ألوف من المنازل الأميركية، كل هذه كانت من المؤثرات العديدة التي لا تُحصى، والتي جعلت عوامل الألم والغضب تستعر في نفوس الكثيرين حين أعرب شيخ أميركي عن أسفه العميق لمحاكمة رجال «حقيرين» وللأحكام التي صدرت عليهم.

ولم يكن رد الفعل ليختلف حتى في عاصمة البلاد التي كان فيها تافت موضع إعجاب وتقدير، وكانت صراحته القاسية متوقعة فيها على نحو أو آخر، وامتنع زعماء الحزب الجمهوري عن أي تعليق رسمي، ولكنهم أعربوا في أحاديث خاصة عن خوفهم من عواقب الخطاب على مرشحيهم لمجلسي الكونغرس، ورفض رئيس لجنة الحملة الانتخابية للحزب الجمهوري في مؤتمر صحفي، أن يعلق على الموضوع قائلًا «إن لديه أفكاره الخاصة» بالنسبة إلى محاكمات نورمبرغ «ولا يريد الدخول في جدل مع السناتور تافت.»

وانزعج السناتور تافت لعنف ناقديه وشعر بانزعاج أكبر عندما صرَّح فرانزفون بابن، أحد الزعماء النازيين الذين برأتهم المحكمة، صرَّح للصحفيين لدى الإفراج عنه بأنه يوافق السناتور تافت في خطابه، وأصدر ناطق بلسان السناتور تافت بيانًا مقتضبًا واحدًا جاء فيه «أنه أفضى بمشاعره إزاء المسألة، ويشعر بأنه إذا أراد آخرون انتقاده فليمضوا قدمًا في ذلك.» ولكن شيخ أوهايو لم يفهم لماذا ذهب نصيره القديم المعلق الصحفي ديفيد لورانس إلى وصف موقفه بأنه ليس «إلا مغالطة فنية»، ولا بد من أن يكون قد تألم بصورة خاصة عندما عمدت هيئات دستورية محترمة، بينها رئيس جمعية المحامين الأميركيين، ورئيس لجنتها التنفيذية، وغيرهما من أركان المهنة القضائية، إلى استنكار أقواله وإلى الدفاع عن محاكمات نورمبرغ التي قالوا إنها جرت وفقًا للقانون الدولي.

ذلك لأن روبرت تافت لم يتحدث «دفاعًا عن القتلة النازيين» (كما زعم أحد زعماء العمال) أو دفاعًا عن العزلة (كما افترض معظم المراقبين) وإنما دفاعًا عما اعتبره المبادئ الأميركية التقليدية للقانون والعدالة، فروبرت الفونسو تافت، رسول الدستورية الحازمة وكبير المدافعين عن الأسلوب المحافظ في الحياة والحكم، لم يرتدع باحتمالات إلحاق ضرر، بوضع حزبه المتقلقل أو باحتمال انتخابه رئيسًا، فالعدالة بالنسبة إليه كانت في خطر، أما ما تبقى من الأمور فأشياء تافهة، ولاحظ معلق صحفي في ذلك الحين «أن هذا يوضح في الحال، تصلب السناتور تافت واستقامته وعناده السياسي.»

وتلاشت العاصفة التي أثارها الخطاب، ولم تؤثر، على ما يبدو بعد كل هذه الضجة، في فوز الجمهوريين الكاسح في سنة ١٩٤٦، كما أنها لم تكن — في الظاهر على الأقل — مشكلة في حملة تافت للفوز بترشيح حزبه له لانتخابات الرئاسة في سنة ١٩٤٨؛ فقد شُنق الزعماء النازيون وانصرف تافت والبلاد إلى معالجة أمور أخرى، ولكننا لا نهتم الآن في السؤال عما إذا كان تافت على صواب أو خطأ في تنديده بمحاكمات نورمبرغ؛ ذلك لأن ما يجدر بنا ذكره هو الشهادة التي قدمها خطابه على شجاعة تافت، التي لا تردد فيها في الوقوف ضد سيل الرأي العام الزاخر تأييدًا لقضية كان يعتقد أنه فيها على صواب، وكان عمله ميزة طبق الأصل لرجل وصم بأنه رجعي وكان يعتز بأن يكون محافظًا، ولرجل وضع التعريف التالي للتحرر والحرية:

«إن التحرر ينطوي بصورة خاصة على حرية التفكير، وعلى الانطلاق من العقيدة المتزمتة، وحرية الآخرين في التفكير بصورة تخالف تفكير المرء ذاته، وهو ينطوي على عقل حر مفتوح لكل الأفكار الجديدة ومستعد للإصغاء والتمحيص، وعندما أقول الحرية فإنني أعني حرية المرء في أن يفكر تفكيره الخاص، ويعيش حياته الخاصة كما يطيب له أن يفكر ويعيش.»

كانت هذه هي العقيدة التي عاش تافت بموجبها وسعى هو بطريقته الخاصة وأسلوبه الخاص لتوفير جوٍّ في أميركا يستطيع الآخرون في ظله أن يحذوا حذوه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤