الفصل التاسع

معنى الشجاعة

كان هذا كتابًا عن الشجاعة والسياسة، وقد وفرت السياسة الأوضاع ووفرت الشجاعة الموضوع، وكلنا يفهم الشجاعة تلك الفضيلة العالمية، ولكن هذه الصور من الشجاعة لا تبدد خفايا السياسة وأسرارها.

لأنه ما من رجل ممن سردت قصصهم في صفحات هذا الكتاب يقدم صورة بسيطة وواضحة للبواعث والإنجازات، ففي كل من هؤلاء تظهر تعقيدات وتقلبات وشكوك تعترينا، ويظل كل رجل منهم — مهما كانت دراستنا لحياته — لغزًا من الألغاز، ومهما يكن وضوح أثر شجاعته فإن السبب يبقى مظللًا بحجاب يتعذر تمزيقه، وقد نذكر السبب ونحن واثقون بأننا على صواب، ولكن شيئًا ما يفلت منا أبدًا ونظن أننا نمسك بالجواب في أيدينا، ولكنه ينساب من بين أصابعنا.

والباعث، كما يقول لنا أي عالم نفساني، أمر صعب التقدير دائمًا، وهو صعب بصورة خاصة متى أراد تتبع أثره في بحر السياسة المظلم؛ فأولئك الذين تخلوا عن ولايتهم والقطاع الذين ينتمون إليه في سبيل المصلحة الوطنية — مثل دانيال وبستر وسام هيوستون اللذين لا يمكن إخفاء طموحهما إلى منصب أعلى — عرَّضوا أنفسهم للاتهام بأنهم إنما سعوا لإرضاء طموحهم إلى الرئاسة، وأولئك الذين اختلفوا مع حزبهم للنضال في سبيل مبادئ أوسع قاعدة — مثل جون كوينسي آدمز وأدموند روس — تعرضوا للاتهام بأنهم قبلوا المنصب في ظل عَلَم ما، ثم تخلوا عنه لدى نشوب أزمة لينضووا تحت عَلَم آخر.

ولكنني في الحوادث ذاتها التي سُردت في صفحات هذا الكتاب وبعد دراسة وافية لكل منها، مقتنع بأن المصلحة الوطنية لا المكاسب الخاصة أو السياسية هي التي وفرت الدافع الأساسي لتصرفات أولئك الذين أتى هذا الكتاب على وصف أفعالهم، على أن هذا لا يعني أن كثيرين منهم لم يسعوا — حتى وإن لم يكن النجاح حليفهم في أكثر الأحيان — لكسب فوائد من الطريق الصعب الذي ساروا فيه؛ ذلك لأنهم كسياسيين — وليس في وصفهم جميعًا بالسياسيين ما يعيب — كان لتصرفاتهم ما يبررها.

ومن الطبيعي أن تكون أعمال الشجاعة التي وصفت في هذا الكتاب، أكثر إلهامًا وأكثر تألقًا بذلك اللمعان التقليدي الذي تتميز به عبادة الأبطال، لو افترضنا أن كل رجل نسي نفسه كل النسيان في تفانيه من أجل مبادئ أسمى، ولكن ربما كان الرئيس جون آدمز، وهو بالتأكيد نزيه وحكيم كأي مسئول عرفناه في تاريخ بلادنا، كما كان أقرب إلى الحقيقة عندما قال في كتابه «دفاع عن دستور الولايات المتحدة»: «إن من الخطأ القول إن هناك أناسًا في تاريخ البشرية، أحبوا الناس أكثر مما أحبوا أنفسهم.»

وإذا صح هذا، فما الذي دفع بأولئك الساسة الذين وردت أسماؤهم في صفحات هذا الكتاب إلى التصرف كما تصرفوا؟ لم يكن السبب في ذلك «حبهم للناس أكثر من حبهم أنفسهم»، والواقع هو العكس من ذلك، فالسبب بالضبط كان حبهم لأنفسهم؛ لأن حاجة كل منهم إلى الاحتفاظ باحترامه لنفسه كانت أهم بالنسبة إليه من كسب شعبيته لدى الآخرين؛ ولأن رغبته في كسب سمعة بأنه مستقيم أو شجاع، أو المحافظة على هذه السمعة، كانت أقوى من رغبته في الاحتفاظ بمنصبه؛ ولأن ضميره ومقياسه الشخصي للأخلاق، واستقامته وخلقه، أو سمِّه ما تشاء كانت كلها أقوى من ضغوط عدم اتفاق الناس معه؛ ولأن إيمانه بأن السبيل الذي يسير فيه هو أفضل السبل، وستكون له مبرراته في النهاية، كان أقوى من خوفه من انتقام الشعب.

وكثيرًا ما يساء فهم معنى الشجاعة كما يساء فهم الدوافع السياسية، فبعضهم ينعمون بعنصر الإثارة في معارك السياسة، ولكنهم يخفقون في ملاحظة مضاعفات عواقبها، وبعضهم يعجب بفضائلها في أناس آخرين، وفي أوقات أخرى ولكنهم يخفقون في تفهم إمكاناتها الحالية، ولعل من المناسب أن نتحدث عن سلبيات هذا الكتاب، إذا أردنا أن نوضح أهمية قصص الشجاعة السياسية هذه.

لا يُقصد بهذا الكتاب تبرير الاستقلال من أجل الاستقلال أو تبرير التصلب إزاء جميع التسويات أو المغالاة في الكبرياء وتمسك المرء بعناد بمعتقداته الشخصية، ولا يُقصد به القول إن هناك في كل مشكلة جانبًا على صواب وآخر على خطأ، وإن جميع الشيوخ، اللهم إلا الأوغاد والحمقى، يجدون الجانب الصواب ويتمسكون به، والواقع هو العكس؛ فإنني أشترك في المشاعر التي أعرب عنها ملبورن رئيس الوزراء البريطاني الذي قال حين أثاره انتقاد المؤرخ الشاب ت. ب. ماكولي إنه يود لو يكون متأكدًا من أي شيء كما يبدو ماكولي متأكدًا من كل شيء، وقد علمتني تسع سنوات أمضيتها في الكونغرس، الحكمة في كلمات لنكولن: «إن ثمة أشياء قليلة هي في كليتها شر أو خير، فكل شيء تقريبًا، وعلى الأخص سياسة الحكومة، مزيج لا يُفصل من الشر والخير بحيث يتطلب ترجيح أحدهما على الآخر كل حصافة وحسن تقدير منا.»

ولا يُقصد بهذا الكتاب القول إن الانتظام الحزبي والمسئولية الحزبية هما بالضرورة شرَّان يجب ألا يؤثرا في قراراتنا في أي وقت من الأوقات، ولا يقصد به القول إن المصالح المحلية لولاية أو إقليم رجل في الكونغرس، لا تتمتع بالحق في أن تكون موضع اعتبار في أي وقت، والواقع هو العكس؛ لأن ولاء كل شيخ موزع بين حزبه وولايته وإقليمه وبلاده وضميره، فإذا تعلق الأمر بمسائل حزبية طغى ولاؤه الحزبي على غيره، وإذا تعلق الأمر بخلافات إقليمية فإن مسئولياته الإقليمية هي التي تنير له الطريق، ولكن المسائل الوطنية والمسائل المتعلقة بالضمير هي التي تتحدى الولاء الحزبي والإخلاص الإقليمي وتشكل محكًّا للشجاعة.

وقد يتطلب الأمر شجاعة لكي يخوض المرء معركة ضد رئيس جمهوريته أو ضد حزبه أو ضد مشاعر الأكثرية الساحقة من أمته، ولكن يبدو لي أن مثل هذه الشجاعة لا يمكن أن تقارن بتلك التي يجب أن يتحلى بها السناتور عندما يتحدى قوة دائرته الانتخابية الغاضبة التي تتحكم في مستقبله، وهذا هو السبب الذي جعلني لا أضمن هذا الكتاب سير أشهر «المتمردين» في تاريخ هذه الأمة: جون راندولف وتاديوس ستيفنز وروبرت لافوليت ومَن لف لفهم، وهم رجال شجعان ومستقيمون، ولكنهم كانوا يعرفون أنهم يخوضون معاركهم وهم يتمتعون بتأييد ناخبيهم في ولاياتهم.

وأخيرًا، لم يُقصد بهذا الكتاب الحط من الحكم الديمقراطي وحكم الشعب، ولا يمكن اعتماد الحالات — التي نددت فيها عواطف الناخبين دون وجه حق برجل ذي مبدأ — حججًا لا يمكن تفنيدها ضد السماح بأوسع مدى من الاشتراك في العملية الانتخابية، ولا تعتبر سير الرجال الذين حققوا فوائد في وجه حملات وشتائم قاسية من الجمهور، برهانًا قاطعًا يوجب علينا في جميع الأحيان أن نتجاهل مشاعر الناخبين فيما يتعلق بالمسائل الوطنية، وكما قال ونستون تشرشل «إن الديمقراطية هي أسوأ أنواع الحكم باستثناء جميع تلك التي جُربت بين آونة وأخرى.» وفي استطاعتنا تحسين سبل ديموقراطيتنا، وفي استطاعتنا توسيع إدراكنا لمشاكلنا كما أن في استطاعتنا زيادة احترامنا لأولئك الرجال المستقيمين الذين يجدون من الضروري، بين آونة وأخرى، أن يتصرفوا خلافًا لرغبات الرأي العام، ولكننا لا نستطيع أن نحل مشكلات استقلال الهيئة التشريعية ومسئولياتها بإلغاء الديمقراطية أو الحد منها.

فالديمقراطية تعني ما هو أكثر من حكم الشعب وحكم الأكثرية وأكثر من كونها نظام مناورات سياسية لتملق كتلة قوية من الناخبين أو خداعها، وديمقراطية لا يوجد فيها مثل جورج نوريس ليشار إليه — ولا يوجد فيها نصب لضمير فرد في بحر من حكم شعبي — غير جديرة بأن تحمل هذا الاسم. والديمقراطية الحقيقية التي تعيش وتنمو وتكون مصدر وحي هي تلك التي تبعث إيمانًا في الشعب — إيمانًا بأنه لا ينتخب فقط رجالًا يمثلون آراءه بكفاءة وإخلاص، ولكن ينتخب رجالًا يستجيبون لنداء الضمير — إيمانًا بأن الشعب لن يندد بأولئك الذين يؤدي بهم تفانيهم للمبدأ إلى السير في سبل لا تحظى بتأييد الشعب، وإنما سيكافئ الشجاعة ويحترم الإخلاص والصدق ويعترف بالحق في النهاية.

وهذه القصص هي قصص مثل هذه الديمقراطية، ولو لم تحافظ هذه الأمة على تراثها من حرية الكلام وحرية الخلاف، ولو لم تغذ الخلافات الشريفة في الرأي، ولو لم تشجع التسامح إزاء الآراء المعقوقة، لما كانت مثل هذه القصص، وقد يذهب بعض الساخرين إلى الإشارة إلى عجزنا عن توفير نهاية سعيدة لكل فصل من هذا الكتاب، ولكنني متأكد من أن هذه القصص لن يُنظر إليها على أنها تحذير ضد الشجاعة؛ ذلك لأن استمرار النجاح سياسيًّا بالنسبة إلى كثيرين ممن صمدوا لضغوط الرأي العام وتبرئة الباقين في النهاية، يمكننا من الإبقاء على إيماننا بتقدير الشعب في المدى البعيد.

وهكذا فإن مظاهر الشجاعة في الماضي والحاجة إلى الشجاعة في المستقبل، لا تنحصر في قاعة مجلس الشيوخ وحده، ولا تهم مشكلات الشجاعة والضمير كل ذي منصب في بلادنا، سواء كان متواضعًا أم جبارًا، ومهما تكن الجهة المسئول أمامها، سواء أكانت ناخبين أم هيئة تشريعية أم جهازًا سياسيًّا أم تنظيمًا حزبيًّا، وهي تهم كذلك كل ناخب في بلادنا، وتهم أيضًا غير الناخبين وأولئك الذين لا يبدون اهتمامًا بالحكومة، وأولئك الذين لا يكنون غير الاحتقار لرجل السياسة ومهنته، كما تهم كل فرد يشتكي من الفساد في المناصب العالية، وكل من يصر على وجوب انصياع ممثله لرغباته؛ ذلك لأن كل مواطن في نظام حكم ديمقراطي بغض النظر عن اهتمامه بالشئون السياسية «يحتل منصبًا»، ونوع الحكم الذي نحصل عليه يعتمد في التحليل الأخير على كيفية قيامنا بهذه المسئوليات، والشعب هو نحن، والشعب هو السيد، وسنحصل على القيادة السياسية التي نطلبها ونستحقها سواء أكانت حسنة أم سيئة.

ولا تهم هذه المشكلات الشئون السياسية وحدها؛ لأن الاختيار الأساسي بين الشجاعة والخنوع يواجهنا جميعًا باستمرار، سواء خشينا غضب ناخبينا أم غضب أصدقائنا ومجلس إدارة اتحادنا حين نقف ضد آراء تتدفق بقوة بالنسبة إلى مسألة هي موضع جدل، وعلينا ألا ننسى، دون أن نستخف بالشجاعة التي تجلت في موت بعض الرجال، أعمال الشجاعة التي عاشها رجال آخرون — كأولئك الذين تحدث عنهم هذا الكتاب — وكثيرًا ما تكون شجاعة الحياة مشهدًا أقل إثارة من مشهد شجاعة اللحظة الأخيرة، ولكنها لا تقل عنها من حيث كونها مزيجًا متألقًا من الانتصارات والمآسي، والمرء يعمل ما يتوجب عليه مهما تكن العواقب الشخصية ومهما تكن العقبات والأخطار والضغوط، وهذا هو أساس جميع الأخلاقيات الإنسانية.

وتوضح هذه القصص أن الشجاعة لا تتطلب مؤهلات خارقة أو قاعدة سحرية أو مزيجًا خاصًّا من الزمان والمكان والظروف، وهي فرصة تسنح لنا جميعًا إن عاجلًا أو آجلًا، والسياسة تقدم فقط مجالًا واحدًا يفرض تجارب خاصة من الشجاعة، ويجد المرء الشجاعة تتحداه في كل ميدان من ميادين الحياة، وعلى أي امرئ مهما تكن التضحيات التي تواجهه إذا هو لبى نداء ضميره — فقدان أصدقائه وثروته وفقدان قناعته بل حتى فقدان احترام زملائه — أن يقرر لنفسه الطريق التي يتوجب عليه أن يسير فيها، وقصص الشجاعة في الماضي تستطيع تحديد ذلك العنصر، فهي تعلِّم، وتقدم الأمل، وتوفر الإلهام، ولكنها لا توفر الشجاعة ذاتها؛ ولهذا كان على كل امرئ أن ينظر إلى قرارة نفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤