تعليم التَّارِيخ والعلاقات الدولية١

١

سيداتي وسادتي

إن المناهج الدراسية التي تضعها والكتب المدرسية التي تُقرِّرها كل دولة من الدول تُعتبر — عادةً — من الأمور الداخلية التي لا تتعدَّى تأثيراتُها حدود تلك الدولة نفسها. غير أن المناهج والكتب والدروس التي تتصل بالتَّارِيخ تشذُّ عن هذه القاعدة العامة؛ لأنها قد تُؤثِّر في سَيْر علاقات الدولة المذكورة بالدول الأخرى.

فإن المباحث التي تتناول دروس التَّارِيخ لا يمكن أن تقتصر على ماضي أُمَّةٍ واحدة على الانحصار، بل لا بد لها من أن تَتطرَّق إلى ماضي أممٍ مختلفة لكثرة العلائق التي تربط تواريخَ الأُمَم بعضها ببعض ارتباطًا وثيقًا.

ففي جميع دروس التَّارِيخ التي تُلقى في المدارس، سواء أكانت من نوع التَّارِيخ القومي أم من نوع التَّارِيخ العام، يُضطَر المدرِّسون إلى التكلُّم عن بعض الأُمَم الأجنبية. وهذه الأبحاث التَّارِيخية قد تُثير في نفوس الطلاب قليلًا أو كثيرًا من الاستحسان أو الاستهجان. والاستحسان قد يتقوَّى — إذا ما تَكرَّر وتوالى — فيتحول إلى «حب وصداقة» نحو بعض الأُمَم، كما أن الاستهجان قد يشتد بالتوالي والتَّكْرار فيصل إلى درجة «البغض والكراهية» نحو بعض الأُمَم …

إن تأثير دروس التَّارِيخ في بث شعور الكراهية والعداوة بين الأُمَم لفَت أنظار «دعاة السلام» بوجهٍ خاص، وحمل بعض المفكرين على انتقاد «التَّارِيخ» انتقادًا مُرًّا. وربما كان أشد وألذع هذه الانتقادات هي التي صَدرَت من يَراع الكاتب الفرنسي الشهير «بول فاليري»؛ فقد قال المُومَأ إليه في هذا الصدَد ما مآله: «إن التَّارِيخ أخطر وأضر العقاقير التي استحضَرها كيمياء العقل. خواصُّه معلومة جيدًا؛ إنه يُسكِر الأُمَم، ويُثير في نفوسها شتى الأوهام والأحلام، ويُورثها ذكرياتٍ كاذبة، كما أنه يخدش جروحها القَديمة، فيحُول دون التئام تلك الجروح. إنه يقضُّ مضاجع الأمة ويَسلبُها راحة البال، ويؤدِّي بها في الأخير إلى «مانياء العظمة» أو إلى «داء الاضطهاد» …»

ولكن … مهما قيل في هذا المضمار لا يستطيعُ أحدٌ أن يُنكر أن التَّارِيخ من أهم عناصر القومية ومن أقوى عوامل الوطنية.

فإن جميع رجال التَّربية والتَّعلِيم يتفقون في القول بأن دروس التَّارِيخ من أهم الوسائل لإثارة الشعور الوطني وتنمية الوعي القومي في نفوس الطلاب، وكثيرًا ما يقولون إن تدريس التَّارِيخ لا يعني — في حقيقة الأمر — «تعليم الماضي»، بل إنه يَعني من حيث الأساس «تكوين الشعور الوطني».

فليس من المعقول والحالة هذه أن نطلب من المعلمين والمربين أن يتخلَّوا عن استخدام التَّارِيخ في بث الروح الوطنية والقومية في النفوس.

فكل ما يمكن، وكل ما يجب، أن يُطلب منهم في هذا السبيل هو عدم إفراغ هذه الدروس في قالبٍ يُثير روح العداء والبغضاء بين الأُمَم لكي لا يَحُول دون حُسْن التفاهُم بين الدول.

إن هذه القضايا قد شغلَت أذهان علماء التَّربية من جهة، ورجال السياسة من جهةٍ أخرى، منذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، وصارت موضوعًا لمباحثات ومناقشات ومفاوضاتٍ كثيرة بين العلماء والمفكرين والساسة في أوروبا وأمريكا.

وقد اهتم بها عددٌ كبير جدًّا من المؤتمرات القومية والأُمَمية التي انعقدَت بين الحربَين العالميتَين الأخيرتَين، فجميع مؤتمرات التَّارِيخ، ومؤتمرات التَّربية الأخلاقية، ومؤتمرات السلام العام … قد تطرَّقَت إلى مسألة «دروس التَّارِيخ من وِجهة تأثيرها في تحسين العلاقات الدولية، ونشر ألوية السلام بين الأنام» حتى إن بعض المؤتمرات انعَقدَت لدرس هذه المسألة بوجهٍ خاص، والتيارات الفكرية التي تولَّدَت من جرَّاء ذلك حملَت كثيرًا من الدول على عقْد اتفاقاتٍ ومعاهداتٍ رسمية بُغْية «توجيه دروس التَّارِيخ» الوِجهة التي يتطلبها مبدأ استقرار السلام.

إن البعض من هذه الاتفاقات عُقِدَ لتنظيم العلائق الثقافية بوجهٍ عام، ومع هذا نَصَّ على بعض الأحكام المتعلقة بدروس التَّارِيخ وكُتُب التَّارِيخ بوجهٍ خاص، ولكن البعض منها عُقِدَ لخدمة الغاية الأخيرة رأسًا ومباشرةً.

هذا، ومما تجب الإشارة إليه أن هذه الاتفاقات عُقِدت بعد مباحثات ومفاوضاتٍ طويلة، جرى بعضها بين دولتَين، وبعضها بين مجموعة من الدول التي ترتبط بروابطَ تاريخية وجغرافية خاصة، وبعضها بين جميع الدول التي تسعى وراء السلام العام.

فيجدُر بنا أن نُلقيَ نظرةً إجمالية على هذ المفاوضات، ونستعرض أهم الأحكام التي قرَّرتْها هذه الاتفاقات، عن دروس التَّارِيخ وكُتُب التَّارِيخ بوجهٍ خاص.

إن أسبق الدول إلى التفكير في هذا الموضوع والاتفاق في شأنه كانت الدول الاسكندينافية؛ لأنها شَرعَت في العمل في هذا السبيل منذ سنة ١٩١٩.

من المعلوم أن تاريخ الدول المذكورة — أي السويد والنرويج والدنمارك وفنلندا وأيسلندا — كان شديد التشابُك والتعارُض خلال القرنَين الأخيرَين. كانت قد حدثَت بين شعوبها مخاصماتٌ كثيرة، وهذه الأوضاع السابقة كانت قد تركَت في نفوسهم حزازاتٍ مختلفة، وهذه الحزازات كانت تَحُول دون تنظيم علاقات هذه الدول بعضها ببعض، وَفقَ ما تقتضيه منافعها الحالية لحفظ كيانها بين تيارات السياسة الدولية.

فرأى المفكرون والساسة في هذه الدول المتجاورة أن مصلحة الجميع تتطلَّب تنقية الكُتب المدرسية المقرَّرة في كل واحدةٍ منها من المباحث والعبارات التي تُثير الضغائن بين شعوبها. وألَّفوا جمعية سُمِّيت باسم «الشمال» Norden على أن يكون لها لجانٌ فرعية قومية في كل دولة من الدول الاسكندينافية. وعَهِدوا إلى كل فرع من فروع هذه الجمعية بمهمة «درس الكُتب المدرسية» المقررة في بلاد الفروع الأخرى، على أن يُلاحِظ كل ما جاء فيها عن بلاده، ويُسجِّل ما قد يبدو له من الانتقادات عليها، ثم يعرض تلك الانتقادات على الفرع الذي يهمُّه الأمر لكي يتخذ التدابير اللازمة لتصحيح الكُتب المذكورة وتعديلها بعد مناقشة القضية في اجتماعاتٍ خاصة إذا اقتضى الحال. وقد عَرضَت الجمعية بعض المسائل التَّارِيخية التي اختَلفَت الآراء في شأنها على لجنةٍ مؤلَّفة من المؤرخين الاختصاصيين، لمناقشتها مناقشةً علمية، تساعد على إظهار وجوه الخطأ والصواب فيها.

وقد دَرَسَت الجمعية المذكورة بهذه الصورة أكثر من مائة وسبعين كتابًا مدرسيًّا، ونقَّحَت الكثير من مضموناتها بصُورةٍ فعلية.

وقد حاوَلَت الدول البلقانية أيضًا أن تسلُكَ مسلكًا يشابه سلوك الدول الاسكندينافية في هذا المضمار.

من المعلوم أن شِبْه جزيرة البلقان من أغربِ بقاعِ الأرض التي تشابكَت فيها القوميات تشابُكًا لا مثيل له في سائر أنحاء العالم، فقد رأى ساسة الدول البلقانية أن يَسعَوا إلى التخلُّص من آثار الضغائن التي خلَّفَتها الوقائع الماضية، فعقدوا حِلفًا عُرِفَ باسم «الحِلف البلقاني».

وكان الحِلفُ المذكور يعقد مؤتمرًا سنويًّا في عاصمة من عواصم الدول البلقانية. وقد تناولَت مُذكراتُ هذه المؤتمراتِ كثيرًا من القضايا المتعلقة بتدريس التَّارِيخ.

والمؤتمر البلقاني الأول الذي انعقد في أثينا سنة ١٩٣٠ أوصى باتخاذ تدابيرَ متعددة «لضمان التقارب والتفاهم» بين الشعوب البلقانية «خدمة للإنسانية والسلام». وكان من جملة هذه التدابير «إصلاح التَّعلِيم بوجهٍ عام، وتعليم التَّارِيخ بوجهٍ خاص، إصلاحًا يُجرِّده من كل صيغةٍ عدائية، ويجعله خادمًا للسلام». وقد طلَب المؤتمر المذكور من جميع الدول البلقانية أن تحذف من كُتُب التَّارِيخ «الفصول التي تُذْكي الحروب وتُثير الخصومات».

والمؤتمر البلقاني الثاني الذي اجتمع في مدينتَي إستانبول وأنقرة سنة ١٩٣١ أوصى — فيما أوصى به من الأمور — أن تتبادَلَ الدول البلقانية ترجماتٍ من «المختارات» التي تتعلق بتاريخ بلادها وآدابها؛ بُغية إدماجها في كُتُب المطالعة التي تُستعمل في المدارس المختلفة.

والمؤتمر الثالث الذي انعقد في بوخارست سنة ١٩٣٢ قرَّر تأسيس معهدٍ للأبحاث التَّارِيخية؛ للعناية بتواريخ جميع الشعوب البلقانية.

وأما المؤتمر الرابع الذي انعقَد في سالونيك سنة ١٩٣٣ فقد أوصى بإنشاء كراسي ﻟ «تعليم حضارات الشعوب البلقانية» في جامعات عواصمها.

وقد بُذِلت جهود مماثلة لِما ذكرناه آنفًا في أمريكا أيضًا؛ فقد عَقدَت «الحكومات المتحدة البرازيلية» مع «الجمهورية الأرجنتينية» سنة ١٩٣٣ اتفاقية خاصة ﺑ «مراجعة نصوص الدروس التَّارِيخية والجغرافية». وقد تعهَّد الطرفان — بهذه الاتفاقية — أن يُعيدا النظر في الكُتب المدرسية على أساس «تنقيتها من العبارات التي تَذكُر وتُثير حزازات العهود الماضية». وقد نصَّت المادة الأخيرة من الاتفاقية المذكورة على أن «كل دولةٍ أمريكية تستطيع أن تنضم إليها، وذلك بإعلام وزارة الخارجية البرازيلية.»

غير أن أحكام هذه الاتفاقية أُدمِجت — في أواخر السنة المذكورة — في «اتفاقية تعليم التَّارِيخ» التي قررها «المؤتمر الأُمَمي السابع للدول الأمريكية» المنعقد في مدينة «مونت فيديو».

وقد نصَّت الاتفاقية المذكورة على وجوب إعادة النظر في الكتب المقرَّرة للمدارس في بلاد الدول المتعاقدة بُغية تنقيتها «من كل ما من شأنه أن يُثير في نفوس الناشئة شعور الكراهية نحو أي بلدٍ من البلاد الأمريكية».

كما أنها نصَّت على تأسيس معهدٍ جديد باسم «معهد تعليم التَّارِيخ» يتولى مهمة «تنسيق وتوجيه تدريس التَّارِيخ في مختلف الجمهوريات الأمريكية».

وأوصت الاتفاقية المذكورة بعدة أمور:

منها: أن تُشجِّع كلُّ جمهورية من الجمهوريات الأمريكية تدريسَ تاريخ الجمهوريات الأخرى.

ومنها: العُدول عن الاهتمام بالأعمال الحربية مع التوسع في الشئون الحضارية في دروس التَّارِيخ.

ومنها: عدم اتخاذ «حكايات الانتصارات» وسيلةً للتنديد بالشعوب المغلوبة.

ومنها: التأكيد على كل ما من شأنه أن يُقوِّيَ رُوحَ التفاهُم والتعاوُن بين مختلف البلدان الأمريكية.

هذا، وقد انعقد بعد ذلك بين الدول الأمريكية «مؤتمر لصيانة السلم»، سنة ١٩٣٦، في مدينة «بوينوس آيريس». وأوصى المؤتمر المذكور جميع الجمهوريات الأمريكية بالإسراع في تنفيذ أحكام الاتفاقية الآنفة الذكر؛ بُغْية تنشئة الأجيال القادمة في جَوٍّ معنوي مُشبَّع بحب السلم، وبالرغبة في التفاهُم بين الأُمَم.

حينما كانت الدول التي سبق ذِكْرها تتفاوض في هذه الأمور وتعقدُ هذه الاتفاقات، كان من الطبيعي أن تهتم عُصْبة الأُمَم أيضًا بهذه القضايا، وأن تَدعُوَ جميع الدول إلى التفاهُم حول هذه المبادئ.

غير أنه إذا كان من السهل أن تتفق بعض الدول — أو بعض مجموعات الدول — على هذه القضايا التي تتصل بدروس التَّارِيخ، لوجود روابطَ خاصة ومنافعَ متقابلة تربط بعضها بعض، فإنه كان من الصعب أن تتفق جميع الدول على أمثال هذه الأمور.

ولهذا السَّبب لم تستطع عُصبة الأُمَم أن تُقرِّر مشروع «اتِّفاقيَّة عامة» تضمن تحقيق الأغراض الآنفة الذكر إلا سنة ١٩٣٥ مع أنَّها قد بدأَت تُفكِّر فيها وتعمل لأجلها … منذ بداية تكوينها، فقد قرَّرَت عُصبة الأُمَم ضرورة العمل «للتعاوُن الفكري بين الأُمَم» منذ الاجتماع الأول الذي عقَدَته سنة ١٩٢٠، وألَّفت اللجنة الأُمَمية ﻟ «التعاون الفكري» سنة ١٩٢١، وهذه اللجنة أخذَت تُنشئ فروعًا قومية في مختلف بلاد العالم منذ سنة ١٩٢٢، كما أنها ألَّفَت عدة لجانٍ اختصاصية كان من جملتها لجنة «تعليم الشبيبة أهداف عُصبة الأُمَم». وبدأَت اللجنة المذكورة أعمالها سنة ١٩٢٣، وأخذَت تبحث في وسائل «إقرار السلم عن طريق التَّربية والتَّعلِيم». وتطرَّقَت بطبيعة الحال إلى مسألة «الكتب المدرسية»، ولا سيما «كُتُب التَّارِيخ». غير أنها لم تستطع أن تَخطُوَ خطواتٍ واسعة في هذا السبيل؛ لعدم استعداد معظم الدول عند ذاك للتقيُّد ﺑ «عهود عامة» في مثل هذه القضايا الهامة، فاضْطُرَّت اللجنة إلى الاكتفاء بإقرار الاقتراح المعتدل الذي تقدَّم به ممثل إسبانيا «كازاريس» بُغْية إيجاد طريقة ﻟ «تنقية الكتب المدرسية من العبارات التي تَضُر بحُسْن التفاهُم والوئام بين الأُمَم».

واللجنة الأُمَمية للتعاون الفكري — التابعة لعصبة الأُمَم — أقرَّت هذا الاقتراح في ٢٥ تموز ١٩٢٥، فعُرِف الاقتراح بعد ذلك باسم «قرار كازاريس».

يصرِّح هذا القرار في حيثياته ﺑ «أن إحدى الوسائل التي تضمن الوصول إلى التقارُب الفكري بين الشعوب بأفضلِ الوسائط وأنجعِها هي تنقية الكُتب المدرسية من العبارات التي من شأنها أن تبذُر بين شبيبة بلدٍ من البلاد بذور عدمِ تفاهُمٍ أساسي نحو البلاد الأخرى.» ثم يدعو اللجان القومية للتعاون الفكري إلى العمل في هذا السبيل على الطريقة التالية: «إذا ما وَجدَت إحدى اللجان المذكورة في الكتب المدرسية الأجنبية نصًّا يمس بلادها ويحتاج إلى تعديل؛ خدمة للغايات التي أَوحَت بهذا القرار، فإنها تُرسل طلبًا بذلك إلى اللجنة القومية العاملة في البلد الذي يُدرَّس فيه الكتاب المذكور، وتُصحِب طلبها هذا — إذا رأت لزومًا لذلك — بمشروع التعديل الذي تقترحه، مع أسبابه الموجبة. وعلى كل لجنةٍ قومية تَتلقَّى طلبًا من هذا القبيل أن تَدْرُس القضية وتقرر: هل تجب تلبية هذا الطلب؟ وتتخذ التدابير اللازمة لإجراء التعديل المطلوب، مع إعلام اللجنة القومية الطالبة من جهة، واللجنة الأُمَمية من جهةٍ أخرى. وأمَّا إذا لم توافق على تلبية الطلب وتبديل النص فلا تُعتبر مُجبرةً على بيان الأسباب.»

هذا، ويُصرِّح قرار «كازاريس» بأن «طلبات التَّصحيح والتَّعديل يجب أن تنحصر في الأمور الثابتة بصورةٍ أكيدة، والمتعلقة بجغرافية البلاد وحضارتها …» ويَحظُر بصورةٍ قطعية طلبَ تعديل النصوص التي تتصل بالتقديرات الذاتية، فتكون ذات صبغةٍ أدبية أو سياسية أو دينية. وفي الوقت نفسه يرجو القرار من كل لجنةٍ قومية، أن تُشير إلى المؤلَّفات التي تراها أصلح لتزويد الأجانب بمعلومات صحيحة عن تاريخ بلادها، وحضارتها السابقة، وحالتها الحاضرة.

يُلاحَظ من هذه التفاصيل أن التدابير التي تضمَّنَها هذا القرار كانت في منتهى الاعتدال وغاية الاحتراس، حتى إنها لم تشمل شيئًا من دروس التَّارِيخ على الإطلاق. والسَّبب في ذلك يعود إلى حِرْص بعض الدول على الاحتفاظ بحرِّية العمل في هذا المضمار حرصًا شديدًا.

غير أن الجمعيات العلمية والتَّعلِيمية والسياسية التي تهتم بشئون التَّارِيخ والتَّربية والسلام واصلَت جُهودَها وأبحاثَها ودعاياتها في هذا السبيل، وعقَدَت مؤتمراتٍ كثيرة، ونشَرَت مقالاتٍ متتابعة، وأثَّرتْ في الرأي العام تأثيرًا عميقًا. والتطوُّر الذي حدث في عالم الفكر من جرَّاء ذلك أدى إلى إدخال القضية إلى حظيرة عُصبة الأُمَم مباشرةً.

وقد ألقى برييان — ممثل فرنسا في مجلس العصبة، سنة ١٩٢٩ — خطابًا بليغًا في هذا الموضوع، فقال:

«يجب على عصبة الأُمَم ألا تبقى مكتوفةَ الأيدي أمام ذلك النوع من «التسميم المعنوي» الذي تُنكَب به نفوسُ الناشئة الآن في كل البلاد؛ لأن هناك أناسًا لا يرتاحون إلى انتشار رُوح الطمأنينة والسلام، بل بعكس ذلك يَسعَون دائمًا وراء إثارة نَعراتِ الثأر والانتقام.

فيجب على عصبة الأُمَم، التي تشمل سياستها جميع أعمال الصيانة الاجتماعية، والتي تبذُل شتَّى الجهود في سبيل مكافحة ومطاردة الحشيش والأفيون في كل البلاد بكل الوسائل الممكنة، يجب على هذه العُصبة أن تَلتَفِت بأنظار اهتمامها نحو الأفعال التي ترمي إلى تسميم عقول الأطفال والشُّبان، ببث بذور الحرب والخصام في أدمغتهم الغَضَّة. إن الذين يُقْدِمون على ذلك — بدروسهم أو بخطاباتهم — يجب أن يُعتبروا من أفظع المجرمين …»

وقد تلا هذه الخُطبةَ الهامة خُطَبٌ شتى ألقاها كبار رجال السياسة في مختلف البلاد.

وهذه النزعة السياسية التي بَرزَت بهذه الصورة في قاعة عُصبة الأُمَم نفسها أَفسحَت أمام لجنة الخبراء المؤلَّفة ﻟ «تعليم الشبيبة أهداف عصبة الأُمَم» مجالًا واسعًا لإعادة النظر في المقرَّرات السابقة، ولوضع خططٍ جديدة أكثر نجوعًا من الخطَط الأولى.

فقد رأت اللجنة — خلال الاجتماع الذي عقَدَته سنة ١٩٣٠ — أن الوقت قد حان للقيام بتحقيقٍ علمي شامل، عن حالة «الكتب الدراسية المستعملة في مدارس البلاد المختلفة». وقد تم هذا التحقيق سنة ١٩٣١، ونُشِرَ التقرير المُفصَّل الذي ضُمِّن نتائجه سنة ١٩٣٢.

واستنادًا إلى كل ذلك، وضعَت اللجنةُ مشروعَ قرارٍ أشارت فيه إلى «أهمية دروس التَّارِيخ في تنشئة الأجيال الجدِيدة على حب السلام والوئام»، ونصَّت على وجوب اشتمال قرار «كازاريس» على كُتُب التَّارِيخ ودروس التَّارِيخ، ثم اقتَرحَت على عصبة الأُمَم أن تُوصي الحكومات بالسهر المباشر على تنقية الكتب المدرسية من الأبحاث والعِبارات التي قد تضُر بحُسْن التفاهم بين الأُمَم.

هذا، ومن جهةٍ أخرى، كان قد حدث في عالم السياسة تيارٌ جديد، استوجب سلسلة جهودٍ جديدة، تلاقت مع سلسلة الجهود الآنفة الذكر، في هذه المرحلة من مراحل تطوُّرها:

كانت عصبة الأُمَم أخذَت تبحث الوسائل التي تؤدي إلى نزْع السلاح، أو على الأقل إلى تحديد التسلُّح، ودعت الدول إلى عقْد مؤتمرٍ خاص لهذا الغرض سنة ١٩٣٠.

وقد أرسل وزير خارجية بولندا — زالسكي — كتابًا إلى سكرتير عصبة الأُمَم أشار فيه إلى ضرورة التفكير في أمر «نزع السلاح المعنوي»، بجانب التفكير في قضايا «نزع السلاح المادي». وأضاف إلى الكتاب المذكور مُذكِّرةً تفصيلية قال فيها: يجب أن نبذل جهدًا عظيمًا لصيانة الشبيبة من كل ما من شأنه أن يُثير في نفوسها البغض لشعبٍ أجنبي؛ ولهذا يجب أن يُحظر على المعلمين سُوءُ استعمال سلطتهم المعنوية بتلقين طلابهم أمثال هذه النزعات، ويجب أن يُعاد النظر في الكتب المدرسية — لضمان تحقيق هذه الغاية — ولا سيما في الكتب الخاصة بدروس التَّارِيخ والجغرافية …

ورئيس لجنة التعاون الفكري أيضًا قدَّم تقريرًا ذكر فيه العلاقة التي تربط قضية نزع السلاح بقضايا التعاوُن الفكري، وشرحَ الجهود التي بذلَتْها اللجنة في هذا السبيل، منذ سنة ١٩٢٠.

وبهذه الصورة أصبحَت قضية «نزع التسلُّح المعنوي» من المسائل التي تُثير اهتمام المحافل الفكرية والسياسية بمقياسٍ واسع جدًّا.

واللجنة السياسية المنبثقة من «مؤتمر تحديد التسليحات» بحثت هذه القضية في ١٥ آذار (مارس) ١٩٣٢، وألَّفَت لجنةً فرعية باسم لجنة نزع التسليح المعنوي عَهِدَت إليها بدَرْس الموضوع باهتمامٍ تام.

وهذه اللجنة — بعد المذاكرة في الأمر — اتخذَت مقرَّراتٍ كثيرة وطَلبَت من «منظمة التعاون الفكري» أن تضع الخطَط التفصيلية لتنفيذ هذه المقرَّرات. والمنظَّمة المذكورة وضعَت وقرَّرَت خطةً تفصيلية ﻟ «تنقية إصلاح الكتب المدرسية».

ولكن رجال الفكر والسياسة لم يكتَفُوا بذلك، بل رأَوْا أن هذه الجهود والقرارات يجب أن تُتوَّج بمعاهدةٍ تُلزم الدول إلزامًا صريحًا.

ولهذا السَّبب وَضعَت «اللجنة الأُمَمية للتعاون الفكري»، سنة ١٩٣٦، مشروعَ «تصريح دولي» عن الكتب الدراسية المتعلقة بالتَّارِيخ.

وأقرَّت عصبة الأُمَم المشروع، ودَعَت الدول إلى التوقيع على التصريح.

وقد أصبح التصريح الدولي المذكور نافذًا، اعتبارًا من ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) سنة ١٩٣٧.

ويُشير التصريح المذكور — في مُقدِّمته — إلى أن «العلائق القائمة بين البلاد المختلفة تتحسن وتتوطد، إذا ما تلقَّت الأجيال الجدِيدة في كل بلدٍ من المعارف والمعلومات التي تتعلق بتاريخ الأُمَم الأخرى، ما هو أوسع مما تتلقاه الآن». كما يُشير إلى «الأضرار التي تنجُم عن عرض بعض الوقائع التَّارِيخية في الكتب المدرسية عرضًا مثيرًا»، ثم يذكر اتفاقَ الدول على المبادئ التالية:
  • (١)
    يحسُن لفت أنظار السلطات المختصة في كل البلاد — وكذلك أنظار مؤلِّفي الكتب الدراسية فيها — إلى وجوب:
    • (أ)

      تخصيصِ أوسعِ ما يمكن تخصيصُه من الحصص لتاريخ الأُمَم الأخرى.

    • (ب)

      تبريز العناصر التي من شأنها تفهيمُ ترابُط الأُمَم خلال تدريس التَّارِيخ العام.

  • (٢)

    يحسُن بكل حكومةٍ أن تَتحرَّى الوسائل التي تضمن صيانة الشبيبة المدرسية من العبارات الضارة، وفقًا للمقررات التي اتخذَتْها اللجنة الأُمَمية للتعاون الفكري وأقرَّتها هيئة عُصبة الأُمَم.

٢

بعد هذه النظرات السريعة التي ألقيناها على هذا النوع من الاتفاقات والمقرَّرات الدولية، يجدُر بنا أن نتساءل: ماذا يجب أن يكون موقفنا نحنُ العربَ إزاء هذه المقرَّرات؟

أنا لا أرى بأسًا في الأخذ بها والاستفادة منها؛ لأني أعتقد أن الكُتب الدراسية المُستعمَلة في البلاد العربية ليست مخالفةً — بوجهٍ عام — للمُقرَّرات الآنفة الذكر؛ إنها تخصص حصة كبيرة للتاريخ العام، ولا تُلقي فكرةً عَدَائية نحو الأُمَم الأخرى، في حين أن الكتب المستعملة في مدارس الغرب لا تُعطي تاريخ العرب حقه من البحث والاهتمام، وكثيرًا ما تَذكُر الشئون المتعلقة بتاريخ العرب بعباراتٍ تنمُّ عن الاستخفاف والازدراء. وأستطيع أن أقول إن تطبيق القرارات الآنفة الذكر يُكسِبنا «حقوقًا للمطالبة» أكثر مما يُعرِّضنا إلى «مطالبات»؛ ولهذا نستطيع أن نستفيد منها في مطالبة الأُمَم الغربية بجعل كُتُبها المدرسية أَكثرَ إنصافًا للعرب وأقلَّ إهمالًا لهم.

غير أني أعتقد أن أهم النتائج التي يجب أن نستخلصها من الأبحاث الآنفة الذكر هي الإيمان بأهمية دروس التَّارِيخ في حياة الأُمَم؛ لأننا لا نزال بعيدين عن هذا الإيمان؛ فإننا قلَّما نهدف في دروس التَّارِيخ إلى أهدافٍ واضحة، وقلَّما نعمل لتلك الأهداف بتأمُّل وتبصُّر وثبات …

كثيرًا ما يثير رجال الفكر والتَّعلِيم — في كل أنحاء العالم — مسألة «العلمية والشيئية» في التَّارِيخ، وفي دروس التَّارِيخ.

يقول البعض: إن التَّارِيخ يجب أن يُكتب ويُدرس بنظرةٍ علمية بحتة. ويقول البعض: إن التَّارِيخ بعيدٌ عن الصفات المميزة للعلم بُعْدًا كبيرًا فلا يمكن تدوينه وتدريسه بنظرةٍ علمية بحتة أيضًا …

غير أني أُفرِّق قضية «تدوين التَّارِيخ» من قضية «تدريس التَّارِيخ» فأقول: من الممكن كتابة التَّارِيخ وتدوينه بنظرةٍ علمية بحتة، غير أنه من المستحيل تدريس التَّارِيخ وتعليمه بنظرةٍ علمية بحتة، مجرَّدة عن كل نزعةٍ خاصة.

لأننا عندما نُدوِّن التَّارِيخ نأخذ بنظر الاعتبار كل ما يصل إلى علمنا — وكل ما يتصل ببحثنا — من الوقائع والتفاصيل، فنستطيع أن نَزِنَها وزنًا دقيقًا، ونَدْرسها درسًا علميًّا، دون أن نَتوخَّى من وراء ذلك غاية غير «معرفة الحقيقة وإظهار الحقيقة».

غير أننا عندما نُقدِم على تدريس التَّارِيخ لا نجد إمكانًا ماديًّا لعرض جميع الوقائع، وذِكْر جميع الحقائق، واستعراض جميع التفاصيل، فنُضطَر بطبيعة الحال إلى الاكتفاء بسرد بعض الوقائع وإهمال ما سواها. إن هذا الاضطرار يُحمِّلنا مهمةً خطرة هي مهمة الترجيح والانتخاب. ولا حاجة إلى القول بأن عملية «الترجيح والانتخاب بين مجموعةٍ كبيرة من الحقائق وسلسلةٍ طويلة من الوقائع» لا يمكن أن تتم بملاحظاتٍ علمية بحتة؛ فلا بد لها من أن تخضع لبعض الملاحظات التربوية، ولا شك في أن أهم هذه الملاحظات التربوية يجب أن تستهدف «تقوية الروح الوطنية والوعي القومي في نفوس الطلاب».

وأستطيع أن أقول: ما من كتابٍ مدرسي كُتِبَ في بلاد الغرب إلا خضع لهذه المُلاحَظات الأساسية وعَمِل بهذا المبدأ العام.

وقد يُقال إن ضرورة الاقتصار والانتخاب من الضرورات المسيطرة على «جميع الدروس» وليست من الأمور الخاصة بدروس التَّارِيخ وحدها؛ فكل عملٍ تدريسي يتضمَّن بطبيعته عملًا اصطفائيًّا.

غير أنه يجب ألا يَغرُب عن البال أن عمليات الاصطفاء والاقتصار لا تُؤثِّر في النتائج تأثيرًا يماثل تأثيرها في التَّارِيخ؛ فإننا إذا اكتفَينا في دروس الحيوان مثلًا بدرس بعض الأنواع وأهملنا الأنواع الأخرى، أو إذا أقدمنا في دروس الكيمياء على دراسة بعض المركَّبات وأهملنا دراسة المركَّبات الأخرى، لا يترتب على ذلك نتائجُ خطيرة؛ إذ لا يشوب صحةَ المباحث التي درَسْناها أيةُ شائبة، ولا يعتري وجهَ الحقيقة التي شرحناها أيُّ تغيُّر، فيكون عملُنا عملَ اختصارٍ وإجمال ليس فيه شيءٌ من التشويه.

ولكن الأمور تختلف عن ذلك اختلافًا كليًّا في دروس التَّارِيخ؛ لأن ذِكْر بعض الوقائع أو عدم ذِكْرها قد يُغيِّر تأثيرها في النفوس تغييرًا أساسيًّا، وقد يُشوِّه وجه الحقيقة تشويهًا خطيرًا.

إني أستطيع أن أُوضِّح رأيي هذا بمثالٍ قريب المنال:

عندما استعرضتُ — في بدء هذه المحاضرة — التيارات الفكرية التي حامت حول مسائل تدريس التَّارِيخ، ذكرتُ الخطاب البليغ الذي ألقاه «برييان» في مجلس عصبة الأُمَم.

افرضوا أني ذكرتُ ذلك لطلابي في مدرسةٍ ثانوية وأردتُ أن أتوسَّع في الشرح، فقرأتُ عليهم ترجمة الخطاب كله بأسلوبٍ مُؤثِّر جذَّاب. لا شك في أن ذلك سيُثير في نفوس الطلاب «التقدير والإعجاب» نحو صاحب هذا الخطاب.

وافرضوا أنني توسَّعتُ في الأمر أكثر من ذلك، وقرأتُ على الطلاب مقتطفاتٍ من الخُطَب التي كان ألقاها المُومأ إليه في مناسبات مختلفة، عن السلام العام. لا شك في أن ذلك سيزيدُ في إعجابهم به زيادةً كبيرة.

وافرضوا — في الأخير — أنني استرسلتُ في هذا البحث أكثر من ذلك أيضًا، وقلت للطلاب: إن الجهود التي بذَلَها برييان في عصبة الأُمَم في سبيل نَشْر أَلوية السلام حملَت اللجنة المكلَّفة بتوزيع جوائز نوبل الشهيرة على منحه جائزة السلام. لا شك في أن «برييان» سيصبح عندئذٍ في أنظار هؤلاء الطلاب بطلًا عظيمًا، وتمثالًا بديعًا لدعاة السلام العام.

ولكنَّ هناك حقائقَ أخرى إذا ما ذكرتُها فسيتغيَّر فورًا مظهر هذا التمثال؛ أن برييان هذا كان وزيرًا للخارجية عندما اتفقَت فرنسا مع إنكلترا على اقتسام البلاد العربية خلال الحرب العالمية الأولى! … إنه كان من أبطال اتفاقية سايكس بيكو، التي قضت على الأمن والسلام في ربوع الشام مدةً تزيد على ربع قرن … وكان قد تَباهَى بعمله هذا في البرلمان الفرنسي، عندما تَذَاكَر في الاعتمادات التي طلَبتْها الحكومة لتجريد الحملة العسكرية التي قضت على استقلال سورية، عقب واقعة ميسلون؛ فإنه قام يخطب — عندئذٍ — للدفاع عن الاتفاقية المذكورة، وقال: «أما أنا، فمن دواعي الفخر لي أن أكون قد عقَدتُ هذه الاتفاقيات في حينها. وكل ما أتمناه هو أن يُستفاد منها الآن.» وخلاصة القول أنه كان من أكبر المسئولين عن الآلام التي عاناها السوريون، وعن النكبات التي حلَّت بسورية خلال تلك المدة الطويلة.

هذه كلها حقائقُ ثابتة لا تتحمل الجدل والإنكار عن أعمال برييان الذي نال جائزة السلام.

وبديهيٌّ أن ذكري أو عدم ذكري لهذه الحقائق الأخيرة سيُؤثِّر في حُكْم الطلاب له أو عليه تأثيرًا عميقًا جدًّا؛ فإنهم سيعتبرونه بطلًا من أبطال السلام إذا ما جهلوا الحقائق المذكورة، ولكنهم سيعرفون أنه من صناديد الاعتداء والاستعمار، إذا ما اطَّلعوا عليها. إنهم سيُدرِكُون في الوقت نفسه أن السلام الذي يتكلم فيه ويعمل من أجله الغربيون ما هو إلا السلام بين الدول القوية وحدها، ولو قام هذا السلام على أكتاف الشعوب المستضعفة، وكان بمثابة رداءٍ فَضفاضٍ يستُر ويُخفي اضطهاد تلك الشعوب …

وأظن أن هذا المثال يغنيني عن كل إيضاح.

ولا تظُنُّوا أن هذا من الأمثلة الشاذَّة التي تكلَّفتُ البحث عنها، بل تأكَّدوا أن ذلك من الأمور الاعتيادية التي يُصادِف الباحث أمثالها في جميع الكُتب المخصصة لتدريس التَّارِيخ، في كل اللغات.

إن مؤلِّفي هذه الكتب — في كل أُمَّة — يكتبون ما يكتبونه لأغراضٍ مُعيَّنة، وينتخبون مباحثهم تحت تأثير تلك الأغراض، وأهم هذه الأغراض هو التفاخر بماضي الأمة، وبثُّ رُوح الاعتزاز بمآثرها.

وأما نحن فكثيرًا ما ننخدع بما كتبه هؤلاء، وننظر إلى معظم الوقائع التَّارِيخية تارةً بنظراتٍ فرنسية وطورًا بنظرات إنكليزية، وقلَّما ندرك أنه يترتب علينا أن نَتجرَّد من أمثال هذه النظرات الأجنبية.

ولا بُد لي من أن أعترف بأنني أيضًا كنتُ مخدوعًا بتلك النظرات. لا أزال أذكُر «الصدمة العنيفة» التي زَلزلَت ثقتي ﺑ «المعلومات التَّارِيخية والشائعة» زلزلةً شديدة، قبل مُدَّةٍ تزيد على ربع قرن.

كنتُ إذ ذاك في إيطاليا أتحدَّث إلى أحد كبار الأساتذة في جامعة روما. أخذتُ أقُص عليه «الاحتيالات» التي لجأ إليها الفرنسيون للاستيلاء على دمشق والقضاء على الدولة العربية القائمة فيها. وقد تكلَّمتُ عن تلك الاحتيالات بحماسٍ مرير، ثم أردتُ أن أُعبِّر عن فظاعتها بكلمةٍ وجيزة فقلت: لا مثيل لها في التَّارِيخ.

كان الأستاذ يُصغي إلى حديثي باهتمام، ولكنه عندما سمع مني الكلمة الأخيرة قاطَعَني فجأة واندفع يقول: ماذا تقول يا عزيزي؟ … لا مثيل لها في التَّارِيخ؟ … ولكن التَّارِيخ مملوء بأمثال ذلك … ولا سيما تاريخ فرنسا … وأنا أستطيع أن أذكر لك أمثلةً عديدة لذلك حتى في علاقاتها معنا في القرن الأخير، خلال حركات الوحدة والاستقلال التي قامت في بلادنا هذه.

إن كلمتي قد أثارت في نفْس الأستاذ الإيطالي استغرابًا أشد من ذلك بدرجات؛ لأني كنت أزعم حتى ذلك التَّارِيخ أن إيطاليا مدينة في استقلالها ووحدتها بدَينٍ كبير لفرنسا.

إنني لم أتعمَّق — قبل ذلك — في بحثٍ من أبحاث التَّارِيخ سوى ما كان متعلقًا بنشوء العلوم وتطوُّرها. وأما فيما يتعلق بالتَّارِيخ السياسي فكنتُ قد اكتفيتُ بما كنتُ تلقَّيتُه على مقاعد الدرس، وبما كنتُ توصَّلتُ إليه بصورةٍ عرضية من مطالعاتٍ متفرقة في مناسبات مختلفة. والمفهومات التي تكوَّنَت في ذهني — من هذه الدروس والمطالعات — كانت تربط «وحدة إيطاليا» ﺑ «مساعدة فرنسا»، فكان من الطبيعي أن أقع في حَيرةٍ عميقة عندما أسمعُ من هذا الأستاذ الكبير ما يُخالِف ذلك مخالفةً كلِّيَّة.

وقد لاحظ الأستاذ على وجهي آثار هذه الحَيْرة فأخذ يوضِّح رأيه بذكر بعض الوقائع، ثم قام إلى مكتبته وكدَّس أمامي الوثائق التي تُؤيِّد ما قاله في هذا المضمار.

إنني أعدتُ درس «تاريخ الوحدة الإيطالية» — بعد هذه المحاورة — دراسةً مستفيضة، وتوسَّعتُ في مطالعة الكثير من الكتب المفصَّلة التي ألَّفها عن ذلك الفرنسيون من ناحية والإيطاليون من ناحيةٍ أخرى. وقضيتُ مدة من الزمن في استعراض الوثائق المعروضة في «متحف البعث» الفخم القائم في مدينة «تورينو» التي كانت عاصمة «ساردينيا» في فَجْر حركات النهضة والاتحاد في تلك البلاد.

وخرجتُ من جميع هذه المطالعات والدراسات، متأكدًا من أن الصورة التي كانت ارتَسمَت في ذهني عن تاريخ وحدة إيطاليا، وعن دَوْر فرنسا فيها كانت بعيدةً عن مطابقة الواقع بُعْدًا كبيرًا.

لقد اتَّبعَت فرنسا حيال حركات الوحدة والنهضة في إيطاليا سياسةً مرتبكة وملتوية جدًّا؛ لأنها كانت تُساعِد هذه الحركات عندما ترى في ذلك منفعةً لنفسها ولا سيما عندما تجدُ في ذلك وسيلةً لكَسْر شوكة النمسا المنافِسة لها، ولكنها كانت تتخلَّى عنها، بل تنقلب عليها، حالما ترى في الأمر ما يضُر بمصالحها بعض الضرر، أو ما قد يُخالِف نزعاتها بعض المخالفة؛ ولذلك سارت فرنسا إزاء حركات الوحدة الإيطالية سيرًا مشوبًا بالتقلُّب والتناقض؛ إنها ساعدت فعلًا هذه الوحدة بعضَ المساعدة في بعضِ المناسبات، ولكنها عارضَتْها وعرقلَتْها في كثيرٍ من المناسبات، حتى وصلَت هذه المعارضة إلى درجة «المخاصمة المسلَّحة» أيضًا عدة مرات.

فقد ساعدَت فرنسا الإيطاليين على تخليص اللومبارديا من سيطرة النمسا وضمَّها إلى مملكة ساردينيا، ولكنها لم تفعل ذلك إلا بأُجرةٍ ثمينة؛ إذ اشترط نابليون الثالث على «كافور» شرطَين أساسيَّين لضمان هذه المساعدة:
  • أولًا: تزويج الأميرة كلوتيلد — بنت الملك فيكتور عمانويل — من الأمير جيروم ابن عم نابليون، مع أنه كان يَكْبرها بعشرين عامًا.
  • ثانيًا: التخلِّي لفرنسا عن مقاطعتَي صافوا ونيس، مع أن صافوا كانت مهد العائلة المالكة، مع أن مدينة نيس كانت مسقط رأس غاريبالدي — بطل النهضة الإيطالية وفارس وَحْدتِها المغوار.

فقد اضطُر «كافور» إلى قَبول هذَين الشرطَين، ثم تعب كثيرًا لحمل الملك على إقرار هذه التضحيات، كما عرَّض نفسه من جرَّاء ذلك إلى انتقادات الوطنيين المريرة. حتى إن غاريبالدي عندما واجهه في المجلس النيابي، بعد الانتهاء من أعمال البطولة التي كان قد قام بها، صاح بقلبٍ كسير: «إن عمل هذا الرجل جعلني أنا أجنبيًّا في هذه البلاد!»

ومع كل ذلك لم يواصل نابليون الثالث الحرب بعد موقعة «سولفرينو» حتى الوصول إلى سواحل الأدرياتيك — كما كان تم الاتفاق عليه — بل سارع إلى عقْد الهدنة وإنهاء الحرب، وترك حليفته ساردينيا في نصف الطريق، مما أدى إلى انسحاب كافور من الحكم.

وأما موقف فرنسا تجاه الحركات التي قام بها غاريبالدي في القسم الجنوبي من إيطاليا لتوحيده مع القسم الشمالي منها، فقد كان موقفَ معارضةٍ وعرقلة على طول الخط؛ فقد دعت فرنسا الحكومة البريطانية للاشتراك معها في اتخاذ «تدابير بحرية» لمنع مرور «الجيش الأهلي» الذي ألَّفه غاريبالدي من جزيرة صقلية إلى القارة الإيطالية، وعندما امتنعت إنكلترا من إجابة هذا الطلب، أخذَت فرنسا على عاتقها حماية «ملك الصقليتَين» وأمرت أسطولها بالمرابضة في مياه نابولي وسواحلها، ولم تنصح الملك المذكور بالانسحاب من هناك إلا بعد أن شاهدت تقدُّم غاريبالدي الصاعق نحو عاصمة المملكة من جهة، واندلاع نيران الثورة في داخل العاصمة من جهةٍ أخرى، وإلا بعد أن فَهمَت من سير الوقائع المتتالية أن انضمام الصقليتَين إلى مملكة ساردينيا لتكوين الدولة الإيطالية، أصبح من الأمور التي لا سبيل إلى الحيلولة دون تحقيقها …

وأمَّا موقف فرنسا من قضية إدخال مدينة روما مع المملكة البابوية إلى حظيرة الوحدة الإيطالية، فكان موقفَ معارضةٍ أشد من كل ذلك أيضًا.

عندما قامت الثورة في روما، وأُعلنت الجمهورية في المملكة البابوية، جرَّدَت فرنسا حملةً عسكرية لإخماد الثورة المذكورة وإعادة المقاطعة إلى سلطة البابا، ثم أقامت هناك قوةً عسكرية دائمة؛ بُغْية المُحافَظة على الحالة الراهنة.

وعندما تقدَّم غاريبالدي نحو روما على رأس الجيش الأهلي سنة ١٨٦٨، خرجَت عليه الحامية الفرنسية ودحَرتْه في «مانتانا». وقد أقام الإيطاليون في مدينة ميلانو نُصُبًا تذكاريًّا بديعًا لتخليد ذكرى الشهداء الذين كانوا لقوا حتفَهم هناك على يد الجيوش الفرنسية.

والحكومة الفرنسية لم تبذل أي جهدٍ كان لتخفيف الآلام المُتولِّدة في قلوب الإيطاليين من واقعة مانتانا، بل إنها بعكس ذلك زادت تلك الآلام بالتصريحات التي فاه بها رئيس الوزراء أمام مجلس الأمة: «ونحن نُصرِّح للملأ بأن إيطاليا لن تستولي على روما أبدًا … لن تتحمل فرنسا هذا العنف الموجَّه إلى كرامتها وإلى الكاثوليكية بأجمعها …»

وظلَّت فرنسا بعد ذلك تُصِر على وجوب ترك روما والمقاطعة البابوية خارجةً عن نطاق الوحدة الإيطالية، وظلَّت تُؤيِّد سياستها هذه بالقوة العسكرية التي أقامتها هناك.

ولم تستطع إيطاليا أن تستولي على عاصمتها الأصلية، وتُتم وحدتها القومية، إلا بعد نشوب حرب السبعين، وانكسار فرنسا أمام البروسيين.

ومن الغريب أن عددًا كبيرًا من كُتَّاب فرنسا ومؤرخيهم يجرءون على القول — على الرغم من هذه الحقائق الثابتة — بأن فرنسا صاحبةُ اليدِ الطولى والفضلِ الأكبر في أمر تحقيق وحدة إيطاليا ونهضتها.

ومن الأغرب أن عددًا غير قليل من كُتَّاب التَّارِيخ — في الشرق بوجه عام وفي الشرق العربي بوجهٍ خاص — ينخدعون بأقوال هؤلاء ويُردِّدون مزاعمهم هذه كأنها حقائقُ ثابتة.

بعد هذه الدراسة التي أقدمتُ عليها بهذه الصورة، بسَوقِ الظروف التي ذكرتُها آنفًا، اضطُررتُ إلى التوسُّع والتعمُّق في كثير من المباحث التَّارِيخية، واطَّلعتُ على كثيرٍ من الخلافات التي قامت بين المؤرخين، ولا سيما بين الذين ينتسبون إلى قومياتٍ مختلفة. وتتبعتُ تفاصيلَ بعضِ المناقشات التي جرت حول بعض الوقائع التَّارِيخية بين الألمان والفرنسيس، بين الروس والبولونيين، بين المجريين والرومانيين … وتوصَّلتُ من كل ذلك إلى الحكم بأن كُتُب التَّارِيخ — ولا سيما المدرسية منها — تتضمَّن عادةً كثيرًا من الأغلاط والأوهام؛ لأن المؤرخين قلَّما يلتزمون الحياد العلمي في الوقائع التي تمَسُّ ماضي أمتهم، وكثيرًا ما يلجئون إلى صبغ الوقائع التَّارِيخية بألوانٍ تُلائم غرورهم القومي، فيَسعَون لإظهارها بالمظاهر التي تساعد على إعلاء شأن أمتهم من جهة، وسَتْر معايبها من جهةٍ أخرى.

إنهم كثيرًا ما يتوصَّلون إلى تحقيق أغراضهم هذه بسهولةٍ كبيرة عن طريق «التصرُّف والتفنُّن» في سَردِ الوقائع وتعليلها.

لأن الحوادث التَّارِيخية كثيرةُ التفاصيل وشديدةُ الأعضال بوجهٍ عام، فيستطيع المؤرخ أن يظهرها بمظاهرَ متنوعة، بإهمال ذِكْر بعض الوقائع مع التوسُّع في سرد بعضها الآخر، ويترك بعض الوقائع بين الظلال لكي لا تلفت الأنظار، مع صَبْغ بعضها الآخر بألوانٍ زاهية لكي تخطَف الأبصار.

وأستطيع أن أقول إن شأن المؤرخين في هذا المضمار لا يختلف كثيرًا عن شأن الفنانين في أعمال التعبير والتصوير؛ من المعلوم أن الفنانين يستطيعون أن يُكوِّنوا عددًا غير محدود من الألوان من عددٍ محدود من الأصباغ عن طريق مَزْجها بصورٍ مختلفة ونسبٍ متفاوتة؛ كما أنهم يستطيعون أن يُصوِّروا الشيء الواحد بأشكال وأوضاعٍ كثيرة، يُوحي كل واحدٍ منها وحيًا يختلف عن وحي غيره. وكذلك المؤرخون؛ فإنهم يستطيعون أن يُصوِّروا القضايا التَّارِيخية بأشكالٍ مختلفة عن طريق اصطفاء الوقائع وجَمْعها ومَزْجها وعَرْضها بأشكالٍ شتَّى، ويستطيعون أن يُصوِّروا القضية الواحدة بمظاهرَ مُختلفة يترك كل واحدٍ منها في النفوس أثرًا يختلف عن آثار غيره.

إنهم كثيرًا ما يفعلون ذلك — بوجهٍ خاص — في القضايا التي تتعلق بحياة الأمة التي ينتسبون إليها من ناحية، وبحياة الأُمَم التي تُعتبر عدُوَّة أو منافِسة لها من ناحيةٍ أخرى. ونستطيع أن نقول إنهم يميلون — عادةً — إلى رسم مناظر التَّارِيخ وعرضها بوجهات نظرٍ خاصة تتغلب فيها — بوجهٍ عام — وجهاتُ النظر الموافقة لنزعاتهم الوطنية وعواطفهم القومية.

ولهذا السَّبب لا يسُوغُ لنا أن نعتمد عند دراسة القضايا التَّارِيخية على ما يقوله أحد ذوي العلاقة بها، بل يجب علينا أن نستقصيَ ما يقوله جميع ذوي العلاقة بالقضية المذكورة، ولا سيما أنه يجب علينا أن نبحث فيما يقوله من كان في الطرف الثاني منها.

هذا، ويجب أن نعلم أن الأحوال التي ذكرناها آنفًا تتجلى بوجهٍ خاص في الكُتب المختصَرة، التي تُحتِّم على المؤلف اصطفاء بعض المباحث وإهمال الكثير منها؛ وفي الكتب المدرسية التي تَضْطَر المؤلِّف إلى توجيه هذا «الإيجاز والاصطفاء» وَفقَ ما تقتضيه الغايات التربوية في أمر تعليم التَّارِيخ.

فلا يجوز لنا أبدًا أن نعتمد كثيرًا على الكتب المختصرة والكتب المدرسية، على اختلاف أنواعها، بل يجب علينا أن نُراجِع أمهات الكتب المُطوَّلة التي تُضطَر إلى ذكر التفاصيل، وإن حاولَت تفسيرها بتفاسيرَ تنمُّ عن نَزعاتِ المؤلِّفين قليلًا أو كثيرًا.

وفي الأخير، وعلى الأخص، يجب علينا أن نراجع مصادر كثيرة؛ لنطَّلع على حقيقة الأمر عن طريق مُقارَنة النصوص الواردة فيها.

وعندما أقول مصادر كثيرة، لا أقصد من ذلك «كُتبًا كثيرة» على الإطلاق؛ لأن عددًا كبيرًا من الكُتب قد يستند إلى مصدرٍ واحد، أو بضعةِ مصادرَ محدودة، كما أن كثيرًا من الكتب قد ينقل بعضها عن بعض، دون أن يلجأ إلى درس المصادر الأصلية درسًا فعليًّا؛ ولذلك نستطيع أن نقول في بعض الأحيان إن الآلاف من المؤلَّفات قد تكون بمثابة كتابٍ واحد بالنسبة إلى بعض القضايا التَّارِيخية.

فيجب علينا ألا ننخدع بكثرة الناقلين والرواة، بل يجب أن نرجع على الدوام إلى «المصادر الأصلية»، وأن نَدْرُس باهتمامٍ المؤلَّفات التي تُعتبر من أمهات الكُتب في مختلف أقسام التَّارِيخ.

كما يجب علينا ألا نتأخر عن تحقيق جميع الروايات وتمحيصها، مهما كانت كثيرة الشيوع.

إِنَّ جميع المَبادِئ والقَواعد التي ذكرتُها آنفًا تكتسبُ قيمةً خاصَّة بالنِّسبة إلى تاريخ الشَّرق الحديث بوجهٍ عام، وتاريخ العرب الحديث بوجهٍ خاص؛ لأنَّ مُعظم ما كُتِبَ عن ذلك باللُّغة العَربيَّة مُقتبس من كُتُب أجنبيَّة، مع أنَّ مُعظم مُؤلِّفي الكتب المذكورة ينظُرون إلى شئون الشَّرق وشئون العَرب بنظراتٍ خاصَّة بهم، كثيرًا ما تُبعِدُهم عن مناحي البحث الحيادي والضَّبط العلمي بُعْدًا كبيرًا …

ويجب ألا يغرُب عن بالنا أنَّ مُعظم المُؤلَّفات الأجنبية التي صارت مَأخذًا للكُتب العربيَّة المذكورة هي فرنسيَّة، مع أنَّ الفرنسيين أكثر الأُمَم استرسالًا في تلوين التَّارِيخ بألوانٍ فنية، كما أنهم أقدمُ الأُمَم اهتمامًا بشئون الشرق اهتمامًا استعماريًّا.

ولهذا السَّبب يجدُر بنا أن نلتزم جانب «الشك والحذر» تجاه أمثال هذه الكُتب والمؤلَّفات، وألا نقبل ما جاء فيها إلا بعد الدرس والتمحيص.

وعلى كل حالٍ يجب علينا أن نعلم العلم اليقين، بأن كُتُب التَّارِيخ الدراسية — في أوروبا وأمريكا — مؤلَّفة وَفقَ غاياتٍ قومية بوجهٍ عام، ومُشبَعة بالروح القومية إشباعًا تامًّا. وإذا قامت هناك جهودٌ جدية لتغيير الأحوال الراهنة في هذا المضمار، فإنما قامت لأجل إزالة المغالاة في الأمر، بتنقية الكتب الدراسية من التلقينات العدائية، ولكنها لم تستهدف قَطُّ تبعيدَ هذه الكتب عن خدمة الغايات القومية.

يجب علينا ألا نشُك في ذلك أبدًا، وألا نظن أن التيارات الفكرية والسياسية التي وصفناها آنفًا تُحتِّم علينا التخلِّي عن الغايات القومية في تدريس التَّارِيخ.

إني لا أقصد بكلامي هذا عدم التقيُّد بالحقائق الثابتة أبدًا، بل إني أعتقد بضرورة التقيُّد بالحقائق التَّارِيخية تقيُّدًا تامًّا. ومع هذا أقول: يجب علينا أن نعمل على ضَوءِ مقتضيات «التَّربية الوطنية» في أمر انتخاب «الوقائع والحقائق» التي نستطيع أن نعرضها على أنظار طُلابنا في «المدة المحدَّدة لدرس التَّارِيخ».

ولكني — بعد كل هذه التفاصيل — أَوَدُّ أن أعود إلى أصل القضية، وأتساءل: ألا يُوجد شيءٌ كثير من المغالاة في الدَّور الخطير الذي يُعزى إلى دروس التَّارِيخ وكُتُب التَّارِيخ في إثارة الحروب والإخلال بالسلام؟ وهل من الحكمة في شيءٍ أن ننتظر حدوث تغيُّراتٍ هامة في العلاقات الدولية من جرَّاء «مراجعة كُتُب التَّارِيخ وتنقيتها من العبارات المثيرة»، وفقًا لأحكام الاتفاقات التي ذكرناها آنفًا؟

أنا أشُك في كل ذلك شكًّا قويًّا، وأعتقد أن ما يُعزى إلى دروس التَّارِيخ من التأثير في هذا المضمار ينطوي على شيءٍ كبير من المغالاة.

لا جدال في أن الخلافاتِ التَّارِيخية لعبت دورًا هامًّا في الخصومات القائمة بين فرنسا وبين ألمانيا، ولكن هل يستطيع أحدٌ أن يدَّعي ذلك بالنسبة إلى ألمانيا وإنكلترا، أو بالنسبة إلى أمريكا وروسيا؟

كلنا نعلم أن إنكلترا حاربَت ألمانيا بكل قُوَاها حربًا لا هوادة فيها، مع أن التَّارِيخ لم يُسجِّل شيئًا من الحروب والمُخاصَمات السابقة بين هاتَين الدولتَين.

والعالم يشهد الآن بوادر صراعٍ عنيف بين أمريكا وبين روسيا مع أنه لم تحدث أية حوادثَ حربية بينهما في تاريخهما القريب والبعيد.

يظهر من ذلك بكل وضوحٍ أن الأُمَم قد تتخاصَم وتتحارَب بالرغم من عَدمِ وجودِ دوافعَ تاريخية لهذا الخصام.

هذا، ومن جهةٍ أخرى، كثيرًا ما نجد — بعكس ذلك — أن الأُمَم قد تتقارَب وتتفاهَم وتتحالَف، بالرغم من كَثْرة مُخاصَماتها السابقة، وذلك تحت تأثير مصالحها اللاحقة.

وربما كانت أحوال تركيا واليونان الأخيرة من أبلغ الأمثلة على هذه الحقيقة. من المعلوم أن تاريخ هاتَين الدولتَين مملوءٌ بمخاصماتٍ عنيفة — استمرت قرونًا طويلة — قلَّما نجد لها مثيلًا في تاريخ العالم.

فإن الدولة العثمانية أخذَت تُحارب الإمبراطورية البيزنطية منذ بداية تكوُّنها، وتوسَّعَت على حساب الإمبراطورية المذكورة توسُّعًا متواصلًا، إلى أن فتَحَت القسطنطينية، واستَولَت على جميع البلاد اليونانية. وبعد خضوعٍ استَمرَّ عدة قرونٍ، أخذ اليونانيون يثورون عليها، ويُحاربونها ويُحرِّرون بلادهم من حُكْمها — مرحلةً بعد مرحلةٍ — إلى أن أخرجوها من شِبْه جزيرة البلقان بأجمعها — باستثناء زاويةٍ صغيرة منها — وبعد ذلك هاجموها في عُقْر دارها، وحاوَلوا أن يستَولُوا على أعزِّ أقسامِها، فاضْطرُّوها إلى خوض غمار محارباتٍ دموية عنيفة. ومع كل ذلك، قد تفاهمَت وتصادقَت الدولتان المذكورتان، قبل أن يمضي على تلك الحروب الدموية عَقْدٌ كامل من السنين، وأصبَحَتا الآن متآلفتَين ومتضامنتَين، إلى أقصى حدود التآلُف والتضامُن.

يَظهَر من كل ذلك بوضوحٍ أن «الخصومات السابقة» لم تكن «العامل الأساسي» في الحروب الجدِيدة.

إن للحروب دوافعَ كثيرةً، غير الخصومات القَديمة التي تتناولها الأبحاث التَّارِيخية.

وأعتقد بأنني لا أكون مخطئًا إذا قلتُ: إن أهم هذه الدوافع هي «التنافُس في سبيل السيطرة على الشعوب المستضعفة» عن طريق الاستعمار السافر أو المقنَّع، على اختلاف أشكاله وأنواعه.

فإذا أردنا أن نُكافِح نزعة الحروب مكافحةً حقيقية، وَجَب علينا أن نحمل حملاتٍ عنيفة على «حب السيطرة والاستعمار»، قبل كل شيء وأكثر من كل شيء.

وأنا أعتقد اعتقادًا جازمًا بأنه طالما بَقِيَت الدول نزَّاعة إلى السيطرة والاستعمار، لا يمكن أن تزول الحروب عن وجه البسيطة، حتى لو انمحَتْ من الأذهان جميعُ ذكريات الحروب الماضية.

ولذلك أقول: يجب على رجال السياسة والتَّربية، الذين يَتَحرَّون الوسائل الكافلة لاستقرار السلام في العالم، أن يَسْعَوا بكل قُواهم للقضاء على حب السيطرة ونزعة الاستعمار، أكثر مما يَسْعَون إلى تقليل مباحث الحروب في دروس التَّارِيخ وكُتُب التَّارِيخ.

إن رجال الفكر والسياسة، الذين بحثوا عن الوسائل اللازمة لنَشْر أَلْوية السلام بين الحربَين العالميتَين الأخيرتَين، بذلوا جهودًا كبيرة لتعديل الكتب المدرسية وتنقيتها من العبارات المثيرة للبغضاء بين الأُمَم، ولكنهم لم يُعيروا قضيةَ «حب السيطرة والاستعمار والاستغلال» أدنى اهتمام.

والوقائع التي توالَت منذ نشوب الحرب العالمية الأخيرة أظهَرَت تمامًا أن جهودهم هذه لم تُثمِرْ أيةَ ثمرةٍ إيجابية.

أفلا يحقُّ لنا أن نطلُب ممن خلَف هؤلاء بعد الحرب الأخيرة أن يكونوا أعمقَ تفكيرًا منهم وأبعدَ نظرًا؟ وأن يُدرِكوا حقَّ الإدراك أن عملياتِ نزع التسلُّح المعنوي — باستئصال بذور الحروب من النفوس — يجب أن تبدأ بشَن حملاتٍ صادقة على نَزعاتِ السيطرة والاستعمار؟

١  محاضرة أُلقِيت في المؤتمر الثقافي العربي الأول في ٨ أيلول (سبتمبر) ١٩٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤