مَرَضٌ وَتَضْحِيَةٌ

وَلَمَّا حَانَ الْوَقْتُ لِتَنَاوُلِ الْغَدَاءِ، نَهَضَتْ «نَرْجِسُ»، وَارَتَدَتْ ثِيَابَهَا، ثُمَّ ذَهَبَتْ إِلَى حُجْرَةِ الْمَائِدَةِ، فَوَجَدَتْ «مَاجِدَةَ» وَ«حَلِيمَةَ» فِي انْتِظارِهَا.

وَلا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ «نَرْجِسَ» حِينَ أَدَارَتْ لِحَاظَهَا١ فِي الْحُجْرَةِ، فَلَمْ تَرَ فِيهَا صَفِيَّهَا «الدُّبَّ الصَّغِيرَ».

فَرَاحَتْ تُسَائِلُ صَاحِبَتَيْهَا مُتَعَجِّبَةً: «أَيْنَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» يَا أُمَّاهُ؟

وَمَا لِي أَفْتَقِدُهُ٢ فَلَا أَجِدُهُ، وَأَبْحَثُ عَنْهُ فَلَا أَرَاهُ؟»

فَقَالَتْ «مَاجِدَةُ»: «عَجِيبٌ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنَّا إِلَى هَذَا الْوَقْتِ!

وَمَا أَدْرِي لِغَيْبَتِهِ سَبَبًا يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»!»

وَقَالَتْ «حَلِيمَةُ»: «لَقَدْ تَأَخَّرَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» عَنِ الْحُضُورِ إِلَيْنَا عَلَى غَيْرِ عَادَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنِ اسْتِدْعَائِهِ الْآنَ، لِيُشَارِكَنَا فِي الْغَدَاءِ.»

وَاعْتَزَمَتْ «حَلِيمَةُ» أَنْ تَبْحَثَ عَنْهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

وَبَدَأَتْ بِالذَّهَابِ إِلَى حُجْرَتِهِ؛ فَلَمْ تَكَدْ تَدْخُلُهَا حَتَّى وَجَدَتْهُ جَالِسًا عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْ سَرِيرِهِ، وَقَدْ وَسَّدَ رَأْسَهُ إِحْدَى ذِرَاعَيْهِ … فَنَادَتْهُ قَائِلَةً: «هَلُمَّ يَا عَزِيزِي! هَلُمَّ إِلَيْنَا لِتَشْرَكَنَا فِي الْغَدَاءِ؛ فَقَدْ طَالَ انْتِظَارُنَا.»

فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» بِصَوْتٍ خَافِتٍ ضَعِيفٍ: «إِنِّي لَشَدِيدُ الْأَسَفِ لِعَجْزِي عَنِ النُّهُوضِ.

وَعَلَى الرَّغْمِ مِنِّي أَتَخَلَّفُ عَنْ تَلْبِيَةِ إِشَارَتِكِ.»

فَسَأَلَتْهُ «حَلِيمَةُ»: «كَيْفَ تَجِدُكَ؟ وَمَاذَا بِكَ؟»

فَأَجَابَهَا وَهُوَ لَا يَكَادُ يَقْوَى عَلَى النُّطْقِ: «إِنَّ جِسْمِي مُفَكَّكٌ، وَأَعْضَائِي مُتَخَاذِلَةٌ، وَرَأْسِي عَلَيَّ ثَقِيلٌ.»

فَعَادَتْ «حَلِيمَةُ» لِتُنْهِيَ إِلَى «مَاجِدَةَ» وَ«نَرْجِسَ» ذَلِكَ النَّبَأَ الْمُزْعِجَ الْخَطِيرَ … وَمَا كَادَتَا تَسْمَعَانِ بِمَرَضِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، حَتَّى أَسْرَعَتَا إِلَيْهِ.

وَلَمَّا رَآهُمَا، هَمَّ بِالنُّهُوضِ لِتَحِيَّتِهِمَا، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، وَحَالَ ضَعْفُهُ دُونَ الْقِيَامِ … وَتَخاذَلَتْ قُواهُ، فَسَقَطَ عَلَى كُرْسِيِّهِ مِنْ فَرْطِ٣ الْإِعْيَاءِ.٤
وَأَنْعَمَتْ «مَاجِدَةُ» نَظَرَهَا فِيهِ، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ تَبَيَّنَتْ أَنَّهُ مَحْمُومٌ، فَأَرْقَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ أَسَرَّتْ٥ إِلَى «نَرْجِسَ» أَنْ تَعُودَ إِلَى حُجْرَتِهَا.

فَأَبَتْ «نَرْجِسُ» أَنْ تَتْرُكَ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» يُعَانِي آلَامَ الْمَرَضِ وَحْدَهُ، وَالْتَفَتَتْ إِلَيْهِمَا قَائِلَةً: «لَقَدْ كُنْتُ أَنَا السَّبَبَ فِيمَا يُعَانِيهِ صَاحِبِي مِنْ مَرَضٍ؛ فَكَيْفَ أَتْرُكُهُ قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ لَهُ الشِّفَاءُ؟

كَلَّا، لَا سَبِيلَ إِلَى هَذَا.

وَإِنِّي لَيَقْتُلُنِي الْغَمُّ، إِذَا رَفَضْتُمَا رَجَائِي، وَأَبَيْتُمَا إِلَّا أَنْ تُبْعِدَانِي عَنْ شَقِيقِي الْعَزِيزِ، وَتَحْرِمَانِي أَنْ أَتَعَهَّدَ خِدْمَتَهُ، وَأَسْهَرَ عَلَى رَاحَتِهِ.»

فَلَمْ تُجِبْهَا «مَاجِدَةُ» وَلَا «حَلِيمَةُ» بِحَرْفٍ واحِدٍ، لِشِدَّةِ مَا غَمَرَهُمَا مِنَ الْحُزْنِ.

وَجَلَسَتَا بِجِوَارِ مَرِيضِهِمَا، تَدْعُوَانِ اللهَ لَهُ بِالشِّفَاءِ، مِمَّا أَلَمَّ بِهِ مِنَ الْبَلاءِ.

وَلَمْ يَلْبَثِ الْمِسْكِينُ زَمَنًا طَوِيلًا، حَتَّى اشْتَدَّتْ بِهِ الْحُمَّى، وَاسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْهَذَيَانُ؛٦ فَرَاحَ يُنَادِي أُمَّهُ، وَيُنَادِي «نَرْجِسَ» بَيْنَ لَحْظَةٍ وَأُخْرَى وَهُوَ يَحْسَبُهُمَا بَعِيدَتَيْنِ عَنْهُ، دُونَ أَنْ يَفْطِنَ إِلَى وُجُودِهِمَا مَعَهُ، وَقُرْبِهِمَا مِنْهُ.

وَلَمْ يَنْتَبِهْ إِلَيْهِمَا وَهُمَا إِلَى جِوَارِهِ جَالِسَتَانِ، عَاطِفَتَانِ عَلَيْهِ حَانِيَتَانِ، آخِذَتَانِ إِيَّاهُ بَيْنَ أَذْرُعِهِمَا مُحْتَضِنَتَانِ.

وَطَالَ بِهِمَا الْجُلُوسُ أَيَّامًا وَلَيَالِيَ، وَهُمَا لَا تَكَادَانِ تَتْرُكَانِهِ لَيْلًا وَلا نَهَارًا؛ حَتَّى إِذَا جَاءَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ اشْتَدَّ بِأُمِّهِ الضَّعْفُ، وَأَضْنَاهَا السَّهَرُ، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا التَّعَبُ؛ فَارْتَمَتْ عَلَى فِرَاشِهَا — بِجِوَارِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» — وَاهِنَةَ الْعَزْمِ، خَائِرَةَ الْقُوَى، مَبْهُورَةَ الْأَنْفَاسِ، غَائِرَةَ الْعَيْنَيْنِ.

وَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ غَابَتْ عَنِ الْوُجُودِ، وَأَصْبَحَتْ أَقْرَبَ إِلَى الْمَوْتِ مِنْهَا إِلَى الْحَيَاةِ.

وَجَثَتْ «نَرْجِسُ» عَلَى رُكْبَتَيْهَا، بِالْقُرْبِ مِنْهُمَا، وَلَمْ تُقَصِّرْ فِي الْعِنَايَةِ ﺑ «مَاجِدَةَ» وَوَلَدِهَا.

وَبَعْدَ قَلِيلٍ ضَعُفَتْ قُوَاهَا، وَتَخَاذَلَ جِسْمُهَا، واشْتَدَّتْ حَيْرَتُهَا، فَلَمْ تَدْرِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟

فَأَمْسَكَتْ بِيَدِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» تُقَبِّلُهَا، وَتُبَلِّلُ مَا يُغَطِّيهَا مِنْ فَرْوٍ كَثِيفٍ بِدَمْعِهَا الْغَزِيرِ.

وَهُنَا رَنَّ فِي أَرْجَاءِ الْحُجْرَةِ غِنَاءٌ رَائِعُ الشَّدْوِ، حُلْوُ النَّغَمِ.

فَالْتَفَتَتْ «نَرْجِسُ» … فَرَأَتْ قُنْبَرَةً جَمِيلَةَ الشَّكْلِ، بَارِعَةَ التَّغْرِيدِ، تُؤَسِّيهَا٧ وَتُهَوِّنُ عَلَيْهَا مُصَابَهَا، ثُمَّ تَخْتِمُ أُنْشُودَتَهَا الْعَذْبَةَ قَائِلَةً: «أَنْصِتِي إِلَيَّ يَا «نَرْجِسُ». وَاعْلَمِي أَنَّنِي أُحِبُّ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» كَمَا أَحَبَّكِ، وَأُحِبُّ أُسْرَتَكِ جَمِيعًا.
وَقَدْ دَفَعَنِي مَا أُضْمِرُهُ٨ لَكُنَّ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ إِلَى الْإِسْرَاعِ بِالْحُضُورِ إِلَيْكِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ؛ لِأُنِيرَ لَكِ الطِّرِيقَ، وَأُوَضِّحَ لَكِ بَعْضَ مَا غَمَضَ عَلَيْكِ مِنْ أَسْرَارٍ خَفِيَّةٍ لَا تَسْتَطِيعِينَ أَنْ تَهْتَدِي إِلَى حَلِّهَا بِغَيْرِ مَعُونَتِي وَإِرْشَادِي.
وَيَهُمُّنِي أَنْ تَعْلَمِي — أَوَّلَ مَا تَعْلَمِينَ — أَنَّ الَّذِي نَفَثَتْهُ شَقِيقَتِي أَمِيرَةُ الزَّوَابِعِ فِي رَأْسِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» هُوَ سَمٌّ قَاتِلٌ فَتَّاكٌ، لَا يَنْتَهِي بِغَيْرِ الْقَضَاءِ عَلَى حَيَاتِهِ؛ إِذَا لَمْ تَلْتَمِسِي٩ لَهُ الدَّوَاءَ الْعَاجِلَ.

فَهَلْ تَعْمَلِينَ بِنَصِيحَتِي، وَتَقْبَلِينَهَا عَنْ طِيبِ خَاطِرٍ؟»

فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «وَهَلْ تَشُكِّينَ فِي قَبُولِي نَصِيحَتَكِ؟»

فَقَالَتِ الْقُنْبَرَةُ: «إِذَا كُنْتِ مُخْلِصَةً ﻟ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» — كَمَا تَقُولِينَ — وَكُنْتِ تُضْمِرِينَ مِنَ الْوَفَاءِ لَهُ، وَالِاعْتِرَافِ بِجَمِيلِهِ، مِثْلَ مَا تُعْلِنِينَ؛ فَعَجِّلِي بِإِنْقَاذِهِ.

وَاعْلَمِي أَنَّ حَيَاتَهُ قَدْ أَصْبَحَتِ الْآنَ رَهْنَ إِشَارَتِكِ، وَطَوْعَ مَشِيئَتِكِ. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ سِوَاكِ — فِي هَذَا الْعَالَمِ كُلِّهِ — قُدْرَةٌ عَلَى إِنْقَاذِهِ مِنَ الْهَلاكِ.

فَأَنْتِ — وَحْدَكِ، لَا غَيْرُكِ — قَادِرَةٌ عَلَى شِفَائِهِ مِنْ دَائِهِ. وَفِي قُدْرَتِكِ — أَنْتِ وَحْدَكِ — أَنْ تَشْتَرِي حَيَاتَهُ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكِ سَيُكَلِّفُكِ ثَمَنًا فَادِحًا لَا قِبَلَ لَكِ بِاحْتِمَالِهِ.»

فَقَالَتْ لَهَا «نَرْجِسُ»: «كَيْفَ تَقُولِينَ ذَلِكِ يَا مَوْلاتِي؟

أَتَحْسَبِينَنِي أَضَنُّ عَلَيْهِ١٠ بِشَيْءٍ جَلَّ أَوْ حَقُرَ؟

إِنَّ كُلَّ غَالٍ يَرْخُصُ فِي سَبِيلِهِ.

فَعَجِّلِي وَلَا تَتَوَانَيْ عَنْ أَنْ تُرْشِدِينِي إِلَى مَا أَبْذُلُهُ فِي سَبِيلِ شِفَاءِ هَذَا الْمُنْقِذِ الْكَرِيمِ؛ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَسْتَكْثِرُهُ فِي سَبِيلِ الظَّفَرِ بِنَيْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ الْعَظِيمَةِ.

كُونِي عَلَى ثِقَةٍ — يَا أَمِيرَتِي الْكَرِيمَةَ — أَنَّ كُلَّ مَا أَلْقَاهُ فِي سَبِيلِ شِفَائِهِ سَهْلٌ عَلَيَّ، هَيِّنٌ مَيْسُورٌ، وَفِيهِ لِي أَعْظَمُ السَّعَادَةِ وَأَوْفَرُ السُّرُورِ.

فَلَا تَبْخَلِي عَلَيَّ بِتَحْقِيقِ هَذَا الرَّجَاءِ، وَالتَّعْجِيلِ لِصَاحِبِي بِالشِّفَاءِ. وَإِنِّي لَيُسْعِدُنِي أَنْ أَكُونَ لَهُ الْفِدَاءَ، لَوْ كَانَ يُقْبَلُ مِنْ مِثْلِيَ الْفِدَاءُ.»

فَقَالَتْ لَهَا أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «مَا أَكْرَمَ نَفْسَكِ، وَأَنْبَلَ عَاطِفَتَكِ!

وَمَا دُمْتِ مُصِرَّةً عَلَى أَنْ تَفْدِيهِ بِنَفْسِكِ؛ فَإِنِّي أُوصِيكِ أَنْ تَهْمِسِي فِي أُذُنِهِ الْيُسْرَى ثَلاثَ هَمَسَاتٍ، فِي مَرَّاتٍ ثَلاثٍ مُتَعَاقِبَاتٍ،١١ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ الشَّافِيَاتِ: «لَكَ … وَلِأَجْلِكَ … وَمَعَكَ».

فَإِنَّهُ لَا يَكَادُ يَسْمَعُهَا حَتَّى يُكْتَبَ لَهُ الشِّفَاءُ.

وَلَكِنَّنِي أُوصِيكَ أَنْ تُطِيلِي التَّفْكِيرَ فِيمَا تَسْمَعِينَ مِنِّي، وَتُكْثِرِي مِنَ الرَّوِيَّةِ وَالتَّأَمُّلِ، قَبْلَ أَنْ تُقْدِمِي عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِرِ.

فَكِّرِي — أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ — وَلَا تَتَعَجَّلِي، وَقَلِّبِي الرَّأْيَ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهِ، قَبْلَ أَنْ تُعَرِّضِي نَفْسَكِ لِمَا أَنْتِ قَادِمَةٌ عَلَيْهِ مِنْ أَخْطَارٍ وَمَهَالِكَ.

ثُمَّ وَازِنِي بَيْنَ ذَلِكِ، وَبَيْنَ قُدْرَتِكِ وَصَبْرِكِ وَاحْتِمَالِكِ.

فَإِذَا رَأَيْتِ نَفْسَكِ قَادِرَةً عَلَى اقْتِحَامِ الْخُطُوبِ وَالْمَكَارِهِ فِي سَبِيلِ تَحْقِيقِ آمَالِكِ، فَاسْتَعِينِي بِاللهِ.

وَإِذَا رَأَيْتِ نَفْسَكِ عَاجِزَةً عَنِ احْتِمَالِ مَا يُوَاجِهُكِ مِنْ نَكَبَاتٍ؛ فَلَا تُحَاوِلِي مَا لَا تَسْتَطِيعِينَ، وَلا تُجَشِّمِي نَفْسَكَ مَا لَا تُطِيقِينَ.»

فَقَالَتْ «نَرْجِسُ»: «إِنَّنِي أَسْتَعْذِبُ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِهِ، وَلَيْسَ التَّرَدُّدُ مِنْ شَأْنِي عَلَى كُلِّ حَالٍ!»

فَقَالَتْ لَهَا أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «لَا تَنْسَيْ أَنَّكِ سَتُعَرِّضِينَ نَفْسَكِ لِسُخْطِ شَقِيقَتِي «عَاصِفَةَ» أَمِيرَةِ الزَّوَابِعِ، وَتَلْقَيْنَ مِنْ فُنُونِ مَكْرِهَا١٢ مَا لَا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِاحْتِمَالِهِ وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ.

وَلَا يَغِبْ عَنْ بَالِكِ أَنَّكِ سَتُصْبِحِينَ فِي يَدَيْهَا أَسِيرَةً طُولَ حَيَاتِكِ.»

فَقَالَتْ لَهَا «نَرْجِسُ»: «كُلُّ عَسِيرٍ يَهُونُ، وَكُلُّ غَالٍ يَرْخُصُ فِي سَبِيلِ شِفَائِهِ.

وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْغَايَةَ إِذَا شَرُفَتْ وَعَظُمَتْ، هَانَتْ فِي سَبِيلِهَا الْمَصَاعِبُ، وَرَخُصَتِ الْأَرْوَاحُ.

وَلَسْتُ أَرَى لِحَيَاتِي قِيمَةً إِذَا عَجَزْتُ عَنْ رَدِّ الْجَمِيلِ إِلَى مَنْ أَسْدَاهُ، وَمُكَافَأَةِ الْمُحْسِنِ عَلَى مَا أَوْلَاهُ.

وَمَا كُنْتُ أَتَرَدَّدُ فِي إِنْجَازِ نَصِيحَتِكِ، وَإِنْفَاذِ وَصِيَّتِكِ.

وَمَا أَنْسَ لَا أَنْسَ لَكِ هَذَا الْمَعْرُوفَ، مَا بَقِيَ فِيَّ قَلْبٌ يَخْفِقُ، وَلِسانٌ يَنْطِقُ.»

فَقَالَتْ لَهَا أَمِيرَةُ التَّوَابِعِ: «لَكِ مَا تُرِيدِينَ يَا فَتَاتِي الْعَزِيزَةَ. وَهَا أَنَا ذِي أَنَرْتُ لَكِ السَّبِيلَ إِلَى شِفَائِهِ، فَاصْنَعِي مَا يَحْلُو لَكِ، وَعَلَيْكِ السَّلامُ.»

ثُمَّ أَسْلَمَتِ الْقُنْبَرَةُ جَنَاحَيْهَا لِلْهَوَاءِ، مُحَلِّقَةً فِي أَجْوَازِ الْفَضاءِ، بَعْدَ أَنْ وَدَّعَتْهَا، مُعْجَبَةً بِوَفَائِهَا.

وَلَمْ تُضِعْ «نَرْجِسُ» مِنْ وَقْتِهَا شَيْئًا؛ بَلْ أَسْرَعَتْ إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَأَسَرَّتْ فِي أُذُنِهِ هامِسَةً: «لَكَ … وَلِأَجْلِكَ … وَمَعَكَ.»

وَمَا إِنْ هَمَسَتْ فِي أُذُنِهِ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَعَاقِبَاتٍ؛ حَتَّى تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَدَبَّ فِي جِسْمِهِ دَبِيبُ الْبُرْءِ وَالشِّفَاءِ.

فَصَحَا مِنْ إِغْمَاءَتِهِ، وَأَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ، وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ؛ فَكَانَتْ «نَرْجِسُ» أَوَّلَ مَا رَآهُ.

فَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ حَيَّاهَا، وَلَثَمَ يَدَهَا شَاكِرًا لَهَا مَا تَحُوطُهُ بِهِ مِنْ عِنَايَةٍ، وَتَكْلَؤُهُ١٣ بِهِ مِنْ رِعَايَةٍ.

ثُمَّ قَالَ لَهَا مُتَعَجِّبًا: «نَرْجِسُ! عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»، يُخَيَّلُ لِي أَنَّنِي أَنْتَبِهُ مِنْ حُلْمٍ مُزْعِجٍ طَوِيلٍ؛ فَقُصِّي عَلَيَّ مَا وَقَعَ، وَخَبِّرِينِي: مَا الَّذِي جَاءَ بِي إِلَى هُنَا؟

وَمَا بَالِي أَرَاكِ مُقَرَّحَةَ الْجَفْنَيْنِ، دَامِيَةَ الْعَيْنَيْنِ؟

تُرَى، أَيُّ خَطْبٍ أَبْكَاكِ، وَنَغَّصَ عَلَيْكِ حَيَاتَكِ وَأَشْقَاكِ؟ وَمَا بَالُكِ — أَيَّتُهَا الْوَفِيَّةُ الْكَرِيمَةُ — شَاحِبَةَ اللَّوْنِ مُمْتَقَعَةَ الْوَجْهِ؛١٤ كَأَنَّمَا أَلَمَّ بِكِ حَادِثٌ، أَوْ أَلَحَّ عَلَيْكِ مَرَضٌ، أَوْ طَالَ بِكِ الْأَرَقُ وَالسَّهَرُ؟»

فَقَالَتْ «نَرْجِسُ» لَهُ: «صَهْ، أَيُّهَا الشَّقِيقُ الْعَزِيزُ. خَفِّضْ مِنْ صَوْتِكَ، لِئَلَّا تُوقِظَ أُمَّكَ النَّائِمَةَ.»

فَقَالَ لَهَا مُتَلَهِّفًا: «وَكَيْفَ حَالُ أُمِّيَ الْعَزَيزَةِ؟»

فَقَالَتْ لَهُ: «لَقَدْ أَسْقَمَهَا الْحُزْنُ، وَأَمْرَضَهَا طُولُ السَّهَرِ، وَأَلَحَّ عَلَيْهَا التَّعَبُ وَالضَّجَرُ، ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَاتٍ؛ فَهَوَتْ عَلَى فِرَاشِهَا خَائِرَةَ الْقُوَى، وَاسْتَسْلَمَتْ لِنَوْمٍ عَمِيقٍ.»

فَسَأَلَهَا مُتَعَجِّبًا: «وَمَا بَالُكِ أَنْتِ لَمْ تَنَامِي أَيَّتُهَا الْعَزِيزَةُ؟»

فَخَجِلَتْ «نَرْجِسُ»، وَأَوْمَأَتْ بِطَرْفِهَا إِلَى الْأَرْضِ صَامِتَةً؛ فَقَدْ كَانَ بِوُدِّهَا أَلَّا تُظْهِرَ لَهُ شَيْئًا مِمَّا تَكَبَّدَتْهُ فِي سَبِيلِهِ مِنْ عَنَاءٍ وَسَهَرٍ. وَلَكِنَّهَا — بَعْدَ أَنْ عَرَفَ سِرَّهَا — لَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ قَالَتْ لَهُ: «كَيْفَ أَنَامُ أَيُّهَا الْعَزِيزُ وَأَنَا مَصْدَرُ مَصَاعِبِكَ، وَجَالِبَةُ مَصَائِبِكَ، وَسَبَبُ مَا تُعَانِيهِ مِنْ مَتَاعِبِكَ؟»

فَأَطْرَقَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» لَحْظَةً، ثُمَّ رَفَعَ بَصَرَهُ إِلَيْهَا، فِي إِجْلالٍ وَإِكْبَارٍ، وَقَدْ عَجَزَ لِسَانُهُ عَنِ الْكَلامِ فَلَمْ يُسْعِفْهُ النُّطْقُ، فَهَوَى عَلَى يَدِهَا مَرَّةً أُخْرَى يُقَبِّلُهَا، وَيَعْتَذِرُ إِلَيْهَا مِمَّا سَبَّبَهُ لَهَا مِنْ أَلَمٍ.

ثُمَّ رَاحَ يَسْأَلُهَا أَنْ تَقُصَّ عَلَيْهِ مَا حَدَثَ، فَلَمْ تُخْفِ عَنْهُ مِنْ تَفْصِيلِ الْقِصَّةِ كُلِّهَا إِلَّا شَيْئًا وَاحِدًا، دَفَعَهَا إِلَى كِتْمَانِهِ تَوَاضُعُهَا وَحَيَاؤُهَا، وَإِخْلاصُهَا وَوَفَاؤُهَا.

فَحَدَّثَتْهُ بِكُلِّ مَا وَقَعَ لَهَا، دُونَ أَنْ تُكَاشِفَهُ بِمَا تَعَهَّدَتْ بِهِ لِأَمِيرَةِ التَّوَابِعِ، مِنْ ثَمَنٍ فَادِحٍ، لِلظَّفَرِ بِمَا يَنْعَمُ بِهِ مِنْ شِفَاءٍ، وَلَمْ تُفْضِ إِلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا احْتَمَلَتْهُ فِي سَبِيلِهِ مِنْ خُطُوبٍ وَأَحْدَاثٍ.

وَسُرْعَانَ مَا دَبَّ الشِّفَاءُ فِي جَسَدِهِ، وَعَادَتْ إِلَيْهِ صِحَّتُهُ كَامِلَةً، فَوَقَفَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَدَنَا مِنْ وَالِدَتِهِ، فِي خِفَّةٍ وَرَشَاقَةٍ، فَأَيْقَظَهَا بِقُبْلَةٍ أَوْدَعَهَا كُلَّ مَا يُضْمِرُهُ لَهَا مِنْ وَفَاءٍ وَإِجْلالٍ وَمَحَبَّةٍ.

فَاسْتَيْقَظَتْ «مَاجِدَةُ» — وَهِيَ تَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يَزالُ غَارِقًا فِي هَذَيَانِ الْحُمَّى — وَنَادَتْ «حَلِيمَةَ» لِتُسَاعِدَهَا عَلَى الْعِنَايَةِ بِأَمْرِهِ.

وَلا تَسَلْ عَمَّا اسْتَوْلَى عَلَى «مَاجِدَةَ» مِنَ الدَّهَشِ وَالْفَرَحِ حِينَ أَفْضَتْ إِلَيْهَا «نَرْجِسُ» بِمَا ظَفِرَ بِهِ وَلَدُهَا مِنْ شِفَاءٍ عَلَى يَدِ الْجِنِّيَّةِ الْكَرِيمَةِ أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ.

وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ، تَمَّتْ أُلْفَةُ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» وَ«نَرْجِسَ»؛ فَأَصْبَحَا كَأَنَّهُمَا رُوحٌ وَاحِدٌ فِي جَسَدَيْنِ، وَلَمْ يَفْتَرِقْ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، إِلَّا إِذَا اضْطَرَّتْهُمَا الظُّرُوفُ الْحَاتِمَةُ إِلَى أَدَاءِ مَا عَلَيْهِمَا مِنَ الْفُرُوضِ وَالْواجِباتِ.

١  لحاظها: بصرها.
٢  أفتقده: أبحث عنه.
٣  فرط: شدة.
٤  الإعياء: الضعف.
٥  أسرت إلى نرجس: حدثتها سرًّا.
٦  الهذيان: التكلم بغير معقول.
٧  تؤسيها: تصبرها وتسليها.
٨  أضمره: أخفيه.
٩  لم تلتمسي: لم تطلبي.
١٠  أضن عليه: أبخل عليه.
١١  متعاقبات: بعضها وراء بعض.
١٢  فنون مكرها: أنواع مكرها.
١٣  تكلؤه: تحفظه.
١٤  ممتقعة الوجه: مصفرة الوجه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤