لَيْلَةٌ فِي الْغَابَةِ

كَانَتِ الْحُمَّى قَدْ صَهَرَتْ جِسْمَ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، وَكَادَتْ تُسْلِمُهُ إِلَى الْهَلاكِ — كَمَا عَلِمْتَ مِنْ قَبْلُ — وَكَانَ الْأَمَلُ فِي شِفَائِهِ مَفْقُودًا. فَلَمَّا أَفَاقَ مِنْ غَشْيَتِهِ، لَمْ يَدُرْ بِذِهْنِهِ أَنَّ الْمَرَضَ قَدْ زَايَلَهُ، وَأَنَّ دَبِيبَ الشِّفَاءِ يَجْرِي فِي جَسَدِهِ، وَكَانَ يَحْسَبُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ — كَمَا كَانَ مُنْذُ أَيَّامٍ — عَاجِزًا عَنِ الْحَرَكَةِ.

فَلَمَّا رَأَى الْقُوَّةَ تَمْشِي فِي عُرُوقِهِ، أَسْرَعَ بِالنُّهُوضِ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَشْغَلُهُ وَيُقْلِقُ بَالَهُ غَيْرُ الْعِنَايَةِ ﺑ «نَرْجِسَ»، وَالشُّكْرِ لِأَمِيرَةِ التَّوَابِعِ الَّتِي يَرْجِعُ إِلَيْهَا الْفَضْلُ فِي سَلامَتِهِ مِنَ الْهَلاكِ، وَنَجَاتِهِ مِنَ الْمَوْتِ.

وَلَمْ يَكَدْ يَمُرُّ بِهِ هَذَا الْخَاطِرُ حَتَّى أَقْبَلَتِ الْقُنْبَرَةُ، فَحَوَّمَتْ فَوْقَ رَأْسِهِ، ثُمَّ هَبَطَتْ عَلَيْهِ مُتَلَطِّفَةً مُتَوَدِّدَةً، وَنَقَرَتْ خَدَّهُ نَقْرَةً خَفِيفَةً، ثُمَّ أَسَرَّتْ فِي أُذُنِهِ هَامِسَةً: «إِنَّ شَقِيقَتِي «عَاصِفَةَ» أَمِيرَةَ الزَّوَابِعِ — مَصْدَرَ هَذِهِ الْكَارِثَةِ الْمُزْعِجَةِ الَّتِي أَلَمَّتْ بِكُمَا — قَدْ أَرْسَلَتْ هَذَا الْخِنْزِيرَ الشَّرِسَ لِيَفْتَرِسَ «نَرْجِسَ» وَيَقْضِيَ بِذَلِكَ عَلَى سَعَادَتِكَ.

وَلَكِنِّي فَطِنْتُ إِلَى مُؤَامَرَتِهَا آخِرَ الْأَمْرِ، وَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ فَوَاتِ الْوَقْتِ. وَالرَّأْيُ عِنْدِي أَنْ تَنْتَهِزَ الْفُرَصَةَ الَّتِي غَمَرْتَ فِيهَا «نَرْجِسَ» بِأَفْضَالِكَ وَصَنَائِعِكَ، لِتَطْلُبَ إِلَيْهَا أَنْ تُبَادِلَكَ جِلْدًا بِجِلْدٍ!

وَلَنْ تَتَرَدَّدَ «نَرْجِسُ» فِي هَذَا، بَلْ تَقْبَلُهُ بِمَوْفُورِ السُّرُورِ.»

فَأَجَابَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» مُقَاطِعًا: «كَلَّا، كَلَّا! لَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَإِنِّي لَأَسْتَعْذِبُ الْمَوْتَ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِهَا، وَأُوثِرُ شَقَائِي عَلَى شَقَائِهَا!

وَإِنَّهُ لَيَحْلُو لِي أَنْ أَقْضِيَ حَيَاتِي كُلَّهَا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْمُنَفِّرَةِ البَّشِعَةِ، عَلَى أَنْ يَنَالَهَا بِسَبَبِي أَيُّ سُوءٍ، أَوْ يَلْحَقَ بِهَا أَيُّ مَكْرُوهٍ.

وَلَأَنْ أَعِيشَ دُبًّا قَبِيحَ الْهَيْئَةِ، أَحَبُّ إِلَيَّ، وَأَكْرَمُ عَلَيَّ، مِنْ أَنْ يَدْفَعَنِي الْحِرْصُ وَالْأَنَانِيَّةُ، إِلَى اقْتِرَافِ هَذِهِ الدَّنِيَّةِ.»

ثُمَّ أَطْرَقَ لَحْظَةً إِلَى الْأَرْضِ، وَاسْتَأْنَفَ مُتَأَوِّهًا: «مِسْكِينَةٌ «نَرْجِسُ»! كَيْفَ أَرْضَى لَهَا الشَّقَاءَ فِي سَبِيلِ إِسْعَادِي؟

إِنِّي لَأَكُونُ وَغْدًا جَبَانًا إِذَا جَازَيْتُهَا حُبًّا بِخَدِيعَةٍ!»

فَقَالَتْ لَهُ الْقُنْبَرَةُ وَهِيَ تَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ مُغَرِّدَةً: «لَكَ مَا تَشَاءُ، فَوَدَاعًا، وَإِلَى اللِّقَاءِ.

وَسَأَعُودُ أَيُّهَا الْعَزِيزُ … فَمَتَى؟»

فَأَطْرَقَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» رَيْثَمَا يَجْمَعُ تَفْكِيرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ — إِذَا شِئْتِ — يَا مَوْلاتِي.»

ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى الشَّجَرَةِ فَتَسَلَّقَ أَغْصَانَهَا حَتَّى وَصَلَ إِلَى «نَرْجِسَ»، فَحَمَلَهَا بَيْنَ ذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ هَبَطَ بِهَا عَلَى الْأَرْضِ.

وَلَمْ يَدَّخِرْ جُهْدًا فِي سَبِيلِ إِنْعَاشِهَا، فَلَمْ تَلْبَثْ أَنْ دَبَّتْ فِيهَا الْحَرَكَةُ، فَسَكَبَ فِي فَمِهَا مَا بَقِيَ مِنْ عَصِيرِ الْفَاكِهَةِ.

وَلَمْ تَنْقَضِ عَلَيْهَا لَحَظاتٌ قَلِيلَةٌ، حَتَّى فَتَحَتْ عَيْنَيْهَا؛ فَوَقَعَتَا عَلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» فَرَأَتْهُ سَالِمًا مِنْ كُلِّ سُوءٍ؛ فَلَمْ تَكَدْ تُصَدِّقُ عَيْنَيْهَا فِيمَا تَرَيَانِ، وَفَاضَ قَلْبُهَا فَرَحًا وَابْتِهَاجًا بِمَا هَيَّأَ لَهَا اللهُ — سُبْحَانَهُ — مِنْ فَضْلٍ عَظِيمٍ.

وَالْتَفَتَتْ إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» قَائِلَةً: «صَدِيقِيَ الْوَفِيَّ، عَزِيزِيَ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ».

هَا أَنْتَ ذَا أَنْقَذْتَ حَيَاتِي مَرَّةً أُخْرَى مِنْ هَلاكٍ مُحَقَّقٍ؛ فَخَبِّرْنِي: كَيْفَ أَشْكُرُكَ؟ وَبِأَيِّ أُسْلُوبٍ تَسْتَطِيعُ عَاجِزَةٌ مِثْلِي أَنْ تَجْزِيَكَ عَلَى صَنِيعِكَ، وَتَرُدَّ إِلَيْكَ بَعْضَ حَقِّكَ، وَتُعَبِّرَ لَكَ عَنِ اعْتِرَافِهَا الْعَمِيقِ بِجَلِيلِ فَضْلِكَ؟»

فَقَالَ لَهَا مُقَاطِعًا: «صَهْ، وَلا تَتَحَدَّثِي بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ؛ فَإِنَّ مَا صَنَعْتُهُ لَكِ تَافِهٌ قَلِيلٌ، إِذَا مَا قِيسَ بِمَا أَوْلَيْتِنِي،١ وَبِمَا لَا تَزَالِينَ تُولِينَنِي مِنْ جَمِيلٍ.»

وَحَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ، فَرَأَى شُحُوبَ لَوْنِهَا وَهُزَالَ جِسْمِهَا، فَقَالَ: «مِسْكِينَةٌ أَنْتِ يَا «نَرْجِسُ»!

إِنَّكِ — فِيمَا أَرَى — لَمْ تَأْكُلِي شَيْئًا مُنْذُ الصَّبَاحِ، وَإِنِّي لَأَرَى بَقَايَا الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتِ بِهِ لِغَدَائِنَا مُلْقًى عَلَى الْأَرْضِ، مُخْتَلِطًا بِأَعْشَابِ الْغَابَةِ.

وَلَقَدْ تَأَخَّرَ بِنَا الْوَقْتُ، وَمَالَ مِيزَانُ النَّهَارِ، وَمَا أَدْرِي أَنَسْتَطِيعُ بُلُوغَ الدَّسْكَرَةِ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَنَا اللَّيْلُ، أَمْ يَدْهَمُنَا الظَّلامُ وَنَحْنُ فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ؟»

وَحَاوَلَتْ «نَرْجِسُ» أَنْ تَنْهَضَ، فَلَمْ تَقْوَ عَلَى الْقِيَامِ، وَلَهَا الْعُذْرُ فِي ذَلِكَ؛ فَقَدْ أَضْعَفَهَا الْجُوعُ وَالْخَوْفُ، فَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنْ هَوَتْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ فَرْطِ الضَّنَى وَالْإِعْيَاءِ. وَالْتَفَتَتْ «نَرْجِسُ» إِلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ»، تَقُولُ لَهُ بِصَوْتٍ ضَعِيفٍ: «عَاجِزَةٌ أَنَا عَنْ مُوَاصَلَةِ السَّيْرِ.

وَمَا أَدْرِي كَيْفَ يَنْتَهِي بِنَا الْأَمْرُ!»

وَاسْتَوْلَتِ الْحَيْرَةُ وَالِارْتِبَاكُ عَلَى «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» حِينَ رَأَى ضَعْفَهُ وَعَجْزَهُ عَنْ حَلِّ هَذِهِ الْمُشْكِلَةِ، فَهُوَ لَنْ يَقْوَى عَلَى حَمْلِ «نَرْجِسَ» وَالسَّيْرِ بِهَا مَسَافَةً بَعِيدَةً بَعْدَ أَنْ كَبِرَتْ سِنُّهَا، وَنَمَا جِسْمُهَا، وَاجْتَازَتْ مَرْحَلَةَ الطُّفُولَةِ، وَأَصْبَحَتْ فِي أَوَّلِ مَرَاحِلِ الصِّبَا.

إِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ حَمْلِهَا، كَمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْ تَرْكِهَا فِي الْغَابَةِ الْمُوحِشَةِ وَحْدَهَا، مُعَرَّضَةً لِفَتَكَاتِ الضَّوَارِي الْمُفْتَرِسَةِ.

وَهِيَ — عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ — جَائِعَةٌ خَائِرَةُ الْقُوَى، فَكَيْفَ تَبْقَى بِغَيْرِ زادٍ إِلَى الْيَوْمِ التَّالِي؟

وَبَيْنَا هُوَ فِي هَذِهِ الْحَيْرَةِ وَالِارْتِبَاكِ، إِذَا بِهِ يَرَى مُلَاءَةً مَلْفُوفَةً تَسْقُطُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ؛ فَأَسْرَعَ إِلَى الْتِقَاطِهَا، وَفَتَحَهَا، فَوَجَدَ بِهَا شِوَاءً لَذِيذًا، وَرَغِيفًا سَاخِنًا، وَزُجَاجَةً مَمْلُوءَةً بِشَرَابِ التُّفَّاحِ! فَأَدْرَكَ لِلْحَالِ أَنَّهَا هَدِيَّةُ صَاحِبَتِهِ أَمِيرَةِ التَّوَابِعِ؛ فَفَاضَ قَلْبُهُ سُرُورًا وَابِتَهَاجًا بِمَا رَأَى، وَلَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ أَعْلَنَ شُكْرَهُ لَهَا.

ثُمَّ أَسْرَعَ إِلَى الزُّجَاجَةِ فَأَدْنَاهَا مِنْ شَفَتَي «نَرْجِسَ».

وَكَانَتْ جُرْعَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ الْفَاخِرِ كَافِيَةً لِأَنْ تَسْتَرِدَّ بِهَا «نَرْجِسُ» بَعْضَ مَا فَقَدَتْهُ مِنْ قُوَاهَا.

فَلَمَّا جَرِعَتْ مِنَ الزُّجَاجَةِ جُرَعًا عَادَتْ إِلَيْهَا قُوَّتُهَا كَامِلَةً، وَرَجَعَتْ أَوْفَرَ مَا تَكُونُ صِحَّةً وَعَافِيَةً، وَأَقْبَلَتْ عَلَى الشِّواءِ وَالْخُبْزِ، فَأَكَلَتْ مَعَ صَاحِبِهَا حَتَّى شَبِعَا.

وَكَانَا — وَهُمَا يَأْكُلانِ — يَتَبَادَلانِ الْحَدِيثَ فِيمَا مَرَّ بِهِمَا مِنْ أَخْطَارٍ، وَمَا يَسْتَقْبِلُهُمَا مِنْ سَعَادَةٍ.

وَلَمْ تَكَدْ «نَرْجِسُ» تَنْتَهِي مِنَ الطَّعَامِ حَتَّى وَجَدَتْ نَفْسَهَا قَادِرَةً عَلَى الْمَشْيِ أَمْيَالًا طَوِيلَةً.

وَكَانَ مِنَ السَّهْلِ عَلَيْهَا أَنْ تَجْتَازَ٢ الْغَابَةَ، لَوْ لَمْ يُدْرِكْهَا اللَّيْلُ، فَيُعْجِزَهَا عَنْ تَبَيُّنِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الْمَسَالِكِ الْمُظْلِمَةِ.

وَاجْتَمَعَ رَأْيُ «نَرْجِسَ» وَرَأْيُ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ» عَلَى الْبَقَاءِ بِحَيْثُ هُمَا فِي الْغَابَةِ إِلَى الصَّبَاحِ، حَتَّى إِذَا أْشَرَقَتِ الشَّمْسُ، عَادَا إِلَى الدَّارِ؛ فَأَسْنَدَتْ «نَرْجِسُ» ظَهْرَهَا إِلَى جِذْعِ الشَّجَرَةِ الَّتِي اعْتَصَمَتْ بِهَا مِنْ أَذَى الْخِنْزِيرِ، وَاضْطَجَعَتْ آمِنَةً قَرِيرَةَ الْعَيْنِ.

فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «لَا تَنْزَعِجِي يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ»، فَإِنَّ الْجَوَّ حَسَنٌ، وَالْيَوْمَ — كَمَا تَرَيْنَ — مُعْتَدِلٌ، وَتَحْتَكِ فِرَاشٌ وَثِيرٌ مِنَ النَّبَاتِ الْأَخْضَرِ الْكَثِيفِ فَلْنُمْضِ لَيْلَتَنَا هُنَا، وَهَاكِ مِعْطَفِي تَتَغَطَّيْنَ بِهِ.

وَلَنْ تَقْلَقَ عَلَيْنَا وَالِدَتِي وَلا «حَلِيمَةُ»؛ فَهُمَا لِحُسْنِ حَظِّنَا وَحَظِّهِمَا لَا تَعْرِفَانِ مَا اسْتَهْدَفْنَا لَهُ٣ مِنَ الْخَطَرِ فِي يَوْمِنَا. وَطَالَمَا أَمْضَيْنَا لَيَالِيَ بَدِيعَةً بِجِوَارِ دَسْكَرَتِنَا، وَلَكِنَّ لَيْلَتَنَا هَذِهِ سَتَظَلُّ بَاقِيَةً فِي أَذْهَانِنَا مَدَى الْحَيَاةِ!»

فَقَالَتْ لَهُ «نَرْجِسُ»: «صَدَقْتَ يَا عَزِيزِي، وَالرَّأْيُ مَا تَرَاهُ.»

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِهَذَا الِاقْتِرَاحِ؛ فَإِنَّ سُلُوكَ الْغَابَةِ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَوَاقِبِ.

فَلا عَجَبَ إِذَا اخْتَارَا الْبَقَاءَ فِي مَكَانٍ أَمِينٍ.

وَكَانَتْ «نَرْجِسُ» لَا تَشْعُرُ بِخَوْفٍ أَبَدًا مَا دَامَتْ بِجِوارِ «الدُّبِّ الصَّغِيرِ». وَقَدْ تَعَوَّدَ مِنْهَا أَلَّا تُخَالِفَ لَهُ رَأْيًا، وَأَنْ تَرَى حَسَنًا كُلَّ مَا يُقَرِّرُهُ دَائِمًا.

وَأَعَدَّ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» سَرِيرًا مِنَ الْأَعْشَابِ — عَلَى قَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ — وَخَلَعَ مِعْطَفَهُ وَغَطَّاهَا بِهِ. وَقَدْ حَاوَلَتْ أَنْ تَسْتَبْقِيَهُ لَهُ، فَلَمْ يَقْبَلْ.

وَبَعْدَ قَلِيلٍ اسْتَسْلَمَتْ «نَرْجِسُ» لِرُقَادٍ طَوِيلٍ. وَرَآهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ فِي سُبَاتِهَا الْعَمِيقِ، فَارْتَمَى عِنْدَ قَدَمَيْهَا، وَقَدْ غَلَبَهُ الْجُهْدُ وَالْإِعْيَاءُ، فَأَسْلَمَ عَيْنَيْهِ لِنَوْمٍ هَنِيءٍ، حَافِلٍ بِأَحْلامِ الْبَهْجَةِ وَالسَّعَادَةِ.

وَلَمَّا جَاءَ الْيَوْمُ التَّالِي، اسْتَيْقَظَتْ «نَرْجِسُ» مَعَ شُرُوقِ الشَّمْسِ، وَالْغِبْطَةُ بَادِيَةٌ عَلَى مُحَيَّاهَا.

وَلَمْ تَتَمَالَكْ أَنِ ابْتَسَمَتْ حِينَ رَأَتِ «الدُّبَّ الصَّغِيرَ» لَا يَزالُ نَائِمًا، وَهُوَ قَابِضٌ بَيُمْنَاهُ عَلَى مِلْطَسِهِ، كَأَنَّمَا يَتَأَهَّبُ لِمُصَارَعَةِ خَنَازِيرِ الْغَابَةِ جَمِيعًا!

وَنَهَضَتْ «نَرْجِسُ» فِي غَيْرِ ضَوْضَاءٍ، وَسَارَتْ بِضْعَ خُطُوَاتٍ عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهَا حَتَّى لَا تُوقِظَ صَاحِبَهَا. وَظَلَّتْ تُجِيلُ لِحَاظَهَا فِي أَرْجَاءِ الْغَابَةِ، لِتَتَبَيَّنَ الطَّرِيقَ الَّتِي يَسْلُكَانِهَا إِلَى الدَّسْكَرَةِ.

وَبَيْنَا هِيَ تَدُورُ مُتَعَلِّقَةً حَوْلَ الدَّوْحَةِ الْعَالِيَةِ، الَّتِي كَانَ لَهَا الْفَضْلُ فِي حِمَايَتِهَا مِنَ الْخِنْزِيرِ نَهَارًا، وَمِنْ رُطُوبَةِ الْجَوِّ لَيْلًا؛ إِذِ اسْتَيْقَظَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»، وَتَلَفَّتَ بَاحِثًا عَنْهَا فَلَمْ يَعْثُرْ لَهَا عَلَى أَثَرٍ. وَانْتَفَضَ وَاقِفًا، وَقَدْ سَرَتِ الرِّعْدَةُ فِي جِسْمِهِ، وَنَادَاهَا بِصَوْتٍ يَكَادُ الْخَوْفُ يَخْنُقُهُ.

فَمَا كَانَ أَسْرَعَهَا إِلَى إِجَابَتِهِ! وَانْدَفَعَتْ إِلَيْهِ بِأَسْرَعَ مَا تَسْتَطِيعُ لِتُطَمْئِنَهُ عَلَيْهَا.

ثُمَّ قَالَتْ لَهُ: «هَا أَنَا ذِي، أَيُّهَا الْعَزِيزُ!»

فَسَأَلَهَا: «أَيْنَ كُنْتِ؟»

فَحَدَّثَتْهُ أَنَّ مَا كَانَ يَشْغَلُهَا إِنَّمَا هُوَ الْبَحْثُ عَنِ الطَّرِيقِ الَّتِي يَسْلُكَانِهَا فِي الْعَوْدَةِ إِلَى الدَّسْكَرَةِ.

فَقَالَ لَهَا «الدُّبُّ الصَّغِيرُ»: «لَقَدْ خَشِيتُ — يَا عَزِيزَتِي «نَرْجِسُ» — أَنْ تَكُونَ أَمِيرَةُ الزَّوَابِعِ الْغَادِرَةُ الْمَاكِرَةُ قَدِ اخْتَطَفَتْكِ، أَوْ دَبَّرَتْ لَكِ مَكِيدَةً جَدِيدَةً تَنَالُكِ بِسُوءٍ.

فَعُدْتُ عَلَى نَفْسِي بِاللَّائِمَةِ؛ واتَّهَمْتُ نَفْسِي بِالتَّقْصِيرِ فِي حِمَايَتِكِ، وَالتَّهَاوُنِ فِي السَّهَرِ عَلَيْكِ فِي أَثْنَاءِ نَوْمِكِ.

فَالْحَمْدُ للهِ عَلَى نَجَاتِكِ، وَإِنِّي لَسَعِيدٌ إِذْ أَرَاكِ مُبْتَهِجَةً فَرِحَةً، بَادِيَةَ النَّشَاطِ مُنْشَرِحَةً … وَشُكْرًا للهِ عَلَى مَا هَيَّأَهُ لَنَا مِنْ وَسَائِلِ السَّعَادَةِ.

وَالْآنَ، فَهَلُمِّي إِلَى الدَّسْكَرَةِ، وَضَاعِفِي نَشَاطَكِ، وَأَسْرِعِي خُطُوَاتِكِ لِنَبْلُغَ الدَّارَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَيْقِظَ مَنْ فِيهَا.»

وَكَانَ «الدُّبُّ الصَّغِيرُ» خَبِيرًا بِمَسَالِكِ الْغَابَةِ؛ فَاجْتَازَهَا مَعَ صَاحِبَتِهِ مِنْ أَقْرَبِ طَرِيقٍ. وَوَصَلا إِلَى الدَّسْكَرَةِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَيْقِظَ «مَاجِدَةُ» وَ«حَلِيمَةُ» بِزَمَنٍ قَلِيلٍ.

وَأَجْمَعَا رَأْيَهُمَا عَلَى أَنْ يَكْتُمَا عَنْ «مَاجِدَةَ» مَا تَعَرَّضَا لَهُ مِنْ مَخَاوِفَ وَأَخْطَارٍ حَتَّى لَا يُسَاوِرَهَا الْحُزْنُ عَلَيْهِمَا وَالْقَلَقُ فِي قَابِلِ الْأَيَّامِ.

وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ خَفَايَاهُمَا، وَمَا لَقِيَا مِنَ الْمَصَائِبِ فِي أَمْسِهِمَا غَيْرُ «حَلِيمَةَ» وَحْدَهَا، وَقَدْ كَتَمَتْ أَمْرَهُمَا، وَعَرَفَتْ كَيْفَ تَحْتَفِظُ بِسِرِّهِمَا.

١  بما أوليتِني: بما قدمتِه لي من معروف.
٢  تجتاز: تخترق.
٣  استهدفنا له: تعرضنا له.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤