الفصل الأول

الفجوة الكبرى

إن التاريخ الاقتصادي درَّة العلوم الاجتماعية؛ فموضوعه الرئيسي يدور حول «طبيعة وأسباب ثروة الأمم»؛ وهو عنوان الكتاب العظيم لآدم سميث. يبحث خبراء الاقتصاد عن «الأسباب» في نظرية خالدة عن التنمية الاقتصادية، فيما يجدها المؤرخون الاقتصاديون في عملية ديناميكية من التغير التاريخي. وقد صار التاريخ الاقتصادي مجالًا مثيرًا للاهتمام في السنوات الأخيرة؛ منذ أن أصبح نطاق السؤال: «لماذا ثَمَّة دول ثرية وأخرى فقيرة؟» نطاقًا عالميًّا. قبل خمسين عامًا، كان السؤال هو: «لماذا اندلعت الثورة الصناعية في إنجلترا وليس فرنسا؟» وقد أكدت الأبحاث التي أُجرِيت حول الصين والهند والشرق الأوسط على الديناميكية المتأصلة في أعظم حضارات العالم، ومن ثَمَّ يجب أن يكون السؤال اليوم هو: لماذا انطلق النمو الاقتصادي في أوروبا وليس في آسيا أو أفريقيا؟

لا تتوفر بيانات كثيرة حول الدخول في الماضي البعيد، لكن يبدو كما لو أن الاختلافات بين الدول في مستوى الازدهار في عام ١٥٠٠ كانت صغيرة. ظهرت الفجوة الحالية بين الأثرياء والفقراء منذ أن أَبْحَرَ فاسكو دا جاما إلى الهند واكتشف كولومبس الأمريكتين.

يمكن تقسيم الخمسمائة عام الأخيرة إلى ثلاث فترات؛ تمثل الفترة الأولى — التي استمرت منذ عام ١٥٠٠ إلى حوالي عام ١٨٠٠ — «العصر الاتجاري». بدأت هذه الفترة برحلات كولومبس ودا جاما، وأدت إلى تكامل الاقتصاد العالمي وانتهت بالثورة الصناعية. أُقِيمت المستعمرات في الأمريكتين اللتين قامتا بتصدير الفضة والسكر والتبغ؛ وشُحِن الأفارقة كعبيد إلى القارتين لإنتاج هذه السلع، كما صدَّرَتْ آسيا البهارات والمنسوجات والخزف الصيني إلى أوروبا، وسَعَتِ الدول الأوروبية الرائدة إلى زيادة تجارتها من خلال إقامة المستعمرات، وفرض التعريفات الجمركية، وشَنِّ الحروب لمنع الدول الأخرى من الاتِّجار مع مستعمراتها. وقد رُوِّجت الصناعة الأوروبية على حساب المستعمرات، غير أن التنمية الاقتصادية في حد ذاتها لم تكن هي الهدف.

تغيَّرت الأوضاع في الفترة الثانية — «المواكبة» — في القرن التاسع عشر. ففي الوقت الذي هُزِم فيه نابليون في معركة ووترلو في عام ١٨١٥، كانت بريطانيا قد حقَّقت الريادة في المجال الصناعي وتفوَّقَتْ على الدول الأخرى، وقد جعلت أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية التنمية الاقتصادية أولوية لها، وسعت إلى تحقيقها من خلال بناء قياسي يتألف من أربع سياسات؛ ألا وهي: إنشاء سوق وطنية موحَّدة من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وإقامة بنية تحتية للنقل، ووضع تعريفات خارجية لحماية صناعاتها من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك للحفاظ على ثبات أسعار العملات وتمويل الاستثمارات الصناعية، وتوفير التعليم العام للارتقاء بمهارات القوى العاملة. وقد حقَّقت هذه السياسات نجاحًا في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية؛ حيث انضمت الدول في هذه المناطق إلى بريطانيا لتشكِّل ما صار معروفًا اليوم بنادي الدول الغنية، بينما تبنَّتْ بعض دول أمريكا اللاتينية هذه السياسات بصورة غير كاملة ولم تحقِّق نجاحًا كبيرًا. أدت المنافسة البريطانية إلى إعاقة التنمية الصناعية في معظم مناطق آسيا، فيما اكتفت أفريقيا بتصدير زيت النخيل والكاكاو والمعادن عند انتهاء تجارة بريطانيا في العبيد في عام ١٨٠٧.

في القرن العشرين، أثبتت السياسات التي حقَّقت نجاحًا في أوروبا الغربية — لا سيما في ألمانيا وفي الولايات المتحدة — عدم فعاليتها في الدول التي لم تحقِّق التنمية بعدُ. تُبتكر معظم التكنولوجيا في الدول الغنية، وهذه الدول تحتاج إلى رأس مال بصورة متزايدة لزيادة إنتاجية الأيدي العاملة فيها التي تتقاضى أجورًا هي الأعلى على الإطلاق. لا تُعتبَر معظم هذه التكنولوجيا الجديدة اقتصاديةً في الدول التي تنخفض فيها أجور الأيدي العاملة، لكنها في المقابل تمثِّل أهم ما تحتاج إليه هذه الدول للَّحَاق برَكْب الغرب. تبنَّتْ معظم الدول تكنولوجيا حديثة بدرجة أو بأخرى، لكنها لم تتبنَّها بالسرعة الكافية التي تمكِّنها من تخطي الدول الغنية. أما الدول التي نجحت في رَأْب الصدع مع الغرب في القرن العشرين، فقد نجحت في ذلك من خلال نموذج «الدفعة القوية»، والذي استخدم التخطيط وتنسيق جهود الاستثمار لتحقيق طفرة.

قبل أن نتعرف على «كيف» صارت بعض الدول غنية، يجب أن نحدِّد «متى» صارت هذه الدول غنية. بين عامَيْ ١٥٠٠ و١٨٠٠، حقَّقت الدول الغنية اليوم تقدُّمًا طفيفًا يمكن قياسه من خلال إجمالي الناتج المحلي لكل فرد (الجدول ١-١).1 في عام ١٨٢٠، كانت أوروبا بالفعل هي أكثر القارات ثراءً؛ فكان إجمالي الناتج المحلي لكل فرد في أوروبا يساوي ضعف مثيله في معظم أنحاء العالم. كانت أكثر الدول ازدهارًا هي هولندا التي وصل متوسط الدخل فيها (إجمالي الناتج المحلي) إلى ١٨٣٨ دولارًا أمريكيًّا للفرد. ازدهرت الدول المنخفضة خلال القرن السابع عشر، وتمثَّل السؤال الرئيسي للسياسة الاقتصادية في كل البلدان الأخرى في كيفية اللحاق بالاقتصاد الهولندي، وكان البريطانيون يحاولون تحقيق ذلك. كان فتيل الثورة الصناعية قد اشتعل قبل جيلين، وكانت بريطانيا العظمى ثاني أغنى اقتصاد؛ حيث وصل متوسط الدخل فيها إلى ١٧٠٦ دولارات أمريكية في عام ١٨٢٠ للفرد، أما دول أوروبا الغربية والدول التي كانت تتبع بريطانيا (كندا وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة الأمريكية) فقد تراوح متوسط الدخل للفرد فيها بين ١١٠٠ و١٢٠٠ دولار أمريكي. تخلَّفَتْ باقي دول العالم حيث تراوح متوسط دخل الفرد بين ٥٠٠ دولار أمريكي و٧٠٠ دولار أمريكي، وكانت أفريقيا هي القارة الأكثر فقرًا؛ حيث بلغ متوسط دخل الفرد فيها إلى ٤١٥ دولارًا أمريكيًّا.
جدول ١-١: إجمالي الناتج المحلي للفرد حول العالم ١٨٢٠–٢٠٠٨.*
١٨٢٠ ١٩١٣ ١٩٤٠ ١٩٨٩ ٢٠٠٨
بريطانيا العظمى ١٧٠٦ ٤٩٢١ ٦٨٥٦ ١٦٤١٤ ٢٣٧٤٢
هولندا ١٨٣٨ ٤٠٤٩ ٤٨٣٢ ١٦٦٩٥ ٢٤٦٩٥
دول أوروبا الغربية الأخرى ١١٠١ ٣٦٠٨ ٤٨٣٧ ١٦٨٨٠ ٢١١٩٠
الدول الأوروبية المتوسطية ٩٤٥ ١٨٢٤ ٢٠١٨ ١١١٢٩ ١٨٢١٨
أوروبا الشمالية ٨٩٨ ٢٩٣٥ ٤٥٣٤ ١٧٧٥٠ ٢٥٢٢١
الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، نيوزلندا، أستراليا ١٢٠٢ ٥٢٣٣ ٦٨٣٨ ٢١٢٥٥ ٣٠١٥٢
أوروبا الشرقية ٦٨٣ ١٦٩٥ ١٩٦٩ ٥٩٠٥ ٨٥٦٩
الاتحاد السوفييتي ٦٨٨ ١٤٨٨ ٢١٤٤ ٧١١٢ ٧٩٠٤
الأرجنتين، أوروجواي، تشيلي ٧١٢ ٣٥٢٤ ٣٨٩٤ ٦٤٥٣ ٨٨٨٥
دول أمريكا اللاتينية الأخرى ٦٣٦ ١١٣٢ ١٥٥١ ٤٩٦٥ ٦٧٥١
اليابان ٦٦٩ ١٣٨٧ ٢٨٧٤ ١٧٩٤٣ ٢٢٨١٦
تايوان وكوريا الجنوبية ٥٩١ ٨٣٥ ١٤٧٣ ٨٥١٠ ٢٠٠٣٦
الصين ٦٠٠ ٥٥٢ ٥٦٢ ١٨٣٤ ٦٧٢٥
شبه القارة الهندية ٥٣٣ ٦٧٣ ٦٨٦ ١٢٣٢ ٢٦٩٨
دول شرق آسيا الأخرى ٥٦٢ ٨٣٠ ٨٤٠ ٢٤١٩ ٤٥٢١
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ٥٦١ ٩٩٤ ١٦٠٠ ٣٨٧٩ ٥٧٧٩
دول أفريقيا جنوب الصحراء ٤١٥ ٥٦٨ ٧٥٤ ١١٦٦ ١٣٨٧
باقي دول العالم ٦٦٦ ١٥٢٤ ١٩٥٨ ٥١٣٠ ٧٦١٤
يقيس متوسط إجمالي الناتج المحلي إجمالي ما يُنتَج من السلع والخدمات في أحد الاقتصادات، فضلًا عن إجمالي الدخل الذي يولده. في هذا الجدول، يجري قياس إجمالي الناتج المحلي استنادًا إلى قيمة الدولار الأمريكي في عام ١٩٩٠، ومن ثَمَّ يمكن مقارنة حجم الإنتاج (الدخل الحقيقي) مع مراعاة الفارق الزمني واختلاف المناطق.
ملاحظة: تضم بريطانيا العظمى أيرلندا الشمالية ابتداءً من عام ١٩٤٠.
ما بين عام ١٨٢٠ والوقت الحاضر، اتسعت الفجوات في الدخول مع وجود بعض الاستثناءات القليلة. حقَّقت الدول التي كانت الأكثر ثراءً في عام ١٨٢٠ أعلى معدلات النمو؛ يتراوح متوسط الدخول في الدول الغنية اليوم بين ٢٥٠٠٠ دولار و٣٠٠٠٠ دولار، ويتراوح هذا المعدل في معظم دول آسيا وأمريكا اللاتينية بين ٥٠٠٠ دولار و١٠٠٠٠ دولار، فيما وصل هذا المعدل في دول أفريقيا جنوب الصحراء إلى ١٣٨٧ دولارًا أمريكيًّا فقط. يبيِّن الشكل ١-١ ظاهرة الفجوة في الدخول؛ حيث يوضح أن المناطق إلى يمين الشكل التي حقَّقت دخولًا أعلى في عام ١٨٢٠ توافرت لديها أكثر عوامل نمو الدخل، بينما يوضح أن المناطق إلى يسار الشكل التي حقَّقت دخولًا أقل ابتداءً من العام نفسه توافرت لديها عوامل نمو أقل. حقَّقت أوروبا والدول التي كانت تتبع بريطانيا زيادات في الدخول تراوحت بين ١٧ و٢٥ ضعفًا. بدأت أوروبا الشرقية ومعظم مناطق آسيا بتحقيق دخول منخفضة، ثم انطلقت لاحقًا لتحقِّق زياداتٍ قَدْرها عشرة أضعاف، أما مناطق جنوب آسيا والشرق الأوسط ومعظم دول أفريقيا جنوب الصحراء فقد كانت أقل حظًّا؛ حيث إنها كانت أكثر فقرًا في عام ١٨٢٠، ولم تحقِّق زيادات في متوسط الدخل إلا في حدود من ثلاثة إلى ستة أضعاف؛ فقد تخلَّفت عن الغرب أكثر فأكثر. تلخِّص «معادلة الفجوة» هذا النمط.
fig1
شكل ١-١: الفجوة الكبرى.2

هناك استثناءات لهذه الفجوة في مستويات الدخول. تعتبر شرق آسيا هي المثال الأبرز على ذلك؛ حيث تمثِّل الإقليم الوحيد الذي تمكَّن من عكس الاتجاه وتحسين وضعه. وتعتبر اليابان هي قصة النجاح الأعظم في القرن العشرين؛ حيث كانت دولة شديدة الفقر لا مراء في ذلك في عام ١٨٢٠، لكنها استطاعت أن تسد فجوة الدخل مع الغرب، وبالمثل، كان نمو كوريا الجنوبية وتايوان عظيمًا بالقدر نفسه. ويعتبر الاتحاد السوفييتي مثالًا آخَر، وإن كان في صورة أقل اكتمالًا، وربما تكرِّر الصين الأمر نفسه اليوم.

fig2
شكل ١-٢: توزيع حجم التصنيع في دول العالم.3
كانت عمليات التصنيع وإنهاء التصنيع أسبابًا رئيسية في هذه الفجوة في الدخول بين دول العالم (الشكل ١-٢). في عام ١٧٥٠، كانت معظم عمليات التصنيع في العالم تُجرَى في الصين (٣٣٪ من إجمالي حجم التصنيع) وشبه القارة الهندية (٢٥٪)، وكان حجم الإنتاج لكل فرد في آسيا أقل من الدول الأكثر ثراءً في أوروبا الغربية، غير أن التفاوتات كانت محدودة. بحلول عام ١٩١٣، تغيَّر وضع العالم تمامًا؛ فانخفضت حصة الصين والهند من إجمالي حجم التصنيع العالمي إلى ٤٪ و١٪ على التوالي. في الوقت نفسه، ساهمت المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا بثلاثة أرباع إجمالي حجم التصنيع العالمي. وصل ناتج التصنيع للفرد في المملكة المتحدة ٣٨ ضعفًا لحجم نظيره في الصين، و٥٨ ضعفًا لنظيره في الهند، وليس السبب في ذلك زيادة الإنتاج البريطاني بصورة هائلة فحسب، وإنما كذلك انخفاض حجم التصنيع في كلٍّ من الصين والهند انخفاضًا هائلًا؛ حيث توقفت كثير من صناعات المنسوجات والصناعات المعدنية فيهما بسبب وجود المنتجين الذين يعتمدون على الماكينات في الغرب. في القرن التاسع عشر، تحولَّت آسيا من مركز التصنيع في العالم إلى مجموعة من الدول التقليدية غير المتطورة المتخصصة في إنتاج وتصدير المنتجات الزراعية.
يُلقِي الشكل ١-٢ الضوء على بعض نقاط التحول الرئيسية في تاريخ العالم. بين عامَيْ ١٧٥٠ و١٨٨٠، كانت الثورة الصناعية البريطانية هي الحدث الأكبر. خلال تلك الفترة، زادت حصة بريطانيا من حجم التصنيع في العالم من ٢٪ إلى ٢٣٪، وكانت المنافسة البريطانية هي السبب في القضاء على الصناعة التقليدية في آسيا. تميَّزت الفترة من عام ١٨٨٠ إلى الحرب العالمية الثانية بتحوُّل الولايات المتحدة الأمريكية وقارة أوروبا — لا سيما ألمانيا على وجه الخصوص — إلى دول صناعية. وصلت حصة كلٍّ من الولايات المتحدة وقارة أوروبا في عام ١٩٣٨ إلى ٣٣٪ و٢٤٪ على التوالي من إجمالي حجم التصنيع العالمي، وفقدت بريطانيا ريادتها لصالح منافِسيها؛ حيث انخفضت حصتها إلى ١٣٪. ومنذ الحرب العالمية الثانية، زادت حصة الاتحاد السوفييتي من إجمالي حجم التصنيع العالمي زيادة هائلة حتى عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ثم انهارت تمامًا مع الانهيار الاقتصادي الذي لحق بدول الاتحاد السوفييتي بعد تفككه. شهدت المعجزة الشرق آسيوية ارتفاعًا في حصتها من إجمالي حجم التصنيع العالمي متمثلةً في دول اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية؛ حيث بلغت حصتها ١٧٪، وكانت الصين كذلك تتحول إلى دولة صناعية منذ عام ١٩٨٠، ووصلت حصتها من الإجمالي العالمي إلى ٩٪ في عام ٢٠٠٦. وإذا لحقت الصين بالغرب، ستكون الدائرة قد اكتملت تمامًا وعادت إلى حيث بدأت.

الأجور الحقيقية

لا يُعتبَر إجمالي الناتج المحلي مقياسًا مناسبًا للرخاء؛ إذ إنه لا يأخذ في الحسبان عوامل كثيرة مثل الصحة ومتوسط العمر والمستوى التعليمي، بالإضافة إلى ذلك، غالبًا ما يجعل غياب البيانات من الصعب حساب إجمالي الناتج المحلي، كما أنه قد يكون مضلِّلًا؛ نظرًا لأنه يحتسب متوسط دخول الأغنياء والفقراء معًا. يمكن التغلب على هذه المشكلات من خلال حساب «الأجور الحقيقية»؛ أيْ قياس المستوى المعيشي الذي يتحقَّق من خلال دخل الفرد. توضح لنا الأجور الحقيقة الكثيرَ فيما يتعلق بالمستوى المعيشي للفرد العادي، وتسهم في بيان أصول ومدى انتشار الصناعة الحديثة؛ إذ تتعاظم حوافز زيادة استخدام الميكنة لكل عامل مع ارتفاع أسعار العمالة.

دعنا نركِّز على العامِلِين؛ لقياس مستوى معيشتهم، يجب مقارنة أجور العاملين بأسعار البضائع الاستهلاكية، ثم يجب حساب متوسط هذه الأسعار لحساب مؤشر أسعار المستهلِك. يتمثل المؤشر الذي أعتمدُ عليه في تكلفة بقاء الفرد حيًّا وَفْق «الحد الأدنى من متطلبات الحياة» (الطريقة الأقل تكلفة للبقاء على قيد الحياة). إن النظام الغذائي الذي يعتمد عليه العمَّال شبه نباتي؛ توفِّر الحبوب المغلية والخبز غير المختمر معظم السعرات الحرارية التي يحتاجها الجسم، وتعتبر البقوليات مكملات غذائية غنية بالبروتين، ويوفر الزبد أو الزيوت النباتية القليل من الدهون المطلوبة للجسم. كانت هذه الوجبة هي الوجبة القياسية في معظم أنحاء العالم في عام ١٥٠٠. لاحَظ تاجر هولندي يُدعَى فرانسيسكو بلسَارت زار الهند في أوائل القرن السابع عشر أن الناس الذين يعيشون قرب مدينة دلهي «لا يملكون شيئًا يأكلونه سوى القليل من الكيدجري المُعَدِّ من البذور النباتية الخضراء مخلوطة مع بعض الأرز … يأكلونها مع الزبد في المساء، وأثناء النهار يتناولون القليل من البذور المجفَّفة أو الحبوب الأخرى.» لا يعرف العاملون «سوى القليل عن مذاق اللحم»، بل تعتبر معظم أنواع اللحوم محرَّمة.

يبيِّن الجدول (١-٢)4 النمط الاستهلاكي الذي يحدِّد الحد الأدنى من الطعام الذي يحتاج إليه رجل بالغ. تعتمد الوجبة على أرخص أنواع الحبوب المتوفرة في كل بقعة من العالم، مثل الشوفان في شمال غرب أوروبا، والذرة في المكسيك، والدُّخن في شمال الهند، والأرز في سواحل الصين، وهكذا. تُحدَّد كمية الحبوب بحيث توفِّر الوجبة ١٩٤٠ سعرًا حراريًّا يوميًّا، ويقتصر الإنفاق على غير الغذاء على شراء الملابس المستعمَلة، ومقدار يسير من مصدر طاقة وشمعة. يتركز معظم حجم الإنفاق على الطعام، خاصة الكربوهيدرات التي تمثل أساس النظام الغذائي.
جدول ١-٢: سلة بضائع الحد الأدنى من متطلبات الحياة.*
الكمية لكل رجل سنويًّا السعرات الحرارية يوميًّا البروتين (جرام) يوميًّا
الأطعمة
الحبوب ١٦٧كجم ١٦٥٧ ٧٢
البقوليات ٢٠كجم ١٨٧ ١٤
اللحوم ٥كجم ٣٤ ٣
الزبد ٣كجم ٦٠ ٠
إجمالي ١٩٣٨ ٨٩
مواد غير غذائية
صابون ١٫٣كجم
كتان/قطن ٣ أمتار
شموع ١٫٣كجم
زيت مصباح ١٫٣ لتر
وقود ٢٫٠ مليون وحدة حرارية بريطانية
ملاحظة: يعتمد الجدول على الكميات والقيم الغذائية المتوفرة في النظام الغذائي القائم على الشوفان في أوروبا الشمالية/الغربية. تعتمد الوجبة في مناطق أخرى من العالم على أرخص أنواع الحبوب المتوفرة، ومن ثَمَّ تختلف الكميات.
fig3
شكل ١-٣: نسبة الحد الأدنى من متطلبات الحياة للعاملين.5
يعتمد السؤال الأساسي المتعلق بمستوى المعيشة على ما إذا كان العامل الذي يعمل دوامًا كاملًا يكسب ما يكفي من المال للإنفاق على أسرة في حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة. يبيِّن الشكل ١-٣ النسبة بين دخل دوام كامل وتكلفة الإنفاق على عائلة في حدود الحد الأدنى من متطلبات الحياة. أما اليوم، تُعتبَر مستويات المعيشة متشابهة عبر دول أوروبا، وقد كانت آخِر مرة تحقَّق فيها ذلك أيضًا في القرن الخامس عشر. كانت مستويات المعيشة آنذاك مرتفعة أيضًا؛ إذ كان العاملون يجنون دخلًا يساوي أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة. وبحلول القرن الثامن عشر، حدثت الفجوة الكبرى في أوروبا، فانهارت مستويات المعيشة في القارة، ولم يستطع العاملون سوى جني ما يكفي لشراء البنود المذكورة في الجدول ١-٢ أو ما يكافئها. في العصور الوسطى، كان العاملون في فلورنسا يأكلون الخبز لكن بحلول القرن الثامن عشر لم يستطع العاملون سوى تناول العصيدة المصنوعة من الذرة التي وصلت إليهم من الأمريكتين.
في المقابل، ظل العاملون في أمستردام ولندن يحققون دخلًا يساوي أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ولكن العاملين في لندن في عام ١٧٥٠ لم يأكلوا وجبة الشوفان المذكورة في الجدول ١-٢ أربع مرات، بل ارتقوا بمكونات وجباتهم فشملت الخبز الأبيض واللحم البقري والجعة. لم يأكل البريطانيون وجبات الشوفان إلا مَن كانوا يعيشون على حدود المناطق السلتية. وكما قال دكتور جونسون: يعتبر الشوفان «نوعًا من الحبوب يُقدَّم إلى الخيول بصورة عامة في إنجلترا، لكن في اسكتلندا يأكله البشر.» كما كان العاملون في جنوب إنجلترا يملكون الدخل الكافي لشراء الكماليات في القرن الثامن عشر، مثل الكتاب والمرآة والسكر والشاي.
وقعت فجوة بين الأجور الحقيقية مثلما وقعت فجوة في إجمالي الناتج المحلي للفرد بين الدول. يبيِّن الشكل ١-٤ الأجور الحقيقية للعاملين في لندن منذ عام ١٣٠٠ إلى الوقت الحالي، وفي بكين منذ عام ١٧٣٨. في عام ١٨٢٠، بلغ الأجر الحقيقي في لندن أربعة أضعاف قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وارتفعت النسبة إلى ٥٠ ضعفًا منذ عام ١٨٧٠.
fig4
شكل ١-٤: نسبة الحد الأدنى من متطلبات الحياة: لندن وبكين.
في المقابل، لا تزال الأجور الحقيقية في الدول الفقيرة من العالم تقف عند حدود ذلك الحد الأدنى. في عام ١٩٩٠، حدَّد البنك الدولي خط الفقر العالمي عند قيمة دولار واحد يوميًّا (وهو ما ارتفع ليصبح ١٫٢٥ دولار أمريكي نظرًا للتضخم). هذا الشكل — الذي يعتمد على خطوط الفقر الحالية للدول الفقيرة — يقابل الحد الأدنى من متطلبات الحياة المحددة في الجدول ١-٢. وصل متوسط سلَّات بضائع الحد الأدنى إلى ١٫٣٠ دولار أمريكي لكل شخص يوميًّا عند حسابها بأسعار عام ٢٠١٠. يعيش أكثر من مليار شخص (١٥٪ من سكان العالم) تحت مستوى هذا الخط في الوقت الحالي، وكانت هذه النسبة أكثر بكثير في عام ١٥٠٠، وكان العاملون في بكين على هذا القدر من الفقر في القرن التاسع عشر. في المقابل، رفع النمو الملحوظ للصين في العقود الأخيرة من مستوى معيشة العاملين إلى — فقط — ستة أضعاف الحد الأدنى، وهو مستوى بلغه العاملون البريطانيون منذ ١٥٠ عامًا خلت.
نستطيع الآن تقدير الأجور المنخفضة المبيَّنة في الجدول ١-١ لعام ١٨٢٠؛ فقد احتُسِبت هذه الأجور بناءً على سعر الدولار في عام ١٩٩٠، وفي ذلك الوقت، كانت تكلفة الحد الأدنى من متطلبات الحياة تساوي ١ دولار يوميًّا أو ٣٦٥ دولارًا سنويًّا. إن متوسط دخل الفرد في أفريقيا جنوب الصحراء في عام ١٨٢٠ بلغ ٤١٥ دولارًا؛ أيْ ما يزيد بنسبة ١٥٪ فقط عن قيمة الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وهو ما كان يمثل مستوى معيشة الغالبية العظمى في ذلك الوقت. في معظم مناطق آسيا وأوروبا الشرقية — التي كانت تضم نُظُمًا زراعية تتطلب رأس مال ضخمًا ومجتمعات هرمية — كان متوسط الدخول يتراوح بين ٥٠٠ دولار و٧٠٠ دولار. كان معظم الناس يعيشون على الحد الأدنى من متطلبات الحياة، وكانت الدولة والطبقة الأرستقراطية والتجار الأثرياء يجنون أي فائض في الدخل. في المقابل، بلغت الدخول في شمال غرب أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية من أربعة إلى ستة أضعاف قيمة الحد الأدنى، فقط في هذه المجتمعات كان العمال يعيشون في مستوى يزيد عن ذلك الحد الأدنى، مثلما يبيِّن الشكل ١-٣. كانت اقتصادات هذه الدول منتجة بدرجة كافية لاستفادة الطبقات الأرستقراطية والتجار.

ينطوي الحد الأدنى من متطلبات الحياة على تداعيات أخرى تؤثر على الرفاهة الاجتماعية والتقدم الاقتصادي؛ أولًا: الأشخاص الذين يتناولون وجبات الحد الأدنى قصار القامة؛ فانخفض متوسط طول الإيطاليين الذين التحقوا بجيش هَبسبورج من ١٦٧ سنتيمترًا إلى ١٦٢ سنتيمترًا؛ نظرًا لأنهم تحوَّلوا من تناول الخبز إلى تناول العصيدة. في المقابل، بلغ متوسط طول الجنود البريطانيين في القرن الثامن عشر ١٧٢ سنتيمترًا؛ نظرًا لتغذيتهم بصورة أفضل. (في الوقت الحالي، يبلغ متوسط طول الرجل في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وإيطاليا ١٧٦–١٧٨ سنتيمترًا، فيما يبلغ متوسط طول الرجل في هولندا ١٨٤ سنتيمترًا.) عندما يقل طول الأشخاص نظرًا لنقص الطعام، ينخفض متوسط أعمارهم أيضًا، وتتردى صحتهم أيضًا بصورة عامة. ثانيًا: يتلقى الأشخاص الذين يعيشون عند مستوى الحد الأدنى تعليمًا أقل جودة. يحكي السير فردريك إيدن — الذي أجرى مسحًا لدخول العمال وأنماط إنفاقهم في إنجلترا في تسعينيات القرن الثامن عشر — قصة بستاني لندني كان ينفق ستة بنسات من دخله أسبوعيًّا لإرسال اثنين من أبنائه إلى المدرسة. كانت عائلة البستاني تشتري خبز القمح واللحم والجعة والسكر والشاي، وكان دخله (٣٧٫٧٥ جنيهًا إنجليزيًّا سنويًّا) يساوي تقريبًا أربعة أضعاف الحد الأدنى (أقل من ١٠ جنيهات استرلينية). إذا انخفض دخل هذا البستاني إلى مستوى الحد الأدنى بصورة مفاجئة، كانت ستجرى عمليات توفير كثيرة، ومَن يشك في احتمالية أن الأطفال كانوا سيتركون المدرسة؟ لقد أسهمت الأجور المرتفعة في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال الحفاظ على الصحة ودعم التعليم. أخيرًا، من المفارقات أن العيش على الحد الأدنى من متطلبات الحياة يزيل الحافز الاقتصادي لدى أي دولة للتطور على المستوى الاقتصادي. فالحاجة إلى تحقيق المزيد من الإنتاج في اليوم كبيرة، لكن العمالة رخيصة، حتى إنه لا يتوفر لدى الشركات الحافز الكافي لابتكار أو استخدام ماكينات ترفع من مستوى الإنتاجية، فالعيش على الحد الأدنى من متطلبات الحياة ما هو إلا فخ للفقر. ولقد اندلعت الثورة الصناعية نتيجة للأجور المرتفعة، ولم تكن سببًا لها فقط.

هوامش

(1) Angus Maddison, The World Economy (OECD, 2006), and http://www.ggdc.net/maddison/.
(2) Angus Maddison, The World Economy (OECD, 2006) and the most recent revisions at www.ggdc.net/maddison/.
(3) Paul Bairoch, ‘International Industrialization Levels from 1750 to 1980’, Journal of European Economic History, 11 (1982): 269–333, and World Bank, World Development Indicators (2008).
(4) Robert C. Allen, The British Industrial Revolution in Global Perspective (Cambridge, 2009), p. 57.
(5) Robert C. Allen, Jean-Pascal Bassino, Debin Ma, Christine Moll-Murata, and Jan Luiten van Zanden, ‘Wages, Prices, and Living Standards in China, 1739–1925: In Comparison with Europe, Japan, and India’, Economic History Review, 64 (February 2011): 8.58, and additional calculations for Spain.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤