الفصل الرابع

صعود الأثرياء

بين عامَيْ ١٨١٥ و١٨٧٠، انتقلت الثورة الصناعية من بريطانيا إلى القارة الأوروبية بنجاح كبير. لم تكتفِ دول أوروبا الغربية باللحاق بالدولة الرائدة، بل انضمت إليها أيضًا في تكوين مجموعة من المبتكِرين الذين سعَوا معًا إلى تطوير التكنولوجيا في العالم منذ ذلك الحين. بطبيعة الحال، تحوَّلت أمريكا الشمالية إلى دولة صناعية في القرن التاسع عشر، ثم سرعان ما انضمت إلى نادي الابتكار، بل وأصبحت الولايات المتحدة رائدة العالم في التكنولوجيا، لكن يجب النظر إلى أدائها كأداء «الأول بين أقران متكافئين»، وهؤلاء يشملون دول أوروبا الغربية وبريطانيا.

أما التساؤل عما إذا كان نجاح دول أوروبا الغربية مفاجأةً أم لا، فإن الإجابة عليه تعتمد على نظرة المرء إلى الثورة الصناعية. يرى بعض المؤرخين أن الثورة الصناعية كان من المحتمل أن تحدث في فرنسا أو ألمانيا مثلما حدثت في بريطانيا، ومن ثَمَّ فإن المشكلة الكبرى تتمثَّل في تفسير لماذا اندلعت الثورة الصناعية في أوروبا وليس في آسيا. بالنسبة لهؤلاء، كانت القارة الأوروبية ستتحول سريعًا إلى التصنيع. ولكن يرى بعض المؤرخين الآخرين أنه ثمة اختلافات أساسية في طبيعة المؤسسات أو حوافز الإنتاج بين بريطانيا ودول القارة الأوروبية، وهو ما يتطلب تفسير تحوُّل أوروبا الغربية إلى التصنيع.

يرى أصحاب النظرية المؤسساتية أن التطور في القارة الأوروبية في القرن الثامن عشر كان يحول دونه المؤسسات العتيقة. وقد محت الثورة الفرنسية هذه المؤسسات العتيقة، فلم تُبْقِ منها أثرًا، وهي الثورة التي صُدِّرت إلى معظم القارة الأوروبية من خلال جيوش الجمهورية ونابليون. ففي كل مكان غَزَتْه الجيوش الفرنسية، كان الفرنسيون يُعِيدون تشكيل أوروبا وَفْق الصورة الجديدة التي رسموها، والتي تشمل إلغاء العبودية، والمساواة أمام القانون، ووضع نظام قانوني جديد (قانون نابليون)، ومصادرة الممتلكات الكنسية، وإقامة أسواق وطنية من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وفرض تعريفات جمركية خارجية، ووضع نظام ضريبي رشيد، وتوفير تعليم أساسي عام علماني، والتوسع في إقامة المدارس الثانوية والمعاهد الفنية والجامعات الحديثة، ودعم الجمعيات والثقافة العلمية. أجرت دول مثل بروسيا — التي هزمها نابليون لكنها لم تصبح جزءًا من إمبراطوريته — عمليات تحديث لمؤسساتها. حالت حروب نابليون دون تحقُّق أثر فوري لهذه الإصلاحات، لكن بعد معركة ووترلو، صارت أوروبا مستعِدة للانطلاق الصناعي.

يؤكد اتجاه آخَر في التفسير على دور الحوافز الإنتاجية في تَبَنِّي تكنولوجيا صناعية جديدة. أولًا: كانت بداية بريطانيا المبكرة تعني أن المصنِّعين البريطانيين يستطيعون التفوق على نظرائهم في القارة الأوروبية. وثانيًا: لم تكن تكنولوجيا الثورة الصناعية ملائمة لدول القارة الأوروبية؛ حيث كانت الأجور أقل وأسعار الطاقة أعلى بصورة عامة عنها في بريطانيا، ومن ثَمَّ تطَلَّبَ التحول إلى التصنيع في القارة الأوروبية ابتكارَ التكنولوجيا الملائمة وتوفيرَ حمايةٍ من المنافسة البريطانية أثناء حدوث ذلك.

بينما لم يكن لدى بريطانيا أي سياسة «للتحول إلى التصنيع»، توفرت لدى معظم الدول الأوروبية استراتيجية ما لتباري نجاح بريطانيا. في القرن التاسع عشر، ظهرت حزمة من سياسات التنمية التي تبنتها دول عديدة، وُضِعت هذه السياسات في الأساس في الولايات المتحدة (انظر الفصل السادس)، ثم رُوِّج لها في أوروبا عن طريق فريدريك ليست، وهو ألماني عاش في الولايات المتحدة الأمريكية من عام ١٨٢٥ إلى ١٨٣٢، ثم عاد إلى ألمانيا ليكتب «النظام القومي للاقتصاد السياسي» (١٨٤١). تضمنت استراتيجية التنمية القياسية — التي طورت من ثورة نابليون المؤسساتية — أربعة مبادئ: إنشاء سوق وطنية كبيرة من خلال إلغاء التعريفات الداخلية وتطوير وسائل النقل، وفرض تعريفات جمركية خارجية لحماية «الصناعات الوليدة» من المنافسة البريطانية، وتأسيس بنوك لتحقيق استقرار في أسعار العملة وتوفير رأس المال للشركات، وأخيرًا، نشر التعليم العام للإسراع من عملية استخدام التكنولوجيا وابتكارها. وقد ساعدت استراتيجية التنمية هذه دولَ القارةِ الأوروبية على اللحاق برَكْب بريطانيا.

تُعتبَر ألمانيا مثالًا جيدًا. في العصور الوسطى، كانت ألمانيا مقسَّمة إلى مئات الوحدات السياسية المستقلة، ثم انخفض الرقم إلى ٣٨ وحدة سياسية مستقلة خلال مؤتمر فيينا في عام ١٨١٥. بدأت بروسيا — أكبر الولايات الألمانية آنذاك — في نشر التعليم العام الأساسي في القرن الثامن عشر، ثم حذت الولايات الأخرى حذوها، وبحلول منتصف القرن التاسع عشر، صار التعليم الأساسي شبه عام في سائر ألمانيا.

أخذت بروسيا كذلك زمام المبادرة في إنشاء سوق وطنية من خلال إنشاء اتحاد جمركي (الزولفرين) في عام ١٨١٨ بغرض توحيد أراضيها، ثم انضمت الولايات الألمانية الأخرى إليها تدريجيًّا. وقد ألغى الاتحاد الجمركي التعريفات الداخلية، وفرَضَ تعريفة خارجية مشتركة لمنع المصنعين البريطانيين من دخول السوق المحلية. شكَّل الاتحاد الاقتصادي الأساس الذي قامت عليه الإمبراطورية الألمانية في عام ١٨٧١.

وقد دعم بناء خطوط السكك الحديدية تكامل الأسواق. بُنِي خط السكة الحديدية الألماني الأول (طوله ستة كيلومترات) ليصل بين نورمبرج وفورت في عام ١٨٣٥، بعد خمس سنوات فقط من إقامة خط السكة الحديدية الذي كان يصل بين ليفربول ومانشستر. أُقيمت الخطوط الرئيسية خلال عقد الخمسينيات من القرن التاسع عشر، فيما مُدَّتِ الخطوط الفرعية في العقود اللاحقة. وبحلول عام ١٩١٣، كان قد جرى افتتاح حوالي ٦٣ ألف كيلومتر من خطوط السكك الحديدية.

اضطلعت البنوك الاستثمارية — التي لم يكن لها دورٌ في عملية التصنيع في بريطانيا — بدور بارز في القارة الأوروبية. تمثَّلت باكورة هذه التجارب في «الجمعية العامة لدعم التصنيع الوطني في هولندا»، التي أُسِّست في عام ١٨٢٢ لدعم التنمية الصناعية في الدول المنخفضة. بدأت البنوك الخاصة الألمانية في القيام بالشيء نفسه، وكان بنك «كريدي موبيليه» — الذي أُسِّس في فرنسا في عام ١٨٥٢ لتمويل بناء خطوط السكك الحديدية والصناعة — خطوة عملاقة إلى الأمام.

في العام التالي، انبثق عن ذلك بنك دارمشتاد الذي تولَّى الترويج لبنك الاستثمار المشترك في ألمانيا. بحلول عام ١٨٧٢، كانت جميع البنوك الألمانية الكبرى (كوميرز بانك، ودريسدنر، ودويتشه، وغيرها) قد تأسَّست. امتلكت هذه البنوك فروعًا عديدة لجمع رءوس الأموال من العديد من المودعين، وأقامت علاقات دائمة مع العملاء من المجال الصناعي، فوفَّرت لهم تمويلًا طويل المدى في شكل سحب على المكشوف من الحسابات الجارية بمعدلات فائدة منخفضة. كانت تلك القروض تؤمَّن من خلال رهونات عقارية على الملكية الصناعية، وكان ممثلو البنوك يعملون على إدارة الشركات الصناعية التي كانت تتلقى هذه القروض. موَّلت هذه البنوك النمو الهائل في الصناعة الألمانية في الفترة ما بين عام ١٨٨٠ والحرب العالمية الأولى.

بين عامَيْ ١٨١٥ و١٨٧٠، تأسَّست معظم صناعات الثورة الصناعية في القارة الأوروبية على أساس ربحي. لم تكن ماكينات الغزل ومصانع أركرايت الأولى مربحة في فرنسا قبل الثورة، لكن التقدم الفني اللاحق خفَّض من تكاليف إنتاج الغزل السميك بنسبة ٤٢٪ بحلول منتصف عقد الثلاثينيات من القرن التاسع عشر. أدى انخفاض التكاليف في الإنتاج إلى جعل إقامة هذه المصانع ذات الطراز الحديث مربحة. بحلول عام ١٨٤٠، كانت فرنسا تنتج ٥٤ ألف طنٍّ من القطن سنويًّا، مقارنةً ببريطانيا التي كانت تنتج ١٩٢ ألف طنٍّ، وكان إنتاج القطن قد بدأ في ألمانيا (١١ ألف طنٍّ)، وبلجيكا (٧ آلاف طنٍّ). من الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت في تلك الفترة تعالج ٤٧ ألف طنٍّ من القطن الخام.

بحلول عام ١٨٧٠، كانت صناعة حديد حديثة قد أُقِيمت في القارة الأوروبية. كان الفحم النباتي يُستخدَم كوقود لصهر وتنقية الحديد قبل القرن الثامن عشر، ثم حل فحم الكوك — وهو صورة أخرى من صور الفحم — محل الفحم النباتي، في واحد من أشهر ابتكارات الثورة الصناعية، وقد وُضِع هذا الأسلوب محل التطبيق على يد أبراهام داربي في شركة كوولبروكديل للحديد في عام ١٧٠٩. وعلى أية حال، لم يكن حديد الكوك مُوفَّرًا من الناحية الاقتصادية في تصنيع منتجات الحديد المدرفل (الأسياخ، والألواح، والقضبان) حتى بعد عام ١٧٥٠؛ لذا كان استخدامه في البداية مقصورًا على عملية السبك المتخصصة التي سجَّل داربي براءة اختراعها. بين عامَيْ ١٧٥٠ و١٧٩٠، حلَّ حديد الكود محل حديد الفحم النباتي في صناعة المنتجات المدرفلة، ولكن كان حديد الكوك لا يزال باهظ الثمن ما لم يسمح بالتخلص من استخدام الفحم النباتي في عمليات الصهر في القارة الأوروبية. تتمتع دول مثل فرنسا بمساحات شاسعة من الغابات التي مدتها بالفحم النباتي بأسعار زهيدة، فيما عانت من ندرة وارتفاع سعر فحم الكوك. استغرق الأمر خمسين عامًا من إدخال التحسينات في تصميم الأفران لزيادة إنتاجية أفران فحم الكوك بدرجة كافية للتغلب على الفحم النباتي في القارة الأوروبية، حدث هذا التحوُّل بسرعة بالغة خلال عقد الستينيات من القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت فيه الشركات الفرنسية والألمانية تبني أفرانَ صَهْرٍ متقدِّمة للغاية في تصميماتها. بعبارة أخرى، حقَّقت فرنسا وألمانيا قفزة إلى أعلى درجات التقدم في تكنولوجيا صناعة الحديد؛ حيث إنها كانت التكنولوجيا الوحيدة التنافسية في أوروبا.

وبالمثل، لم تتخلف القارة الأوروبية عن بريطانيا في صناعات منتصف القرن التاسع عشر الجديدة. أنشأت دول أوروبا الغربية خطوط السكك الحديدية، وكانت القاطرات الأوروبية متقدمة بقدر مثيلاتها في بريطانيا، وانطبق الأمر نفسه على الصلب. قبل عام ١٨٥٠، كان سعر الصلب مرتفعًا، وكان أحد المنتجات الثانوية لصناعة الحديد، وهي الصناعة التي كانت تنتج بصورة رئيسية الألواح المعدنية وقضبان السكك الحديدية من الحديد المطاوع المستخلَص من الحديد الغفل في أفران التسليط. تمثَّلت المعضلة الفنية في إنتاج الصلب في صهر حديد الغفل النقي، بحيث يمكن التحكم بدقة في إضافة أي عناصر أخرى بما في ذلك الكربون، كان من الضروري أن تزيد درجة حرارة الأفران عن ١٥٠٠ درجة مئوية؛ تمثَّل الحل الأول للمشكلة في فرن التحويل الذي اختُرِع بصورة مستقلة حوالي عام ١٨٥٠ على يد هنري بسمر وويليام كيلي. قدَّم السير كارل فيلهلم سيمنز حلًّا آخَر من خلال بناء فرن استرجاعي في خمسينيات القرن التاسع عشر، كانت الحرارة تبلغ فيه مستويات مرتفعة، وفي عام ١٨٦٥، استخدم بيير إميل مارتن فرن سيمنز في صهر حديد الغفل لإنتاج الصلب. أثبت فرن المجمرة المكشوفة تفوُّقه على فرن بسمر التحويلي في إنتاج الألواح والرقائق والأشكال الهيكلية، وصار التكنولوجيا السائدة حتى حَلَّ محله إنتاج الصلب من خلال عملية الأكسجين الأساسية في ستينيات القرن العشرين. من الجدير بالذكر أن المخترعين الأربعة لعمليات إنتاج الصلب على نطاق واسع كانوا: رجلًا إنجليزيًّا، وآخَر أمريكيًّا، وثالثًا ألمانيًّا يعيش في إنجلترا، والرابع فرنسيٌّ. ومن ثَمَّ، لم يكن هناك أي تخلف دولي عن الركب البريطاني.

بينما تخطت دول أوروبا الغربية أكبر العقبات التكنولوجية التي واجهتها بحلول عام ١٨٧٠، كانت مستويات الإنتاج في القارة الأوروبية لا تزال أقل بكثير من مثيلاتها في بريطانيا، ولكن تغيَّرت الأمور مع اندلاع الحرب العالمية الأولى؛ حيث تخطَّت دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا في التصنيع. ففي عام ١٨٨٠، كانت بريطانيا تنتج ٢٣٪ من إجمالي الإنتاج الصناعي العالمي، فيما كانت فرنسا وألمانيا وبلجيكا تنتج مجتمعة نسبة ١٨٪ فقط. لكن بحلول عام ١٩١٣، تخطت الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا؛ إذ ارتفع إنتاجها مجتمعة إلى ٢٣٪ فيما انخفضت حصة بريطانيا إلى ١٤٪. في الوقت نفسه، زادت حصة أمريكا الشمالية من الإنتاج الصناعي العالمي من ١٥٪ إلى ٣٣٪. كان أداء بريطانيا هو الأفضل في صناعة المنسوجات القطنية؛ حيث كانت تقوم بمعالجة ٨٦٩ ألف طنٍّ من القطن الخام سنويًّا بين عامَيْ ١٩٠٥–١٩١٣، فيما كانت الولايات المتحدة تنتج مليون ومائة وعشرة آلاف طنٍّ، وألمانيا ٤٣٥ ألف طنٍّ، وفرنسا ٢٣١ ألف طنٍّ. كان أداء بريطانيا أضعف كثيرًا في مجال الصناعات الثقيلة. خلال الفترة من ١٨٥٠ إلى ١٨٥٤، كانت بريطانيا تصهر ٣ ملايين طنٍّ من حديد الغفل في مقابل ٢٤٥ ألف طن في ألمانيا، وحوالي ٥٠٠ ألف في الولايات المتحدة. بحلول الفترة بين عامَيْ ١٩١٠–١٩١٣، كانت بريطانيا تصهر ١٠ ملايين طنٍّ من حديد الغفل، فيما كانت ألمانيا تصهر ١٥ مليون طنٍّ، والولايات المتحدة ٢٤ مليون طنٍّ.

كانت التحولات في الإنتاج الصناعي تنطوي على تداعيات سياسية مهمة. ففي منتصف القرن التاسع عشر، كانت بريطانيا «ورشة العالم» حيث كانت تنتج معظم المصنوعات التي يتم تصديرها في العالم. زادت الولايات المتحدة وألمانيا على وجه الخصوص إنتاجهما من المواد المصنَّعة من خلال زيادة صادراتهما، وكانت التحولات في الأداء التجاري محل نقاش واسع آنذاك. احتفظت بريطانيا بمكانتها التجارية ببيع منتجاتها إلى مستعمرات إمبراطوريتها، وقد أدى ارتفاع قيمة تكوين الإمبراطورية على هذا النحو إلى تفجُّر الصراع على المستعمرات بين الاقتصادات الصناعية. انطوى تفوُّق ألمانيا على بريطانيا في إنتاج الصلب على تداعيات في مجال تصنيع العتاد العسكري، وقد أدت المنافسة التجارية بين بريطانيا وألمانيا إلى إثارة التوترات الدولية قبيل الحرب العالمية الأولى.

لم تَكْتَفِ دول القارة الأوروبية وأمريكا الشمالية بالتفوق على بريطانيا في الإنتاج الصناعي بين عامَيْ ١٨٧٠ و١٩١٣، بل نافستها بصورة واضحة في الريادة التكنولوجية. تخطَّت الولايات المتحدة الأمريكية بريطانيا بالفعل وصارت رائدة العالم في التكنولوجيا، ولكن ظلت الاكتشافات المهمة في معظم الصناعات تحدث في جميع الاقتصادات الصناعية الرائدة. من المنظور العالمي، ما يثير الدهشة هو الفرق بين الدول الغنية التي معًا أسهمت في التقدم التكنولوجي، وبين بقية دول العالم التي يبدو أنها لم تسهم في التطور التكنولوجي على الإطلاق.

تتمثَّل إحدى السمات المهمة في أواخر القرن التاسع عشر في تطوير صناعات جديدة بالكامل، مثل صناعة السيارات والنفط والكهرباء والكيماويات. كانت جميع الدول الغنية منخرطة في إنشاء هذه الصناعات، وكان أول مَن صمَّم سيارةً تعمل بالبنزين هو سيجفريد ماركوس — وهو نمساوي الجنسية — في عام ١٨٧٠، كما اخترع ماركوس أيضًا نظام إشعال مغناطيسي وكربراتير فرشاة دوَّارة الذي صار نموذجًا قياسيًّا. صمَّم كارل بنز السيارة العملية الأولى في عام ١٨٨٥، ثم جاء في إثره مباشرة جوتليب دايملر وفيلهلم مايباخ — وكانوا جميعًا ألمانًا. صمَّم ويليام لانشستر أول سيارة بريطانية في عام ١٨٩٥، واخترع الكابح القرصي ومفتاح التشغيل الكهربي. كانت أول شركة أُسِّسَتْ لصناعة السيارات هي شركة «بانار وليفاسور» في فرنسا في عام ١٨٨٩، وهي التي ابتكرت أيضًا المحرك رباعي الأسطوانات. ابتكرت رينو الكابح الطنبوري في عام ١٩٠٢. وفي عام ١٩٠٣، صمَّم الهولندي ياكوبوس سبايكر أول سيارة سباقات رباعية الدفع. تتطلب المركبات عددًا من الابتكارات تشمل المحركات وأنظمة التشغيل والكوابح وناقلات الحركة ونظام التعليق والأجزاء الكهربائية، وغيرها. وتمثِّل السيارة في شكلها الحديث نتاج الابتكارات التي قدَّمها أفراد في جميع الدول الصناعية الرائدة. بحلول عام ١٩٠٠، كانت جميع الدول الصناعية تمتلك شركات تصنيع السيارات. لقد كان الابتكار نشاطًا جماعيًّا بينها.

تتمثل إحدى سمات الصناعات الجديدة الأخرى في أن كثيرًا منها ارتبط بتطور العلوم الطبيعية. وقد جَنَت الدول التي كانت جامعاتها تضم برامج قوية في العلوم الطبيعية مزايا اقتصادية، وتعتبر ألمانيا هي المثال الأبرز في فترة ما قبل ثلاثينيات القرن العشرين، وقد فاز كثير من علماء الفيزياء والكيمياء الألمان بجائزة نوبل. تلقَّى أبرز المبتكرين ذوي المهارات الفنية تعليمًا جامعيًّا، كما أسهم أعضاء هيئة التدريس باكتشافات مهمة طوَّرت من العمليات الصناعية وأدت إلى ظهور منتجات جديدة. ويُعَدُّ اكتشاف فريتز هابر لعملية تحويل النيتروجين الجوي إلى أمونيا — وهي العملية التي اكتشفها عندما كان عضوًا في هيئة تدريس جامعة كارلسروه، وحصل على جائزة نوبل من أجلها — أحد أشهر الاكتشافات، غير أنه ليس الوحيد من نوعه.

أدى ظهور هتلر، ونشوب الحرب العالمية الثانية، وانقسام ألمانيا بعد الحرب إلى خروج العلوم الألمانية عن مسارها، وهكذا انتقلت الريادة في أبحاث الجامعات إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تعمل على تطوير قطاع تعليم عالٍ ضخم. كانت الأبحاث في جامعات الولايات المتحدة الأمريكية تطفو فوق بحر من الأموال الحكومية، وكانت معظم هذه الأموال موجَّهة إلى القطاع العسكري أثناء الحرب الباردة، غير أن معظم المشروعات التي جرى تمويلها أفادت الاقتصاد ككل. كان التمويل موجَّهًا كذلك إلى مجالات الطب، واستكشاف الفضاء، والعلوم الإنسانية والاجتماعية. وقد مثَّل هذا التمويل أساس ريادة أمريكا العالمية.

طابع الاقتصاد الكلي للتقدم التكنولوجي

جرت معظم أعمال البحث والتطوير في دول العالم الغنية اليوم، فقد طوَّرت هذه الدول تكنولوجيات توقَّعت أنها ستدرُّ عليها أرباحًا، ومن ثَمَّ فقد كانت المنتجات والعمليات الجديدة التي ابتكرتها الدول الغنية تلبِّي احتياجاتها وتُلائم ظروفها، خاصةً أن الأجور المرتفعة في الدول الغنية دفعتها إلى ابتكار منتجات تقتصد في الأيدي العاملة من خلال زيادة استخدام رأس المال. وقد أدَّى هذا إلى اتجاه تصاعدي للتقدم؛ حيث أدَّت الأجور المرتفعة إلى المزيد من الإنتاج الذي يحتاج رأس مال مرتفعًا، وهو ما أدى بدوره إلى أجور أعلى. دعمَ هذا الاتجاه التصاعدي زيادة الدخول في الدول الغنية.

ترتَّب على قيام دول أوروبا الغربية والولايات المتحدة بجميع أعمال البحث والتطوير في العالم وجود «دالة إنتاج» عالمية تحدِّد الخيارات التكنولوجية لجميع الدول. تُعرَّف «دالة الإنتاج» بأنها العلاقة الرياضية التي تحدِّد مقدار إجمالي الناتج المحلي الذي تحققه دولةٌ ما من خلال استخدام الأيدي العاملة ورأس المال المتوفرين لديها. يبيِّن الشكل ٤-١ دالة إنتاج العالم من خلال بيان إجمالي الناتج المحلي لكل عامل في مقابل رأس المال لكل عامل في ٥٧ دولة في عامَيْ ١٩٦٥ و١٩٩٠. تحدِّد النقاط المبينة في الشكل دالة إنتاج العالم، وتتسم هذه الدالة بأن زيادة رأس المال لكل عامل تُترجَم إلى زيادة في الإنتاج لكل عامل. بالإضافة إلى ذلك، تصير العلاقة بين مقدار رأس المال وحجم الإنتاج مستوية عند استثمار رءوس أموال كثيفة لكل عامل، وهو ما يفسِّره قانون تناقص العوائد الذي يشير إلى أن استثمار المزيد والمزيد من رأس المال يحقِّق إنتاجًا إضافيًّا أقلَّ. وفي النهاية، تُستخدَم رموز مختلفة للتعبير عن بيانات عامَيْ ١٩٦٥ و١٩٩٠؛ فالدولة التي تستثمر رأس مال يبلغ ١٠ آلاف دولار أمريكي لكل عامل لم تنتج في عام ١٩٩٠ أكثر مما أنتجت في عام ١٩٦٥، بعبارة أخرى، لم تحقِّق هذه الدولة تقدُّمًا فنيًّا. يكمن التغيير في تكنولوجيا العالم في تحقيق ناتج أكبر لكل عامل عن طريق رفع رأس المال لكل عامل إلى مستويات أعلى مما وصلت إليه من قبلُ. كانت الدول الغنية — التي كانت تستخدم تكنولوجيات كثيفة رأس المال في عام ١٩٦٥ — هي المستفيد الأول من هذه التطورات التكنولوجية، وكانت هذه الدول أيضًا هي الدول التي ابتكرت التكنولوجيات الجديدة في عام ١٩٩٠؛ إذ إن هذه التطورات لم تنتقل تلقائيًّا إلى الدول الأكثر فقرًا.
fig8
شكل ٤-١: دالة إنتاج العالم.1
fig9
شكل ٤-٢: مسار نمو الولايات المتحدة.1
fig10
شكل ٤-٣: مسار نمو إيطاليا.1
fig11
شكل ٤-٤: مسار نمو ألمانيا.1
بالنسبة لبعض هذه الدول، يمكن قياس إنتاجية كل عامل ورأس المال لكل عامل عودة إلى الثورة الصناعية. من خلال هذه البيانات، يمكن مقارنة ما حدث «بمرور الوقت» بما يحدث «عبر النطاق الجغرافي». على سبيل المثال، يصل الخط في الشكل ٤-٢ الذي يحمل اسم «الولايات المتحدة الأمريكية» النقاط الممثلة لرأس المال لكل عامل والإنتاجية لكل عامل للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة بين عامَيْ ١٨٢٠ إلى ١٩٩٠. يتبع مسار تطور الولايات المتحدة الأمريكية نمط التطور نفسه في الدول الغنية والفقيرة في عامَيْ ١٩٦٥ و١٩٩٠. ينطبق الأمر نفسه على جميع الدول الغنية الأخرى؛ حيث يبدو النمو في البلد الواحد بمرور الوقت وكأنه اختلافات في النمو في النطاق الجغرافي اليوم. يبيِّن الشكل ٤-٣ هذا النمط في إيطاليا، والشكل ٤-٤ يوضحه في ألمانيا. هناك بعض الخصائص الفريدة في هذه التواريخ جميعًا؛ حقَّقت الولايات المتحدة — كما يليق بالدولة الرائدة تكنولوجيًّا على مستوى العالم — إنتاجية من رأس المال والأيدي العاملة المتوفرة لديها أكثر من الدول الأخرى، فيما راكمت ألمانيا — ربما بسبب أهمية البنوك الاستثمارية فيها — رأس مال أكثر لكل عامل، لكن تظل الآليات الأساسية واحدة. يُعتبَر التوافق بين النمو بمرور الوقت والاختلافات عبر النطاقات الجغرافية، نتيجةً مباشِرَةً للحقيقة المتمثلة في أن الإمكانات التكنولوجية في العالم اليوم إنما خلقتها الدول الغنية أثناء عملية تطورها.

يرجع السبب في فقر الدول الفقيرة إلى أنها تستخدم التكنولوجيا التي طورتها الدول الغنية في الماضي. وتُعتبَر أكثر الصناعات نجاحًا في العديد من الدول النامية هي صناعة الملابس؛ حيث تُعتبَر التكنولوجيا الرئيسية هي ماكينة الخياطة. طُرِحت ماكينة الخياطة التي تُدار بالقَدَم للمرة الأولى تجاريًّا في خمسينيات القرن التاسع عشر، فيما ظهرت ماكينة الخياطة الكهربائية في عام ١٨٨٩. فنجاح التصدير في معظم الدول النامية اليوم قائم على تكنولوجيا القرن التاسع عشر.

تشير الإحصاءات التي تظهر في الشكل ٤-١ إلى الأمر نفسه. لماذا تعتبر دولة بيرو فقيرة نسبيًّا؟ في عام ١٩٩٠، بلغ رأس المال لكل عامل في بيرو ٨٧٩٦ دولارًا أمريكيًّا، فيما بلغت إنتاجية كل عامل ٦٨٤٧ دولارًا. تتطابق هذه الأرقام تقريبًا مع مثيلاتها في ألمانيا في عام ١٩١٣؛ إذ بلغت ٨٧٦٩ دولارًا أمريكيًّا، و٦٤٢٥ دولارًا أمريكيًّا على التوالي. يرجع بنا رأس المال الأقل اليوم إلى الوراء زمنيًّا. في عام ١٩٩٠، على سبيل المثال، بلغ رأس المال لكل عامل في زيمبابوي ٣٨٢٣ دولارًا أمريكيًّا، فيما بلغت الإنتاجية لكل عامل ٢٥٣٧ دولارًا أمريكيًّا سنويًّا. ليست هذه نتيجة سيئة في عام ١٨٢٠. بلغ رأس المال لكل عامل في مالاوي ٤٢٨ دولارًا أمريكيًّا، وإجمالي الناتج المحلي لكل عامل ١٢١٧ دولارًا أمريكيًّا؛ أيْ ما يماثل القيم نفسها التي بلغتها الهند أوائل القرن التاسع عشر، وأقل بنسبة كبيرة من المستويات التي حقَّقتها المملكة المتحدة والولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية خلال الفترة نفسها. حتى في عام ١٩٩٠، زاد رأس المال لكل عامل في الهند ليصل إلى ١٩٤٦ دولارًا أمريكيًّا فقط، وقيمة الإنتاجية لكل عامل إلى ٣٢٣٥ دولارًا أمريكيًّا، وهو ما وضع الهند على قدم المساواة مع بريطانيا في عام ١٨٢٠.

السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: لماذا لا تستخدم دول بيرو وزيمبابوي ومالاوي والهند التكنولوجيا التي تستخدمها دول أوروبا الغربية، فتصبح دولًا غنية هي الأخرى؟ والإجابة هي أن هذا لن يفيد هذه الدول. تحتاج التكنولوجيا الغربية في القرن الحادي والعشرين إلى رءوس أموال ضخمة للغاية لكل عامل، ومن ثَمَّ لن يكون من المجدي إحلال رءوس الأموال الهائلة محل العمالة إلا إذا كانت أجور العمالة مرتفعة مقارَنَةً بتكلفة رأس المال، ويظهر هذا في جميع الأشكال الموضَّحة في استواء العلاقة بين قيمة الإنتاجية لكل عامل ورأس المال لكل عامل. بعبارة أخرى، عندما يرتفع رأس المال لكل عامل، يتطلب الأمر استثمار المزيد من رأس المال لكل عامل لزيادة قيمة الإنتاجية لكل عامل بمقدار ١٠٠٠ دولار أمريكي، أكثر مما هو مطلوب عندما يكون رأس المال لكل عامل منخفضًا. يجب أن تكون الأيدي العاملة باهظة التكلفة حتى يصبح من المجدي استثمار رءوس الأموال الهائلة. اتبعت الدول الغربية مسارًا تنمويًّا أدت الأجور المرتفعة فيه إلى ابتكار التكنولوجيا الموفِّرة للأيدي العاملة، والتي أدى استخدامها إلى زيادة إنتاجية العمال ومعها الأجور. وتكرر الدورة نفسها. لكن الدول الفقيرة اليوم لم تلحق بركب الصعود، فتنخفض فيها الأجور وترتفع تكاليف رأس المال، ومن ثَمَّ لا تملك هذه الدول سوى التكيُّف مع استخدام التكنولوجيا العتيقة والأجور المنخفضة.

يقدِّم التاريخ الصناعي أمثلةً على هذه المبادئ. في الفصل السابق، ناقشنا ابتكار النول الآلي والطريقة التي دخل بها حيز الاستخدام في الولايات المتحدة — وهي دولة ترتفع بها مستويات الأجور — ثم إلى بريطانيا بعد إدخال تعديلات عليه. لم يكن النول الآلي موفرًا قط في الدول منخفضة الأجور؛ حيث ظل الناس يستخدمون النول اليدوي في النسج. وقد أصبح وضع هذه الدول أكثر صعوبة لاحقًا في القرن التاسع عشر عندما صارت الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الرائدة اقتصاديًّا، وصاحبة اقتصاد أعلى الأجور؛ إذ كانت التكنولوجيا الأمريكية تعكس هذا الوضع. في عقد التسعينيات من القرن التاسع عشر، ابتكر رجل إنجليزي مهاجر يُدعَى جيمس هنري نورثروب سلسلةً من الاختراعات أدت في النهاية إلى ظهور النول الآلي بالكامل؛ أدى نول نورثروب إلى زيادة الإنتاجية بشكل هائل، لكنه تتطلب استثمارات ضخمة. كانت الأنوال الآلية مربحة في أمريكا نظرًا لارتفاع الأجور بها، بينما كان استخدامها مكلِّفًا للغاية في بريطانيا، على الرغم من أن بريطانيا كانت صاحبة اقتصاد مرتفع الأجور وفقًا للمعايير العالمية. كان نول نورثروب أقل جدوى في الدول الفقيرة. أدت عملية التحول الفني — التي سعى فيها المخترعون في الاقتصادات الرائدة إلى توفير العمالة مرتفعة الأجر — إلى ظهور آلات زادت أكثر فأكثر من الميزة التنافسية للدول الغنية، دون حصول الدول الفقيرة في العالم على أي مميزات.

هوامش

(1) Robert C. Allen, ‘Technology and the Great Divergence’, Oxford University, Dept of Economics, Discussion Paper 548 Explorations in Economic History 48 (2012).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤