الفصل الخامس عشر

قال كارادين حين دخل عليه بعد بضعة أيام، وهو في غاية البهجة والمرح: «نسيتَ أن تسألني عن شخصٍ ما في قائمتك.»

«مرحبًا. مَن ذاك؟»

«ستيلينجتون.»

«بالطبع! أسقف باث الفاضل. إذا كان هنري يكره قانون اللقب الملكي، باعتباره شاهدًا على نزاهة ريتشارد وعدم شرعية زوجة هنري، فلا بدَّ أنه كان يكره أكثر وجود المُحرِّض على هذا القانون. ماذا حدث لستيلينجتون العجوز؟ قُتِل بأمرٍ قضائي؟»

«من الواضح أن ذلك العجوز لم يلعب.»

«لم يلعب ماذا؟»

«لعبة الحيوانات الأليفة مع هنري. إذ نجا الرجل. إما أنه كان عجوزًا ماكرًا، أو أنه كان بريئًا جدًّا فلم يرَ الفخَّ على الإطلاق. وفي اعتقادي، إن كان مسموحًا لباحثٍ أن يحظى باعتقادٍ شخصي، أنه كان بريئًا بدرجةٍ لا تُمكِّن أيَّ عاملٍ مُحرِّض من استفزازه تجاه أي شيء. أي شيء يُمكن أن يتسبَّب له في تهمةٍ عقوبتها الإعدام، على أي حال.»

«أتقول إنه هزم هنري؟»

«لا. أوه، لا. لم يهزم أيُّ أحدٍ هنري. وجَّه هنري إليه تُهمة ونسيَ إطلاق سراحه. ولم يعُد الرجل إلى بيته قَط. من أيضًا لم يعُد إلى البيت قَط؟ ماري في قصيدة «رمال نهر دي»؟»

«أنت مُتألِّق للغاية هذا الصباح، ناهيك عن قول إنك في غاية الابتهاج.»

«لا تَقُلها بتلك النبرة المُرتابة. لم تنجَلِ الأمور بعد. وهذا الانفعال الذي تُلاحظه هو فورانٌ فِكري. ابتهاجٌ روحي. تألقٌ عقلي بالكامل.»

«حسنًا؟ اجلس وهاتِ ما عندك. ما هذا الأمر الجيد للغاية؟ أظنُّ أن ثَمة خبرًا جيدًا، أليس كذلك؟»

«جيِّدٌ صفةٌ مُلائمة بالكاد. الوصف الأصحُّ هو رائع، رائع بصورةٍ مثالية.»

«أعتقد أنك «كنت» تُعاقِر الشراب.»

«ما كنت لأستطيع تَناوُل الشراب هذا الصباح حتى وإن حاولت. إنني مُمتلئ تمامًا حدَّ الكفاية بالشعور بالرِّضا والارتياح.»

«أفهم أنك وجدتَ الخَرق في النمط الذي كنَّا نبحث عنه.»

«أجل، وجدتُه، لكنه كان مُتأخرًا أكثر ممَّا كنَّا نظن. أقصد مُتأخِّرًا في الزمن. بعد فترةٍ طويلة. في الأشهُر الأولى كان كل شخص يفعل ما يُتوقَّع منه فعله. تولَّى هنري مقاليد الحُكم، ولم يَذكُر أحدٌ كلمةً عن الصبيَّين، ونظَّف الفوضى وتزوَّج أخت الصبيَّين. وجعل البرلمان الذي يتكوَّن من تابِعيه المَدِينين يُلغي الحكم بفقدان أهليَّته، ولم يَذكُر أحدٌ كلمةً عن الصبيَّين، ومرَّر قانونًا بفقدان ريتشارد للأهلية، وكذلك أتباعه المُخلِصون الذين حوَّل عناية خدمتهم له إلى أفعالِ خيانة من خلال إدراجِ تاريخٍ أبْكَر. تسبَّب هذا الأمر في وجودِ مجموعةٍ كبيرة من الأملاك المُصادرة في الصندوق المُشترَك دفعةً واحدة. وبالمناسبة، اختُلِقت فضيحةٌ مُريعة في حقِّ راهب كوريلاند من خلال ممارسات هنري الذكية في أمور الخيانة. إذ قال: «يا إلهي، أيُّ أمنٍ هذا الذي سيتمتَّع به ملوكنا منذ الآن فصاعدًا في أيام الحروب إن كان تابعوهم المُخلِصون يُحرَمون عند الهزيمة من الحياة والثروة والميراث».»

«غفَل عن مُواطنيه.»

«أجل. ربما كان يعرف أن الشعب الإنجليزي سيَتوصَّل إلى ذلك الأمر عاجلًا أو آجلًا. لعلَّه كان غريبَ الأطوار. على أي حال، سار كلُّ شيء بالطريقة التي يَتوقَّع المرء أن يسير بها كلُّ شيء في ظل حُكم هنري. إذ ارتقى على العرش في شهر أغسطس من عام ١٤٨٥، وتزوَّج إليزابيث في يناير التالي. وأنجبت إليزابيث طفلها الأول في وينشستر، وكانت أُمها حاضرةً معها أثناء تعميد الطفل. كان ذلك في سبتمبر من عام ١٤٨٦. ثم عادت إلى لندن، أقصد الملكة الأم، في الخريف. وفي شهر فبراير، انتبه جيدًا، في شهر فبراير كانت قد أُودِعت أحد الأديرة لبقيَّة حياتها.»

قال جرانت في ذهولٍ شديد: «إليزابيث وودفيل؟» كان هذا آخِر شيء توقَّعه.

«أجل. إليزابيث وودفيل. أُم الصبيَّين.»

سأله جرانت بعد أن فكَّر في الأمر لوهلة: «كيف تعرف أنَّها لم تذهب طوعًا؟» وتابَع: «لم يكن من غير الشائع للسيدات ذوات الشأن اللائي سَئِمنَ حياة البلاط الملكي أن يَرْكنَّ إلى الرهبنة. لم تكن حياةً قاسية. لديَّ بالفعل فكرةٌ عن أن حياة الرهبنة كانت مُريحة جدًّا للنساء الثريَّات.»

«لقد جرَّدها هنري من كل ما تملك، وأمر بها إلى دَير الراهبات في بِرموندسي. وقد أثار هذا الأمر ضجَّة، بالمناسبة. إذ يبدو أنه كان يُوجَد «الكثير من التساؤلات».»

«لست مُتفاجئًا. يا له من أمرٍ استثنائي. هل أعطى هنري مُبررًا لذلك.»

«أجل.»

«ماذا قال عن سبب تدميره لها؟»

«إنها كانت لطيفة مع ريتشارد.»

«هل أنت جاد؟»

«بالتأكيد.»

«أكان ذلك هو التبرير الرسمي؟»

«لا. تلك رواية مؤرِّخ هنري الأليف.»

«فيرجيل؟»

«أجل. وقد نصَّ أمر المجلس الذي جعلها حبيسةً أنَّ ذلك كان «لأجلِ اعتباراتٍ عديدة».»

سأله جرانت مُرتابًا: «أتقتبس حرفيًّا؟». فأجابه: «أجل، أقتبس. هذا ما هو مكتوب: «لأجل اعتباراتٍ عديدة».»

وبعد لحظةٍ قال جرانت: «لم يكن يتمتع بموهبة في اختلاق الأعذار، أليس كذلك؟ لو كنتُ مكانه لأتيت بستة أعذار أفضل.»

«إما أنه كان لا يهتمُّ أو أنه كان ينظر للآخرين على أنهم ساذجون للغاية. وليَكُن في علمك، لم يُقلِقه تَعاملُها اللطيف مع ريتشارد إلا بعد مرور ثمانية عشر شهرًا من خلافته لريتشارد. حتى ذلك الحين كان كلُّ شيءٍ يسير بسلاسة ويُسرٍ على ما يبدو. حتى إنه قدَّم لها الهدايا والضيعات وما إلى ذلك، حين خَلَف ريتشارد.»

«ماذا كان سببه الحقيقي؟ ألدَيك أي اقتراحات؟»

«في الواقع، لديَّ شيءٌ آخر بسيط قد يُمدُّك بالأفكار. وقد أمدَّني بفكرةٍ جَهنَّمية.»

«هاتِ ما عندك.»

«في شهر يونيو من ذلك العام …»

«أي عام؟»

«أول عام من زواج إليزابيث. عام ١٤٨٦. العام الذي تزوَّجت فيه في شهر يناير وأنجبت الأمير آرثر في وينشستر في شهر سبتمبر، في حضور والدتها التي كانت ترقُص من السعادة.»

«حسنًا. أكمِل.»

«في شهر يونيو من ذلك العام، تلقَّى السير جيمس تيريل عفوًا عامًّا. في السادس عشر من يونيو.»

«لكن ذلك لا يعني الكثير. كان أمرًا شائعًا جدًّا. في نهاية مدَّة الخدمة. أو عند بداية فترةٍ جديدة من الخدمة. كان يعني ببساطةٍ أنك مُبرَّأ من أيِّ شيء قد يستخدمه أيُّ أحدٍ ضدك فيما بعد.»

«أجل، أعرف. أعرف ذلك. العفو الأول ليس هو الأمر المُثير للدهشة.»

«العفو «الأول»؟ أكان يُوجَد عفوٌ ثانٍ؟»

«أجل. ذلك هو العامل الحاسم. حصل السير جيمس على عفوٍ عامٍّ ثانٍ بعد شهرٍ واحد بالضبط. في يوم السادس عشَر من شهر يوليو لعام ١٤٨٦ على وجه الدقة.»

قال جرانت وهو يُفكِّر: «أجل.» واستطرد: «ذلك حقًّا أمرٌ غير عادي.»

«إنه أمرٌ غير عادي للغاية، بأي حال من الأحوال. وقد سألت شابًّا يعمل بجواري في المتحف البريطاني — يُجري أبحاثًا تاريخية، ولا أستحي أن أقول إنه كان مصدر عونٍ كبير لي — فقال لي إنه لم يُصادف قطُّ أمرًا كهذا. أريته المُدخلَين، في كتاب «بيان وقائع هنري السابع»، فراحَ يتأمَّلهما كأنه عاشقٌ وَلْهان.»

قال جرانت وهو يُفكِّر: «في السادس عشر من شهر يونيو، مُنِح تيريل عفوًا عامًّا. وفي يوم السادس عشر من شهر يوليو مُنِح عفوًا عامًّا آخر. وفي نوفمبر تقريبًا تعود أمُّ الصبيَّين إلى المدينة. وفي شهر فبراير تُحتجَز مدى حياتها.»

«أيُوحي هذا بشيء لك؟»

«يُوحي بالكثير.»

«أتظنُّ أنه فعلَها؟ تيريل؟»

«هذا مُمكن. إنَّ ممَّا يُوحي بدلالاتٍ كثيرة أنه حين نجد الخَرق في النمط الذي كُنَّا نبحث عنه، نجد تيريل موجودًا بأكثرِ خَرقٍ غير معقول في نمطه الخاص. متى أصبحتْ شائعة اختفاء الأطفال متداولة؟ أقصد، متى أصبحت شيئًا يتحدَّث عنه الجميع.»

«يبدو أن ذلك كان في وقتٍ مُبكِّر إلى حدٍّ بعيد من فترة حكم هنري.»

«أجل، يبدو هذا مُناسبًا. من المُؤكَّد أن من شأن هذا أن يُفسِّر الأمر الذي حيَّرني منذ بداية هذه المسألة.»

«ماذا تقصد؟»

«من شأنه أن يُفسِّر عدم حدوث ضجة حين اختفى الصبيَّان. كان هذا أمرًا يُثير الحيرة دومًا، حتى لدى أولئك الذين ظنُّوا أن ريتشارد هو من فعلها. وفي الواقع، حين تُفكِّر في الأمر تجد أن من المُستحيل أن يفلت ريتشارد بفعلته. إذ كانت تُوجَد معارضةٌ كبيرة وفاعلة وقوية للغاية في أيام ريتشارد، وقد تركهم أحرارًا ومُتناثرين في أرجاء البلاد ليُكملوا حياتهم كما يحلو لهم. كان لدَيه حشد آل وودفيل وآل لانكستر ليتعاطى معهم لو أنَّ الصبيَّين اختفيا. لكن من ناحية التدخل والفضول الذي لا داعيَ له كان هنري آمنًا تمامًا. إذ كان قد احتاط بأنْ سجن مُعارِضيه. كان مصدر الخطر الوحيد المُحتمل هو أم زوجته، وفي اللحظة التي أصبحت فيها قادرة على أن تكون مصدر إزعاج وُضِعت هي أيضًا قيد الاحتجاز المُشدَّد.»

«أجل. ألا تظنُّ أنه كان يُوجَد «شيء» بوسعها فِعله؟ حين وجدَت أنها تُمنع من الحصول على أخبار الصبيَّين.»

«ربما لم تعلم قطُّ أنهما كانا مفقودَين. ربما قال لها ببساطة: «رغبتي هي أنكِ لا ينبغي لكِ رؤيتهما. أرى أنكِ ذات تأثيرٍ سيِّئ عليهما؛ أنتِ يا من خرجتِ من الدير وسمحتِ لبناتكِ بأن يذهبن إلى حفلات ذلك الرجل!».»

«أجل، هكذا هو الأمر بالطبع. لم يكن يتعيَّن عليه أن ينتظر حتى يعتريَها الشك بالفعل. ربما تمَّ الأمر برُمَّته في خطوةٍ واحدة. لعله قال لها: «أنتِ امرأةٌ سيئة، وأمٌّ سيئة؛ وسأُرسلكِ إلى أحد الأديرة لأُنقِذ روحكِ وأطفالك من وجودكِ المُفسِد».»

«أجل. وفيما يخصُّ بقيَّة إنجلترا، كان الرجل آمنًا بقدرِ ما يمكن أن يكون أي قاتل على الإطلاق. فبعد فِكرته السعيدة عن اتهامات «الخيانة»، ما كان أحد ليشرئبَّ برأسه ليسأل عن صحة الصبيَّين بصفةٍ خاصة. لا بدَّ أن الجميع كانوا حذِرين للغاية. فلم يكن أحدٌ يعلم ما قد يُفكِّر فيه هنري تاليًا ليجعله جريمة بأثرٍ رجعي من شأنها أن تُوديَ بحياتهم في طيِّ النسيان وبمُمتلَكاتهم في جُعبة هنري. لا، لم يكن الوقت مُناسبًا ليكونوا فضوليين أكثر من اللازم بشأنِ أيِّ شيء لم يكن يخصُّهم. لا يعني ذلك أنه ليس من السهل، على أي حال، أن يُرضيَ المرء فضوله.»

«تقصد مع وجود الصبيَّين في البرج.»

«مع وجود الصبيَّين في برجٍ يحرسه رجال هنري. لم يكن هنري يتمتع بسلوك ريتشارد الذي كان يحضُّ على التلاقي والعيش مع ترك فرصة للغير لأن يعيشوا. ولم يكن هنري يُواجه تَحالفًا كتحالف آل يورك وآل لانكستر. لا بدَّ أن الأشخاص القائمين على البرج كانوا من رجال هنري.»

«أجل. لا بدَّ بالطبع أنهم كانوا كذلك. هل تعلم أن هنري كان أول ملك إنجليزي يتَّخذ حُراسًا شخصيين له؟ أتساءل ما الذي قاله لزوجته عن إخوتها.»

«أجل. سيكون من المُشوِّق معرفة هذا. ربما حتي أخبرها بالحقيقة.»

«هنري! مُستحيل! كان هنري سيتكلَّف عناءً كبيرًا يا سيد جرانت من أجل أن يُقرَّ بحقيقةٍ بسيطة كحقيقةِ أن مجموع اثنين زائد اثنين يُساوي أربعة. صدِّقني، كان الرجل كالسلطعون؛ ما كان ليتقدَّم نحو شيء في خطٍّ مستقيم قَط.»

«لو كان الرجل ساديًّا لأخبرها دون أن يخشى عقابًا. فعمليًّا، لم يكن يمكنها فِعل شيء حيالَ الأمر. حتى ولو أرادت أن تفعل. وربما لم تكن ترغب بشدة في فعل شيء. كانت قد قدَّمت وريثًا لعرش إنجلترا، وكانت تستعدُّ لتقديم وريث آخر. ربما لم يكن لدَيها رغبة في أن تشنَّ عليه حملة، خاصةً لو كانت حملةً ستُزلزِل الأرض من تحت قَدمَيها.»

قال كارادين الشابُّ بنبرةٍ حزينة: «لم يكن هنري ساديًّا.» كان حزينًا لأنه منح هنري فضيلةً سلبية. واستطرد يقول: «بطريقةٍ ما كان على العكس تمامًا. لم يكن يستمتع بالقتل على الإطلاق. كان عليه أن يُجمِّل الأمر لنفسه قبل أن يتحمَّل التفكير فيه. كان عليه أن يُزيِّنه بالقانون. إن كنتَ تظنُّ أن هنري كان مُستمتعًا بالتبجح أمام إليزابيث في فراشهما بشأن ما فعله بأخوَيها، فأظنُّ أنك مُخطئ.»

قال جرانت: «أجل، على الأرجح.» واضطجع يُفكِّر في هنري. ثم قال بعد بُرهة: «لقد فكَّرت للتوِّ في الصفة المناسبة لهنري. كان رديئًا. كان مخلوقًا رديئًا.»

«أجل. حتى إن شَعره كان خفيفًا وقليلًا.»

«لم أقصد جسديًّا.»

«أعلم أنك لم تكن تقصد ذلك.»

«كل ما فعله كان رديئًا. فكِّرْ في الأمر، «شوكة مورتون» هي أردأ طريقة لإدرار العوائد في التاريخ. لكن لم يكن الأمر مُتعلقًا بجشَعه للمال فحسب. كل ما يخصُّه يتَّصف بالرداءة، أليس كذلك؟»

«أجل. ما كان الدكتور جيردنر سيُعاني من أي مشكلة في محاولةِ جعلِ تصرفاته مُلائمة لشخصيته. كيف أبلَيتَ مع الدكتور؟»

«دراسة رائعة. أظنُّ أنه لولا فضل الرب لكان الدكتور المُبجَّل سيكسب قُوتَه من الإجرام.»

«لأنه غَش؟»

«لأنه لم يَغُش. كان واضحًا كالشمس. كل ما في الأمر أنه لم يتمكَّن من الانتقال بطريقةٍ منطقية من نقطة إلى أخرى.»

«لا بأس، سأسمع.»

«يُمكن للجميع أن ينتقل مَنطقيًّا من النقطة أ إلى النقطة ب، حتى لو كان طفلًا. ويمكن لمُعظم البالغين أن ينتقلوا منطقيًّا من النقطة ب إلى النقطة ج. لكن كثيرين لا يمكنهم ذلك. مُعظم المجرمين لا يُمكنهم ذلك. قد لا تُصدِّق هذا؛ أعرف أن هذا يُعَد تدنيًا مُريعًا من المفهوم الشائع عن المجرم بصفته شخصيةً جَسورة وجذَّابة، لكن العقل الإجرامي في الأساس عقلٌ ساذج. ولا يمكنك في بعض الأحيان أن تتخيَّل مدى سذاجته. سيَتعيَّن عليك أن تُجرِّب الأمر لتُصدِّق مدى افتقارهم إلى قدرات المنطق. فقد يَصِلون إلى النقطة ب، لكنهم يكونون غير قادرين على الانتقال إلى النقطة ج. تجدهم يضعون شيئَين مُختلِفَين وغير مُتوافِقَين تمامًا جنبًا إلى جنب ويُفكِّرون فيهما باطمئنانٍ لا جدال فيه. لا يُمكنك أن تَحمِلهم على رؤية أنهم لا يُمكنهم الحصول على هذَين الشيئين معًا، أكثر من قُدرتك على حَملِ رَجل لا يتمتَّع بذَوق على أن يرى أن مِن المُستحيل مُحاكاةَ العوارض من طِراز تيودور عن تثبيت طبقات من خشب الأبلكاش بالمسامير إلى الجملون. هل بدأت في كتابك؟»

«في الواقع، بدأتُ بدايةً مبدئية نوعًا ما. أعرف الطريقة التي «أريد» أن أكتبه بها. أقصد شكلَه. آمُل أنك لن تُمانع.»

«ولماذا أمانع؟»

«أُريد أن أكتبه بالطريقة التي حدث بها. أُريد أن أكتب عن مَجيئي لزيارتك، واستهلالنا مسألة ريتشارد بطريقةٍ عارضة تمامًا، وعدم معرفتنا لِما كنَّا نمضي إليه، وكيف الْتَزمنا بما حدث بالفعل وليس بما رَوى أحدُهم عنه بعد حدوثه، وكيف بحثنا عن الخرق في النمط المعتاد الذي من شأنه أن يُشير إلى أين وقع الفعل الشِّرير، كالفقاقيع التي تتصاعد من غوَّاصٍ يغوص عميقًا تحت الماء، وهكذا على نفس الشاكلة.»

«أظنُّ أن هذه فكرةٌ عظيمة.»

«فعلًا؟»

«أظنُّ ذلك بالفعل.»

«حسنٌ إذَن. سأستمرُّ في هذا. وسأُجْري بعض الأبحاث عن هنري، فقط كنوعٍ من الزخرف للكتاب. أرغب في أن أكون قادرًا على وضع سِجلاتهما التاريخية جنبًا إلى جنب. حتى يتسنَّى للناس المقارنة بأنفسهم. هل تعرف أن هنري ابتكر محكمة «غرفة الملك»؟»

«أكان هنري من فعَل ذلك؟ كنت قد نسيتُ هذا. «شوكة مورتون» ومحكمة «غرفة الملك». عيِّنة كلاسيكية عن المُمارَسات الذكية، وعيِّنة كلاسيكية كذلك على الطغيان. لن تُواجِه صعوبةً في التمييز بين الصورتَين المُتنافِستَين، حقًّا! إن «شوكة مورتون» و«غرفة الملك» يُمثِّلان تباينًا مقبولًا مع «منحِ حقِّ الكفالة»، و«منع ترهيب المُحلِّفين».»

«أكان ذلك في برلمان ريتشارد؟ حقًّا، يا له من كمٍّ كبير من القراءة عليَّ أن أُنجِزه. إن أتلانتا في خصامٍ معي. وتكرهك بشدة. تقول إنَّ نفعي لأي فتاة بقدرِ نفع موضة العام الماضي. لكنْ صدقًا يا سيد جرانت، هذه هي المرة الأولى في حياتي التي يَحدُث لي فيها شيءٌ مُثير. أقصد شيئًا مُهمًّا. ليس معنى مُثير أنه مُثير. فأتلانتا مُثيرة لي. إنها كل الإثارة التي أردتُ أن أحصل عليها يومًا. لكن أيًّا منَّا لا يُمثِّل أهمية، بالطريقة التي أقصد بها معنى الأهمية، إن كنتَ تفهم ما أقصد.»

«أجل، أفهم. لقد وجدتُ شيئًا يَستحقُّ أن يُفعَل.»

«ذاك بالضبط. لقد وجدتُ شيئًا يستحقُّ أن يُفعَل. وأنا من سيفعله؛ ذلك هو الرائع في الأمر. أنا، ابن السيدة كارادين الصغير. لقد أتيتُ إلى هنا مع أتلانتا، ولم يكن لديَّ فكرة عن أي شيء سوى استخدام حيلة إجراء الأبحاث بصفتها حُجة. ذهبت إلى المتحف البريطاني من أجل الحصول على بعض المعلومات حتى يهدأ والدي، فخرجتُ منه بمهمة. ألا يُزلزلك هذا؟!» ثم نظر إلى جرانت مُفكِّرًا. وقال: «هل أنت واثق تمامًا، يا سيد جرانت، من أنك لا تُريد كتابة هذا الكتاب بنفسك؟ ففي النهاية، هذا شيءٌ عظيم.»

فقال جرانت بنبرةٍ صارمة: «لن أكتب كتابًا أبدًا.» وأضاف: «ولا حتى كتابًا بعنوان «العشرين عامًا التي قضيتها في سكوتلاند يارد».»

«ماذا! لن تكتب حتى سيرتك الذاتية؟»

«ولا حتى سيرتي الذاتية. رأيي المدروس في هذا الشأن أنَّ كُتبًا أكثر من اللازم قد كُتِبت بالفعل.»

فقال كارادين، وقد بدا مُتألِّمًا بعض الشيء: «لكن هذا كتابٌ ينبغي أن يُكتَب.»

«بالطبع. لا بدَّ أن يُكتب هذا الكتاب. أخبِرني: ثَمة شيء نسيتُ أن أسألك عنه. كم من وقتٍ كان قد مضى حين أُرسِل تيريل إلى فرنسا بعد حصوله على العفو المزدوج؟ بعد خدمته المُفترَضة لهنري في يوليو من عام ١٤٨٦، متى أصبح قائد حصن جوينيس؟»

تلاشى مظهر الألم الذي كان باديًا على كارادين، وبدا ماكرًا بقدرِ ما أمكنَه أن يبدوَ بوجهِ الحمَل المُزغب اللطيف ذلك.

وقال: «كنت أتساءل في نفسي متى ستسأل ذلك السؤال.» وأردف: «كنت سأُخبرك بذلك لدى خروجي لو كنت قد نسيت أن تسألني. والإجابة هي: على الفور تقريبًا.»

«هكذا إذَن. حصاةٌ صغيرة أخرى مناسبة للفُسَيفساء. أتساءل إن كان قد تصادف أن منصب قائد الحصن صار خاليًا أم إن هنري أرسله إلى فرنسا لأنه كان يريد أن يُخرجه من إنجلترا.»

«أُراهن أن العكس هو ما حدث، وأن تيريل هو الذي أراد أن يُغادِر إنجلترا. لو كان هنري السابع هو حاكمي، فمن المُؤكَّد أنني كنت سأُفضِّل أن يحكمني عن بُعد. خاصةً لو كنت قد أدَّيتُ له مَهمةً سِرية، وكان سيصبح من الأفضل لهنري لو أنني لم أعِش حتى سنٍّ كبيرة جدًّا.»

«أجل، لعلك مُحقٌّ. لم يُغادِر الرجل إلى خارج البلاد فحسب، بل ظلَّ هناك، كما لاحظنا بالفعل. هذا شيءٌ مُثير للاهتمام.»

«لم يكن هو الوحيد الذي ظلَّ خارج البلاد. فعَل جون دايتون ذلك أيضًا. لم أتمكَّن من معرفة هُويَّة كل الأشخاص الذين كان من المفترَض أنهم كانوا بالفعل مُتورِّطين في جريمة القتل. فكل روايات آل تيودور عن ذلك مختلفة، وأظن أنك تعرف هذا. بالفعل معظم هذه الروايات مختلف لدرجةِ تناقضها التام بعضها مع بعض. فمُؤرِّخ هنري الأليف بوليدور فيرجيل يقول إن الجريمة ارتُكِبت حين كان ريتشارد في يورك. وطبقًا لما أورد مور المعظم، فإن هذا كان أثناء رحلةٍ أسبق، حين كان ريتشارد في ورويك. وتختلف الشخصيات باختلاف الروايات. لذا من الصعب فَرزُها. لا أعرف من كان ويل سلاتر — بلاك ويل بالنسبة إليك، وهي محاكاةٌ صوتية أخرى — أو مايلز فوريست. لكن كان يوجد شخص يُدعى جون دايتون. يقول جرافتون إنه عاش طويلًا في كاليه «مُحتقَرًا بقدرِ ما كان يُشار إليه بالبنان»، ومات هناك في بؤسٍ عظيم. كم كانوا يتمتَّعون بأخلاقٍ طيبة حقًّا. لم يكن الفيكتوريون بأفضل منهم.»

«لو أن دايتون كان فقيرًا معدمًا فلا يبدو أنه أدَّى أي مهمة لحساب هنري. ماذا كانت مهنته؟»

«في الواقع، إن كان هو جون دايتون المقصود فقد كان قسًّا، ولم يكن معدمًا بالمرَّة. كان يعيش في رفاهيةٍ كبيرة من عائدات هذه الوظيفة اليسيرة. أعطى هنري لجون دايتون منصب كاهن فولبِك، بالقرب من جرانثام، وهي في لينكولنشاير، يوم الثاني من مايو عام ١٤٨٧.»

قال جرانت مُتباطئًا في الحديث: «حسنًا، حسنًا.» وتابَع: «١٤٨٧. وكان أيضًا يعيش خارج البلاد في بُحبوحة.»

«آه. رائع، أليس كذلك؟»

«هذا رائع. وهل يشرح أيُّ أحد كيف أن دايتون المعروف لم يُؤتَ به إلى البلاد مُكبَّلًا ليُشنَق جزاءً على قتله الملك؟»

«أوه، لا. لا شيء كهذا. مُؤرِّخو آل تيودور … ألم يكن أيٌّ منهم يُفكِّر بمنطقية في كيفية الانتقال من النقطة ب إلى النقطة ج.»

فضحكَ جرانت. وقال: «أرى أنك تعلَّمت.»

«بالطبع. أنا لا أتعلَّم التاريخ فحسب. إنني أنحني إجلالًا لسكوتلاند يارد فيما يتعلَّق بموضوع تحليل العقل البشري. في الواقع، سنكتفي بهذا القدر الآن. إن كنت تشعر بأنك قوي بما يكفي فسأقرأ عليك أول فصلَين في الكتاب في المرة التالية التي آتي فيها.» ثم توقَّف برهةً وعاد يقول: «هل تُمانِع يا سيد جرانت لو أهديت هذا الكتاب لك؟»

فقال جرانت في استهانة: «أرى أن من الأفضل لو أهديته إلى كارادين الثالث.»

لكن يبدو أن كارادين لم يرَ الأمر موضع استهانة.

فقال بمسحة من الصلابة: «أنا لا أستخدم الإهداء من باب التملُّق.»

فردَّ جرانت بسرعة: «أوه، ليس تملقًا.» وأردف: «إنما هي مسألة سياسة.»

وقف كارادين في منتصف الغُرفة، مُكتسيًا بطابَعٍ رسمي أمريكي مُنفعل، ومُحاطًا بطيَّات مِعطفه الفوقي الواسع، وقال: «ما كنت لأبدأ هذا الأمر قطُّ لولا أنت يا سيد جرانت.» وأضاف: «وأحب أن أُقدِّم الإقرار الواجب بدَيني لك.»

تَمتَم جرانت: «سيكون هذا من دواعي سروري بالطبع»، فعاد الشابُّ ذو المظهر الملكي الواقف في منتصف الغُرفة إلى صِبيانيَّته مرةً أخرى وانتهت اللحظة المُحرِجة. غادَر كارادين بفرح وخُطًى رشيقة كما أتى، وبدا وكأن وزنه ازداد بمقدار ثلاثين باوند، وصدره انتفخ بمقدار اثنَي عشر إنشًا أكثر مما كان قبل ثلاثة أسابيع.

وأخذ جرانت المعلومات الجديدة التي حصل عليها، وعلَّقها على الجدار المُقابل، وراح يُحدِّق فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤