آلام مبرِّحة!

جزيرة من؟ وأين هذه الجزيرة؟

ولماذا أنا هنا؟ ومن الذي أحضرني؟

وماذا حدث لي؟ وأين كنت؟

آه … إن رأسي يؤلمني بشدة. إنه صداع فظيع.

كادت رأس «إلهام» تتحطَّم بين يدَيها وهي تحاول تخفيف حِدة الألم الذي لا تعرف له سببًا، وانتفضت واقفةً تلتفت حولها يمينًا ويسارًا، محاوِلةً تذكُّر ما حدث لها قبل أن تستيقظ لتجد نفسها في هذه الجزيرة.

إن كل ما تراه ويحيط بها … جديد عليها.

فلا أشجار الموز العملاقة التي يزخر بها المكان.

ولا أشجار «جوز الهند» الفارعة الطول تُذكِّرها بشيء.

وإن كان هناك شيء تذكره … فهو أنها لم ترَ هذا المكان من قبل.

وأيضًا هذا النبع الرقراق الصافية مياهه … والذي تحفه الأشجار القصيرة والورود من كل لون وصنف.

غير أن هذا النبع قد ذكَّرها بأنها ظمآنة … وقد أغرتها مياهه.

فأسرعت الخطى إليه، غير عابئة بما يمكن أن تكون عليه.

وحدَّثت نفسها قائلة: ماذا سيُصيب هذا الماء النقي الذي يكشف عمَّا بالقاع من شدة صفائه؟

وإن كان به شيء ضار … فكيف عمرت حوله الحياة هكذا … وهو مصدر الماء الوحيد الذي أراه؟

ودون مزيد من التفكير، مدَّت كفَّيها تغترف من مياهه … وتضع في فمها … والعطش يزيد نهمها، فلا ترتوي، ولا تكاد تشعر بالشبع رغم كثرة ما شربت.

وشيئًا فشيئًا بدأت تستعيد كامل وعيها، وقد حرَّك الماء في جوفها شعورها بالجوع.

ولم تجد ما يصلح للأكل غير أصابع الموز العملاقة التي تتدلَّى من الأشجار المحيطة بها.

وقد كانت لذيذة الطعم جدًّا، ويكفي الواحد منها وجبة غذاء كاملة.

ومن أعلى لمحت صاروخًا يسقط في اتجاهها … فتفادته قافزةً بمهارة بعيدًا عن موقع سقوطه … وهي تقول: ليس مرةً ثانية.

وعند اصطدامه بالأرض أحدث فرقعةً مكتومة، فانحنت تلتقطه في سعادة لتشرب ما بداخله … فقد كان الصاروخ ثمرة جوز هند كبيرة، وهي تحب ما بداخلها؛ ذلك السائل الذي يُطلقون عليه «اللبن».

وعلى الأرض جلست ساندةً ظهرها على جذع الشجرة صاحبة الثمرة، لتضعها على فمها وترفعها لأعلى، فتفرغ ما في جوفها.

ورنَّ في أذنَيها جملتها الأخيرة التي قالتها: ليس مرةً ثانية.

وتعجَّبت … فماذا كانت تعني بهذه الجملة؟

هل تعني أنها تعرَّضت لسقوط ثمرة «جوز الهند» على رأسها قبل ذلك … وأين؟ … ومتى؟

وتساءلت: أيكون ذلك هو سبب الصداع الشديد الذي كانت تشعر به، ولا زالت تعاني من آثاره؟

وهذا يعني أنها فقدت وعيها على أثر هذه الصدمة!

إذن متى حدث ذلك؟

ومن الذي أتى بها إلى هنا؟

ومن كان معها … أم إنها كانت وحدها؟

إنها تعرف من هي، وتتذكَّر كل شيء عن حياتها.

ونفضت فجأةً رأسها، وفتحت عينَيها على آخرهما وهي تحاول تذكُّر أحداث بعينها لتُثبت لنفسها من ناحية … أنها لا زالت تحتفظ بذاكرتها.

ومن ناحية أخرى تحاول تنشيطها لتستطيع الإجابة على كل ما يحيط بها من علامات استفهام؟

نعم … إنها تتذكَّر طفولتها في بيروت … تتذكَّر جبال الأَرْز والجليد الذي يُغطِّيها في الشتاء، فيُحيلها إلى قطعة كبيرة من القطن.

تتذكَّر جيدًا «صيدا» وشاطئ البحر الأبيض.

تتذكَّر جدتها العجوز … لا … لم تكن عجوزًا … إنها كانت تراها كذلك بعيون طفلة.

ووضعت يدها على رأسها الذي عاوده الألم وهي تقول: آه يا «إلهام» … أنت لا زلت طفلة.

واستطردت تقول: نعم … أنا ما زلت طفلة … فلا زلت أحلم بعودة أبي وأمي من المهجر إلى بيروت لنعيش سويًّا هناك، وأتأبط ذراع «شادي»، لقد أوحشتني كثيرًا يا «شادي».

كانت هذه آخر جملة تقولها قبل أن تروح في نوم عميق.

وعندما استيقظت … كان النهار قد انتصف، والشمس في كبد السماء تبدو من بين أوراق أشجار الموز المتعانقة … وكأنها تتلصَّص عليها وتراقبها في نومها.

وعندما داعبت أشعتها عينَيها … وضعت ذراعها عليها في تثاقل.

غير أنها شعرت بأن الأرض تحتها تهتز.

ولم تستطع تحديد سبب ذلك؛ إن كان زلزالًا … أم بركانًا يوشك أن ينفجر.

غير أن صوت عيدان الأشجار الجافة التي تتكسَّر … وحفيف أوراق الأشجار العالي الصوت، أنبأها أن حيوانًا ضخمًا يجوب الجزيرة.

فانتفضت واقفةً تمسح عينَيها وهي تُفكِّر فيما يمكن عمله في هذا الموقف، وهل تتسلَّق إحدى شجرات الموز هذه … أم شجرة «جوز الهند» … التي لا يستطيع صعودها فيل ولا خرتيت.

ولكن هل تستطيع هي صعودها؟

حتى وإن كانت تستطيع، فليس ذلك حلًّا لِمَا هي فيه، وعليها أن تتصل بزملائها من جماعة الشياطين لتستعين بهم في هذا الموقف، ولكن أين ساعتها؟ إنها لا ترتديها، وليس معها وسيلة اتصال أخرى.

وأخيرًا رأت أن تصعد إحدى أشجار الموز، لا للاختباء، ولكن … لاستطلاع المكان حولها، ومعرفة منافذه، والوقوف على ما به من كائنات حية غيرها.

وبخفة القطط ومهارة الفهود، تسلَّقت أقرب شجرة موز لها … ففوجئت بجلبة شديدة، وكائن يقفز تاركًا الشجرة متنقِّلًا إلى غيرها.

وحين أمعنت النظر فيه، همست قائلةً في نفسها: آه قرد … نعم قرد ضخم … فالشجرة ضخمة، وأصابع الموز ضخمة! وإن كل ما في هذه الجزيرة … ضخم.

وحرَّك ما رأته «إلهام» في نفسها مشاعر الشك في يقظتها وقدرتها على التركيز … وأثار في نفسها تساؤلات أخرى عن حقيقة ما ترى … وهل هو بهذا الحجم الذي تراه حقًّا … أم إن الإعياء قد أصابها.

فالأشخاص ضخمة، والثمار ضخمة، والقرود ضخمة، والأصوات التي سمعتها مبالغ فيها، فهل كل ذلك حقيقي؟ أم إن هناك من يقصد ذلك؟ … أم إنها تتوهَّم كل هذا؟

وشعرت بدوار يكاد يُسقطها، فأسرعت بالنزول غير عابئة بمصدر الصوت … وما كادت تجلس ساندةً ظهرها على جذع الشجرة حتى راحت في غيبوبة عميقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤