في اتجاه الطائرة!

على الجانب الآخر لم يكن «أحمد» أحسن حالًا من «إلهام»؛ فقد كانت قدماه تؤلمانه بشدة، ورأسه أيضًا … ورغم وعيه لِمَا حوله إلا أنه لم يتذكَّر كيف أتى إلى هذا المكان.

وتحامل على نفسه جاهدًا حتى تمكَّن من الوقوف، مستندًا على أحد فروع الأشجار الملقاة بجواره …

ودار دورةً واسعة في المكان، مستطلعًا تفاصيله التي ذكَّرته شيئًا فشيئًا بالحادث الذي أتى به إلى هذا المكان.

إنه ليس وحده هنا؛ لقد كان معه «عثمان» و«إلهام»، فأين هما الآن؟ لقد كانا يستقلان معه طائرةً مروحية صغيرة يدورون بها فوق الجزيرة … وكانت المهمة هي محاولة إنقاذ رجل صناعة عربي كبير من القتل.

وكان رقم «صفر» قد كلَّفهم بالمهمة، بعد أن وصل للسلطات الأمنية عدة رسائل تهديد بالقتل من رجل الصناعة المدعو «أدهم»، وكان قد عثر عليها في أماكن مُتفرِّقة من مملكته … فمنها ما وجدوها في مكتبه، ومنها ما وجدوها في غرفة نومه … والمثير في الأمر أنه وجد إحدى هذه الرسائل في جيب سترته.

وقد أجرت السلطات الأمنية تحريات دقيقةً عن كل المحيطين به، وكل المتعاملين معه، حتى العاملين في بيته لم يُستَثنوا من هذه التحريات.

أمَّا لماذا حضروا إلى هذه الجزيرة؛ فلأنها … لأنها …

وشعر بدوار شديد … وصداع يكاد يفتك برأسه … ولم يفلح معه ما تعلَّمه من أساليب العلاج الطبي بتدليك الجبهة وغيرها … فقام بتقشير أغلفة بعض أفرع الأشجار، وصنع منها حبلًا، ربط به رأسه رباطًا محكمًا حتى جحظت عيناه، ثم ترك نفسه ليسقط جالسًا مكانه … فوجد بالمصادفة إصبع موز كبير ملقًى بجواره، ففحصه جيدًا قبل أن يقوم بتقشيره وابتلاعه في نهم، يدل على شدة جوعه.

وشعر أن الصداع تخف حدته، فقام بالبحث عن إصبع موز آخر، فاكتشف أن أوارق الشجر التي تغطِّي الأرض حوله، تخفي تحتها الكثير منه.

فأشبع جوعه؛ ممَّا جعله يحتاج للماء، وهذا ما لم يرَ له أثرًا … فانتظر حتى رأى أسرابًا من الطيور الصغيرة تتجه إلى مكان بعينه، فراقبها وتحرَّك خلفها حتى وصل إلى نبع الماء، وعندما رآها تشرب في سكينة اطمأن إلى أن الماء صالح للشرب، فروى ظمأه وجلس يتابع حركتها حول النبع، وهو يسأل نفسه قائلًا: أليس في هذه الجزيرة حيوان واحد؟!

إن كل ما رآه هنا أشجار وطيور فقط!

ولم يكد يُتم جملته حتى لمح ثعبانًا جميل الألوان، لكنه ضخم للغاية يقترب من الماء في حذر، وبجوار النبع التف حول نفسه، ثم مدَّ رأسه إلى الماء ليشرب.

فامتنع «أحمد» عن الحركة، وأرهف حواسه يُتابع في شغف حركته في حذر حتى لا يُقلقه … ومضت لحظات كالدهر … قبل أن يفرد الثعبان جسمه، فتجحَّظت عينا «أحمد»؛ فقد رأى أنه يزيد على الخمسة أمتار طولًا.

وتعجَّب حين رآه يغوص تحت الماء وكأنما قد استهوته برودته … وظلَّ يراقبه وهو يتحرَّك جيئةً وذهابًا، في دوائر حينًا، وفي خطوط متعرجة حينًا آخر … وفجأةً مرق كالسهم بعيدا، واختفى في لمح البصر … وترك «أحمد» شاردًا غير مصدِّق لِمَا حدث.

وأخرجه من شروده ما شعرت به «إلهام» من قبل اهتزاز الأرض، وصوت احتكاك جسم ضخم بأوراق وأفرع الأشجار.

ولاحظ أيضًا أن سطح الماء يضطرب، فلم يبرح مكانه، وانتظر ليرى صاحب الجسم المهول الذي سبَّب كل هذه الضوضاء.

إلا أن الوقت طال، وانتصفت الشمس في كبد السماء، ولم يظهر أثر لذلك الكائن الخرافي.

وبدأ هو يستعيد كامل لياقته … فخلع الحبل عن رأسه، ونهض يجري بجوار النبع، ويقفز لأعلى، ويقوم ببعض الحركات السويدية لينشِّط دورته الدموية … ثم عاد إلى مكانه الأول، وسار يتفحَّص الأرض بعناية، مستعينًا بعصًا من فروع الأشجار، يقلب بها كل ما يجده في طريقه من أوراق وفروع، باحثًا عن ساعته وأجهزته الدقيقة، التي لا يستغني عنها.

وقد كان البحث شاقًّا … فالأرض في هذا المكان مفروشة بأوراق الأشجار الصفراء والفروع الجافة.

وبالطبع لم يصل إلى شيء، وكان عليه أن يبحث عن «إلهام» و«عثمان»؛ حتى يقرِّروا سويًّا ما سيفعلونه.

وقد يجد أحدهما محتفظًا بأجهزته المعاونة، فيسهِّل عليه الاتصال بالمنظمة وبالسيد رقم «صفر». وبالطبع يتطلَّب منه ذلك إعداد خطة تحرُّك؛ فالمكان حوله غير محدَّد المعالم.

وأول بند في هذه الخطة، هو محاولة تذكُّر آخر موقف لهما سويًّا … وكان ذلك يحتاج منه أن يقدح زناد فكره … فرأى أنه إذا فكَّر بصوت عالٍ قد يصل إلى ما يريد.

فغمغم قائلًا: لقد كُنَّا في مطارة ما … نعم … نعم … ولكن نُطارد من؟

وهل كنا نطارده معًا … أم طاردناه حتى وصلنا إلى هنا؟

نعم … أكاد أتذكَّر.

السيد «أدهم» كان هناك من يهدِّده بالقتل.

لقد قمنا بالتحري عن كل المحيطين به … وبمراقبتهم في دأب، ولم نلاحظ شيئًا غير عادي.

آه … لقد بدأت أتذكَّر … لقد كُنَّا في طائرة …

طائرة صغيرة … وكنت أقودها أنا … وبجواري كانت تجلس «إلهام» … وكان يجلس خلفي «عثمان» …

ونفد الوقود فوق هذه الجزيرة.

وكنت أنا آخر من قفز من الطائرة …

وقبلي قفزت «إلهام» بناءً على أوامري.

لقد كانت من أول القافزين، ومن بعدها كان «عثمان» …

لم تكن بالطائرة مظلات … تُرى، ماذا حدث ﻟ «إلهام»؟

لقد قفزَت من ارتفاع كبير، ولكنها اعتمدت على سقوطها فوق تلال أوراق الأشجار الجافة التي تغطِّي الجزيرة.

فقد رأتها بمنظارها … ورأيتها أنا …

وأمرتها بالقفز، فقفزت، وبعدها بدقيقتَين تقريبًا قفز «عثمان».

إذن ﻓ «عثمانً لم يلتقِ بها حتى الآن.

وأين سقطت الطائرة إذن؟

سيكون أمرًا رائعًا لو أن «إلهام» و«عثمان» التقيا عند الطائرة.

إذن … ستكون حركتي في اتجاه الطائرة … فالبحث عنها سيوصلني إليها … ولكن كيف أجدها؟

الأمر يحتاج لأجهزة حديثة.

وظل «أحمد» يفكِّر بصوت عالٍ باحثًا عن طريقة تمكِّنه من العثور على الطائرة، غير السير على غير هدًى.

فالسير في الجزيرة ليس بالأمر الهين … لِمَا يغطِّي أرضها من أوراق الأشجار والفروع … وإن لم يكن هذا، فهناك الأوحال والمستنقعات التي تكوَّنت من تسرُّب مياه النبع، وتحوَّلت إلى بحيرة صغيرة، تغطِّيها الطحالب الخضراء، فتُحوِّلها إلى شَرَك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤