قرد الغابات!

الوحيد الذي كان موجودًا بجوار الطائرة، هو «عثمان» …

إنهم يطلقون عليه قرد الغابات؛ لمهارته في العيش فيها، وسرعة تحرُّكه على أرضها، وتسلُّق أشجارها …

إنه أقدر الشياطين على فهم طبيعة الغابات … والتعامل معها.

إنه يستطيع الانتقال من شجرة إلى شجرة، دون أن تطأ قدمه الأرض.

حتى إن أمهر القرود تغار منه، إذا ما رأت مهارته في القفز.

وقد استطاع العثور على الطائرة ببساطة وسرعة.

وذلك بأن تسلَّق شجرة جوز هند عاليةً للغاية، مثل أي قرد.

فأصبحت بالنسبة له برج مراقبة مكَّنته من كشف الجزيرة كلها.

وأول ما رآه هو الطائرة … وطبعًا لكبر حجمها.

أمَّا «أحمد» و«إلهام» … فلم يتمكَّنا من العثور عليها … لكثافة أوراق أشجار الموز، وغيرها من الأشجار المتشابكة الفروع.

ولكن المثير أنه عثر على ساعتَيهما الإلكترونيتَين، والتي يستخدمانهما كأجهزة اتصال أيضًا … وقد تمكَّن من ذلك لسببَين، هما:
  • أولًا: إن ساعته لم تضِع منه.
  • ثانيًا: إن الطائرة بها كل ما يحتاجه من أجهزة.

الأهم من هذا وذاك … أنه في غاية الذكاء، ويعرف كيف يستفيد ممَّا لديه من أجهزة؛ فعندما أراد الاتصال ﺑ «إلهام» ولم تردَّ عليه … أدار جهاز الرادار الخاص بالطائرة … وتتبَّع الإشارات الصادرة عن ساعتها وقت اتصاله بها.

وقد مكَّنه ذلك من العثور عليها وعلى ساعتها أيضًا.

وعرف وقتها أن وسيلة اتصالهم بالعالم قد انقطعت … وأن عليه هو أن يحاول العثور عليها بما لديه من إمكانات، وفَّرها له عثوره على الطائرة.

وقد اكتشف «عثمان» أن «أحمد» قفز من الطائرة قبل أن ينفد وقودها تمامًا …

وكان من الممكن أن تنفجر لو أنها سقطت على أرض صلبة.

غير أن أشجار الموز قد تلقَّفتها بأوراقها المتشابكة، وساعدت على بقائها بحالتها، عدا بعض التلفيات بالأجنحة.

وقد اطمأن «عثمان» بنفسه على محرِّكها حين أداره.

في الوقت الذي ظنته «إلهام» فيلًا ضخمًا.

وظنه «أحمد» حيوانًا خرافيًّا.

لقد كان يحاول الوصول إلى وسيلة يغادرون بها الجزيرة.

فها هي مياه المحيط تحيط بهم من كل جانب.

وليس بالجزيرة كلها ما يُمكِّنهم من مغادرتها.

ومنذ الصباح، وهو يحاول الاتصال بالمنظَّمة، أو بأقرب ميناء لهم … فلم تنجح له محاولة واحدة.

وفي نفس الوقت، كانت عيناه على السماء يَقِظة … وأذنه منصتة … فقد تمر فوقهم طائرة … فيقوم بالاتصال بقائدها.

أو يلفت نظره بإشعال بعض أغصان الأشجار الجافة.

أو تفجير عبوات مملوءة من وقود الطائرة … ولكن ها هو الوقت يمر …

فلا نجح اتصال، ولا مرَّت طائرة.

ولم يعد أمامه غير أن يعتمد على ما بين يدَيه من إمكانات.

وقبل ذلك عليه أولًا أن يعثر على زميلَيه التائهَين في الجزيرة.

لذلك كان يحاول إدارة الطائرة، أو إصلاح ما بها من عطل … فقد يمكنه التحليق بها ولو لفترة قصيرة، ثم يهبط مرةً أخرى.

ويكون «أحمد» قد رآها في هذه الأثناء، وكذلك «إلهام».

فيعرفان أين هبطت، ويستطيعان الوصول إليها، ويلتقون ثانية.

إلا أنه لم يصل معها إلى شيء حتى الآن، ورأى أنها تحتاج لمهارة «أحمد» … فلديه خبرة كبيرة في التعامل مع هذا النوع من الطائرات.

وتحوَّل الموقف إلى فزورة … فالوصول إلى «أحمد» يحتاج إلى الطائرة، وإطلاح الطائرة يحتاج إلى وجود «أحمد».

ولم يعد لديه وسيلة غير إشعال حريق كبير … يلفت أنظارهما، فيتحرَّكان في أثره.

إلا أن هذا الحريق يجب أن يمتد لمساحة كبيرة نسبيًّا، ويستخدم فيه وقود الطائرة؛ لأنه رأى مساحة الجزيرة وهم محلِّقون في الجو، وهي لا تقل عن أربعة كيلومترات مربعة.

ممَّا يعني أن وصول ألسنة الدخان لكل أطرافها … أمر محتمل وليس أكيدًا … والأمر الأكيد حقًّا … أن حريقًا في هذا الحجم … قد يمتد إلى باقي أنحاء الجزيرة، ولا يمكن السيطرة عليه … وبهذا يتحوَّلون إلى شواء لا حول له ولا قوة.

يا آه.

قالها «عثمان» في زفرة يأس …

ثم غمغم قائلًا: العجيب أن عدد الحيوانات في هذه الجزيرة قليل جدًّا!

فأنا لم أرَ حتى الآن غير ذلك القرد الفَزِع، الذي دخل يختبئ في الطائرة … فوجدني، فخرج يصرخ فزعًا، وهرول بعيدًا.

ثم استطرد يسأل نفسه قائلًا: تُرى ما الذي أفزعه؟ … وأين هو الآن؟

آه، لو كان هنا الآن لأمكنني الاستفادة منه في الوصول إلى «إلهام» و«أحمد».

ولم يكن القرد بعيدًا عن «عثمان»، بل كان يجلس فوق ذيل الطائرة … مختبئًا بين أفرع شجرة موز … منشغلًا في التهام سندوتش حصل عليه من الطائرة، أثناء انشغال «عثمان» عنها.

ولو كان قد رآه «عثمان» … لأُعجِب جدًّا بمنظره، وهو يغلق عينًا من عينَيه في رضًا واستمتاع بما يأكله … وبالأخرى يراقب «عثمان» جيئةً وذهابًا … في استمتاع أيضًا … وكأنه شعور متبادل بينهما … فكلٌّ منهما يرتاح للآخر … وكل منهما يحتاج لوجود الآخر … وفي محاولة أخرى لإدارة الطائرة للحفاظ على شِحنة البطاريات حتى لا يصيبها التلف … علا صخب محرِّكها … واهتزت اهتزازًا شديدًا.

ووسط كل ذلك سمع صوت صراخ عالٍ لا ينقطع …

فأوقف المحرِّك، وأسرع بالخروج ليستطلع الأمر، فوجد القرد يقفز كاليويو واضعًا يدَيه على رأسه، ولا يكف عن الصراخ.

فانشرح صدره جدًّا لوجوده، ولم يتمالك نفسه من الضحك.

وكان أول لقاء ودي بينهما … حيث مدًّ له «عثمان» يده بسندوتش ممَّا لديه من رصيد.

فتردَّد القرد كثيرًا قبل أن يقترب منه ويخطفه.

وعندما جلس بعيدًا يأكله، اقترب منه في حذر، وبيده هو الآخر سندوتش يأكله، وقد كان تصرُّفًا ذكيًّا منه؛ فقد احتفظ القرد بهدوء أعصابه، كما احتفظ بها «عثمان». وجلسا سويًّا يأكلان، بعيدَين عن بعضهما حقًّا … ولكن ليس كثيرًا …

ولو رآهما الشياطين على هذا الحال، ما مرَّ هذا اليوم دون تعليقات وضحكات وقفشات.

وقد دار ذلك برأس «عثمان»، وهو يتطلَّع إلى المكان حوله، ناظرًا بحذر إلى صديقه القرد، وكأنه يريد أن يسأله … هل سنستطيع سويًّا الخروج من ذلك المأزق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤