القرد صديقي!

عندما أوشكت الشمس على المغيب، انتاب «إلهام» كثير من القلق …

ففي الظلام تنشط حاسة الافتراس عند الحيوانات، وهي لا تعرف ماذا يخبِّئ نهار هذه الجزيرة لها … وماذا سيُظهره ليلها.

وفي الليل أيضًا يميل الجو للبرودة … بل البرودة الشديدة … لصغر مساحة الجزيرة، وإحاطة الماء بها من كل جانب …

فهل تتسلَّق إحدى أشجار الموز لتختبئ فوقها؟

إنها فكرة معقولة … ولكنها غير آمنة … فقد تجد عليها هذه المرة قردًا شرسًا … لا يوافق على ترك موقعه … وقد يتصرَّف معها بأسلوب غير لائق، وتُعرِّض نفسها معه للمخاطر …

ورغم ذلك فالفكرة جديرة بأن تحتال لتنفيذها.

فالتقطت بعض أصابع الموز الملقاة على الأرض، وقذفت بها في قمة الشجرة … انتظارًا لأن يبادلها أحد القرود قذفًا بقذف … إلا أن ذلك لم يحدث؛ ممَّا شجَّعها على تسلُّقها، والتمدُّد فوقها.

وخوفًا من أن تتقلَّب وهي نائمة فتسقطَ من عليها، شكَّلت من أوراقها المتجاورة سريرًا عريضًا، وجدلته جيدًا، ثم سمحَت لنفسها بالاسترخاء عليه … وحين غالبها النوم … انكمشت تحتمي ببعضها من برودة الجو.

وانسحبت الشمس من السماء، وجرت وراءها أذيال الضوء، لتحل على الجزيرة ستارة سوداء داكنة من ظلمة الليل، وكأن الشمس انسحبت من الكون كله.

وساعدت برودة الجو على استقطاب تلال السحب المحمَّلة بالماء … لتتوقَّف فوق الجزيرة، وتُلقي بكل ما لديها من ماء …

وشعرت «إلهام» بشيء مبتل يحتك بقدمَيها … فلم تصدِّق في أول الأمر، واستسلمت لتعبها، وعادت لنومها.

غير أن تكرار احتكاك هذا الجسم بقدمَيها وهو يرتجف بشدة، جعل النوم يطير من عينَيها …

وأعادها إلى كامل وعيها زمجرة الرعد الشديدة.

وعلى ضوء البرق، تمكَّنت من معرفة صاحب الجسم المبتل الذي يحاول الاحتماء بها من البرد والمطر …

ومع تكرار الرعد، ازداد التصاقًا بها … ومع تكرار البرق، لمحت في يده سندوتشًا، ممَّا أثار انتباهها ودهشتها … ورغبتها في معرفة نوع هذا السندوتش … وهل هو طازج أم إنه موجود في مكان ما على الجزيرة منذ زمن؟

ولكي تحصل منه على السندوتش، مدَّت يدها له بإصبع موز …

ولدهشتها، فقد اقتطع منه جزءًا، ومدَّ لها يده به في ود بالغ …

وما إن أمسكته وفتحته ورأت ما به، حتى عرفت أنها قريبة من «أحمد» أو «عثمان» أو … الطائرة.

وكما سكبت السحب الماء … منعته …

وكما قدمت … رحلت؛ لتكشف الستار عن لوحة السماء والنجوم والقمر، ممَّا أدخل السكينة في قلب «إلهام» … فاستسلمت للنعاس، وراحت في نوم عميق … على الناحية الأخرى كان «عثمان» يريد أن يعرف أين ذهب هذا القرد؛ فوجوده في هذا المكان يعني أن له زوجةً وأولادًا … وسرقته للسندوتشات وجريه بها دون أكلها، يؤكِّد ذلك الاعتقاد.

ودورانه حول الطائرة كل فترة، ومراقبته له من بعيد، قبل أن يختفي ليظهر مرةً أخرى ويعاود مراقبته، يعني أنه يتأكَّد من وجوده بعيدًا عن بيته وصغاره … وما يفعله معه، سيفعله أيضًا مع «أحمد» و«إلهام»، وهذا ما يجعله أهم دليل للوصول لهما.

ولكن لم يكن في حسبانه وهو يطارده أنه سيشعر به، ويتخذ حذره … ويقطع الطريق متنقِّلًا بين أشجار، مختفيًا عن عينَيه، فيفقد أثره، ويعود مهزومًا، غير أن الظلام قطع عليه طريق العودة.

ومثلما فعلت «إلهام» فعل هو … واتخذ من إحدى أشجار الموز فندقًا للمبيت، حتى يطلع الصبح ويعود للطائرة …

غير أن برودة الجو وهطول الأمطار لم تتركه على حاله …

فعندما عادت الشمس للجزيرة … كان جسد «عثمان» يرتجف … ودرجة حرارته تقترب من الأربعين درجة …

وعندما كانت «إلهام» تتسلَّق شجرة الموز هابطةً إلى الأرض، سمعت صوت سعال «عثمان» يرن في أذنَيها … كأجمل ما سمعت من موسيقى، وعرفت أنه قريب جدًّا منها.

وليس عليها إلا أن ترهف سمعها … وتُنصت جيدًا إلى أن تسمعه مرةً أخرى … فيمكنها تحديد موقعه …

ولفرط سعادتها لسماع صوت «عثمان» وانشغالها به، لم تلحظ الواقف بجوارها، وينظر إليها في ود بالغ …

وعندما التفتت إليه من غير قصد، والتقت عيناها بعينَيه … لم يطل النظر فيهما … بل أغمض عينَيه، وكأنه لم يستطِع أن يقاوم جاذبيتها.

ورفع يدَيه يمسكها من يدها، ويسير بها، وهي تاركة نفسها له كالطفل المطيع؛ فقد شعرت أنه لديه ما يريد أن يطلعها عليه …

ولم يطل بها المسير … وتحت شجرة موز عملاقة … استوقفها، ونظر إلى أعلاها …

فرفعت «إلهام» عينَيها لترى أجمل ما رأت …

إنه «عثمان» … قالتها في فرح، وكأنها تزف خبرًا سارًّا إلى عزيز لديها.

ولم تكن فرحة القرد بابتسامة «إلهام» … أقل من فرحتها بالعثور على «عثمان».

وقد شعرت بذلك حين رأته يجلس القرفصاء … وينقل عينَيه بينهما … فقالت له: يا لك من قرد ذكي … وجميل! …

أطرق القرد برأسه في الأرض، فقالت له: ياه، أنت قرد خجول أيضًا.

ولكن، هل تفهمني حقًّا؟

أعرف أنك لا تفهم كلامي، ولكنك تفهم ما يدور حولك … و… ما يدور برأسي … أليس كذلك؟

تعرف ما يدور برأسي الآن؟

أنا أريد إنزال «عثمان» من فوق الشجرة …

فهو مريض … ولن يستطيع النزول وحده.

عثمان: لا يا «إلهام» … بل سأستطيع النزول.

لم تملك «إلهام» نفسها من الفرحة عندما سمعت «عثمان» يقول ذلك …

وأطلقت ضحكةً جزلى.

ثم قالت: لقد سمعتك تسعل سعالًا شديدًا، فحسبتك قد أُصبت ببرد.

فقال لها وهو يتسلَّق الشجرة نازلًا: وهذا ما حدث بالضبط.

إلهام: ولكني أرى أنك أفضل.

عثمان: الفضل في ذلك للشمس والموز.

إلهام: واعتيادك على الأدغال.

عثمان: نعم … ولكن أين «أحمد»؟

إلهام: ألم تصل إليه …

عثمان: ليس بعد …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤