الفصل الثاني

تاريخ فكرة الحملة الفرنسية على الديار المصرية

لا بد لنا قبل الكلام على الحملة الفرنسية؛ وما تم على يديها، وما حصل لها في هذه الديار المصرية، أن نفرد فصلًا خاصًّا للأسباب التي حملت حكومة الجمهورية الفرنسية، على القيام بهذه الحملة، في الوقت الذي كانت فيه تلك الإدارة الفرنسية، مبغوضة ممقوتة من جميع دول أوروبا المعتبرة في ذلك الحين، حتى إنها كانت في الحقيقة في حرب مع النمسا وجمهوريات إيطاليا، «وإن يكن نابوليون قد أخضع هاتين الأخيرتين» وعداوة مستحكمة مع الروسيا، وحرب مستمرة مع إنكلترا، هذا فضلًا عن أن الجمهورية الفرنسية، لم يكن قد توطدت بعد أركانها، أو ثبتت دعائمها.

قد يقال لنا إن هذا فصل من تاريخ فرنسا، وعلاقاتها بالدول الأخرى، وأن لا شأن له في تاريخ مصر، الذي هو الغرض من هذا الكتاب، ولكن اعتراضًا كهذا لا يصدر إلا عن نظر سطحي؛ لأن الوقوف على حقيقة مركز مصر في السياسة الأوروبية، وعلاقة هذا المركز بالحركة الاستعمارية، التي قامت بها أوروبا في أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل التاسع عشر، لا يكون إلا بمعرفة المصريين الأسباب التي دفعت فرنسا إلى فتح الديار المصرية، ثم إن إدراك العوامل التي حاربت فرنسا في مصر، وأجبرتها على الجلاء عن هذه الديار، بل وفهم الحوادث التي سنأتي عليها في هذا الجزء من كتابنا، وفيما وقع من اتفاق الدولة العثمانية مع إنكلترا، والقضاء على كل أحلام نابوليون والفرنسيين كافة في الشرق، لا يكون إلا بفهم الأسباب التي حملت فرنسا للغارة على وادي النيل.

وإننا مع ما نعلمه من صعوبة هذا البحث، والتحقيق التاريخي بشأنه، لم نر بدًّا من الخوض فيه، مع أنه قد كان في إمكاننا التجاوز عنه، وصعوبة هذا البحث لا ترجع لقلة المواد أو لتشتتها، أو لغموضها، فهي هنا أكثر وضوحًا وجلاء من البحث السابق، عن مصر قبل الحملة في المقدمة، والمصادر التي يرجع إلى الأخذ عنها كثيرة، وقد وضع فيه الكتاب الفرنسيون فصولًا طويلة، بل وضعت له كتب خاصة وأحسنها وأوفاها كتاب «أسباب الحملة الفرنسية على مصر»١ تأليف «شارل رو» وهو كاتب بحاثة كان موظفًا بوكالة فرنسا السياسية في القطر المصري، وكتابه هذا متوج برضاء الأكاديمي الفرنسية، ولكن صعوبة هذا البحث ليست في قلة مواده، ولكن في اختصاره ووضعه في الصيغة اللائقة المتناسبة، مع قيمة الحوادث في هذا الكتاب، وصعوبته أيضًا ترجع إلى أن قراء العربية في حاجة إلى إيضاح أمور لم يدرسوها، ووصف رجال كثيرين لم تسبق لهم معرفة بتاريخهم، هذا فضلًا عن ضرورة إيقاف قراء العربية على مختصر من تاريخ نابوليون، وعلاقته بحكومة بلاده ورجال السياسة الذين كان لهم شأن في فكرة الحملة الفرنسية على مصر، وهذا المطلب وحده كان جديرًا بأن يلوي عنان الكاتب ويرد منه الطرف حسيرًا.

ولكنا وقد وطدنا العزم على تأدية هذا الواجب، فلن نرجع حتى نجول فيه جولة بقدر المستطاع، فإن وفيناه حقه فهو غاية المرام، وإن قصرنا فيكون ما نضعه في هذا الباب أساسًا يبني عليه من يكتب بعدنا فيه، ممن هم أغزر مادة وأفصح بيانًا، ولن يذهب باجتهاد المجتهد أنه لا يصيب.

كانت مصر منذ القدم، ولا تزال إلى يومنا هذا، عروس الشرق، وخريدة عقد للعالم المتوسط، ولذا كانت دائمًا مطمح أنظار الدول التي يقوى شأنها في هذه الدنيا، ولو كانت مصر هذه بنيلها وأرضها الخصبة، وأهلها الذين سلس قيادهم، وسهل حكمهم، في مكان غير مكانها الجغرافي الذي هي فيه، كأن تكون في آسيا أو في أمريكا مثلًا، لما تطلعت إليها الأنظار، ولما تسابق نحوها القواد العظام، والدول العظيمة الشأن؛ لأن ثروة مصر الطبيعية القاصرة على الأرض والزرع، ليست في حد ذاتها مما يبعث على الطمع والجشع، فكل ما يخرج منها يكفي لأبنائها، ولكن وجودها على مفرق الطرق، وملتقى أشعة العالم، وكونها «الطريق السلطاني» لمتاجر الشرق والغرب، هو الذي جعل لها هذه الأهمية، ووجه إليها المطامع منذ القدم وإلى اليوم.

فلذلك لم يكن غرض الاستيلاء على مصر، في كل الأوقات، موجهًا لها بالذات، بل كثيرًا ما كان للقضاء على نفوذ دولة من الدول، أو عرقلة لنمو أمة من الأمم، ولا شأن لنا أن نضرب على هذه النظرية الأمثلة من التاريخ القديم؛ إذ تكفينا حوادث القرن الماضي وما تقدمه، للتدليل على ما نقول، وخصوصًا فيما نحن بصدده من تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، فإن تاريخ هذه الفكرة يرجع إلى عهد أبعد، حين لم يكن يحلم أحد فيه بالثورة الفرنسية، أو جمهوريتها، ولا نابوليون وفتوحاته، وإمبراطوريته.

فقد كان ليبنتز Leibnitz٢ أول من فكر في ذلك؛ إذ كان لويس الرابع عشر في سنة ١٦٧٢ يحارب بلاد الفلمنك «هولانده» التي كان لها في ذلك العصر نفوذ كبير، ومستعمرات ومتاجر واسعة في الشرق والغرب — تلك المستعمرات التي من بقاياها الآن صومترا وجلوه الإسلاميتان — فكتب ذلك الرجل الكبير إلى لويس الرابع عشر يقول: «إذا كان مولاي يريد القضاء على جمهورية هولاندة فأحسن وسيلة لذلك هي ضرب هذه الأمة في مصر هناك حيث يوجد طريق الهند، وحيث يمكن تحويل التجارة الهولندية إلى طريق مصر.»
ثم لما قويت سلطة روسيا، وامتد رواق فتوحاتها على المماليك العثمانية، في أواخر القرن الثامن عشر؛ أي: في الوقت الذي حاول علي بك الكبير الاستقلال بملك مصر، خافت فرنسا من استيلاء الروسيا على الآستانة، وتمزيق شمل الدولة العثمانية، فارتأت حكومة لويس السادس عشر، قبل الثورة الفرنسية، ببضع سنوات، أن تحتل مصر غنيمة لها من ميراث الدولة العثمانية، وفي هذا الصدد قال مسيو ده سارتين M. de. Sartine وزير البحرية إذ ذاك، في مجلس الوزراء:

إن احتلال مصر هو الطريقة الوحيدة لحفظ تجارتنا في البحر الأبيض، ومتى توطدت قدمنا في مصر صرنا أصحاب السيادة على البحر الأحمر، وصرنا نستطيع أن نهاجم إنكلترا في الهند، أو ننشئ في تلك الأصقاع متاجر ننافس بها الإنجليزي … إلخ.

ووافق هذا الرأي حكومة لويس السادس عشر فأوفدت في سنة ١٧٧٧ لمصر البارون ده توت Baron de Tott٣ بدعوى أنه قادم لعمل مباحث فلكية وعلمية «لأكاديمي العلوم»، ولكنه كان مكلفًا بعمل خرائط لشواطئ مصر وسوريا وجزر اليونان وجزيرة كريد أيضًا، وكلف بنوع خاص أن يدرس النقطة الواقعة من ساحل مصر، بين الإسكندرية وأبي قير، ومعرفة أي نقطة تصلح لإنزال الجنود إلى البر، وكان معه ضابط من البحرية لقياس عمق النقط المجاورة للساحل ليعرف ما يصلح منها لسير السفن، وكلف «سوتيني» الذي سبق ذكره، أو آخر بالسفر إلى السويس لمثل تلك المباحث ولرسم خريطة عن مدينة القاهرة في أثناء مروره بها، وقد فعل ذلك كله في الوقت الذي كان فيه مراد بك وإبراهيم بك يتطاحنان مع إسماعيل بك، أحد مماليك علي بك الكبير، الذي وليّ مشيخة البلد!
قال المؤرخون الفرنسيون: ومرت بضع سنوات لم توطد فيها حكومة لويس السادس عشر العزيمة على تنفيذ ما صممت عليه، حتى كانت سنة ١٧٨١ كتب الكونت ده سان بريست Saint-Priest سفير فرنسا في الآستانة يستحث حكومته على فتح مصر، وقد ورد في كتاب السفير المشار إليه قوله: «إن الروسيا قد صارت على مقربة من القسطنطينية، وربما استطاعت أن تقضي على تركيا في أوروبا٤ قبل أن تستطيع دولة ما مساعدتها، فعلى فرنسا أن تسرع في احتلال مصر التي لا تكلف فرنسا صعوبة؛ لأن مصر خالية من أي تحصين ما، ولأنه لا يوجد فيها من الجيوش أكثر من خمسة أو ستة آلاف مملوك، لم يقفوا في ميدان حرب منظمة، وليس لديهم مدفع واحد، وفعلًا صممت الحكومة على تنفيذ هذه السياسة، وأعدت ثمانية وعشرين ألف جندي لهذه الحملة، وجهزت السفن لنقل هذه القوة إلى الإسكندرية وأبي قير ودمياط.»
وكانوا يعتمدون على مساعدة المسيحيين العديدين المقيمين في القاهرة وفي الوجه القبلي والذين يتولون إدارة الأعمال للبكوات،٥ ولكن حوادث الحرب في أمريكا عطلت سفر هذه الحملة، ثم قامت الثورة الفرنسية على قدم وساق وسقطت الملكية وسالت الدماء أنهارًا في باريز، فأهمل شأن مصر وغير مصر.
ويظهر مما تقدم أن فكرة احتلال فرنسا لمصر قديمة، وقد ظهر جليًّا من المستندات العديدة أن سافاري وسونيني لم يكونا سائحين فقط، بل كانا من رسل الحكومة الملكية في باريس، وفي رسائل سافاري ما يثبت جليًّا أنه كان يحرض حكومة فرنسا على احتلال مصر، فقد ورد في إحدى رسائله قوله:
«لو أن في مصر حكومة عادلة وتوجهت نية هذا الشعب المصري الذكي إلى خدمة أرض مصر الخصبة، فأي جوخ ينسج من صوف أغنام مصر الجميل، وأي قماش يعمل من كتانها الناعم، وأي أقمشة تصنع من قطنها بنوعيه،٦ وأي حرير ينسج من نتاج دود القز الذي ينمو في بلد كهذه، صافية لا مطر فيها ولا غمام؟؟ وأي خير لا يجنى إذا حفرت الترع، وأقيمت الجسور لجعل الأرض صالحة للزراعة؛ وهي التي دفنت ثلثها الرمال؟ وأي نجاح لا يناله الإنسان إذا بحث عن مناجم الزمرد الذي قال أنه يوجد في تربة هذه البلاد؟؟» ا.ﻫ كلام سافاري.

ثم قامت الثورة الفرنسية وتأجج لهيبها، وأكلت بعضها حتى بدأت نارها في الخمود، وعلا نجم نابوليون بونابرت بعد انتصاراته في شمال إيطاليا وقهره للنمسا، ففكر في الغارة على مصر للأسباب التي سنأتي عليها.

وهنا يلزمنا أن نأتي على خلاصة موجزة من تاريخ حياة نابوليون لكي يقف القارئ العربي على قيمة الرجل الذي قدم لفتح مصر، وكانت له فيها حوادث أشبه بالقصص الروائية، منها بالحقائق التاريخية.

ذلك الرجل الذي جالس علماء الأزهر وناقشهم في الأديان، وشرب معهم القهوة جالسًا القرفصاء مثلهم على الوسائد والحشايا، ودخن التبغ مثلهم في الشبكات، حتى ارتدى اللباس العربي مثلهم، وشهد مع المصريين حفلاتهم في مولد النبي، وفتح الخليج، وتناول في شهر رمضان الطعام على الموائد الشرقية، في منزل السيد البكري، والسيد السادات، ولقبوه في مصر بالسلطان الكبير، وكان يذكره الجبرتي في كتابه باسم «ساري عسكر الفرنسيس بونابارته».

•••

إن مجرد ذكر «نابوليون بونابرت» يجلب أمام مخيلة الذين وقفوا على شيء من التاريخ تصورات كثيرة، وخيالات كبيرة، من ذا الذي لم يسمع باسم هذا الرجل العظيم الذي ملأ الدنيا بذكره حتى دوى صيته في الخافقين، ولا يزال يرن صدى هذا الدوي في الآذان، وسيبقى كذلك ما دام على سطح هذه الكرة الأرضية إنسان! نابوليون بونابرت، ذلك الفتى الذي صعد من التراب، إلى السحاب، فارتقى من ضابط صغير فقير، إلى قمة أكبر عرش في العالم … نابوليون ذلك الرجل القائد الذي دوخ أوروبا بأسرها، وركعت له القياصرة وسجدت له الملوك!!

الكلام على هذا النمط لائق بالشعراء، وذوي الخيال، وليس أفصح، ولا أغلى قيمة في البلاغة، من مقال السيد توفيق البكري — حفيد البكري الذي جالس نابوليون في منزله — عن نابوليون … تلك الدرة اليتيمة التي كتبها السيد توفيق البكري عند زيارته لمقبرة البانتيون، وهي منشورة في كتابه «صهاريج اللؤلؤ».

وإنما يليق بنا في مقام التاريخ أن ننزل من ذروة الشعر والخيال، إلى أرض الحقيقة الجامدة والحوادث البارزة الباردة، فنقول:

ولد نابوليون في ١٥ أغسطس سنة ١٧٦٩ «وفي نفس هذا العام ولد محمد علي مؤسس العائلة العلوية» في مدينة أجاكسيو من أعمال جزيرة كورسيكا، من أب اشتهر بالإقدام والوطنية، والميل إلى الشعر والفصاحة، ومن أم كانت مثال الكمال والإخلاص، وحسن الأحدوثة وطيب الخلق، ولقد وصفها باولي Paoli٧ في سنة ١٧٩٣٦، بأنها امرأة جديرة بأن تلد الأبطال، وكان أهل الجزيرة مشهورين بالشجاعة، وحب الحرية، حتى طالبوا بها في ثورات اشتركت فيها أم نابوليون، وهي حامل فيه، وفي أهل كورسيكا كثير من صفات العرب الغرباء من حيث الكرم والشجاعة والصبر على المكاره، والتمسك بأهداب الحرية، ومن هذا العنصر ولد نابوليون العظيم.
لما بلغ نابوليون التاسعة من عمره أرسله أبواه في ١٥ ديسمبر سنة ١٧٧٨ إلى «أوتون» Autun في فرنسا لتلقي العلوم ودراسة اللغة الفرنسية، وكانت أمه لا تحسن الكلام بهذه اللغة فبقي في فرنسا نيفًا وسبع سنوات متوالية لم تقع فيها عينه على وطنه، ولما عاد إلى مسقط رأسه في سبتمبر سنة ١٧٨٦ — أي: قبل قدومه لمصر قائدًا عظيمًا بنحو اثنتي عشرة سنة — كان عمره سبعة عشر سنة، وقد سار ملازمًا ثانيًا في الطوبجية، قال المؤرخون الذين لم يتركوا شاردة ولا واردة، من حياة نابوليون سواء وهو طفل على مكتبه، أو إمبراطور على أريكته: إن نابوليون لما كان تلميذًا بمدرسة بريين Brienne كان يشعر كأنه غريب بين أقرانه؛ لأنه لم يكن فرنسيًّا، وكان التلامذة يحتقرونه للهجته الأجنبية، ولعدم انتسابه إلى الأسر العريقة في النسب، وفوق ذلك لضيق ذات يده أيضًا، فكان ذلك من أدعى الأسباب إلى تكوين نفس الفتى، وعدم اشتغاله باللهو، وانفراده بذاته، في غدواته وروحاته، ونار المطامع تتأجج في صدره، وتسري في شرايين جسمه، وتأكل في خلايا قلبه، وكان ميالًا إلى العلوم الرياضية أكثر من سواها، وكانت رسائله التي يبعث بها إلى أبويه، وهو في سن الثالثة عشرة، والرابعة عشرة، تدل على نمو عقل، ورجاحة فكر، حتى قال عنه أحد كتاب الإنجليز المدققين:٨ «ولقد يخيل لنا أن نابوليون لم يكن أبدًا صغيرًا.»
ولقد أدرك هذا الفتى في صغره أن الجندية كحرفة، هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها الوصول إلى إدراك المعالي، وأن القواد العظام الذين أحسنوا الاستفادة من ظروفهم، هم الذين استطاعوا قلب الممالك، وثل العروش، وليس التيجان، فلذلك كان شغفه بالتاريخ والجغرافيا عظيمًا حتى لقد كان يخيل لنفسه بنفسه أنه واحد من أبطال بلوتاركه.٩

وكانت نيران الثورة الفرنساوية في ذلك الحين تتأجج في أتونها، ولم يكن تمث قد اشتمل لهيبها، وعلا شرارها، ولا بأس من أن نقول هنا لفائدة القارئ العربي، أن تلك الثورة الهائلة التي فكث العالم من أغلال الاستبداد، وغيرت كثيرًا في أصول الاعتقادات القومية والدينية في أوروبا، لم تكن بنت ساعتها، بل هي من نفثات أقلام الكُتاب الفرنسيين من نهاية القرن السابع عشر، إلى نهاية القرن الثامن عشر: أولئك الكُتاب الذين فتقوا ذهن الأمة، وفتحوا عيون الشعب إلى أن النظام الذي كانوا يعيشون تحت سلطانه، نظام استبدادي وأن معتقداتهم التي يرضخون تحت نفوذها، معتقدات قائمة على أسس واهية، وأنها لا تحتمل التحليل والبحث في ضوء العقل والقياس المنطقي، وقائد هذه الكتيبة في ساحة الوغى، الكاتب الفرنسي العظيم «فولتير» بذلك القلم الساحر، والأسلوب الباهر، ومن هذه الآراء تغذى عقل نابوليون في مطالعاته مدة سبع سنين قضاها في الجيش، حتى نشأ جاحدًا للأديان، متسع الفكر واسع الصدر.

واندلع لهيب الثورة في سنة ١٧٨٩ ففتحت لنابوليون أبواب الرقي، وأسباب النهضة لإدراك ما صورته له مخيلته من أمانيه وآماله، فكان أول خاطر قام بنفسه قيادة الثورة في جزيرته، لتحريرها من رق فرنسا، وفعلًا سافر إلى كورسيكا وتولى قيادة فرقة من الثائرين، إلا أن الحكومة التي وجدت في باريس، أعلنت من تلقاء نفسها في «٣٠ نوفمبر سنة ١٧٨٩» استقلال الجزيرة وجعلها مملكة منضمة إلى الجمهورية الفرنسية، فغير ذلك في خطته وعاد إلى باريس وهو شديد التحمس للثورة، ولكن لم تأت سنة ١٧٩٢ حتى بردت نار حماسته وميله لزعماء الثورة، وذلك لما رآه من ارتكابهم للفظائع، وإهراقهم الدماء، فقد كان حاضرًا صيف ذلك العام هجوم الثوار على قصر التوياري في ٢٠ يونيو، وكذلك ذبحهم لجنود الحرس السويسري في ١٠ أغسطس، وكانت هذه المناظر تؤلم فيه فكرة النظام العسكري، حتى قال «لبوريين» Bourienne صديقه، وسكرتيره بعد ذلك، «كيف تسمحون لهؤلاء الغوغاء بارتكاب هذه المساوئ، ولماذا لا يكتسحون منهم أربعمائة أو خمسمائة بالمدافع فيفر الباقون إلى بيوتهم؟!».
ثم عاد في نهاية ذلك العام إلى جزيرته برتبة كابتن «يوزباشي» وحصلت بين أسرته وبين «باولي» وأنصاره منازعات أدت إلى مهاجرة أسرة نابوليون إلى قرية بجوار طولون في فرنسا، وكانت إنجلترا قد أعلنت العداء على الحكومة الجديدة في فرنسا، وجمعت حولها ممالك النمسا وروسيا وأيدتها بالمال، واستردت بلجيكا حريتها من تحت سلطة فرنسا، وطردت الجنود الفرنسية من «كونده» و«مينس» «وفلنسين» وهددت قلب فرنسا، وكذلك احتلت طولون على البحر الأبيض المتوسط، فكانت تلك الحوادث سببًا لأن تحرك عوامل الغيظ في قلب نابوليون ضد خصوم بلاده فمال إلى زعماء الثورة، وانضم إليهم قلبًا وقالبًا، واندمج في جيش الجمهورية المحارب لطولون «في ١٦ سبتمبر ١٧٩٣» بوظيفته قومندان الطوبجية، وهنا ظهرت مواهب نابوليون الحربية؛ إذ استطاع بنبوغه العسكري، وبما درسه في فن الطوبجية وهندستها، وعلوم الحرب الحديثة، من طرد الإنكليز والاستيلاء على طولون في «١٩ ديسمبر ١٧٩٢» فكافأته حكومة الجمهورية بترقيته إلى رتبة جنرال، ولكن بعد سقوط حكومة روبسبير Robespiere الذي كان نصيرًا لنابوليون، استدعى نابوليون إلى باريز وأُلقي في غياهب السجن، ولكن ظهرت براءته من التهمة التي وجهها أعداؤه إليه، وبعد حوادث، وتقلبات لا دخل لها في موضوعنا، ضاق صدره من أعمال حكومة فرنسا وشطب اسمه من قائمة الجنرالات، وعول على الذهاب إلى الآستانة ليتولى تدريب الطوبجية العثمانية، ولكن نجم سعده الآخذ في الصعود خدمه، كما خدمه سنين طويلة مقبلة … ذلك أنه حدثت ثورة في باريس قام فيها نحو ثلاثين ألف من الحرس الأهلي Guarde Nationale ضد حكومة الكونفنسيون، التي لم يكن لها من القوة أكثر من خمسة آلاف، وكانت الحكومة قد اختارت براس Barras قومندانًا لجيش الحكومة في باريس، ولما لم يكن «باراس» من رجال العسكرية، وكان صديقًا لنابوليون محبًّا له اختاره لقيادة الحامية، والدفاع عن العاصمة، فتمكن هذه المرة بمهارته من قهر أعداء الحكومة وحماية العاصمة، قال المؤرخون الثقاة: إنه لولا مهارة نابوليون في وضع المدافع وتصويبها على النقط التي اجتمع فيها الثائرون، لسقطت الحكومة، ولوقعت فرنسا من جديد في دور الفوضى والخراب، وكافأت الحكومة نابوليون بتوليته قيادة جيش الداخلية، وبذلك دوى اسم نابوليون من هذا التاريخ في جوانب فرنسا، وذاع صيته في البلاد.
في هذا الوقت، وقت لمعان شهرته، وقع في حبائل غرام سيدة على جانب عظيم من الجمال والرقة وهي «جوزفين بوهارنيه» وكانت أرملة للمركيز إسكندر بوهارنيه أحد الجنرالات الذين سقطوا ضحية لآلة القتل في الأيام الأولى من الثورة، فاقترن بها «٩ مارس سنة ١٧٩٦» وكان قبل هذا التاريخ بيومين، قد عين قائدًا للجيش الذي جهز لفتح إيطاليا ومحاربة النمسا اللتين كانتا متحالفتين مع إنكلترا ضد فرنسا، فلما تولى نابوليون قيادة الجيش كان فيه من القواد من هم أكبر منه سنًّا، ولكن لم يكونوا أعلم منه بفنون القتال، فلما رأوه، ولم يكونوا من قبل قد عرفوه إلا اسمًا، ورأوا منه فتى في الخامسة والعشرين من عمره، ضئيل الجسم، قصير القامة، ناحل البدن، ورأوه كذلك يحمل صورة عروسه ويكثر من النظر إليها، ويريها للضباط معه ظنوا أن ترقيته لهذا المركز الكبير، راجعة إلى المحسوبية ولنفوذ النساء؛ ولكن كما قال الجنرال ماسينا Masséna: «ما كاد يضع على رأسه قبعة الجنرال حتى خلناه قد طالت قامته شبرين، وأخذ يسألنا عن مواقع فرقتنا، ويستفسر عن القوى الفعالة في كل فيلق من الفيالق، ثم ألقى إلينا الأوامر، وأعلن أنه سيستعرض الجيش غدًا، ويهاجم العدو بعد غد … فعرفنا أن هذا ليس بفتى، ووثقنا من أنه قائد عظيم.»

وتوالت انتصارات نابوليون في شمال إيطاليا والنمسا، وطبقت شهرته الخافقين فالتف به القواد العظام، وأعجب به إلى درجة التقديس ناشئة الضباط، ورجال المستقبل، ولقبته أوروبا بها نيبال الثاني، لما أتى على يديه من المعجزات في فنون الحرب، واستفاد نابوليون من تجاربه في هذه الحرب، ومن مناطحته لرجال السياسة وكبار دهاة الحرب في النمسا، ما ساعده كثيرًا في مستقبل حياته الباهرة.

ولما تم له الفوز كما أراد، وأرادت فرنسا عقد مع النمسا صلحًا في ١٧ أكتوبر سنة ١٧١٧ سمي «صلح كامبو فورمبو» نسبة إلى البلد التي تم فيها، وأعادت فرنسا تحت رايتها بلجيكا وحدود الرين، ومحت جمهورية البندقية من صحيفة الوجود، بعد أن عاشت عصورًا طويلة محتكرة تجارة الشرق بسبب علاقاتها بمصر، ولطالما حاربت الدولة العثمانية في مواقع بحرية أشهرها واقعة «ليبانت» المشهورة في أكتوبر سنة ١٥٧١ … ولم يمض على عقد هذه المعاهدة عشرة شهور حتى كان نابوليون بجيشه في أرض مصر.

بقي علينا، قبل الانتقال بهذا القائد العظيم إلى حملته على مصر، وبيان الأسباب التي دعت إلى هذه الحملة، والأغراض التي قامت بنفسه هو، أن نقول كلمة موجزة في تعليل فوز هذا الرجل تمهيدًا لمعرفة القوة الحربية الجديدة، التي داهم بها المماليك في مصر فنقول: أجمع الباحثون المدققون على أن فوز نابوليون الباهر السريع في شمال إيطاليا والنمسا، راجع إلى أن الفن العسكري كان قد دخل في طور جديد في خلال القرن الثامن عشر، بسبب الاختراعات العديدة التي أدخلت على البنادق والمدافع، ففي سنة ١٧٢٠ أدخل على البندقية تحسينات بحيث سار في إمكان الجندي أن يطلق منها عدة طلقات في الدقيقة الواحدة، ثم اخترع للميدان مدافع أخف حركة وأسهل في النقل، وأخيرًا في سنة ١٧٦٥ اخترع جريبوفال Gribeauval أحد ضباط جيش لويس السادس عشر بطارية ميدان تجمع بين أكثر مما يجمع من القوة مع أخف ما يمكن من صعوبة النقل، ثم قال الأستاذ فيشر في كتابه عن نابوليون وارتقاه الفن العسكري ما تعريبه:

ونتيجة هذا كله، ليست فقط أن المدافع صارت لها أهمية جديدة في الحرب، وأصبحت لأول مرة عاملًا ضروريًّا في القتال الذي تقوم به المشاة، بل كانت النتيجة أيضًا، أن تغير الفن الحربي بحذافيره فاستطاعت الجيوش الآن أن تنقسم إلى فرق، والفرقة إذا حلت في مركز موافق لها، تستطيع أن تدافع عن نفسها تلقاء قوة متفوقة عنها، أو على الأقل تستطيع أن تقاتل حتى تحرز السلامة بواسطة قتال يقوم به القسم المعد لحمايتها في المؤخرة، ولهذا صارت أهم مسألة متعلقة بالفن الحربي، أن يبحث الباحثون عن الكيفية التي يستطاع بها الاستفادة كل الاستفادة، من القوة الجديدة التي تكون لقسم مرن يستطيع التحول من جهة إلى أخرى، في ساحة واسعة، وتعلم القواد كيف يقذفون بالفصائل والشراذم المؤلفة من الجنود المعدة للمناوشات، وكيف يبعثون إلى القتال بالفرق التي كانت مرابطة في بقاع ثانية في الخريطة الحربية، والخلاصة أن نابوليون بونابرت استفاد من الانقلابات في الفن العسكري، وكان أول من استخدم هذا التطور بمهارة ونبوغ، فأدهش العالم وساد عليه فترة من الزمن طويلة.

ونعود الآن إلى فكرة الحملة الفرنسية على مصر فنقول:

لما تم لفرنسا بواسطة نابوليون الظفر على أعدائها لم يبق لها من الدول المنافسة المعادية سوي إنجلترا العدوة اللدودة التي حركت الضغائن في نفوس الأمم الأخرى، وجمعت حول فرنسا، بواسطة أموالها ودهاء رجالها نطاقًا حديديًّا من الدول النافرة، حتى بلغ عددها في وقت واحد ست دول، فكان أول خاطر قام في نفس نابوليون هو محاربة إنجلترا بقطع طريق متاجرها الهندية، وذلك بالاستيلاء على مصر.

روى المؤرخون أن نابوليون في أثناء مخابرات صلح كامبوفورميو، كان يجمع قواده في حديقة «باسيريانو» Passeriano في شمال إيطاليا، ويصور لهم فتح مصر، واتخاذ هذه الديار قاعدة حربية لإرسال قوة كبيرة إلى الهند، للقضاء على سلطة إنجلترا فيها، وفي الوقت نفسه كتب إلى حكومة فرنسا رسالة مطولة يشرح فيها أهمية الحملة على مصر، من وجوهها السياسية والحربية والتجارية وقد نقل مسيو ديزيه لاكروا Desiré Lacroi في كتابه الذي وضعه عن بونابرت في مصر، من محفوظات وزارة الخارجية بباريس خطابًا مطولًا بعث به إلى تاليران Talleyrand وزير الخارجية في ١٣ سبتمبر سنة ١٧٩٧ نقتطف منها العبارة الآتية:
«إذا قضى علينا الصلح مع إنجلترا بالتنازل عن رأس الرجاء الصالح فلا بد لنا من أن نعتاض عنها بالديار المصرية، التي لم تقع أبدًا في حيازة دولة أوروبية، نعم كان للفينسين «البندقيين» فيها نفوذ منذ بضع قرون، ولكنه كان نفوذًا مزعزعًا، وفي استطاعتنا بإرسال خمس وعشرين ألف جندي للاستيلاء على تلك الديار، وعندي أن مصر ليست تابعة الآن للدولة العثمانية، وأرجو من مواطني الوزير١٠ عمل التحريات اللازمة للوقوف على ما يحدثه احتلالنا لمصر من الأثر على حكومة جلالة سلطان تركيا، وأن جيشًا كجيشنا الذي يستوي عنده جميع الأديان، يتساوي لديه المسلمون والأقباط والأعراب والوثنيون على السواء … إلخ.»
فأجابه «تاليران» بخطاب مؤرخ ٢٣ سبتمبر قال فيه: إنه موافق على فكرة الحملة على مصر التي يعوض احتلالها على فرنسا، خسارتها في جزائر الأنتيل١١ وتفتح لنا طريق التجارة للهند … إلخ.

ويظهر أن عقارب الحسد لنابوليون دبت في نفوس أعضاء الحكومة الجمهورية في ذلك الوقت، فخافوا من اتساع شهرته، ومن مكانته في قلب الجيش الذي يقوده، ولا يبعد أنه يكون قد خيل لهم في ذلك الوقت أن نابوليون، بما أصبح له من المحبة لدى الشعب الفرنسي، وما يلتف به من الجنود والقواد، قادر على أن يضع يده على السلطنة في باريس ويستبد بالملك «كما فعل فعلًا» ولا يبعد أن تكون هذه الأفكار قد مرت بمخيلة نابوليون، لما رأى من القابضين على زمام الحكومة الرغبة في فصله عن جيشه، الذي أحبه وحارب تحت قيادته، ولكنه كان حكيمًا فنظر إلى فرنسا وقال — كما روى يوريين في مذكراته — «إن الثمرة لم تنضج بعد.»

رأت الحكومة في باريز فصله من جيش إيطاليا، وأصدرت أمرًا بتعيينه قائدًا عامًّا لجيش إنكلترا «أي: الجيش الموجه لمحاربة إنجلترا» وبعد يومين من صدور هذا الأمر، أصدرت الحكومة المركزية في باريس أمرًا آخرًا بانتدابه سفيرًا مفوضًا من قبل الجمهورية الفرنسية لمؤتمر راستاد Rastadt مع مندوبين آخرين قال أحد المؤرخين: ولم يكن يخفى على ذكاء نابوليون أن هذا الانتداب إنما يراد به إبعاده عن جيشه، وأن حسد رجال الحكومة لشهرته هو الذي حملهم على إرساله في مهمة وهمية، ولكن نابوليون مع هذا كان أحكم من أن يُظهر لهم تذمره من هذا النفي السياسي، وهو في الوقت بعينه كان يفكر في الجهة التي ينوي أن يسير إليها بالجيش الظاهر الذي حارب تحت زعامته،١٢ وقبل أن يبرح مكانه استعرض الجيش في ميلانو «١٤ نوفمبر» وخاطب الجنود بكلمات تثير في صدورهم الحماسة وتذكرهم به على الدوام، فقال في خطابه لهم:

أيها الجنود، سأذهب في مساء غد إلى راستاد، ولا أجد تعزية على فراقكم، إلا في أملي بأني سأجتمع بكم عن قريب للدفاع ضد أخطار جديدة، أيها الجنود، كيفما كانت الوظائف التي تسندها الحكومة إلى رجال هذا الجيش، فإنهم سيكونون دائمًا جديرين برفع رايات الحرية، والمحافظين على مجد فرنسا وشرفها، أيها الجنود، إن تحدثتم بالملوك والأمراء الذين قهرناهم، وبالأمم التي خلصتموها من ربقة الاستبداد، في ميدانين «إيطاليا والنمسا» فاعلموا أنكم ستفعلون أكثر من ذلك في ميدانين آخرين.

وفي الإشارة الأخيرة كان نابوليون ينطق بما يكن فؤاده نحو مصر والشرق، لا نتبع نابوليون في سيره إلى راستاد، ولا عودته إلى باريس، واحتفال الحكومة به، ولا لزوم لنشر خطابه الذي أشعل به قلب الأمة الفرنسية، ولا رحلته لارتياد الشواطئ الفرنسية لفكرة غزو إنكلترا، فكل ذلك خارج عن موضوعنا، مهما بلغت قيمته من الفائدة التاريخية، ولكننا ننقل عن لسان صديقه، وكاتب مذكراته، بوريين، بعد عودته مع نابوليون من سياحة الشواطئ التي أشرنا إليها، العبارة الآتية:

«وما رأي مولاي القائد في رحلته.» فهز نابوليون رأسه وقال: «إنني لا أرى أملًا في غزو إنكلترا، إني لا أجازف بمستقبل فرنسا الجميلة.» وقال بوريين في مكان آخر من مذكراته: «وأخذت افكار نابوليون تتوجه إلى مسألة غزو مصر، فصارت موضوع فكره ليل نهار.» قال لي مرة: «إن أوروبا بأسرها ليست إلا جحر فأر، وما صدرت الشهرة العالية، وما دوى من الصيت الخالد، إلا من الشرق وفي الشرق.» والخلاصة أن نابوليون وحكومته فرنسا عدلوا عن غزو إنكلترا لاستحالة نقل الجيش الفرنسي في مضيق المانش، وفكروا في أن أحسن وسيلة لقهر إنكلترا، هي بالاستيلاء على مصر، فإن كان المانش متعذرًا، فإن السير في البحر الأبيض متيسر، ومتى امتلكت فرنسا مصر، عطلت تجارة إنكلترا في الشرق، وخيل لنابوليون أنه يستطيع، بالاتفاق مع راجات الهند، الذين احتلت إنكترا بلادهم، طرد الإنكليز من تلك الديار، كما أن احتلال فرنسا لمصر يقضي عليها بتحويل معظم أساطيلها إلى البحر الأبيض المتوسط، فتستطيع فرنسا أن تعبر المانش بجيش تغزو به تلك الدولة الرابضة على أمواج البحار.

وكان لا بد لفرنسا من الارتكاز على حجة تبرر بها حملتها على مصر وهي من أملاك الدولة العثمانية، تلك الحكومة السلطانية الوحيدة التي لم تكن على عداء مع فرنسا، وكانت أول من اعترف بالجمهورية فكان من الأعذار التي قالت بها فرنسا، وما ورد في خطاب نابوليون لتاليران وزير الخارجية، من أن مصر ليست في حيازة تركيا؛ لأن المماليك استبدوا بالأمر فيها، ثم وجدت فرنسا من تقارير قنصلها في مصر، مسيو ماجاللون Magallon — تلك التقارير التي أظهر فيها مر الشكوى من معاملة المماليك للتجار الفرنسيين سواء في إسكندرية ورشيد ودمياط والقاهرة — حجة ترتكن عليها.
figure
نابوليون بونابرت حوالي العهد الذي افتتح فيه القطر المصري «نقلًا عن صورة للمصور «أبياني».
ويذهب بعض المؤرخين إلى أنه قد كان من أكبر الأسباب التي حملت الحكومة الفرنسية على تقرير الحملة على مصر، رغبتها في الخلاص من نابوليون بونابرت بإبعاده عن باريس، وأن نابوليون بعد تحمسه لمشروع الحملة على مصر، بردت نار حماسته، لما أدرك ما وراء هذا الإبعاد، من الرغبة في القضاء على شهرته، قبل أن تمتد يده لإدارة الأحكام في فرنسا، ولكنه كان قد تورط في مشروع الحملة، فلم يعد في إمكانه الانسحاب منه، وشهادة «بوريين» في مذكراته تؤيد رأي هذا الفريق فقد قال ما نصه: «ولقد يلوح لي من جميع ما رأيته ووعيته، أن الرغبة في الخلاص من شاب طموح، ولدت شهرته الحسد في قلوب الزعماء، هي التي تغلبت على خطر تجريد فرنسا، لمدة غير معلومة، من جيش عظيم، مع ما كان كثير الاحتمال، من تحطيم الأسطول الفرنسي، وأما نابوليون فلم يبق أمامه إلا أن يختار بين قيادة حملة غير مأمونة العواقب، أو القضاء على مستقبله، ولما كانت حملة مصر، هي الوسيلة الوحيدة لإبقاء علم شهرته خافقًا، لم يتردد في قبول القيادة العامة التي صدر له بها الأمر في ١٢ إبريل سنة ١٧٩٨.»١٣
وأما الفريق الثاني من المؤرخين، فيقول: إن رجال الحكومة لم يريدوا إبعاد نابوليون، وفي مقدمتهم وأكثرهم عنادًا كان لاريفاليير ليبو La Revalliere Lépeaux فإنه عارض واحتج على تجريد فرنسا من ثلاثين أو أربعين ألفًا من خيرة الجنود الفرنسية، وتعريضهم مع سفن الأسطول إلى معركة بحرية مع الأسطول الإنكليزي في البحر الأبيض المتوسط، وإبعاد القائد العظيم الذي تخافه النمسا وتخشاه، هذا عدا حمل الباب العالي على محاربة فرنسا لتعديها على ولاية من ولاياته، فكان نابوليون على رأي هذا المؤرخ، يرد هذه الاعتراضات بأنه لا خوف من الأساطيل الإنكليزية، وإن سحب ثلاثين أو أربعين ألف جندي من فرنسا، ليس بالشيء الذي يُذكر ما دام جيشها أكثر من ثلث مائة إلى أربعمائة ألف جندي، وأن الباب العالي قد فقد مصر لاستبداد المماليك بالأمر فيها، واشتد الجدال بين نابوليون ومعارضيه، حتى هدد بالاستعفاء من منصبه، فكان جواب لاريفاليير بشدة «إنني أبعد من أن أقبل استقالتك، ولكني أرى أنك إذا قدمتها، فعليهم قبولها.» فصمت نابوليون ولم ينطق بكلمة الاستقالة بعدها، والروايات في هذه النقطة متناقضة؛ إذ قال بعض المؤرخين: إن الذي أجاب نابوليون ذلك الجواب هو رويبل، وقال آخرون: إنه باراس، ورأى «تيير» المؤرخ العظيم Thiers أن هذا الفصل حدث مع لاريفاليير كما ذكرنا.

وكيفما كان الحال فإن الحكومة الفرنسوية قد قررت الحملة، وعينت نابوليون قائدًا عامًّا على جيش البر والبحر لهذه الحملة، وبلغ من أمر التكتم بشأنها أن القواد وكبار الضباط، لم يكونوا يعلمون إلى أين هم سائرون، ولم يأمن رئيس الحكومة «الدير كتوار» إلى كاتب بكتابة أمر الحملة وقيادتها، فكتبهما بخط يده.

وليس من شأننا أن نأتي على بيان التحضيرات الحربية، البرية والبحرية؛ إذ يكفينا أن نقول إن الحملة كانت مؤلفة من اثنين وثلاثين ألف جندي من البرية والبحرية، تحملها ١٣ قايقا و١٤ بارجة و٤٠٠ سفينة لنقل العساكر والمهمات، وتقرر أن تسير السفن من ثغور طولون ومارسيليا وجنوا في فرنسا، وسيفاتافتشيا في إيطاليا.

ولقد أظهر نابوليون بإجماع الباحثين والمدققين، مهارة عظيمة ونظرًا ثاقبًا، وقريحة وقادة في تجهيز هذه الحملة؛ إذ رووا أنه فكر في كل شيء من دقائق الأمور، فلم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا رتبها وبوبها وأحصاها، فبدأ باختيار زهرة القواد، وخلاصة الضباط، ولم ينس أصناف الصناع، وأرباب الحرف اللازمة للجيش، وجلب من روما المطبعة العربية واليونانية، وأحضر معها فئة من العارفين بصف الحروف وطبعها، وجمع عدة آلات وأدوات علمية، ولم ينس انتقاء مكتبة جامعة للكتب عن مصر والشرق، ليقرأها مع ضباط جيشه أثناء سفرهم.

وانتهت كافة التجهيزات في ١٢ إبريل سنة ١٧٩٨، وأمضى الأمر بتكوين «جيش الشرق» وتعيين نابوليون بونابرت قائدًا عامًّا، وفوض له الاستيلاء على الديار المصرية، وطرد الإنكليز من جميع البلاد التي يمتلكونها في الشرق ما استطاع لذلك سبيلًا، وعلى الأخص القضاء على تجارة الإنجليز في البحر الأحمر، وفوض له أيضًا خرق برزخ السويس، واتخاذ الوسائل اللازمة لضمان امتلاك البحر الأحمر واختصاص جمهورية فرنسا به، فما كان أحلاها أحلامًا!! وما كان أبعدها تحقيقًا!! والملك لله الواحد القهار.

وكادت حادثة الاعتداء على سفير فرنسا١٤ في فينا توقف سير هذه الحملة؛ لأن حكومة الجمهورية خافت من تحرك النمسا فأصدرت الأوامر لنابوليون، ولكنه اكتفي بكتابة خطاب شديد إلى الكونت «كوبنزل» فهدأت الأحوال وبرح باريز في ٣ مايو ووصل طولون في ٩ منه، ونشر على الجيش في اليوم التالي إعلانًا حماسيًّا ملأ عباراته الضخمة، بألفاظ مختارة لتحريك الأشجان، والتأثير في النفس والوجدان، وقال لهم في طولون: «إن أوروبا تنظر إلى أعمالكم.» كما قال لهم بعد ذلك، تحت ظل الأهرام، «إن أربعين قرنًا من الزمان تراقبكم»!! وسنرى ماذا يقع تحت عيون أوروبا بأسرها، وأربعين قرنًا من الزمان بسرها وسحرها!

والجدول الآتي يبين مجموع القوة الفرنسية وطريقة نقلها على السفن من الموانئ المختلفة:

موانئ السفر بوارج فرقاطات سفن وطرادت نقالات جنود خيول
المجموع ١٣ ٩ ١١ ٢٣٢ ٣١٨٠٠ ٦٨٠
طولون ١٣ ٧ ٦ ١٠٦ ٢٠٠٠٠ ٤٧٠
مرسيليا ٢ ٣٠ ٣٢٠٠ ٦٠
كورسيكا ١ ٢٠ ١٢٠٠
جنوا ١ ١ ٣٥ ٣١٠٠ ٧٠
سفاتافيتشيا ١ ١ ٤١ ٤٣٠٠ ٨٠
وكان تكوين القوة «من حيث الأسلحة» من ٢٤٣٠٠ من المشاة «البيادة» و٤٠٠٠ خياله «سواري» وطوبجية ٣٠٠٠ ونحو ألف من الأتباع، والمجموع بالضبط ٣٢٣٠٠ «لا أربعين ألفًا كما يتساهل المؤرخون» وكانت قيادة الأسطول تحت الفيس أميرال برويز Brueys وتحت قيادة الكونت أميرالات Decrés, Blanquet-Duchyl, Villenenve، ورياسة أركان حرب الأسطول لغانتوم Ganteaume وأما الجيش البري فكان برتيه Berthier رئيس أركان الحرب وكافاريللي على المهندسي، ودومرتين Doumartin على الطوبجية وتحت رئاسته على الفرق القواد Songis وFaultrier وDesaix وKleber وDugua وعلى الأورط Lannes وMurat وLunusse وVial وVeaux وRampon وDavout وFriant وBelliard وDumas وLeclere وVerdier وAndreossy ومن ياوران نابوليون الضباط Junot وBeauharnais «ابن زوجته» وLouis Bonaporte «أخوه» وSulkowski وJullien وDuroc وCroizier.
ولقد جئنا على ذكر أسماء أولئك القواد والضباط الذين صاحبوا نابوليون في حملته؛ لأن الكثير منهم بلغ بعد من الشهرة في تاريخ أوروبا مكانًا قصيًّا، ولأن الكثيرين منهم كانت لهم في الديار المصرية، حوادث ووقائع مشهورة، ومنهم من قتل في هذه الديار، ولا بد من معرفة أسمائهم، وتتبع حركاتهم، وأهم ما فكر فيه نابوليون أنه ارتأى أن تكون معه بعثة علمية محضة لدراسة طبيعة البلاد المصرية، وبحث آثارها ونباتها وحيوانها، ونيلها وأرضها، وسمائها وسكانها، وكانت هذه البعثة تتألف من نحو مائة عالم من مشهوري علماء فرنسا الذين امتازوا بدراسة خاصة في كل فرع من فروع العلوم، وكانت هذه البعثة تحت رياسة الرياضي الشهير صديق نابوليون مونج Monge أحد أعضاء الأكاديمي، وكان معه من رجال الأكاديمي Berthollet وDolomieu وDenon ومن مهندسي الكباري والقناطر Le pére وجيرار ومن الرياضيين Corancez، Costaz، Fourier ومن علماء الفلك Nouet وBeauchamp وMéchin ومن علماء الطبيعة والنباتات Saint-Hilaire Geoffroy وSavigny ومن الكيماوين Descotils وChampy ومن الرسامين والموسيقيين والشعراء وعلماء فن المعمار عدد كثير.

ولا نزاع في أن هذه أول بعثة علمية رافقت، مرافقة رسمية، حملة من الحملات العسكرية في تاريخ العالم، والفضل في ذلك بلا نزاع راجع لنابوليون دون سواه، ولنا كلام على الأعمال التي قامت بها هذه البعثة العلمية من حيث فائدتها لمصر وأهلها، ومن حيث فائدتها للعلم عامة في أوروبا، ربما أتينا عليه في مكان آخر.

وفي اليوم التاسع عشر من شهر مايو نشرت سفن أسطول هذه الحملة أعلامها وسارت تمخر عباب البحر الأبيض المتوسط، قاصدة جزيرة مالطة، وكان نابوليون وياروانه في السفينة أوريان Orient «المشرق» التي يسميها الجبرتي «نصف الدنيا» ومعه قائد الأسطول برويس، ومعه أيضًا بها من رجال البعثة العلمية مونج وبرتللو، ومن القواد كفاريللي المهندس وغيرهم، وهنا نذكر أن الحكومة الإنكليزية عملت بأمر هذه الحملة، ولكنها لم تكن على بينة من معرفة الجهة التي تقصدها لما اتخذته الحكومة الفرنسية من وسائل التكتم الزائد، وكان الفكر الراجح لدى حكومة إنكلترا، أن هذه العمارة الفرنسية تنوي السفر من مياه البحر الأبيض المتوسط إلى جبل طارق قاصدة احتلال ايرلنده، ومع ذلك فقد أصدرت الحكومة الإنكليزية للأمير ال نسلون أمرًا بمراقبة هذه الحملة، وأصدرت إليه الأوامر الصريحة بأن يفعل كل ما في إمكانه لأسر، أو إغراق، أو حرق، هذه العمارة الفرنسية مهما كلفه ذلك، ما دام قادرًا على تسيير سفنه ولديه من الزاد والمئونة والذخيرة ما يكفيه، وكان نلسون يخالف حكومته في ظنها من حيث وجهة العمارة الفرنسية، وبعد أن أجبرته زوبعة كبيرة على الالتجاء بسفنه إلى جزيرة سردينيا، حيث رمم بعضها، التي أضرت بها هذه الزوبعة، تمكنت العمارة الفرنسية من السفر دون أن يقف لها الأسطول الإنجليزي على أثر، ثم قصد نلسون شواطئ إيطاليا وكتب في ١٥ يونيو على مقربة من نابولي قائلًا: إذا كانت السفن قد مرت من سيسيليا «جزيرة صقلية» فإنها لا بد وأن تقصد تنفيذ مشروع الاستيلاء على الإسكندرية، لكي ترسل من مصر حملة إلى الهند بناء على اتفاق مع «تيبو صاحب» وليس تنفيذ هذه الخطة بالأمر العسير.
أما العمارة الفرنسية فوصلت مالطة في ٩ يونيو «١٧٩٨» وأنزلت قوة في اليوم الثاني لاحتلال الجزيرة، وليس من موضوع عملنا أن نشرح حال مالطة وما جرى في استيلاء نابوليون عليها، إنما يكفينا من قبيل الفائدة التاريخية، ولما له من علاقة بهذا الكتاب، أن نذكر أن استيلاء نابوليون على مالطة كان ضروريًّا لحفظ مواصلاته مع فرنسا، وكانت هذه الجزيرة مستقلة تحت إدارة حكومة تدعى «فرسان مالطة» وهم جماعة من المسيحيين من جميع ممالك أوروبا، أشبه بفرسان الحروب الصليبية، وقفوا أنفسهم للدفاع عن صوالح النصرانية، لما شبت الحروب بين الدول الإسلامية وممالك أوروبا المسيحية، وكان لقبهم في الأول فرسان «رودس» فلما فتح السلطان سليمان جزيرة رودس، منحهم الإمبراطور شارلكان جزيرة مالطة وكانا يتقربون إلى ممالك أوروبا، ويستدرون خيرات أبنائها، بدعوى أنهم يحاربون حالهم حتى فاجأهم نابوليون بخيله ورجله، وبعد مقاومة ضعيفة استولى على الجزيرة وترك فيها أحد قواده الجنرال فوبوا Vaubois ومعه ثلاثة آلاف جندي كحامية في الجزيرة، وقبل أن يبرح الجزيرة، فكر في أن يوطد العلاقات الودية في المياه اليونانية في ألبانيا وأبيروس، وكان في حروبه مع البندقية قد استولى على جميع الجزر والسواحل والثغور التي كانت ملكًا لتلك الجمهورية في بحر الأدرياتيك سنة ١٧٩٧، وحينذاك راسله علي باشا والي «بنينا» المشهورة، ولم يكن إذ ذاك قد خرج عن طاعة الدولة، مؤكدًا له حسن ولائه، فكان أول خاطر لنابوليون قبل مبارحته مالطة، لتوطيد علاقاته الحسنة في ألبانيا، وأبيروس، هو أن بعث بخطاب إلى علي باشا والي ينينا وأوفد به أحد ضباطه.

واستعاض نابوليون، عن القوة الفرنسية التي تركها في الجزيرة «٣٠٠٠ جندي» بقوة تعادلها من المالطيين والفرنسيين، الذين كانوا مع فرسان الجزيرة، وغنم من الجزيرة نحو ١٢٠٠ مدفع وكميات كبيرة من الذخائر، أخذت منها الطوبجية الفرنسية ما رأته لازمًا في حملتها على مصر، وكان في الجزيرة نحو ثمانمائة من الأتراك الأسرى فأطلق نابوليون سراحهم، وأحضرهم لمصر في السفن لإرسالهم إلى بلادهم، وقد عمل هذا، كما يظهر من منشوراته في مصر، بقصد التودد للمسلمين ولحكومة الباب العالي، ثم ضم إلى الحملة عددًا وافرًا من المالطيين والأسرى المغاربة الذين يعرفون اللغة العربية والفرنسية بصفة تراجمة، وكان لهم شأن في حوادث مصر كما سيأتي ذكره في مكانه، وأرسل من مالطة في سفينة عدة آثار غالية وغنائم بقصد إيصالها إلى فرنسا، فغنمها الإنجليز قبل أن تصل إلى فرنسا.

وفي ١٩ يونيو أقلعت العمارة الفرنسية من مالطة قاصدة جزيرة كريد، أما نلسون فإنه تتبع العمارة الفرنسية بأسطوله، وقد روى كتاب الإنجليز أن نلسون كان في ٢٠ يونيه ماخرًا بأسطوله جنوب جزيرة صقلية، وكانت العمارةالفرنسية قد خرجت في اليوم السابق من مالطة، بحيث كان الأسطولان على مقربة من بعضهما، ولكن لم ير أحدهما الآخر، وكانت وجهة الأسطول الإنجليزي ثغر الإسكندرية ليدرك العمارة الفرنسية، كما قرر نلسون ذلك في ذهنه، وقال كتاب الإنجليز: إن نلسون كان في صباح يوم ٢٤ يونيو على مسافة بضع فراسخ من العمارة الفرنسية، جنوبي جزيرة كريد، ولكن لم يرها أيضًا واستمر قاصدًا الإسكندرية فوصلها، كما سيأتي بيانه، بثلاثة أيام قبل العمارة التي يتعقبها … فما أعجب حوادث التاريخ!! فلو أن نلسون أبصر العمارة الفرنسية في مكان من المكانين المشار إليهما، لعقبهما وربما مزقها إربًا، قياسًا على ما فعل معها في أبي قير بعد، وقياسًا على انتصاراته على أساطيل فرنسا وحلفائها في حروب تلك السنين، ولو تم له ذلك لتغيرت صفحة كبيرة من صفحات التاريخ، ولما ظهر لنابوليون من الشهرة والمجد ما ظهر، ولما حاق بمصر ما حاق بها من المحن والمنافسات والمنازعات، التي لم تكسب من ورائها فائدة مباشرة.

في يوم ٢٦ يونيو وصلت العمارة الفرنسية إلى جزرية كريد، وهناك في صبيحة اليوم التالي اجتمعت بها الفرقاطة التي كان قد بعث بها للاستعلام في جهات نابولي، وأخبر نابوليون بأن نلسون على رأس أسطول ضخم، كان قريبًا من مياه نابولي في يوم ٢٠، وأنه سار قاصدًا مالطة، فلما وصل هذا النبأ إلى مسامع نابوليون أصدر أوامره في الحال بالسفر إلى جهة إفريقية، وعند ذلك كشف الغطاء للجنود والضباط عن الجهة التي تقصدها الحملة، بعد أن بقي سرها مكتومًا عن الجميع؛ إذ أصدر الجنرال بونابرت أمرًا وزعه على جميع السفن لتتلوه الجنود، ولما كان هذا المنشور من الأهمية بمكان من وجهة تاريخ مصر، وبيان الخطة التي وضعها نابوليون لنفسه ولجيشه في مبدأ الأمر نأتي على تعريبه.

منشور إلى الجيش البري١٥

من المعسكر العام على ظهر الباخرة أوريان ٤ مسيدور سنة ٦ للثورة «٢٢ يونيه سنة ١٧٩٨»
من بونابرت عضو الانستينو ناسيونال، وقائد عام جيش مصر
أيها الجنود!

إنكم ستخوضون غمار حرب سيكون لها تأثير عظيم على المدينة وتجارة العالم أجمع، وستضربون إنكلترا ضربة حساسة في صميم فؤادها، على أمل أن تتمكنوا بعد من إيصال هذه الضربة للقضاء على حياتها.

سنضطر إلى قطع مسافات متعبة على الأقدام، وسنقاتل في عدة مواقع، وسنفوز في جميع المعارك؛ لأن العناية معنا.

وبعد وضع أقدامنا في أرض مصر ببضعة أيام سنمحي من صحيفة الوجود أولئك البكوات المماليك الذين يعضدون التجارة الإنجليزية دون سواها، والذين أهانوا تجارنا، وعاملوا سكان وادي النيل بالظلم والاستبداد.

واعلموا أن الشعب الذي سنعيش معه يدين بدين الإسلام، وأول قواعدهم «أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله» فلا تعارضوهم في معتقدهم، وعاملوهم كما عاملنا اليهود والإيطاليين، واحترموا مشايخهم وعلماءهم، كما احترمنا الرهبان والقساوسة.

وليكن في نفوسكم من التسامح للتقاليد التي يقضي بها الشرع، والمساجد، مثلما كان لكم من التسامح مع الكنائس والصوامع والبيع، ومع المتدينين بدين عيسي وموسى، ولقد كانت الجيوش الرومانية قبلكم تحمي الأديان وترعاها، وستجدون في هذه الديار عادات تخالف العادات في أوروبا، فلا بد من أن تألفوها وتعتادوها، وأعلموا أن الناس الذين ستكونون بينهم، يعاملون النساء على غير مألوفنا، وقد أجمعت الأمم على أن من يتعدى على حرمة المرأة، إنما هو حيوان وبهيم.

وأما النهب والسلب، فلا يغني إلا فئة قليلة من الأفراد، ولكنه يحط من قدرنا، وينقص من شرفنا، ويبغض فينا قلوب الناس الذين من مصلحتنا أن نكون معهم على صفاء ووداد. ا.ﻫ.

ولقد جئنا على نص هذا المنشور لأسباب كثيرة، منها أنه غير موجود باللغة العربية، بخلاف منشوراته الأخرى، التي عربت تعريبًا قبيحًا، ونشرها الجبرتي وغيره، ومنها أنه يعبر عن عواطف نابوليون وميوله الأولى قبل أن يحطم نلسون أسطوله في أبي قير، ويقطع عليه آمالًا كبيرة، ومنها أنه لم يقصد بهذا المنشور الذي وزع على الجنود دون سواهم، مراءات المصريين، ومن هذه الأسباب أيضًا، رغبتنا في تطبيق هذه النصائح والإرشادات، التي وجهها لجنوده، على ما وقع منهم من الأمور المغايرة لروح هذه القواعد، أثناء وجود نابوليون بمصر، وبعد سفره منها.

هوامش

(١) Les Origines de L’Expedition D’Egypte, Par François Charle Roux.
(٢) ليبنتز Gattertreed Willielm Leibnitz فيلسوف كبير، ورياضي شهير وسياسي ومؤرخ، ولد في ليبزج من أعمال ألمانيا سنة ١٦٤٦، وتُوفى سنة ١٧١٦، كان ألمانيًّا ورأى من سياسة لويس الرابع عشر أنه ينوي الغارة على ألمانيا فسافر إلى باريس ليحمل لويس الرابع عشر على تغيير سياسته، وليقنعه أنه ليس من الصواب محاربة أوروبا المسيحية لبعضها، وعرض عليه فكرة الحملة على مصر باسم المسيحية ظاهرًا، ولكن الحقيقة في الباطن هي إسقاط الدولة الهولندية، وكتب مذكرة بل كتابًا مطولًا باللغة اللاتينية، وفي هذه المذكرة فذلكة من تاريخ الحروب الصليبية وحملة لويس التاسع على مصر، ثم تدرج إلى علاقة فرنسا بتركيا ومصلحة فرنسا في احتلال وادي النيل.
وقد بقي أمر هذه المذكرة سرًّا مكتومًا من ذلك العهد حتى احتل نابوليون بلدة هانوفر سنة ١٨٠٣، وهناك وجدوا في مكتبها نسخة من المذكرة المشار إليها، ومنها عرف أن فكرة الحملة الفرنسية على مصر ليست حديث العهد، وحصلت الحكومة الإنجليزية على نسخة من هذه المذكرة اللاتينية، ونشرت في لندن خلاصة لها باللغة الإنجليزية في أواخر سنة ١٨٠٣ لإيقاف الشعب البريطاني على فكرة احتلال فرنسا مصر والغرض منه، وفي طي ذلك تحريض للأمة الإنجليزية على احتلال مصر، وقد عثرت على نسخة من هذه الخلاصة الإنجليزية «طبعة ثانية» وهي موجودة في دار الكتب المصرية نمرة ٤٥٧٢ تاريخ — وتاريخها سنة ١٨٠٣.
(٣) بارون دي توت François Baron de Tott ولد في شاميني سنة ١٧٣٣ وكان موظفًا في سفارة فرنسا في الأستانة، وعين قنصلًا لدولته في القريم في سنة ١٧٦٢، ثم وظفته الحكومة التركية في عهد السلطان مصطفى الثالث، وقام بتحصين الدردنيل ضد هجمات الروس، وأنشأ في تركيا معامل للأسلحة النارية، ثم استقال وعاد لباريس وله مؤلف في ثلاث أجزاء عن الترك أو التتار … جاء في رحلة «سونيني» ما يأتي بحروفه: عينت الحكومة الفرنسية مسيو «توت» مفتشًا لموانئ البحر الأبيض «شواطئ سوريا وإفريقيا» وأصدرت أمرها بإعداد غرناطة لسفره من ميناء طولون، وأمرت أن أسافر معه في نفس الباخرة وأن أبقى فيها حتى تؤدي مأموريتها، ولكن الأوامر صدرت بعد ذلك مناقضة للأولى؛ فلذلك غادرت السفينة في الإسكندرية لأواصل رحلتي في الديار المصرية … وهذا يشعر بأن الأوامر صدرت له بارتياد الديار المصرية، وأنه لم يكن سائحًا بسيطًا كما يدعي في كتاب رحلته الذي سبقت الإشارة إليه في هذا الكتاب.
(٤) وانقضت مائة وثلاثة وأربعون سنة من ذلك التاريخ، ولا تزال تركيا في أوروبا والروسيا إلى اليوم مفككة العرى، ولله في خلقه شئون.
(٥) دانيس لا كرو Denis Lacroix في كتابه Bonaparte En Egypte بونابرت في مصر.
(٦) هذه الإشارة تدل على أن القطن كان يزرع في مصر قبل الحملة، والمتداول بين الناس والمؤرخين أن محمد علي هو الذي أدخل زراعة القطن في مصر.
(٧) باولي هو باسكال باولي بطل كورسيكا وزعيم ثورتها وقائدها للحرية، وكان اسمه يدوي في جميع العواصم الأوروبية.
(٨) هربرت فبشر مؤلف حياة نابوليون، وصاحب المباحث العويصة البديعة في كتابه: Bonapartism & Studies in Napoleonic Statesmanship.
(٩) بلوتاركه الروماني مؤلف كتاب عظماء الرجال.
(١٠) Citoyen Ministre ولفظ استوين استعمله الجبرتي بحاله في عدة مواضع ولم يعربه.
(١١) جزائر الأنتيل أو الهند الغربية واقعة في بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية في المحيط الأطلانطيقي، وفيها أكثر من ثلاثة ملايين من السكان ومنها جزائر كوباوهايتي وجاميكا وبورت ريكو، وكلها جزائر خصبة غنية بخيراتها، وكانت أول الأراضي التي اكتشفها كولومبوس من أمريكا، وقد أصبحت كلها مستقلة مع الولايات المتحدة.
(١٢) ديزيريه لاكروا.
(١٣) يظهر من التحقيقات التاريخية أن تاريخ تقرير الحملة وإعطاء القيادة لنابوليون كان في ٥ مارس لا في ١٢ إبريل من تلك السنة، كما ورد في هذه العبارة التي عربناها من مذكرات بوريين، والظاهر أن تقرير الحملة كان في ٥ مارس وصدور الأوامر الرسمية في ١٢ إبريل.
(١٤) كان السفير إذ ذاك هو بونادوت الذي سار بعد ملكًا للسويد … إلخ.
(١٥) هذا المنشور كتب وطبع في الباخرة أوريان في ٢٢ يونيه، ولكنه لم يوزع على الجيش إلا في يوم ٢٨ قبل مساء اليوم الذي أنزلت فيه الجنود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤