الفصل السابع والعشرون

وقائع المهدي وانتصاراته

أرسل المهدي إلى محمد رءوف باشا حكمدار السودان سنة ١٨٨١ كتابًا يبلغه فيه رسالته المهدية، ويدعوه إلى اتباعه، فأوفد رءوف باشا محمد أبو السعود بك من الخرطوم على باخرة إلى أبا، وحاول ثني محمد أحمد المهدي عن دعوته، فلم يقبل،١ وحينئذ أرسل رءوف باشا بلوكين من الجنود مع أبي السعود بك للقبض على المهدي، ولكن المهدي وأنصاره هزموا هذه القوة، ثم هجر المهدي إلى جبل ماسة المجاور لجبل قدير على المراكب، وهذان الجبلان في الشمال الغربي من فاشودة.

وقد انتصر في طريقه على ملك يسمى المختار، ووصل إلى جبل قدير في ٧ ذي الحجة سنة ١٢٩٨ المقابل ٣١ أكتوبر سنة ١٨٨١، وقد رحَّب به الملك ناصر، وبنى المهدي مسجدًا ومنازل للسكن، وقد هجم راشد بك مدير فاشودة على المهدي وأنصاره في ٩ ديسمبر سنة ١٨٨١، فانتصر المهدي وقتل راشد بك ومعظم جنوده، وغنم المهدي الأسلحة والمال.

وقد أرسل عبد القادر باشا حلمي الذي عُيِّن حكمدار سنة ١٨٨٢ قوة بقيادة جكلر باشا، الذي أصبح نائبًا للحكمدار بعد عزل محمد رءوف باشا، وقبل وصول عبد القادر باشا حلمي جعل جكلر باشا القوة برياسة يوسف الشلالي باشا ومعه ١٣ بلكًّا و١٥٠٠ باشبوزق، وقد انتصر المهدي على يوسف باشا الشلالي عند جبل الجرادة في ٣٠ مايو سنة ١٨٨٢، وقتل يوسف باشا الشلالي، وعبد الله محمد دفع الله، وعبد الهادي صبر، وطه الشيقي، واستولى المهدي على الذخائر والأسلحة، فزاد الانتصار في هيبة المهدي وشهرته، والاعتقاد بأنه المهدي المنتظر، والواقع أن الحركة المهدية لو جُردت من ادعاء المهدية لكانت حركة دينية استقلالية، فأخذ الناس يبايعون المهدي على الصورة الآتية:

(١) بيعة المهدي

«بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم، أما بعد، فقد بايعنا الله ورسوله وبايعناك على توحيد الله، أن لا نشرك به أحدًا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصيك في معروف، بايعناك على زهد الدنيا وتركها، والرضا بما عند الله؛ رغبة بما عند الله والدار الآخرة، وعلى أن لا نفر من الجهاد.»

وكانت المبايعة على وجهين:
  • الأول باليد؛ بأن يضع المبايع يده في يد المهدي، جاعلًا إبهامه على إبهامه، ثم يقرأ المهدي صورة المبايعة، فيعيدها المبايع بعده، وإن كانوا أكثر من واحد إلى العشرين وضع أحدهم يده في يد المهدي، وألقى الباقون أيديهم فوق يديهما.

  • والوجه الثاني المبايعة باللسان؛ وذلك متى زاد المبايعون على العشرين، فيرقى المهدي إلى منبر، أو يعلو جملًا ويقف الناس أمامه ويبايعونه.

وكان المهدي يلبس جبة مرقعة فوق سراويل من الدمور، ويتمنطق بمنطقة من خوص، وعلى رأسه طقية مكية يلف عليها عمامة كبيرة بيضاء مفلجة كعمامة أهل الحجاز، ويسدل لها عدبة على كتفه اليسرى، طولها نصف متر، وعلى عنقه سبحة، وفي رجليه حذاء أو نعلين، وكان المهدي يطلق على رجاله اسم الأنصار، والأصحاب، والأحباب في الله، وكانت الحكومة تسميهم الدراويش والأشقياء!

(٢) حكومة المهدي

وقد كان المهدي يتشبَّه بسيدنا محمد في حكمه ومعاملة أصحابه، وقد عين أربعة خلفاء على جيشه؛ الخليفة الأول: عبد الله التعايشي خليفة أبي بكر الصديق، والثاني علي ود حلو من عرب دغيم خليفة عمر بن الخطاب، والخليفة محمد السنوسي الذي لم يقبل أن يكون خليفة عثمان وكذَّب المهدية، والخليفة محمد شريف خليفة علي بن أبي طالب.

وقسَّم جيشه ثلاثة أقسام؛ فكان محمد شريف لأنصار السودان الأوسط، أي: دنقلة وبربر والخرطوم وسنار مع الجلابة وأولاد النيل، ورايتهم حمراء. وعلي ود حلو على عرب دغيم وكنانة، ورايتهم خضراء. و«عبد الله» على السودان الغربي من التعايشة والرزيقات والحمر، وضم إليهم الجهادية وأولاد الريف، ورايتهم سوداء. وقد امتاز الخليفة عبد الله بالأمباية التي يبوق بها لجمع الجيش، وجعله رئيسًا عامًّا على الإدارة والجند، وكان لكل خليفة وكيل على رايته، ودونه أمراء ومقاديم، ولكل أمير راية؛، ومما كان يُكتب على الرايات: «بسم الله الرحمن الرحيم، سطر، لاإله إلا الله، سطر، محمد المهدي خليفة رسول الله، سطر، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، سطر.»

وكان المهدي يعرض جيوشه كل يوم جمعة صفًّا واحدًا نحو القبلة، ويتفقدهم راكبًا جوادًا أو هجينًا. وأنشأ «بيت المال»، وكان فيه أموال الجند والعشور والزكاة والغنائم والغرامات، وأسند القضاء إلى الشيخ أحمد ود جبارة من علماء الأزهر الذين صحبوه من جزيرة أبا، ولقَّبه بقاضي الإسلام، وجعل دونه قضاة ونوابا، فالقضاة يفصلون في المسائل الشرعية، والنواب في الغنائم والحقوق المتعلقة ببيت المال.

(٣) الترحيب بالمهدي

إعجابًا بظهور المهدي، كان السودانيون يرددون الأقوال التالية، على أنها أمثال أو أغاني أو أناشيد:

هواي هواي أسير المهدي في قدير، بشائر الخير جاءت لنا، واليوم ظهر مهدينا.

وحاة قولي صواب، خنق قميركم غاب، ألف في التربة، ولا قرش خردة في طلبة ود الريف شين جابه حربه، وكوكاب في جعابه.

(٤) راتب المهدي

كتاب يجمع الدعوات وآيات قرآنية وصلوات على النبي، وشيخ الطريقة يرتب قراءته على تلاميذه صبحًا ومساءً، انفرادًا واجتماعًا.

(٥) كبار الثائرين على الحكم المصري

سليمان الزبير، ثم رابح في بحر الغزال، هرون الرشيد أمير دارفور في دارفور، والصباحي في كردفان.

(٥-١) في كردفان

ظهر للمهدي أنصار في كردفان، منهم المكي ود إبراهيم، وحامد ود السنجق، والمكي إبراهيم، والسماني، والمنة ود إسماعيل شيخ الجوامعة.

كان محمد سعيد باشا مديرًا لكردفان، وقد حصن الأبيض، وكان أحمد بك دفع الله من أعيان تجار الأبيض نصيرًا لسعيد باشا، وكان إلياس باشا أم برير الجعلي النفيعاني خصمًا لدفع الله ونصيرًا للمهدي.

تقدم المهدي في ١٢ رمضان سنة ١٢٩٩ﻫ ٢٨ يولية سنة ١٨٨٢م من جبل قدير، ونزل في منهل كابا على بعد ستة أميال إلى الجنوب الغربي من الأبيض في ١ سبتمبر سنة ١٨٨٢، وندب اثنين إلى الأبيض لدعوة سعيد باشا والرؤساء والعلماء والتجار للتسليم، وقد أمر سعيد باشا بقتل مندوبي المهدي فقُتلا، ولكن في الليل أخذ الأهالي يفرِّون إلى كابا ويبايعون المهدي، وكان جملة رجال سعيد باشا ستة آلاف، وقد حفروا خندقًا حول الأبيض، وحاصر المهدي الأبيض لمدة أربعة شهور، وغلت الأسعار فبلغ ثمن إردب الذرة ٣٠٠٠ ثلاثة آلاف ريال، والحمار ٥٠٠ ريال، والفرخة أربعين ريالًا، والبيضة ريالًا، والفار ريالين، ورطل البن ريالين، ورأس السكر خمسين ريالًا.

ووقعت مجاعة، ومرض الجند، وهرب أكثرهم، وسلمت حامية بارة، وقد سلم سعيد باشا والضباط في يوم الجمعة ١٩ يناير سنة ١٨٨٣ وبايعوا المهدي، وسأل المهدي سعيد باشا عن أمواله المخبأة، وكانت ٧٠٠٠ آلاف جنيه، فأنكرها، وقد قتل سعيد باشا وكبار ضباطه.

ويقول «سلاطين باشا» في كتابه «السيف والنار في السودان» إن الذي حمل المهدي على قتل سعيد باشا ومن معه هو ضبط كتاب أرسلوه إلى عبد القادر باشا حلمي، ولكن رواية أخرى تقول كان قتله انتقاما أراده المهدي لقتل رسوليه.

حملة هكس باشا

وعين علاء الدين باشا حاكمًا للسودان، وكان سليمان نيازي باشا قومندانًا عامًّا، وهكس باشا ضابطًا إنجليزيًّا، وقد تقدم هكس باشا بحملة كبيرة بقيادة نيازي باشا، وصلت إلى الدويم، وتوجهت إلى منهل الشيكان، ووقعت في ٥ نوفمبر سنة ١٨٨٣ واقعة شيكان، فقتل قائد الحملة سليمان نيازي باشا وأركان حربها هكس باشا ومن معه، وكانت نكبة ارتعدت لها الفرائص.

وورد في التقرير المرفوع من الأرل كرومر، قنصل دولة إنكلترا الجنرال ووكيلها السياسي في مصر إلى السير إدوار جراي وزير خارجيتها وقتئذ عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة ١٩٠٦:

مضى نحو أربعة وعشرين عامًا على الواقعة التي باد فيها جيش الجنرال هكس، ولا أظن أن أحدًا من الأوربيين زار ميدان الواقعة في خلال هذه المدة، ولكن السير ريجنلد ونجت عرج على المحل في أثناء زيارته لكردفان في الشتاء الماضي، وقد كتب ما يأتي:

زرت ميدان الواقعة التي قَتل فيها الدراويشُ المرحومَ الجنرال هكس باشا، وأفنوا كل جيشه سنة ١٨٨٣، ومن الغريب أن العساكر كانوا في حالة شديدة من العطش، مع وجود بركة كبيرة من المياه على بُعد ميل واحد عنهم، ولكنهم لم يعلموا بها، والمحل واقع على بعد ٣٠ ميلًا جنوبي الأبيض، في وسط غابة كثيرة، ولا أشك في أنه لو كانت النجدة المرسلة لرفع الحصار عن الأبيض أكثر عددًا وأقوى عددًا لكانت لاقت ما لاقته حملة هكس، وإرسال تلك الحملة في أحوال كهذه يعد ضربًا من الجنون، وهو أكبر دليل على أن الحكومة في ذلك الحين لم تكن عالمة بحقيقة الحال، ولم تحسب حسابًا للصعوبات التي لا بد لكل جيش عظيم من ملاقاتها في أثناء مروره ببلاد كهذه.

figure
هكس باشا، كان ضابطًا إنجليزيًّا في الجيش الهندي، تقاعد برتبة كولونيل، ثم عيَّنته الحكومة المصرية رئيسًا لأركان حرب الجيش بالسودان، ووصل إلى الخرطوم في ٧ مارس سنة ١٨٨٣ ومعه فلول جيش عرابي المؤلفة من ٤ آلايات، وكان عدد الحملة ١٢٩٠٠ مقاتل، ومعهم مراسلو التيمس والديلي نيوز والجرافيك والجمال والإبل والحمير والخبراء، وقد قُطعت رأس هكس وفني جيشه واستولى المهدي على ذخائره، وكان انتصارًا عظيمًا للمهدي.

وكان رأي عبد القادر حلمي باشا عدم إرسال الحملة، وترك المهدي في كردفان حتى تفنى قوته بالحصار، ولو نفذ رأيه لتغير الموقف.

وكانت الحكومة الإنجليزية قد أرسلت الكولونيل استيوارت في أواخر سنة ١٨٨٢، وقدم إليها تقريرًا في ٩ فبراير سنة ١٨٨٣ ذكر فيه أن المصريين يعجزون عن حكم السودان وحدهم.

(٥-٢) في دارفور

أخمد «سلاطين» مدير دارة، والنور عنقرة مدير كبكبية ثورة الأمير هرون في دارفور، وعين «سلاطين باشا» مديرًا لدارفور سنة ١٨٨١، وقد ثار في دارفور الشيخ مادبو، وفي أواخر أكتوبر سنة ١٨٨٢ هُزم جيش سلاطين، وأصيب «سلاطين» نفسه برصاصة في بنصر يده اليمين، وجرح برصاصة في فخذه، وقد عصته حامية بارة، وسرى روح الثورة في جميع بلاد دارفور، وتمرد الجند، وكان محمد خالد زقل مدير دارة من أقارب المهدي، وكان سلاطين يخشاه، وقد دخل سلاطين دارة وحضر محمد خالد زقل العامل على دارفور بجيش عظيم، وسلم سلاطين إليه في ٢٣ ديسمبر سنة،١٨٨٣ وأعلن إسلامه، وبايع المهدي الذي سماه «عبد القادر»، وألزمه باب الخليفة عبد الله التعايشي.

(٥-٣) في بحر الغزال

نشبت الثورة في بحر الغزال من أغسطس سنة ١٨٨٢، وامتدت إلى خط الاستواء، وتقدم الجانقي ومعه الدراويش إلى الزريبة الخارجية عند بحر بيري، وجرد ملتون بك جيشًا، ثم أسلم ومن معه وبايعوا الجانقي في ١٨ أكتوبر سنة ١٨٨٤، وأُسلو إلى أبي سعد، وتقع جنوبي أم درمان، ثم سُجن واحتل كرمه الله بحر الغزال.
figure
عثمان دقنة.

(٥-٤) عثمان دقنة

عيَّن المهدي عثمان دقنة أميرًا على السودان الشرقي، وعثمان دقنة أصله من أكراد ديار بكر الذين حضروا إلى سواكن مع السلطان سليم الفاتح، واختلطوا بالهدندوة، وكان منهم قبيلة الدقناي.

وقد ولد في سواكن، ونشأ بها واشتغل بالتجارة مع السودان والحجاز وبالرقيق، ولما منعت الحكومة تجارة الرقيق ساءت حالته، وسُجن مرة في جدة مع أخيه بسبب اتجارهما بالرقيق، وعندما علم بالدعوة المهدية اعتقد فيها وآمن بها ومات عليها، وكان يعرف العربية كتابة وقراءة، ولغة الهدندوة والبجة، وكان شهمًا شجاعًا مهيبًا.

كان للحكومة حامية في سواكن وحامية في طوكر، وقد فتح عثمان دقنة سنكات في ١٥ أغسطس سنة ١٨٨٣، وحاصر طوكر، وحاصر سواكن، وسلمت الحاميات.

كان عثمان دقنة معسكِرًا في تماي، وله معسكر في تل هشيم على بعد ٧ أميال من سواكن، ومعسكر في طوكر.

وقد وُجِّهت حملة إنجليزية برياسة الجنرال جراهم إلى سواكن ومعه ١٣ ألف جندي، وقد احتل تل هشيم، واحتل تماي، وقد أخلى عثمان دقنة معسكره متحصنًا في الجبال.

وعمل جراهم على مد سكة الحديد من سواكن إلى بربر، وقد أمرت الحكومة بإخلاء سواكن، وعاد إلى القاهرة في ١٧ مايو سنة ١٨٨٥، وعاد عثمان دقنة إلى تماي.

(٥-٥) قتل غوردون وسقوط الخرطوم

وقد أرسل المهدي كتبًا إلى غوردون للتسليم، وسلمت حامية أم درمان، وحاصر المهدي الخرطوم، وقد جاعت العساكر، وكان غوردون يأمل أن يحضر جيش إنجليزي لإنقاذه، وكان يقضي أكثر الوقت على سطح السراي والمنظار بيده، فيوجهه إلى الشمال، ومضت مدة لم يدفع غوردون نقودًا إلى الجنود، فجمع قرضًا من التجار، وأصدر منشورًا قال فيه:

إني سبقتُ فأنعمتُ على جميع العساكر والموظفين الملكيين بمرتب ثلاثة أشهر، ثم بمرتب ستة شهور ونصف، ثم بمرتب شهرين، والآن أعود فأثبت إنعامي هذا وأنا في انتظار الإنجليز القادمين لنجدتنا كل يوم، بل كل ساعة، وكلما تأخروا يومًا حسبته لكم شهرًا، وجلالة ملكة الإنجليز ضامنة لقولي هذا.

زاد الجوع، واستمر فرار الجنود من الخرطوم إلى المهدي في أم درمان، وقنع الجنود والسكان بأكل الصمغ والجمار والجيف والجلود.

وكان للخرطوم خندق يمتد من النيل الأزرق إلى النيل الأبيض، ولا يتصل بالنيل الأبيض إلا في الفيضان، وإذا انخفض انحسر عن ثغرة يسهل الدخول منها إلى الخرطوم.

وقد عرف المهدي ضعف الخندق وسوء حالة المدينة، وقد زحف الدراويش يقودهم النجومي، ودخل رجاله من الثغرة، وقتلوا الأورطة المصرية، ثم الأورطة الثانية السودانية، ثم الأورطة السودانية الثالثة والباشبوزق.

وقد قصد محمد نوباوي شيخ بني جرار ومعه عربان إلى سراي الخرطوم، حيث كان غوردون على سطح السراي، ولم يكن معه سوى خادمه محمد إدريس وثلاثة قواسين، وعلى باب السراي ضابط وخفراء قاوموا المهاجمين بالرصاص، وعندئذ كان غوردون واقفًا عند رأس السلم بثيابه العسكرية والسيف عن جنبه، فقال لهم: «أين محمد أحمد؟» فأجابوه بالطعن بالحراب، وكان محمد نوباوي أول طاعن، وقبل أن فاضت روحه أمسكوه من رجليه على السلم إلى أسفل السراي، وقطعوا رأسه وحملوه إلى المهدي في أبي سعد، وكان على مائدة غوردون صحن به بيض مقلي، وعلبة لحم صغيرة فيها شوكة، وبجانبها ملعقة وصحن آخر به قطعة سكر.

وقد أُخذت رأس غوردون إلى النجومي، وأرسلها النجومي إلى الخليفة محمد شريف، فأرسلها إلى المهدي الذي أرسله إلى سلاطين باشا حينما كان مسجونًا ليتحقق أنه رأس غوردون، ثم علقه في المشنقة ثلاثة أيام، وقد فتحت أبواب المدينة وأخذت الغنائم والأسرى، ودخل الدراويش المدينة، وكان إبراهيم باشا فوزي المحافظ بين الأسرى.

(٥-٦) حملة السير تشارلس ولسون

سار السير تشارلس ولسون في الباخرتين بردين وتل حوبن حتى وصل إلى ود حبشي في رأس شلال السبلوكة، واستمر حتى وصل التمانيات، وبات فيها إلى فجر ٢٨ يناير سنة ١٨٨٥، وفي الساعة ١١ صباحًا أطلَّ على الخرطوم، حيث سمع رجلًا ينادي: «الخرطوم سقطت والغوردون مات»، وقد ألقت شارلس جنود المهدي القنابل والرصاص من طابية أم درمان، وطابية المقرن، وقفل راجعًا يحمل نبأ سقوط الخرطوم، وغرق وابور تل حوين، وانتقل رجاله إلى وابور بردين الذي غرق أيضًا، فاضطر السير تشارلس ولسون إلى السير على الأقدام على شاطئ النيل، حيث قابل اللورد شارلس برسفور وعادا إلى القبة مع رجالهما على الباخرة الصافية.

وقد رجعت الحملة الإنجليزية النيلية إلى القاهرة سنة ١٨٨٥.

إخلاء دنقلة

وقد قررت الحكومة إخلاء دنقلة، وأقامت فيها حكومة من الأهالي، ولكنها سقطت بيد المهدية.

في سنار

زحف عامر المكاشف على سنار، وكان بها حسين بك شكري «باشا»، ومعه ١٥٠ جنديًّا ومدفع واحد، وانتصر عامر المكاشف، وعاد عامر إلى غابة الكبوش، وعاد المدير إلى مدينة سنار بفلوله، وهرب عامر المكاشف، وقد استعان جكلر باشا بعوض الكريم أبي سن شيخ مشايخ الشكرية، وهزم الشريف أحمد طه من أنصار المهدي وقتله.

وقد أرسل المهدي من أصحابه أحمد المكاشف والشيخ المضوي وود الصليحابي وفضل الله ودكريف، وقد هزم المكاشف مرتين في الدويم، وحاول حصار سنار، وانتصر عبد القادر باشا حلمي في واقعة الداعي في ٢٤ فبراير سنة ١٨٨٣، وعين صالح بك المك على الشايقية والأتراك في سنار.
figure
صعود الوابور فوق الشلال الثاني.

في كسلا

تقدَّم الأمير حسين عبد الواحد واحتل القضارف، ودانت له معظم القبائل العربية التي بين العطبرة والنيل، وحاصر الجيرة، وقد طلبت الحكومة المصرية — بعد فوز المهديين — من الملك يوحنا ملك الحبشة أن يساعدها على إنقاذ الحاميات المصرية على حدود الحبشة، وسلم الميرالاي سعيد بك رفعت الأسلحة والذخائر إلى الرأس دهنشوم من أمراء الحبشة، وخرج بالحامية من المتمة في ٢٨ فبراير سنة ١٨٨٥، وتوجَّه سعيد بك مع دهنشوم إلى ملك يوحنا لشكره، وعاد سعيد بك من مصوع إلى مصر، واحتل محمد ود أرباب القلابات في ٥ مارس سنة ١٨٨٥.

وسلمت محافظة مصوع إلى الإيطاليين منذ ٦ فبراير سنة ١٨٨٥، وعادت حاميتها إلى مصر، وأخليت أميدوب في ١٠ أبريل سنة ١٨٨٥، وسنهيت في ١٩ أبريل ١٨٨٥ إلى الحبشة، وأخليت هرر وزيلع وبربر سنة ١٨٨٥، وعين في هرر عبد الله محمد عبد الشكور، واستمر حتى بداية سنة ١٨٨٧، حيث غزاها منليك ملك شوه، ثم ملك الحبشة بعد ذلك، وصارت هرر مع الحبشة وزيلع وبربر من المستعمرات الإنجليزية.

وقامت الثورة في كسلا في أغسطس سنة ١٨٨٨، وكان راشد باشا كمال قومندان عسكر شرقي السودان، ثم عاد راشد باشا إلى مصر وعاونوا الحكام المصريين.

وحدثت وقائع كثيرة كانت الحرب سجالًا، وخرج السيد محمد عثمان الميرغني من الخاتمية بكسلا في ٣٠ يونية سنة ١٨٨٤، إلى مصوع، إلى مصر، حيث مات فيها في ١٠ ربيع الآخر سنة ١٣٠٣، ودفن في باب الوزير، ومقامه فيها مشهور، وتولى الخاتمية بعده ابن عمه السيد بكري بن السيد جعفر الميرغني، ولم يبقَ معه إلا أخلاط من الدناقلة والجعليين والحلانقة والبجة، وبنو أسوارًا.

وزحف مصطفى هدل على الخاتمية، وهزم السيد بكري الميرغني، وقد سقطت الخاتمية في ٣ مايو سنة ١٨٨٥ و١٨ رجب سنة ١٣٠٢، وقد حاول قتل السيد البكري الذي ضحى أنصاره بأنفسهم وحموه، وتوجه إلى مصوع فسواكن فمكة، ومات فيها سنة ١٣٠٤ﻫ، واستولى مصطفى هدل على الخاتمية.

(٦) بعد سقوط الخرطوم

جعل المهدي معسكره في أم درمان في سنة ١٨٨٥، وقام بسك النقود مقلدًا الجنيه المصري والريال الفضي، وشرع في جمع الزكاة والعشور.
figure
آلات سك النقود التي كانت تستعمل في أثناء الحكم المهدي.

وكان يبتُّ في جميع المسائل الإدارية، وكان له كتَّاب، ثم جعل له أمناء وعاملين أجاز لهم الحكم بالقتل بدون استئذانه.

ولما أقبل رمضان سنة ١٣٠٢ أصدر منشورًا بجعل شهر الصوم فترة راحة، وامتناع عن نظر أحوال الدنيا، والتخصص بالذكر والتذكار.

(٧) عزم المهدي على غزو مصر وكتبه إلى أهلها وإلى الخديوي

أرسل المهدي منشورًا إلى سكان مصر حكامًا وتجارًا وعُمدًا وغيرهم، يبلغهم فيه عزمه على غزو مصر، وأرسل كتابًا إلى سمو الخديوي جاء فيه:

بسم الله الرحمن الرحيم، وبعد، فمن العبد المعتصم بالله محمد المهدي بن عبد الله إلى والي مصر، لا يخفى على مَن نوَّر الله بصيرته وشرح صدره أن الدين الذي يكون المتمسك به ناجيًا عند الله هو دين الإسلام، الذي جاءنا به نبينا محمد .

وبعد كلام طويل مملوء بآيات من القرآن والأحاديث، قال:

وقد حررت إليك هذا الكتاب وأنا بالخرطوم؛ شفقة عليك وحرصًا على هدايتك، فأرجو الله أن يشرح صدرك لقبوله، ويدلك على صلاحك ورشادك في الدارين، وها أنا قادم على جهتك بجنود الله عن قريب إن شاء الله تعالى، فإنَّ أمر السودان قد انتهى، فإن بادرتني بالتسليم لأمر المهدية والإنابة إلى الله رب البرية فقد حزت السعادة الأبدية، وأمنت على نفسك ومالك وأرضك، أنت وكافة من يجيب دعوتنا معك، وإن أبيت بعد هذا إلا الإعراض عن طريق الفلاح والرشاد، فإنما عليك إثمك وإثم من معك، ولا بد من وقوعك في قبضتنا، ولو كنت في بروج مشيدة، وهذا إنذار مني إليك، وفيه الكفاية لمن أدركته العناية، والسلام على من اتبع الهدى.

(٨) المهدي وغزو الشام

أرسل المهدي الحاج عبد الله الكحال من الرهد عاملًا على بلاد الشام، فحضر إلى مصر واشتغل بالتجارة.

(٩) المهدي ومراكش

وأرسل المهدي منشورًا إلى أهل مراكش وإلى السيد محمد الغالي ليكون عاملًا عليها.

(١٠) وفاة المهدي

في يوم الأربعاء ٤ رمضان سنة ١٣٠٢ﻫ نزلت بالمهدي حمى خبيثة تُعرف في السودان «باب دم»، وعند الأطباء بالالتهاب السحائي الشوكي، وأمر بأن يصلي الخليفة عبد الله التعايشي بالناس يوم الجمعة ٦ رمضان، وأن يخطبهم، ودامت الحمى إلى يوم الاثنين ٩ رمضان سنة ١٣٠٢ﻫ و٢٢ يونية سنة ١٨٨٥م، وأسلم الروح إلى خالقها عند الضحى، وكان عنده خلفاؤه، وقد حفروا قبره في محل فراشه في منزله، ثم صلى الخليفة عبد الله عليه إمامًا، ودفن عند الظهر، وبايع الناس الخليفة عبد الله التعايشي بعده، وأشيع أن المهدي مات مسمومًا في الطعام، ولكن الإشاعة لم تتحقق.

وقد رثاه الشعراء، فرثاه إبراهيم شريف الدولابي الكردفاني، قال في قصيدة:

كيف التئام فؤادي المفطور
ورقوء دمع محاجري المفجور

وختمها بقوله:

صلى الإله على ضريح ضمه
أزكى صلاة في المسا وبكور

وقال محمد بن الطاهر المجذوب من قصيدة:

دهتنا دواه يضرس القلب نابها
ويوقد في الأحشاء نارًا منابها
ألا أبلغوا عنا ضريح أبي الهدى
تحايا إلى الله الكريم انتسابها

(١١) صفات المهدي وعاداته

كان الفقيد طويل القامة، كبير الرأس، عريض الوجه، أسمر اللون، أدعج العينين، أزج الحاجبين، واسع الجبين، أقنى الأنف، رحب الصدر، واسع الفم، عريض الشفتين، عظيم المنكبين، ضخم العظام، واسع الكفين والقدمين، سائل الأطراف، مفلج الأسنان، مشرط الوجنتين، على كل وجنة ثلاث شرائط أفقية، مستدير اللحية واسعها، خفيف الشاربين، وكان يحلق شعر رأسه ويحسن لحيته، وكان كثير الابتسام، وكان يجلس على فروة من الضأن، ويقعد القرفصاء، ويجثو عند الطعام على إحدى ركبتيه، وكان الداخل عليه يخلع نعليه ويتقدم إليه حبوًا حتى يقرب منه فيلمس يده، ويرجع عنه قليلًا ثم يكلمه وهو منكس الرأس، ويخاطبه بقوله يا سيدي، وبعد الفراغ من حديثه ينصرف راجعًا بظهره، وكان دائم الابتسام فلقِّب بأبي فلجة، ووصفه إسماعيل عبد القادر الكردفاني فقال: «إنه سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا فحاش ولا عياب، واسع الصدر، يواسي أصحابه، وفيٌّ لهم، كثير العفو …»

وقد تزوج بأربع عُرفن بأمهات المؤمنين، أما أولاده من السيدة فاطمة بنت أحمد شرفي فثلاثة: الفاضل ومحمد والبشري، وبنت تسمى زينب، وله من السيدة فاطمة بنت حاج أربع بنات: أم كلثوم تزوجها الخليفة عبد الله، ونور الشام تزوجها الخليفة علي ود حلو، ثم نفيسة وعائشة، ومن السيدة فاطمة بنت حسين الحجازي ثلاث بنات وولد يسمى الصديق، ومن السيدة مقبولة الدارفورية السيد عبد الرحمن، ومن السيدة مأمونة الحبشية التوأمان الطاهر والطيب، ومن السيدة قبيل الله النوباوية نصر الدين؛ أي كان له عشر بنات وعشرة ذكور، مات منهم ثمانية وعاش علي وعبد الرحمن.
figure
أولاد الخليفة التعايشي: عبد الصمد ويحيى وعمر وإبراهيم وإسماعيل، وهم الصفان الثاني والثالث، والقاعدون القرفصاء أولاد المهدي: الطاهر، ونصر الدين، وعلي، عقب إعادة السودان سنة ١٨٩٩.

وكان المهدي يريد أن يعيد الإسلام إلى فطرته، وكان ينهى عن البدع والترف، ومنع إرخاء الشعور ودهنها بالشحم، وحرم الإسراف في حفلات الزفاف، وخفَّض المهر فجعله عشرة ريالات وثوبًا وقربابًا للبكر، وخمسة ريالات وبدلنين للثيب، وأبطل الرقص والغناء والدلوكة، وحرم خصي العبيد، ومنع البكاء وراء الميت، وأبطل السحر والتعزيم والتمائم، وحرم شرب الدخان والحشيش والخمر، ومنع الألعاب، ووضع راتب المهدي الذي اشتمل على دعوات وآيات وأحاديث تحفظ وتتلى يوميًّا، ورجم الزاني وجلد الزانية وقطع يد السارق، وساوى بين الغني والفقير، وحرم الألقاب والأوسمة، وجعل الصلاة في جوامع المهدية، وجعل الدين محصورًا في القرآن وراتب المهدي ومنشوراته، وكان يرى أن الجهاد في السودان يوجب التفرغ له وتأجيل الحج.

ولم يتمكن المهدي من إتمام كتاب اسمه المجالس، قصد منه تضمين الأحكام الشرعية.
figure
الشيخ محمد شريف نور الدائم باشا أستاذ المهدي جالسًا، وحوله ابنه وأبناء أخيه.

وكان لأصحاب المهدي مراتب متفاوتة، فالمرتبة الأولى لصحبه قبل إعلان الدعوة المهدية. وهم يقال لهم أبكار المهدي، والمرتبة الثانية أنصار «أبا»، والمرتبة الثالثة أنصار «قدير»؛ أي جبل قدير، والرابعة أنصار كابا، وهناك مراتب أخرى أدنى من ذلك؛ أي أن أنصاره الأوائل مقدمون رتبة على من بعدهم.

وقد صدَّق خاصة السودان وعامته دعوة المهدي، وأن من مات في سبيله كان نصيبه الجنة والحور العين، حتى كانوا يتمنون الموت، ولم يبقَ في السودان إلا قليل من الناس لم يصدقوا الرسالة المهدية، ولكن أكثرهم لم يجرؤ على الجهر بإنكارها.

وقد اهتزت البلاد الإسلامية للدعوة المهدية، وهرع جماعة من مصر والحجاز والهند والمغرب إلى المهدي، وخشي السلطان عبد الحميد خان الثاني التركي عاقبة انتشار الدعوة، فنشر منشورًا سلطانيًّا كذَّب فيه الدعوة المهدية، وأصدر علماء الأزهر فتوى أذاعها مجلس النظار، وأوعز عبد القادر باشا حلمي إلى لفيف من علماء السودان لتكذيب الدعوة، وكان للمهدي خاتم وسيف، وقد تفرَّد بمذهب اجتهادي وحَّد فيه المذاهب الأربعة، أي إن المهدي كان إمامًا مجتهدًا، ومنع زيارة الأضرحة.

١  قيل لو أن رءوف باشا كان حازمًا فألقى القبض على المهدي من أول الأمر لماتت الدعوة المهدية في مهدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤