الفصل السابع

الحكومات العربية الإسلامية في السودان

كثرت هجرة القبائل العربية إلى مصر والسودان بعد ظهور الإسلام في الجزيرة العربية وفتوحاته، وقد حكم السودان بقواعد الشريعة الإسلامية ملوك سنار والفور والمهدي والتعايشي.

غزا عمرو بن العاص مصر في ديسمبر سنة ٦٣٩م، ذي الحجة سنة ١٨ﻫ، وكان معه أربعة آلاف مقاتل ثم لحقت به أربعة آلاف أخرى، وفي يونية سنة ٦٤٠م، رجب سنة ١٩ﻫ، وصل الزبير بن العوام ومعه ١٢٠٠٠ مقاتل، وفتحوا الإسكندرية في نوفمبر سنة ٦٤١م، ذي الحجة سنة٢٠ﻫ، وكان جيش المسلمين خليطًا من القبائل العربية جميعًا، وكان بين القبائل العربية الثانية التي اشتركت في الفتح تفصيلًا: لخم، وجزام، حتى دعاهم عمر بن الخطاب الخليفة بالقبائل المصرية، وفي سنة ٢٢ﻫ/٦٤٢م ندب عبد الله بن أبي السرح لغزو النوبة، وكان معه عشرون ألف مقاتل، وفي عهد الطولونية زاد عدد الوافدين من العرب، وكانت أكبر الفرص للمهاجرة مجيء الوالي الجديد، فقد كان يرافقه عشرون ألف مقاتل، لم يكن يرغب الكثير منهم في الرجوع إلى سوريا أو بلاد العرب.

وفي عهد الأموية الذي انتهى سنة ١٣٣ﻫ/٧٥٠م كانت القبائل الوافدة على مصر ٢٢ قبيلة، منها سبع من قريش معظمهم من بني أمية، وسبع من قيس عيلان، وواحدة من جهينة، واثنتان من الأزد، وثلاث من حمير، وواحدة من لخم، وواحدة غير معروفة النسب. وفي عهد العباسية من سنة ١٣٣ﻫ/٧٥٠م إلى سنة ٢٤٢ﻫ/٨٥٦م كانت القبائل الوافدة على مصر ٣٣ قبيلة معروف نسبها تقريبًا، منها خمس عشرة عباسية، وثلاث من تميم، وخمس من الأزد، واثنتان من طيء، وواحدة من لخم، واثنتان من مذحج، واثنتان من بجيلة، واثنتان من حمير.

ولما تغلَّب العباسيون على الأمويين فرَّ هؤلاء إلى مختلف الأقطار الإسلامية، ومنها مصر والسودان، وأحدث ذلك رد فعل في قبائل مصر، خصوصًا قيسًا، ففي سنة ١٦٦ﻫ/٧٨٢م ادَّعى أحد الأمويين الخلافة في الصعيد، ونجحت دعوته ولكنه قُتل، وفي سنة ٢١٦ﻫ/٨٣١م كثرت قلاقل قيس، وتمكنوا من إثارة القبط أيضًا، فثاروا معًا ثورة هائلة جاء الخليفة العباسي المأمون بنفسه لإخضاعها في المحرم من سنة ٢١٧ﻫ، ومنذ ذلك التاريخ فازت العرب بالغلبة، يضاف إلى ذلك إذلال عبد الله بن الجهم للبجة، وأسره ملكها «علي بابا» وأرسله إلى بغداد، فكانت معه المعاهدة المشهورة التي تمكَّن العرب بعدها من التوغل في بلاد النوبة، وامتلاك مناجم الذهب في عيذاب، مما فضَّلت معه ربيعة وجهينة أن تسكن الصحراء الشرقية، ثم تصاهرتا مع البجة.

عرب السودان

والعرب بدنات كثيرة تفوق الثلاثين، وهم غير عرب النوبة الذين وصفناهم، وأشهر هذه البدنات:
  • (أ)
    الفونج: وهم الذين أسسوا مملكة سنار القديمة مع العابدلاب، قيل إنهم عرب أمويون نجوا من بني العباس، وقيل لا، بل هم سود.
  • (ب)
    العابدلاب: مركزهم الحلفاية «خرطوم بحري»، نسبة إلى عبد الله جماع الذي أسس مملكة سنار مع الفونج، ومعنى آب باللغة البيجاوية: القبيلة.
  • (جـ)
    الهمج: وزراء الفونج أيام دولتهم، ويدَّعون النسبة إلى الجعليين، وقد حكموا جبال الفونج بعد فتح محمد علي — حكمها الشيخ إدريس الذي سمِّيت الجبال باسمه.
  • (د)
    والجعليون: ومنهم الملك «نمر» الذي غدر بإسماعيل باشا، وهم شجعان أهل ككر وطافية، ومعناها باللغة السودانية: «كرسي وملك»، وهم منتشرون في السودان والحبشة، وهم فوق الثلاثين بدنة، ومنهم ولد النجومي.
  • (هـ)
    الجموعية: ومن فروعهم الفتيحاب — سكان أم درمان والخرطوم الأصليون — وهم يدَّعون أن جدَّهم هو «أبو مرخة» الذي حضر أبوه وعمه إلى السودان هربًا من العباسيين، فتزوج أبو مرخة بنات عمه السبعة واحدة بعد واحدة، ثم صار جدًّا لقبائل عربية.
  • (و)
    والزبالعة: يقال إن أصلها ليس عربيًّا، يسكنون جزيرة سنار، والبلاد التي بين الرهد والدندر، وهي شيعة تعرف في السودان بالملَّة الخامسة، ومؤسس شيعتهم رجل اسمه «أبو جريد»، وهو عندهم رسول الله، ولا يعرفون نبيًّا آخر سواه، وقد أقاموا رمزًا إلى قبره في حلة «بنزفا» شرق النيل الأزرق، بين كركوج والرصيرص؛ حيث يجتمعون للأذكار مساء كل أحد وثلاثاء، ويرددون قولهم «لا إله إلا الله أبو جريد نبي الله».

    وفي شهر صفر من كل سنة يعتزل مشايخهم إلى الخلوات للرياضة، فيقيم كلٌّ منهم في خلوة، ويجعل عليها الحراس؛ لكي لا يدخل عليه أحد مدة سبعة أيام، فإذا انتهت خرج من الخلوة ودعا رهطه من الرجال والنساء وأقام حلقة للذكر — قيل إنهم ونساءهم جميلات، بياض بحمرة نعيم وترف، وهم يتجنبون مصاهرة العرب، والعرب كذلك يتجنبونهم، وقيل فيهم سحرة وطب.

  • (ز)
    والزيادية: ومركزهم مليط، يجرون في الملح والقطرون، ويُنسبون لأبي زيد الهلالي، أحد عرب نجد.
  • (ح)
    والتعايشة: ومسكنهم مندرة، كانوا يشتغلون في خطف الرقيق، وهم يُنسبون إلى جهينة، ومنهم الخليفة عبد الله التعايشي.
  • (ط)
    والحمران: مركزهم قرب فوز رجب وكسلا، وهم قليلو العدد، ولكنهم من أفرس العرب وأجرئهم، ونساؤهم من أجمل النساء وأشدهم تحصنًا وعفافًا، ومنهن «تاجوج ومحلق».

وتاجوج هذه بنت الشيخ أوكد شيخ الحميران، ظهرت في أواسط القرن التاسع عشر الميلادي، أجمل نساء السودان، يفد إليها الناس للتفرج، تزوَّجها ابن عم يسمَّى محلقًا، وأحبها حبَّ عبادة، طلب يومًا منها أن تمشي متجردة فأبت، فألحَّ، فتكدرت، فألحَّ، فقالت: إذا أجبتك فماذا تفعل؟ قال: «أنفذ كل طلب لك»، قالت «أقسم» فأقسم، فتجردت ومشت أمامه ذهابًا وإيابًا إلى أن قال كفى، ثم قال فاطلبي الآن ما تريدين، قالت: أن تطلقني في الحال.

فطار صوابه، ووقع على قدميها يقبِّلهما ويسألها العفو، فأبت إلا البر بقسمه فطلقها، وهام على وجهه ينشد في حبِّها الأشعار كمجنون ليلى.

ومن ذلك قوله:

أنا الجنب التعيس سوِّيت بأيدي
في كلمة مزاح قليت غميصي
فواطر أم قبيل ملح الرشيدي
تاجوج ما أتلقت يا خملة زيدي

والمعنى: «الجنب»: المشوم، «سويت بأيدي»: جنيت على نفسي، «والفواطر»: الثنايا، «أم قبيل»: الجميلة، «والخملة»: الهم.

ثم إن تاجوج تزوَّجت شابًّا من وجهاء قبيلتها، فتأثَّر محلق، وكان أفرس منه، ثم كان يأخذ منه ماله المرة بعد المرة، ويرده إليه إكراما لها، ولما اشتد عليه الكرب وأضناه الحب ألحَّ على أهله أن يمكِّنوه من رؤيتها، وهو طريح الفراش، فذهبوا إليها وأخبروها بما آلَ إليه حاله، فرقَّت له وذهبت، فإذا نساء حوله ينددن بها ليصرفن قلبه عنها، فلما دخلت لم يسعهن إلا الوقوف احترامًا لجمالها وإعجابًا، وأجلسنها إلى جانب سريره، فلما رأته على تلك الحال وقد هزله المرض، تنهدت وقالت: «أإلى هذه الحال وصلت يا حشاي وأنا لا أدري؟» ثم وضعت رأسه على ركبتيها، وكان قد أغمي عليه، فأفاق ونظر إليها وأنشد ما أنشد فيها.

أسباب هجرة العرب

يقول مستر مكيكل، السكرتير الإداري السابق في حكومة السودان: إن الأسباب هي:
  • (١)

    مراعي السودان أخصب من أراضي جزيرة العرب، وملجأ أمن، وموضع لنهب العبيد والأهالي، وليس البحر الأحمر إلا فلق عرضي في أرض واحدة هي السودان والجزيرة، والجو والصحاري والتلال فيهما واحدة، ولكن حالت دون أمانيهم في الهجرة مدة الفتح تفضيل ولاتهم البقاء بجانبهم، وحيلولة حكام النوبة دونهم، وعدم السماح لهم بالدخول إلى السودان عن طريق النيل.

  • (٢)

    أقاليم المستنقعات يسكنها زنوج يقتاتون بالماشية، ويمتازون بطول السوق، والتلال يسكنها قوم أصغر وأنشط من سابقيهم.

  • (٣)

    العرب يسكنون أواسط السودان، وأطراف ذلك الإقليم الجنوبي المليء بالمستنقعات والصحاري الشمالية الصالحة للسكنى، فأقاموا بين الزنوج في الجنوب، وبين المراعي في الشمال — وقد ظلمهم «دواتي» في وصفه إياهم بالجنون وقطع الطريق و…

  • (٤)

    منذ عهد ابن طولون تغيَّرت الحال بالنسبة للعرب بمصر؛ لأن الولاة كانوا غير عرب، بل أن بعضهم استبد مع العرب، وزادت مصيبتهم منذ فتح سليم، وصاروا في نظر الحكومة والأهالي قومًا فضوليين لا يخضعون لتدريب حربي منظم، بل سبق عصره أن الحكومة كادت تخرجهم من حكم القانون.

    وفي إبَّان الثورات التي كانت تحدث كانوا يتسللون إلى الجنوب.

  • (٥)

    مملكة النوبة المسيحية تقع على نهر النيل وراء الشلال الأول، وعاصمتها دنقلة، وتمتد إلى الجزيرة، وكان يسكن جزءها الشرقي وشمالها الشرقي قبائل البجة الرُّحَّل الهمجية، التي قامت على أنقاض مملكة مروى القديمة في القرن السادس الميلادي، ثم دخلت في النصرانية على يد قس بعثت به الإمبراطورة «ثيودورا» زوجة الإمبراطور جستنيان، ويقال إنهم صنف من الزنوج، بل قيل هم خليط من قدماء الفراعنة واللوبيين المندمجين في الزنوج، وعاشت نحو ٦٠٠ سنة بعد فتح العرب مصر.

  • (٦)

    فتح عمرو مصر، وجرَّد حملة من ٢٠ ألف مقاتل عليها عبد الله بن سعيد لغزو بلاد النوبة، فتوجهت إليها وفرضت عليها جزية من العبيد، ثم أصبح عبد الله واليًا على الوجه القبلي، فجرد حملة أخرى بعد عشر سنين وصلت إلى دنقلة، وحطمت كنيستها، وبنت مسجدًا ووضعت شروطًا معتدلة، وأخذ جزية قدرها ٣٦٠ عبدًا سنويًّا، وبقيت المعاهدة ستة قرون تقريبًا، وكان العرب يقدِّمون هدايا لملوك النوبة فبقيت المودة، ثم حدث نزاع بين البجة التي في شرق السودان وبين العرب؛ لأن البجة كانت تريد غزو الوجه القبلي، فأرسل إليهم العرب كتيبة أدبتهم، وعقدت معاهدة بينهما كالمعاهدة التي بين العرب والنوبة.

العرب في السودان اليوم

ينقسمون بالنسبة لجغرافية البلاد إلى ثلاثة أقسام:
figure
من قبيلة الهدندوة من البجة.
  • (١)

    (أ) سكان الصحاري في الشمال الأقصى. (ب) سكان السهول الواسعة ذات المراعي الطيبة المتفرقة في الوديان. (ج) الأراضي الرملية الغنية المترامية الأطراف. حيث الغابات والأمطار، وحيث تنجح زراعة الذرة والسمسم، ثم على خط عرض ١٢، حيث الغابات جميلة تصلح للماشية، ثم منطقة الزنوج الحارة.

  • (٢)

    السكان الذين على النيل من العرب غير متنقلين، وقد تحضَّروا، والذين في داخلية القطر ما عدا الشمال الأقصى تصبغهم صبغة البداوة، وييممون الشمال ومعهم إبلهم من أغسطس إلى نوفمبر حيث المرعى خصب، والذين في الغرب إلى حدود الصحراء الكبرى الجنوبية، والذين في الشرق إلى سهول البطانة الواقعة بين عطبرة والنيل الأزرق، والبقارة الذين يسكنون منطقة الزنوج يرحلون منها مدة شهري أبريل ومايو، ميممين الشمال في المنطقة الوسطى؛ لأن المطر — عندئذ — يهطل عندهم بكثرة.

  • (٣)

    المعاهدات والمصاهرات بين العرب والزنوج، كم فضَّت من مشاكل إلا في بعض الجهات، مثل النوبة، فلا تزال السهول للعرب والروابي والتلال للنوبة.

  • (٤)

    اتحد العرب والزنوج منذ أوائل القرن الثالث عشر إلى اليوم، كما اتحد النوبيون والعرب في الشمال.

  • (٥)

    العرب الذين تحضَّروا على النيل تزاوجوا بعضهم مع بعض، ولونهم الأسود نتيجة التسرِّي، وفي أنسابهم ضعف، أما البادون فيقربون من الصحة.

  • (٦)

    سكان السودان بعضهم يدَّعي النسب إلى جهينة، والبعض إلى فزارة، وهذه هي القبائل الكبرى، وهي تقتني الماشية والجمال، والبعض ينتسب إلى العباس، وهم شمال الخرطوم والجزء الجنوبي من النيل الأزرق، والقبائل المولَّدة من الزنوج التي في داخلية القطر، والأهالي مهتمون بهذه الأنساب.

  • (٧)

    التسرِّي بالزنجيات مدة حكم مصر والدراويش أبقى من العادات الزنجية الشيء الكثير في العرب.

  • (٨)

    ترمي سياسة حكومة السودان إلى تحاشي التدخل في شئون العرب، وتلقي العبء على رؤسائهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤