ما هي البنائية؟

حينما أراد «بياجيه» أن يقدم تعريفًا للبنائية في مُستهل كتابه الذي خصَّصه لعرض هذا الاتجاه الفكري في جوانبه المختلفة، كان من رأيه أن من الضروري التفرقة بين الاتجاهات النقدية التي يسير فيها كل شكل خاص من أشكال البنائية، يُطبَّق على ميدان محدَّد من ميادين معرفة الإنسان، وبين المثل الأعلى الذي تستهدفه فكرة البنائية مهما تعددت أشكالها؛ أي إنه كان يفرق بين التعريف السلبي للبنائية، من خلال بحث «ما تنقُده»، والتعريف الإيجابي الذي يحدد «ما تهدف إليه». وكان يعتقد أن الأخذ بالأسلوب الأول يمكن أن يُوقعنا في التعدد والتشتُّت؛ لأن البنائية لها أضداد يختلفون تبعًا للميدان الذي تبحثه. فما تعارضه البنائية في ميدان الرياضيات مختلف عما تعارضه في ميدان علم النفس أو الأنثروبولوجيا أو اللغويات. ومن ثم فإن الأفضل، في رأيه، ألا نعرف البنائية من خلال اتجاهاتها النقدية، بل ينبغي أن نبحث عن المثل الأعلى المشترك بين جميع ضروب البنائية. وهذا المثل الأعلى في رأيه، هو السعي إلى تحقيق معقولية كامنة عن طريق تكوين بناءات مكتفية بنفسها، لا نحتاج من أجل بلوغها إلى الرجوع إلى أية عناصر خارجية، ومحاولة الوصول إلى السمات التي تشترك فيها كل البناءات التي نتوصل إليها بوَجْه عام.١

هذا المثل الأعلى المشترك موجود بالفعل في كل أشكال البنائية، ولكنه في رأينا لا يوصل إلى الكثير. وربما كان الطريق الآخر، أعني التعريف بالسلب، أمرًا لا مفرَّ منه من أجل تكوين فهم مبدئي سليم للبنائية؛ ذلك لأن هذا الاتجاه لم يظهر في فراغ، لكي يدعو إلى مَثَل أعلى في المعقولية يكوِّن فيه كل نسق يكوِّنه العلمُ مكتفيًا بذاته، وقادرًا على تنظيم ذاته دون إقحام عناصر خارجية، بل إنه كان في الأصل دعوة إلى التخلي عن أساليب مضادة في البحث العلمي، وكان يرتكز على فلسفة خاصة لا يمكن فهمها إلا في ضوء النقد الذي وجهَتْه إلى الفلسفات المضادة لها. ولقد كان البنائيون، منذ البداية، يخوضون معارك حامية ضد خصوم أقوياء لهم مواقع ثابتة في أرض الفلسفة والتفكير العلمي، ومن هنا كان مما يفيد في تقديم إيضاح أوَّليٍّ للبنائية أن نحددها من خلال المعارك التي خاضَتْها، ومن خلال الأفكار المضادة التي سعَتْ إلى محاربتها. ومما يؤيد صحة هذا الاتجاه أن بياجيه نفسه، حين قدَّم تعريفًا أوليًّا للبنائية، مرتكزًا على مثَلِها الأعلى «الإيجابي»، اضطر عند شرحه لعناصر هذا التعريف إلى إيضاحها من خلال أضدادها، أي إنه عاد مرة أخرى إلى تعريف البنائية من خلال «ما تعارضه»، لا من خلال «ما تسعى إليه».

على أية حال؛ فإننا لا نستطيع أن نُغفِل التحديد الإيجابي لمعنى البنائية. وكل ما في الأمر أن هذا التحديد ينبغي أن يُستخلص، في رأينا، في مرحلة تالية. فالطريقة المثلى في إيضاح معنى البنائية هي أن نبدأ بتحديد هذا المعنى من خلال الاتجاهات التي ظهرت البنائية لكي تنقذها. أما الأهداف الإيجابية للبنائية؛ فسوف تُعرَض بالتفصيل عندما نتحدث عن الأسس الفلسفية لهذا المذهب في الميادين المختلفة لمعرفة الإنسان، وسيكون من السهل عندئذٍ استخلاص العناصر المشتركة بين أشكال البنائية في كل هذه الميادين:

(١) البنائية والنزعة التجريبية

في الفلسفة الفرنسية بأَسْرها، منذ عهد ديكارت، اتجاه إلى الإقلال من شأن النزعة التجريبية، وتأكيد دور العقل الذي يسبق التجربة — سواء أكانت هذه الأسبقية منطقية أم زمنية — ويضفي عليها اتجاهًا وهدفًا ومعنًى. ومنذ أن أكد ديكارت أهمية النموذج الرياضي في المعرفة البشرية، وأكد فرانسيس بيكن، في نفس العصر تقريبًا، أهمية الملاحظة والرصد الدقيق للوقائع، تحددت معالم اتجاهين متضادين، أحدهما يؤكد دور العقل في المعرفة، والثاني يركز على أهمية التجربة. وصحيح أن العلم قد استطاع منذ وقت مبكر، بل منذ عهد هذين الفيلسوفين ذاتهما، أن يتجاوز التضادَّ بين النزعة العقلية والنزعة التجريبية، وذلك حين قدم جاليليو نماذج رائعة لكُشوف علمية تعتمد على ملاحظات وتجارب دقيقة من جهة، وعلى فروض عقلية وصياغات رياضية من جهة أخرى. ولكن هذا التضادَّ ظل يقوم بدور أساسي في الفكر الفلسفي، وما زال له تأثيره عند المشتغلين بالعلوم الإنسانية حتى اليوم.

ومن أهم السمات التي نستطيع أن نلمحها عند البنائيين، مواصلتهم السير في هذا الاتجاه العقلي المعادي للنزعة التجريبية، وسعيهم إلى تفسير التجربة من خلال مبادئ عقلية، بدلًا من إرجاع مبادئ العقل إلى مكتسبات تجريبية. ومما يدل على تأصُّل هذا العداء للتجريبية في تفكيرهم، أننا نجده عند مفكرين بنائيين تَفصِل بين اتجاهاتهما العقلية مسافاتٌ هائلة، وأعني بهما الأنثروبولوجي ليفي ستروس، والباحث لوي ألتوسير Louis Althusser فمن الأسس المنهجية التي ترتكز عليها أبحاث ستروس في الأنثروبولوجيا، أنه لا يستهدف بمنهجه البنائي الاهتداء إلى عادات متشابهة وسط عدد هائل من الملاحظات الأنثروبولوجية التي يتم إجراؤها في ثقافات متباينة، كما كان يفعل الأنثروبولوجي الإنجليزي الكبير فريزر Frazer مثلًا، بل يؤكد أن ما هو مشترك بين الثقافات لا يَهتدي إليه بوضوح على مستوى الملاحظة، وإنما على مستوى البناء العقلي. فالبناء هو الذي يشكل العنصر الكلي الشامل في الثقافة البشرية. وهذا البناء خفي، لا يوجد على السطح الخارجي للظواهر أبدًا، وإنما يُكتشف عقليًّا. وهكذا يستهدف التحليل البنائي، في ميدان الأنثروبولوجيا، الوصول إلى نوع من الجدول الرياضي أو المصفوفة الجبرية التي تعبر عن كل التحولات والتجمُّعات الممكنة في «الذهن البشري» اللاشعوري، ومن ثَم كان هناك نوع من الازدراء في تعامل البنائية مع «الظواهر الأمبيريقية». «وطوال كتابات ستروس يتكرَّر مرارًا هذا التفضيل للتجريد العام على الواقعة التجريبية».٢
وهكذا يؤكد ستروس الطبيعة المستقلة للذهن البشري على نحو يكاد يبدو معه فيلسوفًا مثاليًّا. فهو يتكلم كما لو كان لدى الذهن (L’esprit humain) استقلال خاص يجعله يمارس عمله بطريقة لا تعتمد على أي فرد أو جماعة إنسانية بعينها. وهو يذهب إلى حد أن يقول في واحد من كتبه: «إننا لا ندَّعي بيان الطريقة التي يفكر بها الناس في الأساطير، وإنما نبين كيف تفكر الأساطير في ذاتها من خلال الناس، ودون وعي منهم.» فهل يعني ذلك أن ليفي ستروس مفكر مثالي يجعل للذهن أولوية مطلقة على الظواهر؟ إنه هو ذاته ينفي بشدة كونه مثاليًّا، ويرى أن كل ما يدافع عنه هو القول بوجود طبيعة ثابتة للذهن البشري، لا تتأثر بتغير الأفراد والمجتمعات، وتعبر عن نفسها من خلال نواتج الإنسان الثقافية، كالأساطير. فالعقل البشري لديه مبادئ ثابتة، أشبه بمبادئ علم الجبر، يظهر تأثيرها في كل رسالة ينقلها إلينا أي موضوع ثقافي أنتجه الإنسان، وتعبر عن وجود «آليات» موحدة يعمل بها العقل البشري أينما كان.

فإذا انتقلنا إلى الطرف البعيد عن ليفي ستروس في البنائية، وأعني به الفيلسوف الماركسي ألتوسير، وجدناه بدوره يشترك مع ستروس — برغم كل ما بينهما من اختلافات أيديولوجية عميقة الجذور — في نقد المذهب التجريبي، والنظر إلى الحقيقة على أنها معيار لذاتها، دون حاجة إلى تحقيق تجريبي خارجي. ففي نظر التجريبية تكون المعرفة تجريدًا من الواقع؛ أي إن الواقع نفسه يتضمن المعرفة ويخفيها وسط عناصر أخرى متداخلة تحجبها عنا. وكل ما علينا هو أن نطرح هذه العناصر جانبًا لنجلو وجه الحقيقة الذي يشتمل عليه الواقع بالفعل؛ أي إن المعرفة عند التجريبيين هي عملية «طرح» نستبعد فيها الزوائد؛ لكي نكشف ماهية الحقيقة. ومعنى ذلك أن التجربة المباشرة فيها أكثر مما هو مطلوب للوصول إلى الحقيقة. وعلى عكس ذلك يرى ألتوسير أن هذه التجربة المباشرة تتضمن «أقل» مما هو مطلوب لبلوغ الحقيقة؛ فنحن لا نحذف أو نختصر منها لكي نصل إلى الحقيقة، وإنما «نضيف» إليها؛ إذ إن من سمات التجربة المباشرة ألا تكون مكتفية بذاتها، ومن سمات العقل الإنساني ألا يكون مجرد شاهد سلبي يسجل حقيقة موجودة بأكملها خارجه.

ولا يكتفي ألتوسير بهذا النقد للتجريبية، بل إنه يذهب خطوة أبعد من ذلك، فيقول إن عملية المعرفة تحدث كلها في الفكر، وأن الممارسة النظرية تتضمن في ذاتها معايير علمية النتائج التي يتم الوصول إليها في العلوم المختلفة، أي إن العلوم عندما تبلغ قدرًا معينًا من النمو، لا تكون أبدًا بحاجة إلى ذلك التحقيق التجريبي الذي يربط بين قضاياها وبين واقع خارجي، والذي يقال إنه معيار الصدق في القضايا.٣ والمثل الذي يضربه ألتوسير للتدليل على ذلك هو الرياضيات، التي لا تحتاج إلى تحقيق خارجي للتدليل على صحة قضاياها. ويعمم ألتوسير ما ينطبق في حالة الرياضيات على بقية العلوم، بحيث يجعل معيار الصدق في المعرفة كلها معيارًا داخليًّا، هو التماسك والاتساق، ويكون مقر الحقيقة عنده داخل الذهن intramental فحسب، أما الالتجاء إلى التجربة فهو «برجماتية» يرفضها بازدراء وترفع.
وهكذا نرى إلى أي حد يظل ألتوسير، في هذه المسألة بالذات، ديكارتيًّا مخلصًا: وذلك أولًا بسبب نزعته القبلية a-priorisme الواضحة، وجعله الحقيقة معيارًا لذاتها، وتأكيده أن التجربة هي التي تكتسب مشروعيتها من حقيقة موجودة قبلها، بعكس ما يقول به التجريبيون من أن الحقيقة هي التي تكتسب مشروعيتها من تجربة سابقة عليها. وهو فضلًا عن ذلك ديكارتي صميم حين يدلل على هذا كله بما يحدث في الرياضيات، ولا يكتفي بذلك، بل يواصل اتجاه ديكارت في اتخاذه من الرياضيات نموذجًا لكل معرفة بشرية. على أن ألتوسير يعرض نفسه هنا لنفس النقد الذي طالما وُجِّه إلى ديكارت. وأعني به أن ما يصدق على الرياضيات لا يتعيَّن أن يصدق على بقية العلوم، وأنه إذا كانت العلوم الرياضية تكتفي بمعيار الاتساق الشكلي وتستمد حقيقتها كلها من داخل الذهن، فإن هناك علومًا أخرى كثيرة تحتم الخروج عن الذهن، وتُحيلنا إلى الواقع، ولا تجد غضاضة في الاستعانة بالتجربة من أجل تصحيح النظرية، ومن أجل أن تتمكن من التمييز بوضوح بين ما هو واقع فعلي، وما هو مجرد إمكان ذهني.

وعلى أية حال، فها نحن أولاء نرى ليفي ستروس وألتوسير يتفقان معًا على توجيه نقد شديد إلى النزعة التجريبية، ويضعان معيارًا لصدق المعرفة تحتل فيه التجربة — على أحسن الفروض — المرتبة الثانية بعد الجهد العقلي. وقد يبدو هذا متعارضًا مع ما اعترف به ليفي ستروس ذاته من أن الوصول إلى البناء أمر يحتاج إلى مقارنة وتحليل دقيق لعدد من الأمثلة المدروسة، وما أكده من أن الباحث يلقى مشقة كبيرة حتى يتوصل إلى النسق أو التركيب الباطن للظاهرة التي يدرسها. ولكن حقيقة الأمر أنه ليس ثمة تعارض بين الموقفين؛ فالجهد الذي كان يبذله ستروس لا ينصب على دراسة الوقائع الخارجية بقدر ما ينصب على التفكير العقلي فيها. ومن المعترف به، كما سنرى فيما بعد، أن ستروس لم يكن من أولئك العلماء الأنثروبولوجيين الذين يقضون حياتهم في ملاحظة الجماعات البدائية، وتسجيل عاداتها وطرائق حياتها … إلخ. بل كان الجهد «الميداني» الذي بذله ضئيلًا بالقياس إلى غيره من العلماء في هذا الميدان نفسه. أما الجهد الأكبر فكان في عملية التحليل الفكري الداخلي لتلك المادة غير المتسعة التي جمعها من «الميدان» ذاته. ومع ذلك، وبالرغم من المشقة العقلية الكبرى التي كان يعانيها في مقارنة الأمثلة المختلفة والجمع بين ظواهر شديدة التباعد من أجل التوصل إلى «البناء» الكامن فيها؛ فقد كان يؤكد دائمًا أن البناء موجود في الواقع بمعنًى ما، وليس مجرد تركيب عقلي نقوم به للتسهيل أو التوضيح، أو تقريب الظواهر إلى الأذهان. وهكذا يجمع البناء قدرًا غير قليل من صفات القانون العلمي؛ فكل منهما يكشف عن ثبات من وراء التغير، وكل منهما يرد الكثرة الظاهرية إلى وحدة، وكل منهما عقلي في طريقة اكتشافه، وواقعي في وجوده خارج الذهن الخالص. ولكن البناء أهم من القانون العلمي؛ لأن هذا الأخير يلخص فئة معينة من الظواهر، على حين أن الأول يجمع بين فئات متباينة ومتباعدة، يستطيع العقل أن يكتشف فيها كلها بناء واحدًا.

وتبقى الكلمة الأخيرة، بعد هذا كله، للعقل. فبالرغم من تأكيد ستروس وجود البناء في الظواهر ذاتها، وبالرغم من إصراره على أنه ليس مجرد تركيب أو نموذج ذهني نبسط به الوقائع؛ لكي يسهل علينا فهمها، فإن البناء ما كان يمكن أن يوجد في ظواهر على هذا القدر من التباعد (كوجود بناء واحد لنظام القرابة في مجتمع بدائي، وللنسق اللغوي في هذا المجتمع) لو لم يكن راجعًا إلى تركيب الذهن البشري ذاته، ولو لم تكن مبادئ العقل واحدة في كل هذه المجالات، ولو لم تكن العملية التي يصوغ بها عقلنا نواتجه المتباينة عملية واحدة في صميمها؛ فالبناء موجود في الواقع بالفعل، ولكنه موجود فيه؛ لأن هذا الواقع — في مجال الظواهر الإنسانية — نتاج لذهن بشري يعمل دائمًا، وفي كل الميادين، بطريقة واحدة. ولهذا كانت البنائية تحارب النزعة التجريبية، وترفض كل تفسيراتها لطبيعة المعرفة وعلاقتها بالواقع.

ومن النتائج الهامة لموقف المعارضة الذي وقفته البنائية من النزعة التجريبية، رفضها التام للنظرة التجريبية إلى علاقة الجزء بالكل. فالتجريبيون يرون أن الأطراف في أية علاقة سابقون على العلاقة ذاتها، أي إن تجمُّع الأطراف هو الذي يضفي على العلاقة طابعها الخاص. ويستحيل تصور هذه العلاقة مستقلة عن الأطراف الداخلين فيها، على حين أن كلًّا من هذه الأطراف له استقلاله الخاص، ويمكن تصوره بمعزل عن العلاقة التي يدخل فيها، أي إن العلاقات كلها، في رأي النزعة التجريبية، خارجية. أما البنائيون فيرون أن العلاقة ليست مجرد مجموع لعناصر مستقلة قائمة بذاتها، بل إن هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكم في بناء العلاقة التي تجمعها. وهذه القوانين تضفي على البناء سمات كلية تتميز عن سمات عناصره مأخوذة على حدة، كما تتميز عن مجموع هذه العناصر. ويضرب بياجيه مثلًا لهذه الصفة بالأعداد الصحيحة في الحساب، فهذه الأعداد لا توجد بمعزل عن بعضها البعض، ولم يكتشف كل منها مستقلًّا بتعاقب عشوائي، بل إنها لا تظهر إلا في ترتيب معين، وهذا الترتيب يرتبط بسمات «بنائية» تختلف عن سمات الأرقام المنفردة.٤
وهكذا تنقد البنائية المبدأ الشائع بين التجريبيين، الذي يجعل أطراف العلاقة مستقلين عن العلاقة ذاتها، ويؤكد أن هؤلاء الأطراف أشبه ﺑ «الذرات» القائمة بذاتها، والتي لا تتغير طبيعتها بدخولها في أية علاقة (وهو المعروف بمبدأ الذرية التجريبية). ولكن هل يعني هذا النقد أن البنائية تنحاز إلى الرأي المضاد، الذي عرفناه في النظرية الجشطلتية في علم النفس، والذي يؤكد أولوية الكل على الأجزاء، ويجعل منه أكثر من مجرد تجميع لعناصر مستقلة؟ الواقع أن هذا القول بأسبقية الكل يقربنا إلى حد ما من فكرة البناء، غير أن مفهوم البناء ينطوي على ما هو أكثر من تغليب الكل على الأجزاء، واتخاذ الموقف المضاد — بطريقة آلية — للموقف التجريبي. فالبنائية لا تكتفي بأن تضع الكل في البداية، دون أن تحدد خصائصه وسماته الداخلية، بل إن أهم المشكلات في نظرها هي العلاقات الداخلية بين العناصر. فهي تركز بحثها على العمليات الطبيعية أو المنطقية التي يتكون بها الكل، والقوانين المتحكمة في تركيبه،٥ وتتجاوز بذلك الموقف الجشطلتي الذي يكتفي بافتراض أولوية الكل دون مزيد من التحليل لتركيبه الباطن.

(٢) البنائية والنزعة التاريخية

ربما كان التضاد الأهم، الذي تتحدد به طبيعة البنائية بمزيد من الوضوح، هو تضادها مع النزعة التاريخية historicisme، إذ إن الجدل الأكبر الذي أثاره البنائيون كان موجهًا ضد أنصار النزعة التاريخية، والقوة الدافعة الأولى للتيار البنائي كانت الرغبة في مراجعة التفسير التاريخي مراجعة جذرية، ومن هنا كان فهم موقف البنائية من النزعة التاريخية أساسيًّا في تحديد سماتها.

فقد كان من الشائع، في القرن التاسع عشر بوجه خاص، تفسير كل الظواهر من خلال التاريخ، فالسابق هو الذي يتحكم دائمًا في اللاحق، والمنشأ الأول لأي ظاهرة، ثم مسارها التالي، أساسي في فهم طبيعتها الحالية. ولقد اتفق على هذه النقطة مفكرون كانوا يختلفون فيما بينهم في مسائل أساسية؛ إذ قدم إلينا دارون تفسيرًا لتطور الأحياء من منظور تاريخي، وعمم «سبنسر» نظرية دارون من المجال البيولوجي إلى جميع المجالات الاجتماعية والروحية والعلمية والمادية. واتخذ «نيتشه» من فكرة التاريخ أساسًا لفلسفة كاملة تؤمن بأن للأخلاق والمعرفة والقيم (حتى المنطقية منها) تاريخًا، وبأن حاضر هذه المعاني لا يُفهم إلا من خلال ماضيها، وبأن الإنسان كائن تاريخي في صميمه. وطبق ماركس فكرة التاريخ على العلاقات الإنتاجية بين البشر في مراحلها المختلفة، فقدم إلينا نظرية في «المادية التاريخية» تجمع بين تأكيد الشروط المادية (والاقتصادية بوجه خاص) لتطور المجتمعات البشرية، وبين إعطاء أهمية كبرى للعامل التاريخي في هذا التطور. بل يمكن القول، من وجهة نظر معينة، إن العلوم الطبيعية ذاتها كانت تضفي على الفكرة الرئيسية فيها، وهي فكرة السببية، طابعًا تاريخيًّا أو زمنيًّا؛ لأن السبب كان يُنظر إليه على أنه «السابق المتكرر أو الدائم». والتقطت علوم إنسانية كثيرة فكرة التفسير التاريخي، فأصبح من الضروري، من أجل فهم أية ظاهرة تنتمي إلى مجال الحياة الإنسانية، الرجوع إلى سوابقها الماضية، وأصبح النقاد الفنيون والأدبيون يفسرون عمل الكاتب من خلال تاريخ حياته، ويبنون نظرتهم إلى الفنان على وقائع نفسية أو اجتماعية أو سياسية لها كلها موقع محدد في «التاريخ»، أي إن التاريخ أصبح متغلغلًا في كل شيء.

ولم يقف هذا التيار التاريخي الطاغي عند حدود القرن التاسع عشر، بل كانت له امتدادات قوية في القرن العشرين، وتمثَّلَ ذلك في عودة ظهور فكرة «التقدم» التي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وتأكيد وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر؛ فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر. وهناك خط متصل من التقدم، يمتد من أقدم العصور حتى اليوم، وبفضله يتحقق انتصار الروح في هذا العصر؛ لأن كل عصر وإن كان موجودًا في حالة «كمون» في العصر الذي سبقه، يضيف جديدًا إلى حصيلة التجارب البشرية، ويُسهم في دفعها إلى الأمام؛ ولذلك فإن أعلى المستويات التي تصل إليها الروح البشرية ستكون في المستقبل.

ولقد ظهرت محاولات متعددة للحيلولة دون انتشار هذه النزعة التاريخية الطاغية، كان من أشهرها محاولة «باشلار G. Bachelard» الذي أنكر وجود خط متصل من التقدم في المعرفة العلمية، وذهب إلى أن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء وعقبات تقف في وجه المعرفة بقدر ما هو تاريخ إنجازات ناجحة. بل إن الماركسية ذاتها، برغم ارتباطها القوي بالنزعة التاريخية، تنطوي على الفكرة القائلة بوجود نقاط انقطاع وانفصام في التاريخ البشري. وفضلًا عن ذلك؛ فليس من الضروري أن يكون الأساس الذي يُبنى عليه التفسير سابقًا، من الوجهة الزمنية. فهناك غايات معينة تستهدف المستقبل، وتكون — في المجال الإنساني — نوعًا خاصًّا من العلِّيَّة تتطلع إلى الأمام، لا إلى الخلف. وهذه مسألة ظهرت في الماركسية التي يرتكز جانب كبير من دعوتها الأيديولوجية على نوع من العلِّيَّة المتطلعة إلى المستقبل، هي تحقيق مجتمع بلا طبقات.

ولكن البنائية كانت هي التي أوقفت، بطريقة حاسمة، هذا التيار الطاغي للنزعة التاريخية، أو على الأقل قضَتْ على ادعائها احتكار القدرة على تفسير الظواهر البشرية؛ فقد استعاضت البنائية عن النظرة الشائعة إلى تقدم الروح الإنسانية، وهي النظرة التي تمثل هذا التقدم على أنه تراكم تدريجي لمكتسبات يُضاف الجديد منها إلى القديم إضافة خارجية، بتصور آخر تكون فيه الأفكار الجديدة مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل، وإن كانت قد اتسمت في البدء بالبساطة والبدائية. فالعقل الإنساني لا يسير في طريقه بطريقة جيولوجية، إذا جاز لنا أن نستخدم هذا التعبير؛ أي إنه لا يضيف طبقة من المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تمثل القديم بطريقة أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وإن كان يدرك خلال تطوره أن هذا البناء، الذي كان يُعَد صحيحًا صحة مطلقة في وقت مضى، لا يمثل إلا جانبًا من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلُنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.

وفي وسعنا أن نربط بين معارضة البنائية للنزعة التجريبية ومعارضتها للنزعة التاريخية، في هذه النقطة بالذات، فنقول إن تصور التقدم البشري بأنه تراكم تدريجي لمكتسبات تتجدد على الدوام، وهو التصور المميز للنزعة التاريخية، ينطوي على وجه من أوجه النزعة التجريبية؛ إذ يصبح التقدم عندئذٍ حصيلة وقائع تجريبية تُضاف كل منها إلى الأخرى مكونة طبقات متراكمة بعضها فوق بعض. وفي مقابل ذلك، ترفض البنائية كلًّا من النزعتين التاريخية والتجريبية؛ إذ تستعيض عن التصور السابق بتصور آخر يظل فيه العقل البشري متضمنًا صورًا أو قوالب أو عمليات ثابتة، وإن كنا لا نكفُّ عن إعادة النظر فيها، وعن توسيعها وتعقيدها، أي إن كل تقدم يظل محتفظًا بالنواة المركزية، مع إعادة تفسيره لها وفقًا لمقتضيات العصر. وهكذا يمكن القول إن نوع التقدم الذي تعترف به البنائية هو ذلك الذي يرى أن طريق المستقبل يمر بالماضي، وأن الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما تم بالأمس. فالبذور القديمة موجودة دائمًا، وكل ما نفعله هو أننا ننميها بطريقة جديدة.

والواقع أن كثيرًا من الباحثين في تطوُّر الحضارات قد اعترفوا بهذا المبدأ الذي تنادي به البنائية حتى قبل أن تعبِّر البنائية عن نفسها بوصفها مذهبًا فكريًّا متميزًا. فمنذ وقت بعيد لاحظ مؤرخو الحضارة أن كثيرًا من ضروب التفكير العلمي والإبداع التكنولوجي التي عرفها العصر الحديث، ليست إضافة مطلقة لشيء لم يكن موجودًا من قبل، بل هي تنمية لبذرة سبق ظهورها في عصور ماضية. وهكذا عرفنا، من تاريخ العلم والفلسفة، أن نظرية التطور كما ظهرت في القرن التاسع عشر إنما هي صياغة جديدة لفكرة نستطيع أن نعدها من البذور الثابتة في العقل البشري، نبتت عند أناكسيمندر في القرن السادس ق. م. وربما قبل ذلك أيضًا، واتخذت أشكالًا متعددة، إلى أن صيغت بالطريقة الحاسمة على يد دارون. ومثل هذا يُقال عن فكرة الذرة التي بدأت من عهد ديمقريطس، واكتسبت أشكالًا متباينة عند فلاسفة الإسلام وفلاسفة الغرب في العصور القديمة والوسطى والحديثة، إلى أن اتخذت شكلها العلمي في العهد القريب. وحين اخترعت أوربا البارود، كان الجميع يعلمون أن الصين قد استخدمته من قبل. وحين توصل «جيمس واط» إلى الطاقة التجارية، تنبه الكثيرون إلى أن المخترع الروماني «هيرو Hero» قد عَرف هذه الطاقة من قبل، وإلى أن ليوناردو دافنشي وضع تصميمًا لآلة تحركها طاقة البخار. وهكذا عرف الباحثون في تاريخ الأفكار وفي تاريخ الحضارات مئات الأمثلة التي تثبت أن مسار التقدم البشري يتخذ شكل تنمية وتطوير لمبدأ قديم يكاد يكون ثابتًا، لا شكل إضافات خارجية جديدة كل الجدة. وأدركوا أن التصورات الأساسية التي نفهم بها عالمنا الحالي كانت موجودة من قبل، وإن كنا قد نميناها وعقدناها. وعرفوا أن طريق العقل البشري لا يمثل انتقالًا من الظلام إلى النور، ومن الجهل إلى المعرفة، ولا يسير في خط مستقيم، كذلك الذي يقول به دعاة التقدم المستمر.
ومن السهل أن ندرك وجود فارق واضح بين هذا الموقف الذي اتخذته البنائية من فكرة التاريخ والتطور، وبين الموقف الذي ساد بوجه خاص في الأوساط الفلسفية الفرنسية في أوائل القرن العشرين، والذي يؤكد أن العصور اللاحقة تتجاوز تصورات العصور السابقة، بل تتخلى عنها نهائيًّا. وقد تمثل هذا الموقف الأخير في الفكرة التي اتخذ منها عالم الاجتماع الفرنسي «ليفي بريل Lévi-Bruhl» محورًا لأبحاثه، أعني فكرة وجود عقلية «قبل المنطقية Mentalité pré-logique» لدى البدائيين، كما تمثلت في فكرة «مراحل العقل» عند ليون برنشفيج Léon Brunscchvicg، التي ينتقل فيها العقل العلمي الإنساني من مرحلة «الطفولة» إلى مرحلة النضج. هذه الأفكار تفترض انتقالًا من الجهل التام إلى المعرفة الكاملة، وتصور تاريخ العقل البشري بأنه صعود مستمر إلى أعلى دون وجود أي عنصر مشترك بين القديم والجديد. وهذا ما ترفضه البنائية؛ لأنها تؤكد مفهوم «التوازي»٦ بين التصورات القديمة والجديدة. فالعقل البشري ينمو في كل الأحوال عن طريق تعميق التفسيرات التي يقدمها للطبيعة، وتحويلها من مرحلة التقيد بالمظاهر الخارجية إلى مرحلة كشف القوانين الكامنة، ولكن أساس هذه التفسيرات يظل واحدًا، والعناصر الأساسية باقية، والمقولة الأساسية في فهم التاريخ هي مقولة التوازي لا مقولة المسار الخطي الصاعد.
ولقد أورد «سيباج Sebag»٧ مثلًا للفرق بين المنهج التاريخي والمنهج البنائي، مستمدًّا من دراسة لجورج دوميزيل G. Dumezil في مجال علم الأديان المقارن؛ فقد انتهى «دوميزيل» إلى أن كل دين من أديان الشعوب الهند-أوروبية يتضمن تقسيمًا ثلاثيًّا لموضوع العقيدة، وأن هذا التقسيم يتمثل لدى الجميع، وإن تفاوتت صوره واختُلف في مدى وضوحه ونقائه. وهكذا نكتشف، من وراء تباين الآلهة والشعائر ووظائف العقيدة في كل حالة، تقسيمًا ثلاثيًّا واحدًا يظل على ما هو عليه مهما تنوعت الحضارات. وعلى العكس من ذلك؛ فإن النظرة التاريخية إلى هذا الموضوع ذاته تستخلص كل شكل من أشكال الألوهية من الواقع الديني الخاص بكل شعب على حدة؛ ولذلك لا تتوصل إلا إلى دلالات جزئية، وتضيع منها التشابهات البنائية الموجودة وراء السطح الظاهري لتعدد العقائد. والواقع أن النظرة التاريخية إذا توصلت إلى أي نوع من البناء، فهي إنما تتوصل إليه بعد دراسة مضنية للجزئيات وللأمثلة الفردية، ولن تستطيع رغم ذلك أن تتوصل إلى بناء أساسي. ولذلك تعكس البنائية الآية، فتضع التغيرات التاريخية الجزئية في «إطار البناء الثابت»، وتفسرها من خلاله؛ فالتاريخ يدور في إطار البناء، ويفسر بواسطته، لا العكس. والعملية التاريخية الخلاقة لا تُفهم إلا من خلال البناء الذي ظل موجودًا طوال ألوف السنين. ولذلك يمكن تشبيه العلاقة بين البناء والعمليات التاريخية العينية التي تدور في إطاره، والتي تضفي الحياة على البناء اللاواعي، وتنقله إلى مجال الوجود الفعلي — يمكن تشبيهها بالعلاقة بين «الشفرة Code» والرسائل المختلفة التي نحصل عليها بعد معرفة هذه الشفرة.
ولقد تأثر علم التاريخ بهذه الحركة الجديدة التي بدأت بها البنائية عهدًا جديدًا، فظهرت مدرسة تاريخية تركز جهدها على كشف عناصر الثبات في المسار التاريخي، وعلى كشف المعالم العامة للحضارات التي تمتصُّ في داخلها الأحداث وتصبغها بصبغتها الخاصة، بدلًا من أن تتشكل بالأحداث وتسير في تيارها. ولكن ظهر أيضًا رد فعل مضاد بين مؤرخين رأوا في هذه النظرة البنائية هدمًا لكل ما هو أساسي في التاريخ؛ ذلك لأن البنائيين يركزون على فكرة انعدام التغير invariance. أما بالنسبة إلى المؤرخ؛ فهناك على الدوام مؤثرات وتناقضات داخلية، تتجه دائمًا إلى إحداث توازن جديد. فالتحليل التاريخي يؤكد فكرة الحركة، وهو نقيض السكون الذي يؤكده التحليل البنائي. ولذلك يرى أنصار هذا الاتجاه المعارض للبنائية٨ أن التاريخ يرفض الأبنية الثابتة، بل إن الزمان يحمل في طياته كل بناء، ويغيره. وقد يكون هذا التغيير بطيئًا، كما في حالة البناءات العقلية والمنطقية، التي لا تتغير خلال التاريخ إلا ببطء شديد. وقد يكون سريعًا، كما في حالة الأوضاع الاقتصادية أو البناء القانوني لمجتمع ما. ولكن كل بناء يظهر ثم يذبل ويختفي، وعلى المؤرخ أن يدرس كيف يتم الانتقال من بناء إلى آخر، في ضوء اختلاف الإيقاع الذي تتطور به البناءات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية.
على أننا لا نود أن نختتم هذا الجزء، الذي نعرض فيه لموقف البنائية من النزعة التاريخية، دون أن ننبه إلى ثلاث مسائل هامة ينبغي أن تؤخذ في الاعتبار في صدد النزاع المشهور بين البنائية والتاريخية:
  • (١)

    أن البنائية تستطيع أن تجد وسيلة للتوفيق بين نزوعها إلى الثبات ونزوع المؤرخ إلى الحركة والتغيير؛ وذلك عن طريق التفرقة بين الإطار العام والمضمون الداخلي في كل حدث تاريخي. فمضمون الأحداث التاريخية، والمادة المحتواة فيها، هو الذي يختلف تبعًا للعصور والمجتمعات، ولكن هذا المضمون المتغير يكشف عن تنظيم يظل على ما هو عليه مهما اختلفت السياقات الاجتماعية والتاريخية؛ أي إن ما يسري عليه التطور والتغير، وما يخضع للتفسير التاريخي، هو المضمون والمادة الداخلية، أما التنظيم والبناء فهو فوق التاريخ. وعلى هذا النحو تستطيع البنائية أن تقدم إرضاء جزئيًّا على الأقل للمؤرخ الذي لا يمكنه أن يتصور علمه بدون فكرة التغير والحركة المستمرة. فهي لا تنكر التاريخ، وإنما تحصر تأثيره في إضافات وتنوعات تطرأ على إطار ثابت، على حين أن المؤرخ يؤكد أن كل شيء متحول، وأن أي بناء لا بد أن يسير في تيار التاريخ المتدفق.

  • (٢)
    على أن البنائية لم تكن تهدف أساسًا إلى معارضة المؤرخين حين أعلنت معارضتها للنزعة التاريخية؛ ذلك لأنها كانت تحارب هذه النزعة في مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، قبل أن تحاربها في مجال التاريخ ذاته. وهدفها الأساسي كان رفض التفسير الذي انتشر زمنًا طويلًا، والذي يرجع الظواهر الإنسانية إلى منشئها وتطورها فحسب، ويعجز عن كشف عناصر الثبات فيها. ومن هنا كان ميدانها المفضل — وهو الميدان الذي تستمد منه الحركة البنائية وحيها الأول — هو ميدان اللغويات، الذي حرص رائده «دي سوسير» على أن يكشف فيه بُعدًا لا يمت إلى التاريخ بصلة. فقد ميز «دي سوسير»٩ بين محورين أساسيين في دراسة اللغة: محور التزامن Simultanéité الذي يختص بالعلاقات بين التراكيب اللغوية، دون أية إشارة إلى الزمان، ومحور التعاقب Successivité الذي تبحث فيه ظواهر المحور الأول، لا من حيث هي موجودة معًا في وقت واحد، بل من حيث هي متطورة متغيرة. ومن هنا قسم الدراسات اللغوية إلى «سكونية statique» أو تزامنية Synchronique وهي المتعلقة بالتركيب الثابت للمعاني والرموز، وتطورية évolutive أو تعاقبية diachronique وتتعلق بما يطرأ على التراكيب والعلاقات اللغوية من تطورات. وعلى الرغم من أن «دي سوسير» لم يتجاهل المحور الثاني الذي يتضمن فكرة الزمان والتاريخ، فإنه أدخله في سياق أوسع، وكان أكثر اهتمامًا بالمحور الأول، أي بالبحث في الثوابت اللغوية التي تعبر عن بناءات لا يؤثر عليها التطور؛ لأنها جزء من التركيب الأصلي لمفهوم «اللغة» بوصفها وسيلة للتعبير الرمزي عن المعاني. وبالمثل كان ميدان «الأثنولوجيا Ethnologie»١٠ ميدانًا آخر مفضلًا لدى البنائيين؛ لأنه يتعلق بشعوب بدائية، أعني بما يمكن أن يوصف بأنه شعوب بلا تاريخ، ما دام التطور يكاد يكون غير ملحوظ بين هذه الجماعات. ومن هنا كان نجاح البنائية في كشف الأنساق الثابتة في هذا الميدان، وعجزها عن تطبيق منهجها هذا على الجماعات البشرية الحديثة التي هي مجتمعات موجودة «في التاريخ». ففي الشعوب البدائية تحل الأسطورة محل التاريخ. ومن سمات الأسطورة أن التعاقب الزمني لا يؤدِّي فيها وظيفة ذات بال، بل إن الأسطورة ذاتها إذا طرأ عليها تطور خلال الزمان، فإن القديم فيها يتعايش مع الحديث كما تتعايش حَفْريتان تنتميان إلى عصور مختلفة؛ ولذلك كان الميدان المفضل للبحث في المبادئ الأساسية للعقل الإنساني، عند البنائية، هو الأساطير البدائية الساكنة، المعبرة عن العقل في ثباته وفي سماته الجذرية.
  • (٣)
    والواقع أن البنائية، في معارضتها للنزعة التاريخية، قد استهدفت إحداث تغيير منهجي حاسم في العلوم الإنسانية. ويمكن القول إن هذا التغيير يماثل، من وجهة نظرها الخاصة، ذلك الانقلاب الأساسي الذي طرأ على العلوم الطبيعية حين تخلت في أوائل العصر الحديث عن الطريقة الكيفية في فهم ظواهر العالم الطبيعي، واستعاضت عنها بالطريقة الكمية. فهناك أوجه شبه متعددة بين الهدف الذي تسعى البنائية إلى تحقيقه في ميدان دراسة الإنسان، وذلك الذي حققته العلوم الطبيعية في تلك المرحلة الانتقالية الحاسمة من تاريخها:
    • (أ)

      ففي كلتا الحالتين كان الانتقال ثوريًّا، يمثل التحول من مرحلة «ما قبل العلمية» في دراسة الظواهر، إلى المرحلة العلمية الدقيقة. ولقد كان من أهم أوجه النقد التي وجهها البنائيون إلى المنهج التاريخي في دراسة الإنسان، التجاؤه إلى تعبيرات غامضة وعبارات إنشائية مطاطة، وعجزه عن التعبير عن الظواهر التي يتركها كلها تنساب في مجرى التاريخ، دون أن نتمكن من إيقاف هذا السيل المتدفق من أجل دراسته بطريقة علمية منضبطة.

    • (ب)

      وفي كلتا الحالتين كان العلم يسعى إلى تجاوز المظهر الخارجي للظواهر، والنفاذ إلى حقيقة أو ماهية أعمق منها، تظل ثابتة مهما طرأ على الظواهر من تغيرات. ولا شك أن هناك شبهًا قويًّا بين المعادلات الرياضية التي أصبحت قوانين الطبيعة تُصاغ فيها بعد انتقال العلوم الطبيعية إلى مرحلة التعبير الكمي عن الظواهر، وبين البناءات التي تظل ثابتة من وراء الأشكال المتعددة التي تتحقق من خلالها في المجتمعات المختلفة. وفي كلتا الحالتين يحتاج الوصول إلى الثوابت، من وراء المتغيرات الظاهرية، إلى نفس القدر من الجهد العقلي والقدرة على التجريد.

    • (جـ)

      بل إننا نستطيع أن نهتدي إلى وجه شبه مباشر بين الحالتين، يتمثل في التجاء البنائية إلى نماذج رياضية — قد تكون جبرية، وقد تكون هندسية — من أجل التعبير عن الأنساق الثابتة التي يتم التوصل إليها. ومعنى ذلك أن البنائية تُحقِّق، بطريق مباشر، الانتقال إلى أسلوب التعبير الكمي في ميدان الدراسات الإنسانية، وهو الانتقال الذي حدث بالفعل في العلوم الطبيعية منذ أربعة قرون.

    • (د)

      وأخيرًا ففي كلتا الحالتين تتخذ الحقيقة طابعًا لازمانيًّا. فللقانون العلمي الرياضي أزليته الخاصة، بمعنى أنه يعبر عن حقيقة ضرورية. وبالمثل يتسم البناء، في ميدان العلوم الإنسانية بالأزلية، لا لأنه يعبِّر عن حقيقة مجهولة المصدر، تظل ثابتة على مر الزمان؛ بل لأن فيه ضرورة تماثل ضرورة القانون الرياضي. ومن هنا كان في وسعنا أن نقول إن التساؤل عن المصدر الذي يأتي منه البناء هو، بمعنى معين، تساؤل ساذج؛ إذ إننا في حالة القانون العلمي الرياضي لا نتساءل عن مصدر المعادلة الرياضية، أو عن المصدر الذي فرض على الطبيعة تنظيمًا رياضيًّا ثابتًا، وجعل لها قوانين ثابتة من وراء مظاهرها المتغيرة؛ ففي كلتا الحالتين ترجع الأزلية إلى الضرورة المنطقية قبل كل شيء.

    وفي ضوء هذه الملاحظات نستطيع أن نفهم على نحو أفضل طبيعة الصراع المشهور الذي قام بين البنائية والنزعة التاريخية، وندرك الهدف الفلسفي والمنهجي الذي دفع البنائية إلى رفض المنهج التاريخي بصورته التقليدية.

وبعد هذا العرض العام لسمات البنائية، من خلال الاتجاهات الرئيسية التي تعارضها، نستطيع أن ننتقل إلى معالجة الأسس الفلسفية لهذا الاتجاه الفكري الهام عند ممثليه الرئيسيين.

ولا جدال في أن هذه المعالجة التفصيلية ستزيد من وضوح السمات العامة التي اهتدينا إليها من قبلُ، وتضفي عليها مزيدًا من التحدد والدقة المكتسبة من تطبيقها على مذاهب فكرية محددة المعالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤