البنائية والماركسية

(١) سيباج

كان لوسيان سيباج Lucien Sebag من أوائل الماركسيين الذين تنبهوا إلى إمكان وجود عناصر بنائية في فكر ماركس. ويبدو أن تحمسه لإثبات هذه الفكرة قد أدَّى به إلى الانحياز إلى جانب البنائية وإنكار عناصر أساسية في الماركسية، مما أبعده بالتدريج عن التيار الرئيسي للفكر الماركسي الفرنسي، وأدَّى إلى فصله من الحزب الشيوعي الفرنسي. وعلى أية حال فقد أُتيحَ لسيباج أن يعرض وجهة نظره كاملة، قبل موته المبكر، في كتاب يُعَد من الكتب الكلاسيكية في هذا الموضوع، هو «الماركسية والبنائية».١
ولقد أثار هذا الكتاب مجموعةً من المسائل التي قد لا يلقَى بعضها معارضة شديدة من الماركسية التقليدية، على حين أن البعض الآخر لا يمكن الاعتراف به في الإطار التقليدي للفكر الماركسي؛ لأنه يتضمن تشكيكًا في مبادئ كانت أساسية عند ماركس نفسه، لا مجرد تفسير جديد لأفكار كانت موجودة عنده بالفعل. ومن أمثلة النوع الأول، أعني ذلك الذي يمكن أن يكون مقبولًا في إطار الماركسية التقليدية، القول بوجود عناصر بنائية في صميم فلسفة ماركس. أما النوع الثاني فيتمثل في رفض الصورة المألوفة للعلاقة بين البناء الأدنى infrastructure وخاصة الاقتصاد، وبين البناء الأعلى Superstructure وهو رفض يصل إلى حد تغيير ركن أساسي من أركان الماركسية. وسوف نعرض لكلٍّ من هذين النوعين على حدة.
من المؤكد أن الماركسية تربط بين الأسس التي يرتكز عليها سلوك أفراد أو جماعات معينة، وبين عناصر معينة في أيديولوجية هؤلاء الأفراد أو الجماعات، على نحو ينطوي على القول بوجود تشابه بين الطرفين. فمثلًا تُفسِّر الماركسية النمط الخاص للعلاقة بين الله والإنسان في العصور الوسطى (وهو نمط ينتمي إلى مجال الأيديولوجيا) بأنه انعكاس للعلاقة بين الإقطاعي ورقيق الأرض في هذه العصور (وهي علاقة تنتمي إلى مجال الأساس أو البناء الأدنى). وتُفسِّر سيادة الفكر النظري المحض على البحث في العلوم التطبيقية، في المجتمع اليوناني (وهو موضوع ينتمي إلى أيديولوجية ذلك المجتمع) بأنها ترجمة لعلاقة السيد بالعبد في مجتمع يسوده الرِّق (وهو تفسير ينتمي إلى البناء الأدنى). وتُفسِّر عقيدة الجبر المطلق Prédestination كما قال بها كالفان Calvin في عصر النهضة الأوروبية، بأنها تعبير عن إحساس الإنسان في بداية العصر الرأسمالي بوجود قُوًى مجهولة تتحكم في مَصيره، هي قوى السوق وقوانينه، وتفرض نفسها عليه دون أن يستطيع السيطرة عليها. في كل هذه الحالات تُفسِّر الماركسية عنصرًا معينًا من عناصر الأيديولوجية في مجتمع معين، بعلاقات إنتاجية ذات طابع اقتصادي واجتماعي. ولكي يكون هذا التفسير ممكنًا ومقبولًا؛ فلا بد من وجود «بناء» مشترك يجمع بين المجالين المتباينين؛ المجال الأيديولوجي (وهو في هذه الحالة فلسفي أو ديني) والمجال الاجتماعي الاقتصادي. وعلى سبيل المثال، فكما أن العلاقة بين الإقطاعي وتابعه في العصور الوسطى هي علاقة رأسية بين طرفين يعلو أحدهما على الآخر علوًّا هائلًا؛ فإن هذا النمط أو «البناء» ينعكس هو ذاته على تصوُّر هذه العصور للعلاقة بين الله والإنسان. وقل مثل هذا عن سائرِ التفسيرات الماركسية لمختلف عناصر الأيديولوجية، كالفكر الفلسفي، والفن، والأدب.

ولنذكر في هذا الصدد ما سبق لنا أن أشرنا إليه، من أن البنائية من حيث هي منهج ليست بالشيء الجديد، وإنما الجديد هو التعبير الواعي عنها في مذهب فكري متماسك. فهنا نجد هذا النوع من التفسير البنائي لا يلقَى معارضة من الماركسيين المتمسكين؛ لأنه لا يخرج عن إطار الماركسية التقليدية، وكل ما يفعله هو أنه يستخدم في تقديمها مصطلحات بنائية.

على أن هذا، في رأي سيباج، لم يكن هو المظهر الوحيد الذي اتخذته البنائية في الفلسفة الماركسية. فمن الممكن أن تتحدد العلاقة بين البناء الأدنى، أي الأساس، وبين البناء الأعلى، أي الأيديولوجية، على مستوًى آخر، هو أن ننظر في مجال كامل من مجالات الواقع الاجتماعي، مثل علاقات الإنتاج، ونربطه بمجالات أخرى ذات طبيعة فكرية أو أيديولوجية. فعلى هذا المستوى لا نربط بين تفكير فردٍ معين، أو جماعة معينة، وبين عنصر معين في علاقات الإنتاج، وإنما نربط على نحوٍ أعمَّ، وأكثر تجريدًا، بين «أنماط» معينة من التفكير، وأنماط معينة من علاقات الإنتاج، أو من الواقع الاجتماعي. ومثل هذا الربط يحتاج إلى عملية توحيد ومقارنة أشدَّ تعمقًا مما يحتاج إليه الربط على المستوى الأول. وعلى الرغم من أن ماركس بحث الموضوع على المستويين معًا؛ فقد كان البحث على المستوى الثاني هو الغالب لديه. فهو لا يلجأ إلا نادرًا إلى الكلام عن تأثير عامل معيَّن يسهل تحديده في توجيه الفكر وجهةً معينة، بل يتحدث عن التأثير الشامل لآليات نمط اقتصادي كامل، كالاقتصاد الرأسمالي، في تحديد أسلوب التفكير والوعي الاجتماعي داخل هذا النمط، أي إنه يستهدف دائمًا بحث «كليات شاملة totalités»٢ وتؤثر كلٌّ منها في الأخرى، وتكشف عن «بناء» مشترك. ومثل هذا البحث هو الجدير بأن يسمى «علمًا» بالمعنى الصحيح؛ لأن موضوعه بناءات كلية.
على أن «سيباج» يستخلص من تطبيق المنهج البنائي على تفسير الماركسية نتيجةً تتعارض مع عنصر أساسي من عناصر التفكير الماركسي التقليدي، هي رفض الحتمية الاقتصادية. فعندما يكون أساس تفسيرنا هو البناء الكلي لا يعود من الممكن أن نعطي أولوية مطلقة لواحد بعينه من عناصر هذا البناء، ونجعل منه «سببًا» للعناصر الأخرى؛ فالعامل الاقتصادي، وفقًا للنظرة البنائية، هو مجرد عنصر من العناصر التي ينطوي عليها البناء، وليس هو أساس البناء بأكمله؛ ولذلك رفض سيباج تفسير التاريخ على أساس القول بأولوية العامل الاقتصادي، بل نظر إلى العلاقات الاقتصادية، جنبًا إلى جنب مع اللغة والأساطير ونظم القرابة، على أنها كلها عناصر يمكن اقتطاع أي منها من الكل بعملية ذهنية متعمدة تسعى إلى استخلاص السمات المميزة لهذا العنصر بالذات، عن طريق فصله عن علاقاته بمجالات الواقع الأخرى، وعندئذٍ يمكننا الوصول إلى مقارنات وتوازيات بين كل عنصر والآخر٣ ولكننا لا نستطيع أن نصل إلى حالة يكون فيها لأحد هذه العناصر — كالعنصر الاقتصادي مثلًا — أولوية سببية بالقياس إلى العناصر الأخرى، أو يكون هو الذي تتولد عنه هذه العناصر الأخرى.

وإذا كانت وحدة العناصر وتفاعلها المتبادل في البناء تمنَع من معاملة أحدِ هذه العناصر (كالعنصر الاقتصادي) معاملة مميزة، بوصفه أصلًا للباقين، فإن هناك أسبابًا أخرى تؤدي في نظر «سيباج» إلى هذه النتيجة نفسها. ومن أهم هذه الأسباب، أن العامل الاقتصادي لا يمكن أن يكون عاملًا ماديًّا بحتًا، في مقابل نتيجة فكرية أو عقلية هي الأيديولوجية بصورها المختلفة. وينتقد سيباج التصوير التقليدي عند بعض الماركسيين، الذي يعالجون العامل الاقتصادي كما لو كان مادة خامًا، تختلف في طبيعتها عن العوامل الأخرى التي هي «معلولات» لها. والواقع أن العقل الإنساني، الذي يتدخل في كل هذه العوامل، يُزيل الفوارق النوعية بينها عن طريق تدخله هذا. فالأساس الاقتصادي لا يكتسب كيانه ووجوده إلا من تلك الدلالة التي يُضفيها عليه العقل الإنساني؛ بحيث إن التضاد بين الواقع الاقتصادي والناتج الأيديولوجي المرتكز عليه ليس تضادًّا بين حقيقتين بينهما اختلاف أساسي في الطبيعة، وإنما هو تضاد يقع «داخل» الإطار العقلي والعلمي ذاته. ومن هذا الإطار العقلي يكتسب الطرفان معًا دلالتهما. وهكذا تكون الوسيلة الوحيدة لدراسة العلاقة بين الاقتصاد والأيديولوجية، في نظر سيباج، هي البحث في العلاقة المتبادلة بين الطرفين. أما فكرة وجود بداية مطلقة، أو سببية نهائية، يكون فيها أحد الطرفين منتجًا للآخر وأصلًا له، فإنه يرفضها بوصفها فكرة مستحيلة.

وهناك سبب أخير يؤدي إلى إنكار فكرة السببية المطلقة بين الواقع الاقتصادي والأيديولوجيا، هو أن الناتج الأيديولوجي، من فكر أو فن أو دين، لا يكفي لتفسيره أن نُرجعه إلى أصله؛ لأن هذا الناتج يخرج عن الأصل ويتجاوزه، ويكتسب خلال تطوره دلالة خاصة مستقلة عن الأصل الذي نشأ منه. ويعبر «سيباج» عن هذه الفكرة بقوله: «إن القول بأن نظامًا فكريًّا معينًا يتولد عن ممارسة اجتماعية معينة لا يكفي لتفسير طبيعة هذا النظام؛ إذ إن ما نعبر عنه على المستوى الرمزي يتجاوز دائمًا ذلك الواقع الذي اتخذ منه نقطة بدايته.»٤ وهو يستشهد في هذا الصدد برأي لبياجيه Piaget يقول فيه: «إن تولد البناءات من أصل اجتماعي لا يفسِّر وظائفها اللاحقة؛ لأن هذه البناءات حين تندمج في تركيبات كلية جديدة، يمكن أن تتغير دلالتها. وبعبارة أخرى: فإذا كان بناء تصور معين يتوقف على تاريخه السابق، فإن قيمته تتوقف على موقعه الوظيفي في الكل الذي يكون هذا التصور جزءًا منه في لحظة معينة.»٥
وهكذا يدافع «سيباج» عن تلك القدرة الخلاقة التي يتسم بها العقل الإنساني، والتي تجعل لنواتج هذا العقل استقلالًا ذاتيًّا بالقياس إلى الواقع الاجتماعي الذي أنتجها. ويترتب على ذلك أن النسق البنائي الواحد الذي يكونه هذا العقل يستطيع أن يعبر عن أكثر من واقع أساسي واحد، كما أن الواقع الواحد يمكن أن يولِّد أنساقًا متباينة. ولهذا الرأي نتيجتان هامتان، تؤلفان تعديلًا أساسيًّا على النظرية الماركسية التقليدية:
  • الأولى: هي إنكار وجود علاقة مباشرة بين الأساس الاقتصادي والاجتماعي الواحد، والنسق الفكري الذي يُقال إنه يرتكز عليه؛ فالسببية هنا ليست خطية تجمع بين طرفين، بل هي متشعبة يمكن أن تسير في شتى الاتجاهات.
  • أما النتيجة الثانية: فتذهب إلى مدًى أبعد؛ إذ تنكر تلك القسمة الثنائية التقليدية بين بناء أدنى وبناء أعلى، أو بين أسس الواقع الاقتصادي الاجتماعي والبناءات التي تُشيَّد عليه في ميادين الفكر والدين والفن … إلخ. فليس ثمة أولوية للأسس الاقتصادية الاجتماعية، وإنما يكشف لنا التاريخ عن سلسلة دائمة من التفاعلات المتبادلة، التي تتحول فيها الأسباب إلى نتائج، والنتائج إلى أسباب. ولو رجعنا إلى ما يحدث بالفعل في عالم الواقع؛ لوجدنا أن الناس حين يسلكون، يجمعون في مركَّب واحد بين مستويات كثيرة لا يمكن الفصل بينها إلا بعملية فيها قدر من العُمق؛ ولذلك فإن هذه العملية المزعومة للعنصر الاقتصادي تعزل شطرًا واحدًا من كلٍّ لا ينطوي إلا على علاقات متبادلة.٦

وهكذا يذهب «سيباج»، في تحليله البنائي للماركسية، إلى مدًى بعيد في الخروج عن المبادئ الأساسية للنظرية الماركسية التقليدية. وليس أدلَّ على ذلك من أنه يرفض النقد الذي وجهه ماركس إلى هيجل، على أساس أنه قلَب الأوضاع رأسًا على عقِب، وجعل من الواقع الاقتصادي الاجتماعي مجرد ناتج مترتب على «الفكرة» الدينية أو الميتافيزيقية أو المنطقية. على حين يريد ماركس أن يعيد الأمور إلى نصابها ويوقف الديالكتيك «على قدميه»، بعد أن كان واقفًا «على رأسه». هذا النقد يرفضه «سيباج»؛ لأن قلب الأوضاع هذا يمكن أن يحدث بالفعل؛ ولأنه سمة أساسية من سمات العملية الرمزية التي ينفرد بها الإنسان، والتي تجعل للنواتج الرمزية، من فكرٍ ولغة وعقيدة، استقلالًا ذاتيًّا عن الأصل الذي نشأت منه، وقدرةً على التأثير في الواقع ذاته، وتغيير الأسس الاقتصادية الاجتماعية. فنحن ها هنا في مجال لا يمكن التمييز فيه بين ما هو «أصل» وما هو «نتيجة». وتلك كلها آراء تعدُّها الماركسية التقليدية تحريفات غير مشروعة؛ لأنها لا تتعلق بالاجتهادات في تفسير النظرية، بل بالأسس التي ترتكز عليها.

(٢) ألتوسير

كان تفكير «لوي ألتوسير Louis Althusser» أوسع وأشمل بكثير من تفكير «سيباج»، كما أن اتجاهه العام في تفسير الماركسية — وهو اتجاه بنائي في أساسه، وإن لم يكن هو ذاته يرحب كثيرًا بهذه الصفة — قد تحددت معالمه قبل سنوات قليلة من ظهور كتاب سيباج عن الماركسية والبنائية. ومع ذلك فقد أرجأنا الكلام عنه إلى ما بعد عرض آراء سيباج؛ حتى يكون الانتقال بينهما انتقالًا إلى مزيد من التفصيل والتعمق في الموضوع. هذا فضلًا عن أن ألتوسير ما زال مؤلفًا خصب الإنتاج، وما زال صاحب مدرسة كاملة في التفسير الماركسي، في الوقت الذي توقَّف فيه إنتاج سيباج فجأة بموته السابق لأوانه.

وليس من الصعب أن يستدل المرء على طبيعة الظروف التي ظهر فيها التفسير البنائي للماركسية عند ألتوسير؛ إذ إن جهده الفلسفي يمكن أن يُوصف بأنه ردُّ فعل على رد فعل. فبعد النقد العنيف الذي وُجِّه إلى الجمود الفكري الذي اتصفت به المرحلة الستالينية، حدث رد فعل في الاتجاه المضاد، وظهرت تفسيرات للماركسية تؤكد جوانبها الإنسانية، وتحاول التوفيق بينها وبين كثير من المذاهب الفلسفية التي حاربتها طويلًا، وكأنها تحاول إزالة صفات التحجُّر المذهبي وإنكار النزعة الإنسانية، وهي الصفات التي اتُّهِمت بها ماركسية ستالين في أوساط كثيرة، منها الأوساط الماركسية ذاتها، في الخمسينيات من هذا القرن.

ولقد كان المفكر الذي حمل لواء هذه الدعوة إلى كسر جمود الماركسية التقليدية، وإذابة جليد الاتجاه اللاإنساني في الستالينية هو «روجيه جارودي Roger Garaudy». ولو شئنا أن نلخص الطابع المميز لردِّ الفعل عند جاردوي، بالقياس إلى الاتجاهات السائدة من قبلُ؛ لقلنا (مستخدمين لفظًا أصبح شائعًا في هذه الأيام) أنه هو الاتجاه إلى «الانفتاح» على الفلسفات الأخرى التي كانت تقف من الماركسية السابقة موقفًا عدائيًّا صريحًا، محاولًا بذلك تعويض الدجماطيقية والتزمُّت والخصومة العنيفة التي اتسمت بها فترة عبادة الفرد الستالينية. ففي كتاب «النزعة الإنسانية الماركسية Humanisme Marxiste»، وكذلك في كتاب «آفاق الإنسان Perspectives de l’homme، قدَّم جارودي للماركسية تفسيرًا إنسانيًّا وصفه بأنه يستخلص، «عن طريق التحليل النقدي للوجودية وللفكر الكاثوليكي وللماركسية، نقاط الالتقاء الممكنة في المسعى المشترك الذي تبذله هذه المذاهب من أجل الوصول إلى الإنسان الكلي.» وواضح من هذا الوصف أنه يهدف إلى إثبات وجود نوع من التكامل بين أفكار ماركس وبين مذاهب أخرى، كانت حتى ذلك الحين تخوض ضدَّ هذه الأفكار معاركَ حامية. على أن جارودي قد ذهب في هذا البحث عن التكامل والسعي إلى التوفيق، ومحاولة إجراء «حوار» يسوده التفاهم مع التيارات الفلسفية الأخرى، إلى حد أبعد مما ينبغي؛ إذ إنه أرجع الماركسية إلى أصولها المثالية، وخاصة عند «فشته Fichte» وتجاهل الانقلاب الإبستمولوجي الذي قام به ماركس وانجلز، وجعل التحول الاجتماعي راجعًا إلى أسباب إنسانية تجريدية ولم يعطِ إلا أهمية ثانوية لمقولات المادية التاريخية والديالكتيك الموضوعي. وإذا كانت الماركسية قد كسبت، بمحاولة جارودي هذه، صداقة بعض التيارات التي كانت تعاديها، كالوجودية والشخصانية، أو اتخذت صورة متقاربة معها، فإنها قد خسرت قدرًا غير قليل من طابعها النضالي، وقدرتها على نقد الأيديولوجيات المضادة لها، وفقدت جانبًا كبيرًا من طابعها العلمي الموضوعي.
ويمكن القول إن أعمال ألتوسير كانَت، في جانبها الأهم، رد فعل على هذا الاتجاه إلى إذابة الماركسية في رخاوة النزعة الإنسانية (ولهذا وصفناها من قبلُ بأنها رد فعل على رد فعل) وكانت سعيًا إلى العودة بها إلى صلابة النزعة العلمية Scientificité وعودة إلى تأكيد مقولاتها المادية المستمدة من كتب مثل «الأيديولوجية الألمانية» «ورأس المال»، وإبرازًا لطابعها المتميز الذي يرتكز على أسس لا يمكن الجمع بينها وبين تلك التي تقوم عليها الفلسفات البورجوازية. ففلسفته هي بمعنًى معين: نوع من «السلفية» المتقشفة الصارمة، التي ترجع إلى المنبع وتنبذ التحريفات. ولكنها تقوم في الوقت ذاته بحركة مزدوجة؛ فهي في رجوعها إلى المنبع لا تكتفي بلعبة الاقتباس والاستشهاد بالنصوص، وهي اللعبة التي يندفع إليها كثير من الماركسيين؛ إما عن عجز منهم عن التفكير المستقل، وإما عن تقصير في متابعة تيارات الفكر التي أعقبت ظهور المؤلفات الأساسية للماركسية، وإما نتيجة الانشغال بالكفاح السياسي، ورغبة في خدمة الاعتبارات العلمية والكفاحية قبل أية اعتبارات أخرى. بل إن ألتوسير يعود إلى الأصول مزودًا بكل انجازات الفكر والعلم المعاصر، ويستخدم في فهم النصوص أحدثَ أدوات التحليل الفكري التي عُرفت في النصف الثاني من القرن العشرين، وخاصة تلك التي تحققت في العلوم الإنسانية التي امتدَّ إليها تأثير العلم الطبيعي، كعلم اللغويات المرتكز على فكرة البناء، والتحليل النفسي الجديد المتأثر بهذه الفكرة نفسها، مما أتاح إلقاء ضوء جديد على موضوعه من زوايا حديثة متعددة. وهكذا يمثل تفكيره عودةً إلى المنبع وقفزة إلى الأمام في آنٍ واحد. وهو فضلًا عن ذلك لا يتجاهل المشكلات السياسية التي تشغل الماركسيين في الوقت الحاضر. وكل ما في الأمر أنه يؤكد الحاجة إلى منهج يتمشى مع الاتجاه الأساسي لماركس، ويتيح لنا معرفة الواقع بطريقة علمية. فهو ينظر إلى الماركسية بوصفها علمًا يأخذ هو على عاتقه صياغة قوانينه الأساسية، وعن طريق هذه القوانين يمكن التصدِّي للمشكلات التي تواجه الإنسان المعاصر بثقة، والإتيان بحلول أصيلة لها.
على أن من الخطأ أن ننظر إلى هذه العودة إلى المنبع على أنها مجرد شرح وإيضاح لفكر ماركس. فمرحلة الشرح قد تم تجاوزها منذ وقت طويل، بل لقد أصبحت كثرة الشروح المباشرة وتكرارها الممل مشكلةً من المشكلات التي تواجه الفكر الماركسي. وكان من الضروري أن تأتي بعد ذلك مرحلة تقديم ذلك الفكر بطريقة منهجية جديدة، وإعادة تفسيره في ضوء المعرفة الجديدة التي تم اكتسابها في ميادين متعددة. بل إن نصيب الفكر المبتكر الخلاق في أعمال ألتوسير لا يقل عن نصيب الكتابات الأصلية التي يقوم بتفسيرها. فإذا تذكر المرء ذلك المستوى الهابط الذي قُدمت به الماركسية في كثير من الشروح المباشرة، التي امتلأت بالدعايات الساذجة، وسطحت تفكير الفيلسوف نفسه، أمكنه أن يقدِّر أهمية العمل الذي قام به ألتوسير، الذي بعث حياة جديدة في الفكر الماركسي، و«أثبت أن المفكر يستطيع أن يكون ماركسيًّا وخلَّاقًا في الوقت ذاته.»٧
ولقد كانت نقطة البداية الطبيعة في هذا الخلق الجديد للماركسية، هي نقد الاتجاهات السائدة في تفسير الماركسية، لا في عصره فقط، بل منذ أن ظهر ذلك المذهب؛ ذلك لأن هناك تفسيرًا شائعًا، له سمات محددة لا يكاد يشك فيها أحد، وهو تفسير تفقِد فيه الماركسية أصالتها، وتتحول إلى مجرد امتدادٍ للهيجلية. هذا التفسير هو الذي أخذ ألتوسير على عاتقه مهمة نقده، بعد أن أطلق عليه اسم «الماركسية السوقية أو العامية marxisme vulgaire» فعلى أي نحوٍ انتقد ألتوسير هذا التفسير الشائع؟

في التفسير الشائع للماركسية تأكيد مفرط لتأثير هيجل في ماركس. فالماركسية تُصوَّر على أنها فرع من شجرة متعددة الأغصان، هي الهيجلية التي سارت امتداداتها، من بعدها، في اتجاهات اليمين والوسط واليسار. وهذا الأصل الهيجلي هو مصدر الخطأ الأكبر في الفهم الشائع؛ إذ إنه يؤدي إلى إغفال جوانب أخرى لم تكن هي التي تميزت بها هذه الفلسفة، ولم تكن هي موضع الجِدة والأصالة فيها.

والواقع أن نظرة ماركس إلى الفكر تؤدي — منذ البداية — إلى افتراق طريقه عن هيجل على نحو حاسم؛ فماركس لم يعرف ذلك الفكر المكتفي بنفسه، الذي هو أبرز السمات عند هيجل. وإذا كان الفكر والواقع عند هيجل يمتزجان في بوتقة واحدة؛ فإن هذا الامتزاج يتم عن طريق إضفاء الصبغة الفكرية على الواقع. وحين يقول هيجل إن «كل واقع معقول، وكل معقول واقع»، فإن أساس قوله هذا هو طريقته الخاصة في إضفاء الطابع الفكري على الواقع، بحيث يكون الفكر هو الطرف الثابت، والواقع هو الطرف الذي يتشكل وفقًا للفكر، والذي لا نفهمه إلا من حيث هو تعبير عن مقولات فكرية. أما في حالة ماركس؛ فإن نقطة البداية مختلفة اختلافًا جذريًّا؛ إذ إن التفكير عنده نوع من الإنتاج أو الإحداث، والفكر «ممارسة نظرية Pratique théorique» لا تنتج عن جهد الذات الفردية، بقدر ما تكون حصيلة تفاعلات بين الذات وبيئتها التي تدخل فيها عوامل اجتماعية وتاريخية.٨ بل إن كل معرفة إنما هي نوع من الإنتاج، يقوم به المجتمع مثلما يقوم بإنتاج الثروة، والنظام الذي يخضع له «الإنتاج» في الحالتين متشابه. ولا شك أن هذه النظرة إلى الفكر بوصفه ناتجًا اجتماعيًّا خاضعًا لشروط مشابهة لتلك التي تخضع لها النواتج الاجتماعية الأخرى تشكل فارقًا أساسيًّا، ينبغي أن يؤخذ في الاعتبار قبل أية محاولة للمقارنة بين فكر هيجل وماركس.

فإذا انتقلنا إلى مضمون فلسفة هيجل، وجدنا أن الرأي الشائع في هذا الصدد هو أن ماركس قد اقتبس الجدل الهيجلي على ما هو عليه، وإن كان قد جعله يعتدل بعد أن كان مقلوبًا، واستخدمه في فهم الواقع المادي بعد أن كان يُستخدم في تحديد مسار حركة الفكر. على أن ماركس قد افترق عن هيجل افتراقًا تامًّا في تصوره لفكرة التناقض التي هي الفكرة المركزية في الجدل الهيجلي. فالحركة الجدلية تتم في الإطار الهيجلي، عن طريق السلب الذي يُعرض علينا كما لو كان يتضمن قوة خفية تؤدي إلى التحريك. ويبدو أن في قلب الجدل الهيجلي إيمانًا بنوع من الغائية الغامضة تتمثل في تلك الدينامية المنبعثة عن التناقض، والتي تدفع بالفكر إلى الأمام نحو مزيد من التعقيد، وتصل بهذا الفكر في النهاية إلى غايته المرسومة مقدمًا. وحين يقتبس الماركسيون التقليديون هذا التصور الهيجلي للجدل، ويطبقونه على مسار التاريخ، يصورون هذا المسار كما لو كان صراعًا مستمرًّا بين الأبيض والأسود، يقوم فيه ملاك طاهر (هو المركب) بالتوفيق بينهما، مع إلحاق الهزيمة — جزئيًّا على الأقل — بالأسود. وهذا التبسيط هو ما يعترض عليه ألتوسير، ويراه تزييفًا مثاليًّا لفكر ماركس.

والواقع أن ماركس، كما يفهمه ألتوسير، لم يكن مجرد ناقد لهيجل أو مصحح له، اكتفى باقتباس الجدل منه مع إيقافه على قدميه بدلًا من رأسه، بل إنه أزال الزيف الهيجلي المثالي، وأعاد إلى الحقيقة طابعها المعقد المتشابك، ولم يكن استمرارًا لهيجل، بل كانت مهمته الرئيسية هي تفنيده، وتبديد أساطيره. وهكذا لم تكن نقطة بداية ماركس هي الرغبة في إكمال مسار هيجل بعد تصحيحه، وإنما كانت هي «العودة إلى الوراء»، إلى التاريخ الحقيقي الذي شوَّهته الأيديولوجية الألمانية، وبخاصة عند هيجل، وإلى العناصر التي حرفت في مذهب هيجل. ومن هنا؛ فإن من الخطأ النظر إلى العلاقة بين ماركس وهيجل في ضوء فكرة «التجاوز والرفع Aufhebung» الهيجلية؛ لأن ماركس لم يقوِّمْ أخطاء هيجل، وإنما بدَّد أوهامه، وعاد إلى الوراء من الوهم المتبدد إلى الواقع الذي لم يتنبه إليه هيجل، أي إلى الأسس العينية للحياة الاجتماعية، كما تتمثل في التاريخ والاقتصاد السياسي والاجتماع. فهو بالاختصار قد اقتحم أرضًا جديدة، واستمد تفكيره من مصادر مغايرة لتلك التي انطلق منها هيجل.
ولو قارن المرء بين ما قام به هيجل بالنسبة إلى السابقين عليه، وما قام به ماركس بالنسبة إلى هيجل لأدرك الفرق بوضوح؛ فهيجل قد تجاوز بالفعل كلًّا من إسبينوزا وكانْت «وفشته»، ولكن هذا كان تجاوزًا ينطبق عليه لفظ Aufhebung؛ إذ إنه واصل السير في نفس طريق الفلسفة التأملية النظرية الذي سلكوه، واحتفظ بواحدية إسبينوزا وبالذات الفعالة عند كانْت وفشته، مع تجاوزه للنظرة الأحادية الجانب عند كل منهم،٩ أما في حالة علاقة ماركس بهيجل فإن الأمر يختلف؛ إذ إنه اتخذ لنفسه منذ البداية طريقًا مختلفًا، وتخلى عن الوظيفة التأملية للفكر لكي يربط بينه وبين الممارسة العلمية ربطًا أساسيًّا، وجعل للتفكير مهمة مغايرة لكل من سبقه، هي مهمة تغيير العالم، لا مجرد تفسيره، أي إنه بدلًا من أن يرتفع بتأملات هيجل إلى مستوى أعلى قد فجَّر مذهبه من أساسه.
على أن هذا لا يعني أن ماركس قد انفصل بفكره عن هيجل من أول عهده بالتأليف؛ فهناك قدر من الصواب في الرأي القائل إنه قد بدأ هيجليًّا، ولكن المهم أن نفرِّق بين الفترة التي كان فيها ماركس دائرًا في فلك «الإشكال الهيجلي la problématique hegelienne» وتلك التي أصبح له فيها إطاره الفكري الخاص، الذي يتسم بالانضباط العلمي، وتنطبق عليه المقولات البنائية؛ لذلك يقسم ألتوسير تفكير ماركس إلى مراحل: مرحلة الشباب (١٨٤٠–١٨٤٤م) ومرحلة الانفصال أو الاعتزال Coupure١٠ (١٨٤٥م) ومرحلة النضج (١٨٤٥–١٨٥٧م وما بعدها). ففي المرحلة الأولى، التي يمكن تسميتها بالمرحلة الأنثروبولوجية، كان اهتمام ماركس منصبًّا على الإنسان، وكان متأثرًا بفويرباخ عندما جعل هدفه هو أن يحقق للإنسان ماهيته الأصيلة، ومتأثرًا بهيجل في مصطلحاته وطريقته التأملية في تقديم الحجج وحديثه كفيلسوف تجريدي. أما بعد «الاعتزال»؛ فقد أصبح يعد المرحلة السابقة مرحلة «أيديولوجية»، وأخذ يبحث لنفسه عن مصطلحه الخاص، وازداد اهتمامًا «بالطابع العلمي» للفكر بدلًا من طابعه الأيديولوجي، وأصبح مدارُ بحثه تحليلَ بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، بعد أن كان تحقيق ماهية الإنسان.
في هذه المرحلة لم ينفصل ماركس، في الواقع، عن هيجل فحسب، بل إنه انفصل عن التراث الفلسفي السابق كله. وتلك نقطة يؤكدها ألتوسير بقوة؛ إذ إن من أهم القضايا التي يلح عليها، في تفسيره الخاص للماركسية، أن تفكير ماركس الناضج كان يتسم بالجِدة الكاملة، وكان يمثل انقطاعًا أساسيًّا rupture بالنسبة إلى كل ما سبقه. فما هي السمة المميزة لتفكير ماركس في هذه المرحلة الرئيسية، مرحلة الجدة والاستقلال عن التراث الفلسفي السابق؟
لكي يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال، ينبغي علينا أن نلقي الضوء على لفظ محوري في لغة ألتوسير، استخدمناه منذ قليل دون إيضاح لمعناه، وهو لفظ problématique (مستخدمًا بوصفه اسمًا، لا صفة). ففي رأي ألتوسير أن كل مذهب فكري له إشكاله الخاص، أو على الأصح، إطاره الإشكالي المميز، الذي تدور في نطاقه كل تفاصيله وجزئياته، بل إن كل أيديولوجية ينبغي أن تُفهم على أنها تؤلف كُلًّا تجمعه وحدة باطنة، هي وحدة ذلك الإطار الإشكالي أو التساؤلي الذي تتصدى للإجابة عنه، والذي تنفرد به عن غيرها، ويشكل البؤرة المركزية المميزة لتكوينها النظري.١١ وسيان أن ننظر إلى هذا المحور الأساسي في ضوء تشبيه الإطار، بحيث يكون هو الهيكل الذي تندرج «في داخله» كل التفاصيل ولا تُفهم إلا من خلاله، أو في ضوء تشبيه النواه المركزية، بحيث تكون هذه التفاصيل دائرة «حوله» ومتجهة نحوه؛ فإن المهم في الأمر أن فهم هذا المحور أساسي من أجل الوصول إلى معني كل قضية من القضايا التي تُثار في المذهب أو الأيديولوجية المعينة.
على أنه لا يتعين أن يكون المفكر على وعي بالإطار الإشكالي الذي يدور في داخله تفكيره، أو أن يصرِّح به في كتاباته بوضوح، بل إن هذه هي مهمة المفسِّر الذي ينبغي عليه أن يستخلصه من كتاباته بطريقة ضمنية، وأن يقرأ ما بين السطور، ولا يكتفي بما هو مصرَّح به. وفي كثير من الأحيان لا يكون السؤال الأساسي أو المحوري هو ذلك الذي «يبدو» بارزًا في كتابات الفيلسوف. ففي كتاب «رأس المال» يبدو أن الفكرة الرئيسية هي فكرة العمل وعلاقته برأس المال، ولكن التفسير الصحيح في رأي ألتوسير ينبغي أن يرتكز على التقابل بين القيمة والقيمة الاستعمالية valeur d’usage وعلى فكرة فائض القيمة. ومن هاتين الفكرتين يستخلص «البناء» الأساسي الذي أخذ ماركس يطوِّره وينميه طوال الأجزاء الثلاثة من كتابه الرئيسي، بغض النظر عن الترتيب الفعلي الذي سار عليه من جزء إلى آخر.

هذا «البناء» المميز للماركسية ذو طابع موضوعي، أصبحت بفضله الماركسية «علمًا» بالمعنى الصحيح. أما تفسير الماركسية من خلال كتابات الشباب التي كانت تنظر إلى الإنسان بوصفه الموضوع الأساسي للبحث، وتعده المحرك الوحيد للتاريخ، وتركز جهودها على تحقيق صورة مُثلى للإنسانية. فأقل ما يُقال عنه إنه يصبغ الماركسية بصبغة رومانتيكية تضيع معها علميتها وموضوعيتها وانضباطها. فأصل البحث الماركسي ومحوره هو ذلك البناء الاجتماعي الاقتصادي الذي يحمل الإنسان في طياته. والذي يساعدنا — إذا شئنا — على أن نفهم الإنسان في داخله، وإن لم يكن مستمدًّا من المقولات الإنسانية؛ لأنه يتعلق بحقيقة مستقلة عنها، لها قوانينها الموضوعية، شأنها شأن أي بناء آخر. وكل تحليلات ماركس للصراع الطبقي من هذا النوع المرتكز على قوانين بنائية تنتمي إلى تركيب المجتمع ذاته، وتفرض نفسها على الإنسان.

ولكي يعمل ألتوسير حسابًا لهذا البناء المعقد الذي هو محور التساؤل ومدار البحث عند ماركس، كان من الضروري أن يتجاوز المفهوم الساذج للحتمية الاقتصادية، الذي روَّجت له الماركسية العامية. فهذا التفسير الساذج يرد كل شيء إلى عامل واحد، هو العامل الاقتصادي، ويقول بوجود علاقة سببية مباشرة بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، ويُغفل التعقد الشديد للواقع، واستحالة تطبيق مثل هذه الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد في مجالٍ معقَّد، كذلك الذي تصدَّت له الماركسية. وفي مقابل ذلك يقول ألتوسير إن نوع الحتمية الوحيد الذي يمكن تصوره في هذا المجال هو ما يسميه بالحتمية المتبادلة أو المقعدة Surdétermination. فمن الخطأ في نظره تفسير ماركس على أساس القول بعنصر رئيسي ذي طبيعة اقتصادية تخضع له كل العناصر الأخرى التي تُعَد «ثانوية» بالقياس إليه، بل إن الحقيقة الأصلية معقَّدة بطبيعتها، والحتمية فيها متبادلة دون أفضلية لواحد من عناصرها على الآخرين. وهكذا يستخدم ألتوسير مقولة فكرية تلائم تعقد الموضوع الذي يبحثه، ويستعين بمعطيات ذهنية جديدة يراها أصلحَ للتعبير عن المعقولية الكامنة في الماركسية. وكما أن علماء الفيزياء أدركوا، في مطلع القرن العشرين، أن الحتمية المباشرة ذات الاتجاه الواحد لا تصلح للتعبير عن سلوك الجزئيات في المجال الذري، وأدخلوا مفاهيم جديدة تحفظ لهذا المجال طابعه الموضوعي، وتعمل في الوقت ذاته حسابًا لتعقُّده وتشابكه، فكذلك يفسر ألتوسير الماركسية على أساس فكرة العلِّيَّة المتعددة الجوانب، التي لا يكون فيها مركز مميز لأي عنصر بعينه من عناصرها. فالأسباب أو العلل في المجال الاجتماعي شديدة التعقيد، والحركة لا تتولد فيه عن طريق إضافة الأسباب بعضها إلى بعض خلال مسارها، وهي تمارس تأثيرها على المستويات المختلفة.١٢ وبذلك يتسع نطاق المعقولية على نحوٍ يتجاوز بكثير الفهم التقليدي للحتمية الاقتصادية.

وليس المرء بحاجة إلى تفكير طويل لكي يدرك مدَى تأثير فكرة «البناء» على مفهوم «العلية المتبادلة» عند ألتوسير. فهذه الفكرة هي التي تتيح فهم التفاعلات المتبادلة الكثيرة التي تحدث على مستويات مختلفة للواقع الاجتماعي. ولا شك أن ألتوسير قد أضاف إلى الماركسية بُعدًا عميقًا حين استخدم، في تفسيره الفلسفي، مفاهيم جديدة توصلت إليها البحوث العلمية المعاصرة، فاستطاع بذلك أن يحقِّق ما عجزت عنه أدوات التفكير الكلاسيكية، وتمكن من الإحاطة على نحوٍ أكمل بالعلاقة البالغة التعقيد بين البناء الأدنى والبناء الأعلى، متجنبًا ذلك التبسيطَ المُخلَّ الذي كانت الماركسية العامية مُهدَّدة دائمًا بالوقوع فيه.

وعلى الرغم من أن كتابات ماركس لم تعبِّر عن هذا الاتجاه إلا بصورة ضمنية؛ فقد كانت فيها بذور مؤكدة أمكن تنميتها فيما بعدُ. فعلى حين أن بعض الماركسيين يعتقدون أن كل مجتمع بشري ينبغي أن يمر بنفس المراحل المحددة، من البدائية إلى الرِّق ثم الإقطاع وبعده الرأسمالية، لينتهي إلى الاشتراكية، فإن كتابات ماركس ذاتها قد تضمَّنت ما يوحي لنا بتفسير مخالف، يساعد على كشف ما هو مميز لكل مجتمع، ولا ينظر إلى التاريخ نظرة تراكمية تؤدي فيها كل حضارة إلى ظهور حضارة أخرى تمر بنفس المراحل. ويتمثل هذا التفسير المخالف في تنبيه ماركس إلى ما أَطلق عليه اسم «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، الذي يدل على رغبته في فهم واقع الشعوب الآسيوية، وكثير من المجتمعات التي نطلق عليها اليوم اسم «العالم الثالث» دون الحاجة إلى وضعها في قوالب أوروبية، أو تأكيد انطباق مقولات التاريخ الأوروبي عليها بطريقة مبسطة موحدة الاتجاه. وما هذا إلا مثل واحد يدل على أن كتابات ماركس كانت تتضمن بالفعل بذورًا لنظرة جديدة إلى الحتمية، مخالفة للحتمية المبسطة ذات الاتجاه الواحد، التي اعتاد الماركسيون اللاحقون أن ينسبوها إليه.

بقي أمامنا في هذا العرض الذي نقدمه لتفسير ألتوسير البنائي للماركسية سؤال أخير، هو: هل نجح هذا التفسير بالفعل في تجاوز كل العقبات التي تقف في وجه التفسير التقليدي للماركسية؟ وهل تمكَّن من أن يعبِّر، على نحو جامع، عن الماهية الأصلية لتفكير ماركس؟ من المؤكد أن ألتوسير مفكر قدير، متمكن من مادته ومن أسلوبه، وأن عمقه قد أفاد الماركسية كثيرًا في إنقاذها من خطر «التسطيح» الذي تتعرض له على يد التفسيرات المفرطة في التبسيط. ولكن المشكلة في أمثال هذه التفسيرات المتعمقة هي أنها أحيانًا تقوم بعملية «إسقاط» تُضفي فيها أفكار المفسِّر ذاته على الفيلسوف الذي تفسِّره، كما أنها قد تضطر، من أجل الاحتفاظ بتماسكها الداخلي، إلى تجاهل بعض الحقائق الأساسية التي تقف عقبة في وجهها. ويبدو أن ألتوسير معرَّض للوقوع في أخطاء من هذين النوعين.

ولعل أول ما تجدر الإشارة إليه، في هذا الصدَد، هو الاتجاه العام لتفسير ماركس عند ألتوسير. فهو يريد أن يُثبت أن الإطار الذي وضعه ماركس لتفكيره كان جديدًا كل الجدة. وربما كان من حقنا أن نتساءل عمَّا إذا كانت مبادئ الماركسية ذاتها تسمح بوجود إطار جديد كل الجِدة لدى أي مفكر؛ ذلك لأن هذا معناه أن يكون المفكر مختلفًا عن كل السابقين غير متأثر بهم. فهل تُعد هذه النظرة إلى تطور الفكر، التي تؤكد وجود حالات «انقطاع» حاسم فيه، وتنكر الاتصال التاريخي بالنسبة إلى هذه الحالات بعينها، وتقول بإمكان وجود بداية مطلقة في الفكر؟ هل تُعد هذه النظرة متمشية مع وجهة النظر الماركسية ذاتها في تطور الفكر؟ أشك كثيرًا في أن يكون الجواب عن هذا التساؤل بالإيجاب.

وفي سبيل تأكيد هذه البداية المطلقة، أنكر ألتوسير أن يكون ماركس قد تأثر، في مرحلة نضوجه، بالمقولات الفكرية الهيجلية. وتلك نقطة أخرى لا يمكن قبولها بسهولة، وكانت هي على وجه التحديد من أكثر النقاط التي اعترض عليها ماركسيون آخرون من نقد ألتوسير. ذلك لأن ألتوسير تجاهل هنا أن ماركس نفسه قد شهد في كتاباته بتأثير المنهج الديالكتيكي الهيجلي عليه، وبأنه قد اقتبسه بعد أن أعاده من وضعه المقلوب إلى وضع الاعتدال. كما تجاهل لغة ماركس التي ظلت هيجلية حتى كتاب «الأيديولوجية الألمانية» على الأقل، وتجاهل تأكيد ماركس أن هيجل هو الذي قدَّم إليه الأداة المنطقية التي تمكن بواسطتها من الانتقال من أبسط العلاقات وأقربها إلى الطابع المباشر — أي العلاقة بين شخصين في التعامل بسلعة معينة — إلى النقد العام للنظام الرأسمالي بأسره، متبعًا نفس المنهج الذي اتبعه هيجل في انتقاله من أبسط المفاهيم حتى أعقدها، في كتابَي «المنطق» و«ظاهريات الروح». وتجاهل أخيرًا كل ما قاله لينين بعد ذلك عن أهمية هيجل، واستحالة فهم ماركس دون دراسة منطق هيجل. والأمر الذي أتاح له هذا التجاهل هو تلك التفرقة التي وضعها بين ما عبر ماركس عنه صراحة وعن وعي، وما كان ماركس يعنيه بالفعل. فهو لا يكترث بالتصريحات الفعلية بقدر ما يهتم بالمعاني الضمنية التي لا تُفهم إلا من خلال دراسة «النسق» الفكري لكتاباته وتحليل بنائها؛ بغيةَ الوصول إلى دلالتها التي لا تظهر على السطح الخارجي. وهكذا كان ألتوسير يقلل، مثلًا، من شأن تأكيد ماركس أنه قلب الجدل الهيجلي رأسًا على عقب، ويصفه بأنه مجرد مجاز لفظي، وهي طريقة في التفسير يمكن أن تؤدِّي إلى أية نتائج يريدها المرء، ما دام لا يقيم وزنًا لما يقوله المفكِّر نفسه. وأما عن شهادة لينين، فمن الملاحظ أن ألتوسير قد قام بنفس هذا العمل عن لينين نفسه في كتاب «لينين والفلسفة Lénine et la philosophie»، أي إنه فسره تفسيرًا «علميًّا» مبالغًا فيه، وتجاهل الارتباط الوثيق بين البناء الشكلي والمضمون الفلسفي في كتاباته، كما تجاهل المضمون الثوري الذي ينبغي للمرء أن يعمل حسابه في كل قراءة لتلك الكتابات، إلى جانب ما فيها من شكل علمي خارجي.١٣

والواقع أن حرص ألتوسير الشديد على كشف «البناء» العلمي المنضبط في كتابات ماركس، قد أدى به إلى السير في متعرجات الاستدلال الفلسفي، التي يتوه فيها القارئ معه دون أن يعرف كيف يعود إلى الواقع الذي بدأ منه. وفي خلال هذا المسار المتعرج، الذي ينبغي أن نعترف لألتوسير بالقدرة على سلوكه دون أن يفقد الخيط الجامع بين أطراف براهينه، وبالتمكن التام من أشد الاستدلالات تجريدًا. في خلال ذلك يحس القارئ بأن النهاية شيء والبداية شيء آخر، وبأن البناء الشكلي للتفسير أخذ يطغى بالتدريج على المضمون الفكري، حتى يتحول الأمر في النهاية إلى مجرد الاستمتاع بالجمال الشكلي لهذا البناء مع نسيان الهدف الأصلي الذي كان ماركس يضعه نصب عينيه في كل ما كتب.

أما هذا الهدف الأصلي، فهو الإنسان أولًا وأخيرًا. ومهما قيل عن وجود بناء علمي موضوعي لا شأن له بالاعتبارات العاطفية الإنسانية عند ماركس (وكثير من هذا الذي يقال صحيح)؛ فإن كل بناء شيده ماركس كان له، في النهاية، هدف إنساني. صحيح أن ماركس قد استبعد الاعتبارات العاطفية من تفكيره، ولم يكن في مرحلته الناضجة يهتم بتحقيق صورة مثالية للإنسان بقدر ما كان يهتم بكشف القوانين العلمية الموضوعية للعلاقات الاجتماعية التي تعلو على الأشخاص. كل هذا صحيح، ولكن هذه الحجج «العلمية» كلها كانت تستهدف، آخر الأمر، القيامَ بثورة «إنسانية» تؤدي إلى إقامة علاقات اجتماعية يختفي فيها استغلال الإنسان للإنسان. ولو لم يتذكر المرء هذا الهدف النهائي للماركسية على الدوام، لكان — على حد تعبير أحد نقاد ألتوسير — كالمستجير من دجماطيقية النزعة الإنسانية، بدجماطيقية أخرى أفدح وأخطر، هي دجماطيقية الشكلية التجريدية.١٤

والواقع أن ألتوسير كان على حق في محاولته تخليص فكر ماركس من التشويهات التي أصابته على يد أولئك الذين كان هدفهم الأوحد تحقيق غايات عملية وبرجماتية، بحيث نسبوا إليه نزعة إنسانية شبه مثالية؛ لكي يرضوا مجتمعًا متشبعًا بالأفكار والمبادئ الليبرالية، ويقربوا أفكاره إلى عقول الناس في مثل هذا المجتمع. وبهذا المعني كان تفسير ألتوسير نوعًا من العودة إلى الأصالة بعد التشويهات ذات الأهداف العملية، التي لا تقيم وزنًا كبيرًا للمذهب في صورته النقية. ولا يملك المرء إلا أن يعترف بأن ألتوسير كان على حق — ولو بصورة جزئية — حين هاجم أولئك الذي انطلقوا، في تفسيرهم لماركس، من مفهوم مجرد للإنسان، وارتكزوا على مفاهيم مثل «الاغتراب» لم يحاولوا أن يربطوها بجذور اجتماعية ملموسة، وكان على حق حين أكَّد أن العلم الإنساني الذي شيده ماركس في «رأس المال» لم ينطلق من مفهوم الإنسان، حتى لو كان ذلك هو الإنسان الواقعي في علاقاته الإنتاجية المحددة، بل انطلق من تحليل بناء الإنتاج ومن فكرة الطبقات الاجتماعية، ومن القوانين الموضوعية للاقتصاد، التي توجد مستقلَّة عن وعي الإنسان بها، بل وتتحكم في هذا الوعي.

ولكن عندما يصل الأمر بهذا التفسير إلى رفع شعار «موت الإنسان» (بالمعنى المحدد في الفقرة السابقة)؛ فإن المرء لا يملك إلا أن يعُد هذا تطرفًا غير مشروع. فالقضية الكامنة من وراء هذا الشعار، وهي أن هناك تعارضًا بين الاعتراف بالإنسان كنقطة بداية للبحث، وبين الوصول إلى الحقائق الموضوعية للمجتمع، هي ذاتها قضية مشكوك فيها إلى حد بعيد. وإذا كانت تلك الحقائق الموضوعية التي ركَّز عليها ألتوسير تفسيره هي البناء الطبقي وعلاقات الإنتاج وقوانينها اللاشخصية؛ فمن المهم أن نذكر أن عملية الإنتاج نفسها عملية إنسانية، بل هي التي تميز الإنسان عن سائر الحيوانات التي لا «تنتج» شيئًا لكي تعيش. وتلك حقيقة أكدها ماركس نفسه. وخطورة هذا التطرف في التفسير تكمن في أنه يصور الأمر كما لو كانت في المجتمع قُوًى تعمل بذاتها، وبصورة تلقائية لها قوانينها الخاصة، على نحو مستقل عن الإنسان الذي هو في نهاية الأمر صانعها وسبب وجودها.

ولذلك نعتقد أن «ميلو Milahu» كان على حق حين انتقد تطرف ألتوسير في إنكار النزعة الإنسانية بقوله: «إذا اعترفنا بأن الماركسية منظورًا إليها على أنها تصور علمي لتطور المجتمع لم تكن نزعة إنسانية بمعني نظرية تستمد نقطة انطلاقها من الإنسان، وإذا سلمنا بأنها على عكس ذلك، هي الدراسة العلمية لتطور المجتمع في تحديداته الذاتية والموضوعية؛ فإنه يظل من الصحيح رغم ذلك أن هناك نزعة إنسانية ماركسية تعبر عن أماني الطبقات المضطهدة في صراعها من أجل التحرر. هذه النزعة الإنسانية ليست إضافة ذات طابع روحي تُلصق أو تلحق بنظرية علمية، بل هي ترتكز نظريًّا على حقيقة واقعة، هي وجود أفراد من البشر يسلكون في العمل المنتج وفي صراع الطبقات بكل أشكاله، وفقًا لشروط محددة لا تتوقف عليهم. وتترتب على سلوكهم هذا تغييرات على مستويات متعددة، سواء أكان سلوكهم واعيًا أم لم يكن، وسواء أكانت هذه التغيرات مُتعمَّدة أم لم تكن. وهذه التغيرات بدورها تتخذ موضوعًا لدراسات تجريبية وعينية، وفقًا لمقولات المادية التاريخية؛ مما يؤدي إلى ظهور دراسة إنسانية علمية، لا يمكن أن تستمد مبادئها إلا من المادية الجدلية والمادية التاريخية مفهومتين بمعناهما الشامل.»١٥

وهكذا يكون من الممكن التوفيق بين الاهتمام بالقوانين الموضوعية للمجتمع، والاهتمام بالإنسان. أما حين يصل الأمر عند ألتوسير إلى حد استبعاد مفاهيم أساسية عند ماركس، مثل مفهوم النزعة الإنسانية، والاغتراب و«البراكسيس» والنزعة التاريخية على أساس أنها كلها تمثل مرحلة «أيديولوجية» سابقة على الماركسية الناضجة، وعلى أساس أنها تشكل عقبة في وجه الفهم البنائي العقلاني للمجتمع؛ فإن هذا يعني أن صاحب هذا التفسير لا يتحدث عن ماركس الحقيقي بقدر ما يتحدث عن ماركس كما يتلاءمُ مع تفكير المفسِّر ذاته، أعني ماركس التجريدي الذي وضع الإنسان وواقعه العيني «بين قوسين»، واكتفى ببناء طاغٍ على الإنسان. ولتحقيق ذلك لجأ ألتوسير إلى التمييز بين ما قاله ماركس فعلًا، وما كان يعنيه «حقيقة»، ولكن بصورة ضمنية. ومثل هذا التمييز بين التعبير الصريح للمفكر وبين «ما يقصده بالفعل» هو دائمًا محفوف بالخطر، يكون من الصعب معه وضع حد فاصل بين التفكير الأصلي للفيلسوف المراد تفسيره، وبين الاتجاهات الخاصة التي يريد المفسر، بناء على تكوينه الفكري الخاص أن ينسبها إليه. وبقدر ما يكون في مثل هذا التفسير من جِدة ومن أصالة — وهي صفات تتوافر في ألتوسير بغير شك — فإنه يظل على الدوام معرَّضًا للانحراف عن نقطة البداية التي انطلق منها، ولفقدان الطريق الموصل إلى حل للمشكلات التي بدأ بالتصدي لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤