خاتمة: البنائية والإنسان

لم يكن ألتوسير هو الفيلسوف البنائي الوحيد الذي وُجهت إليه تهمةُ إنكار الإنسان من أجل تأكيد نسق أو بناء يعلو عليه ويتجاوزه؛ فواقع الأمر هو أن البنائية، في شتى اتجاهاتها، معرضة لهذا الاتهام، وبعض ممثليها لا ينكره ولا يجد فيه ما يدعوه إلى اتخاذ موقف الدفاع عن نفسه. وفي البنائية، كمذهب، اتجاه عام إلى تأكيد طغيان النسق على الإنسان، بحيث يعجز الإنسان عن التحكم في نشأته أو في غايته، ولا يتبقَّى أمامه إلا أن يدع ذلك النسق يسير في مجراه، ويحمله معه بين طياته. هذا الاتجاه إلى إخضاع دراسة الإنسان للمعقولية والموضوعية الكاملة هو الذي بدا، في نظر الكثيرين، مهدِّدًا للإنسان نفسه، بحيث تبلورت حوله كل الانتقادات التي وُجهت إلى البنائية من شتى الاتجاهات.

ولعل أبرز العناصر التي انصب عليها هجوم نقاد البنائية، هو نظرتها السكونية Statique إلى الإنسان وإلى تاريخه. فعلى قدر نجاح البنائية في التعبير عن «التكوين الثابت» للإنسان، عبر العصور المختلفة، نجدها تُخفق في تعليل التطور والتقدم، وتكاد تذهب إلى حد القول بأن الاعتقاد بالتقدُّم وهم، وبأن التحديات التاريخية سراب خداع. ويترتب على هذه النظرة السكونية، عجز البنائية عن تفسير «منشأ» البناءات التي تدور حولها أبحاثها، وعن تفسير كيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من بناء إلى آخر. ففي أبحاث ستروس، التي استهدفت الوصول إلى التكوين الثابت للعقل من خلال الدراسة الأنثروبولوجية للحضارة، نعجز عن تعليل كيفية ظهور هذا العقل نفسه أو نُشوئه، ويبدو وكأن هذا العقل كان «هناك» على الدوام، كما نعجز عن تفسير تحول هذا العقل إلى صورته الحديثة التي أنتجت العلم، وأنتجت البنائية ذاتها بوصفها مظهرًا من مظاهر العلم. وفي تحليلات ألتوسير ينصبُّ التأكيد على فهم العناصر المتزامنة Synchroniques أما الانتقال من أسلوب في الإنتاج إلى الآخر، والطريقة التي تكوَّن بها هذا الأسلوب في فترة تاريخية معينة، فهذا ما نعجز عن الاهتداء إليه في نطاق أبحاثه. أي إن ألتوسير بدوره لا يقدم تعليلًا كافيًا «لمنشأ» الظواهر التي يبحثها، أو «لنقاط التحول» التاريخية الحاسمة التي تطرأ عليها. والتي يتعين علينا إذا شئنا تفسيرها أن نخرج عن النطاق الذي تقيد به ألتوسير، ونعود إلى البشر والإطار الذهني الذي كانوا يعيشون فيه. أما «فوكو» فكان إنكاره للتاريخ صريحًا، بل إنه يتجنب كل ما له صلة بمقولات التغير، والتحول، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية إلا ثوابتها فحسب، ويصل به الأمر إلى حدٍّ التشكيك في مفهوم «الإنسان» نفسه، من حيث هو مفهوم يصلح لإقامة دراسة علمية موضوعية، مؤكدًا أن الإنسان ليس إلا «ثنية خفيفة ride» في الرمال.١

ومن النتائج الهامة التي ترتبت على إنكار مفهوم الإنسان، وإسقاط التاريخ من الحساب، هجوم بعض البنائيين على المفهوم الجدلي للعقل، واعترافهم بعقل واحد فقط، هو العقل التحليلي. وقد ظهر ذلك واضحًا في الفصل الذي خصَّصه ستروس لمهاجمة كتاب «نقد العقل الجدلي» لجان بول سارتر. فهو في هذا الفصل ينكر أن يكون هناك استخدام آخر للعقل غير الاستخدام التحليلي، ومن ثم فإن كل اتجاه إلى البحث عن منشأ الظواهر وتاريخها وتطورها هو اتجاه ثانوي، يمكن أن يُضاف إلى العقل التحليلي، ولكنه لا يمكن أن يكون بديلًا عنه. فما يُسمَّى بالعقل الجدلي هو الجهد الذي يبذله العقل التحليلي عندما يريد أن يقوم بمغامرات، ويشيد الجسور ويعبرها، وينتقل من مواقعه، ولكنه ليس على الإطلاق «نوعًا آخر» من العقل «يختلف» عن العقل التحليلي أو يحل محله. ويظل الطابع الدائم للعقل الإنساني هو التحليل، الذي يكشف عن البناءات الثابتة، والذي يُوصلنا هو وحده إلى المعقولية في فهم الظواهر.

على أن البعض الآخر من أنصار البنائية، يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن المذهب ضد هذه الاتهامات الموجهة إلى تصور البنائية للإنسان، ومن ثم للتاريخ والعقل الجدلي. وهم ينطلقون في دفاعهم هذا من مبدأين أساسيين، أولهما وجود سوء فهم لتلك المقولات التي تتهم البنائية بأنها تنكرها، وثانيهما إمكان التوفيق بين البنائية وبين تلك المقولات، مفهومة بمعناها الصحيح.

أول هؤلاء المدافعين هو بياجيه. وقد عرضنا في مُستهل هذا البحث لرأيه في إمكان التوفيق بين البنائية والنزعة التاريخية، وتساؤله عن الحكمة في إصرار البنائيين على النظرة السكونية إلى المعرفة البشرية. وحسبنا الآن أن نعرض رأيَه في النقد الذي أشرنا إليه في النقطة الأخيرة، وأعني به تصور العقل في البنائية. ففي رأي بياجيه أن ستروس كان على صواب حين قال إن العقل الجدلي يُضاف إلى العقل التحليلي، وليس بديلًا عنه. وهو بدوره يؤمن بأن كلًّا منهما طريقة خاصة في استخدام العقل، ولكنهما متكاملان وليسا متنافرين. فمهمة العقل التحليلي في العلم هي القيام بالتحقيق والتثبت من صحة القضايا verification ومهمة العقل الجدلي أو التركيبي هي أن يعطينا القدرة على الإبداع والتقدم، وهي قدرة يفتقر إليها العقل التحليلي. وفي كثير من الأحيان يتم التقدم في العلم عن طريق عملية النفي négation التي يهدم بها العقل الجدلي معتقدات كثيرة زائفة تعترض طريق العلم، أو ينتزع مبدأً علميًّا، يعتقد الناس بصحته المطلقة، من مكانته الرفيعة، ويضع محله مبدأً آخر أكثر منه مرونة، وأقدر منه على تكوين مركب يوسع نطاق العلم. وهذا ما حدث حين أنكرت الهندسة اللاإقليدية مصادرة التوازي، مما أدى إلى قيام هندسات أشمل من هندسة إقليدس. أو حين أنكر المناطقة المعاصرون مبدأ الثالث المرفوع، فترتب على ذلك ظهور المنطق متعدد القيم.٢ وهكذا فإن بياجيه، مع اعترافه بوحدة العقل البشري، وبالدور الرئيسي للعقل التحليلي في العلم، يؤكد إمكان التوفيق بين هذا الرأي وبين أنصار العقل الجدلي، إذا اعترفنا بأن هذا الأخير يمثل طريقة مثمرة في استخدام العقل العلمي، وأنه هو الذي يتيح للعلم فرصةَ التحرك نحو أنساق أو بناءات أوسع وأشمل.
أما الاتهام القائل بتجاهل البنائية للإنسان، أو للنزعة الإنسانية بوجه عام، فإن بياجيه يرد عليه بقوله: إن هذا اتهام مبنيٌّ على سوء فهم لمعنى النزعة الإنسانية؛ ذلك لأن موجهي هذه التهمة يعرِّفون الذات الإنسانية على طريقتهم الخاصة، ثم ينعون على البنائية أنها تهدم هذا الذي يرون أنه هو تلك الذات. وحقيقة الأمر، في رأي بياجيه، هي أن البنائية تفرق بين «الذات الفردية»، التي لا تتخذها البنائية موضوعًا للبحث على الإطلاق، وبين «الذات المعرفية» epistémique، أي تلك النواة المعرفية التي تشترك فيها الذوات الفردية كلها على مستوًى واحد. كذلك تفرق البنائية بين ما تحققه الذات بالفعل، وبين ما يصل إليه وعيُها، وهو محدود بطبيعته. وما تركز عليه البنائيةُ اهتمامَها هو تلك العمليات التي تقوم بها الذات، وتستخلصها بالتجريد من أفعالها الذهنية العامة. ومن هذه العمليات تؤلف البناءات التي تستخدمها الذات في نشاطها العقلي الذي لا ينقطع. ومن هنا لم تكن عملية تكوين البناءات واعية. ويرى بياجيه أن هناك سوءَ فهم يكمن وراء الاعتقاد بأن التركيز على هذه العمليات اللاشخصية العامة، التي تتكون منها البناءات، معناه اختفاء «الذات» الإنسانية؛ إذ إننا لسنا ها هنا في مجال العلاقات الشخصية، وإنما نحن في مجال «المعرفة»، وهذا فارق عظيم الأهمية. ففي مجال المعرفة نتخلى عن اتجاهنا التلقائي إلى التمركز حول أنفسنا، ونتحرر من ذاتية العلاقات الشخصية، ولا يكون للذات وجود، بوصفها ذاتًا عارفة، إلا بقدر ما تعمل على إيجاد مركبات بين عناصر معرفتها، وبقدر ما تكشف عن ترابطاتها المتداخلة، التي تتولد منها البناءات.٣ وبالاختصار، فإن تلك الذات التي تَصوَّر سارتر في نقده أن البنائية تنكرها، هي الذات الشخصية التي تركزت عليها فلسفته، ولكنها ليست الذات التي تشيد بناء العلم، والتي يتحتم عليها — بحكم طبيعة عملها — أن تلجأ إلى تجريدات لا شخصية، والتي لا نستدل على وجودها إلا من هذه التجريدات.
وعلى أية حال، ففي استطاعة المرء أن يدرك بسهولة أن هذا الاهتمام بالبناءات التجريدية قد انبثق، في حالة البنائية، من دراسة متعمقة لعدد كبير من الظواهر الإنسانية الأصلية، كالأساطير والأحلام والطقوس البدائية. ولو قارنَّا بين موقف البنائية وموقف الوضعية المنطقية في هذا الصدد لاتَّضح لنا أن هذه الأخيرة هي الأحق — بغير جدال — بأن توصف بتجاهلها للإنسان. فقد استبعدت الوضعية المنطقية، باسم العلم أو النظرة العلمية، كل هذه الظواهر من مجال «ما له معنى»، وأبَتْ أن تعترف لها بأي نوع من الحقيقة، حرصًا منها على فهمها الخاص، الشديد الضيق، للحقيقة وللمعرفة العلمية التي تنحصر فيما يقبل التحقيق veriflcation. أما البنائية فكانت علمية بمعنًى أوسع بكثير، يتسع لأنواع من النشاط ومن التجارب الإنسانية التي ظلت تُعَد حتى ذلك الحين داخلة في باب «اللامنطقي» أو «اللامعقول». وأتاح لها هذا التوسيع لحدود النشاط العقلي أن ترد اعتبار الإنسانية طوال الجزء الأكبر من تاريخها، وهو ذلك الجزء الذي كان تَسُوده الأساطير والطقوس والنظم البدائية. كما أتاح لها الوصول إلى معنًى جديد للمعقولية، هو ذلك الذي يهتدي إلى تركيبات عقلية في تلك الظواهر التي تبدو في الظاهر أبعد ما تكون عن العقل.
ولقد انتهى «سيباج Sebag» في دفاع آخر عن البنائية ضد تهمة إنكار الإنسان، إلى نتيجة مماثلة، ولكن من زاوية أخرى. فهو يعترف بأن البناءات، التي هي ذات تركيب رياضي ومنطقي، يمكن أن تُفهم على أنها مستقلة عن إنتاج الإنسان لها، ومن ثم فلا يمكن تفسير مصدرها إلا عن طريق الاعتراف بوجودها «قبليًّا»، على نحو لا يخفف من غُموض المشكلة الأصلية في شيء، أو عن طريق افتراض لاهوتي، هو وجودُ إله يجعل تركيب الأشياء ذاتها قابلًا للحساب الرياضي Dieu calculateur،٤ وهو فرض يعبر عن العجز عن حل المشكلة. على أن «سيباج» يرد على هذا النقد معترفًا بأن كل ما ينتمي إلى مجال الإنسان لا بدَّ أن يكون من صنع الإنسان، ومن ثم فلا يصح أن نتصور البنائية على أنها نظرية تجعل أصل الأنساق التي تُفسَّر بها الظواهر الإنسانية خارجًا عن نطاق الإنسان. فمسألة ارتباط اللغة والأسطورة والدين والمجتمع بالإنسان ونشاطه العقلي هي مسألة لا جدال فيها. ولكن من الواجب أن نفرق بين مقاصدنا أو نوايانا الخاصة حين نستخدم اللغة أو الأسطورة مثلًا، وبين ذلك النسق الذي ينبغي أن نراعيه كلما نطقنا كلامًا لغويًّا أو عرضنا موضوعًا أسطوريًّا. فلكي يكون كلامي مفهومًا ينبغي أن ألتزم قواعد معينة، وحتى لو كنت من أنصار التجديد في اللغة؛ فلا بد أن أخضع في هذا التجديد لمبادئ معينة في النسق اللغوي ذاته. ومعنى ذلك أن العلاقة بين الناتج وعملية الإنتاج تصبح في هذه الحالة معكوسة؛ إذ إن الناتج (هو النسق اللغوي) هو الذي يتحكَّم في عملية الإنتاج (أي التجديد اللغوي واستخدام اللغة بوجه عام) لا العكس. وهذا هو المعنى الذي يمكن أن يُقال به إن البناء يؤدي عمله على نحو مستقل عن الإنسان.٥ أما القول بوجود بناءات خارجة عن أفعال الأفراد والجماعات الإنسانية التي تتعلق بها هذه البناءات، فإنه يعبر عن فهم مثالي مشوه للبنائية؛ إذ إنه يؤدي إلى تجاهل العناصر والمعلومات التي لا غناء لنا عنها في ذلك الجهد النظري الذي نبذله من أجل استخلاص البناء.٦ أي إن البناء، في رأي سيباج، مستقل «فكريًّا» عن الإنسان، ولكنه «واقعيًّا» يظل مرتبطًا به ومعتمدًا عليه.
ويقف «فرانسوا شاتليه François Châtelet» موقفًا مماثلًا في دفاعه عن البنائية ضد تهمة التشكيك في مفهوم الإنسان، والقضاء على الحرية الإنسانية التي يُقال إنها تضيع عندما يصبح «النسق» مسيطرًا على جميع مجالات الواقع، دون أن يترك أي مجال للمبادرة الإنسانية. ففي رأي «شاتليه» أن المسألة ليست عدوانًا على حرية الإنسان، أو تشكيكًا في مفهوم الإنسان، بل هي أولًا وأخيرًا سعيٌ إلى «العلمية» في ميدان دراسة الإنسان. وكل سعي إلى إخضاع الظواهر الإنسانية للعلم كان يُتهم في وقت ما، بأنه يقضي على حرية الإنسان، ثم يتبين فيما بعد أنه يدعم هذه الحرية؛ إذ يساعد على مزيد من الفهم للإنسان. وكل ما تسعى البنائية إلى القضاء عليه، في رأي شاتليه، هو تلك الطريقة غير العلمية في بحث الإنسان، التي غلبت عليها النزعة البلاغية والإنشائية، والتي كانت سائدة في البحوث الإنسانية قبل ظهور البنائية. والواقع أنه ليس هناك ما يمنع من أن تكتسب العلوم الاجتماعية طابعًا موضوعيًّا مماثلًا لذلك الذي نجده في العلوم الطبيعية، وإن كان نوعه مختلفًا. فالمجتمعات البشرية ليست أعقد من أن تدرس موضوعيًّا، وهي لا تعرف ذلك الخضوع المزعوم لنزوات الحرية العشوائية وتلقائيتها.

ولكي تحقق العلوم الاجتماعية هدف الموضوعية هذا، لا بد لها من أن تشيِّد لنفسها لغة مجردة تعمل بها على تفسير عالم الحياة اليومية، بدلًا من أن تتحدث بلغة هذا العالم ذاته. على أن كل منهج يعتمد في دراسته للإنسان على التجربة الحيَّة، أو الوعي العلمي، يتقيد بهذه اللغة اليومية، أي إنه يظل متعلقًا بالمظاهر بدلًا من أن يصل إلى جوهر الظواهر الإنسانية.

ومن هنا كانت البنائية تستهدف الانتقال من بحث المظاهر الخارجية إلى ما تُطلق عليه الفلسفة الكلاسيكية اسم «الماهيات»، وبذلك تتوصل إلى المعقولية الكامنة من وراء التجربة العينية المعاشة. وعلى ذلك فإن البناءات لا تعدو أن تكون تلك المجردات التي تتوصل بها إلى المعقولية في فهم الظواهر الإنسانية، أي إنها أنساق للمعقولية systèmes d’intelligibilité.٧ فعلم اللغة البنائي هو الهيكل الفكري أو التصوري الذي أمكن بفضله جعل اللغات الفعلية معقولة. ومفهوم اللاشعور هو الإطار الفكري الذي جعل من الممكن إضفاءَ مزيد من المعقولية على ممارسات الإنسان وسلوكه. وأنساق القرابة تضفي معقولية على الظواهر المعاشة في المجتمعات البدائية. والبناء الأساسي لعلاقات الإنتاج هو التصور الذي أصبحت بفضله ممارسات المجتمع، في نطر ماركس، معقولة. ومن المؤكد أن سعى البنائية إلى تحقيق المعقولية في كل هذه الميادين، التي كانت خاضعة لمفاهيم غير علمية تغذِّيها نزعة إنسانية تعتمد على «التجارب المعاشة»، وعلى المظاهر الخارجية لسلوك الإنسان. هذا السعي إلى تحقيق المعقولية لا يحدُّ من حرية الإنسان، ولا ينطوي على إنكار لتصور الإنسان، إلا في ظل مذهب يُسيء فهم النزعة الإنسانية فحسب.
ولكن من حقنا، بعد هذا كله، أن نتساءل: هل يظل معنى النسق واحدًا في حالة البناء الرياضي، وفي حالة البناء الإنساني الاجتماعي؟ هل يكون من المشروع تشبيه النسق الذي يجمع بين أطراف واقعية ملموسة، كنظام القرابة أو علاقة الإنتاج، بالنسق الذي تكون أطرافه تجريدات عقلية خالصة؟ وهل يوافق العلم على هذا التشبيه؟ يبدو أن «دوفرين M. Dufrenne» كان على حق حين قال إن البنائيين وقعوا في خطأ كبير حين تصوروا أن معنى النسق واحد في الحالتين، وأن هذا الخطأ راجع إلى أنهم، بقدر ما أرادوا التشبه بالعلم، لم يكونوا علماء بالمعنى الصحيح؛ ولذلك كان هناك قدر من الصواب في عبارته الساخرة التي أطلقها على فلسفة البناء أو النسق: «أن فلسفة النسق هي فلسفة للعلم وضعها أناسٌ لم يمارسوا العلم.»٨ ولكن في العبارة أيضًا قدرًا من الخطأ؛ إذ إن من يضع فلسفة للعلم لا يتعين عليه أن يكون ممارسًا للعلم. وكل محاولات «تأسيس» العلم في الفلسفة تدخل في هذا المضمار.

على أن السؤال الأكبر هو: هل يقنعنا دفاع البنائية عن نفسها، كما عرضنا نماذج رئيسة له من قبل، بأن البنائية لم تتجاهل الإنسان بالفعل، ولم تضَعْ مفهوم البناء أو النسق بوصفه قوة عقلية شبه دكتاتورية، تفرض نفسها سواء شاء الإنسان أم لم يشأ؟

إن الأمر الذي لا يمكن إنكاره هو أن البنائية أكثر انطباقًا على الحالات السكونية للإنسان منها على الحالات المتغيرة. ومن المسلَّم به أن العلم يغدو أقدر على تحليل موضوعاته حين يجعلها ثابتة أو يتصورها في حالة الثبات. ولكن العلم الذي يتناول الميدان الإنساني بالذات يتعين عليه أن يعترف بالتغير، والحركة، والتاريخ، بوصفها مقولاتٍ أساسية لا يمكن الاستغناء عنها في تفسير الظواهر الإنسانية. ومن هنا رأى البعض أن الأحداث التي عصفت بأوروبا في عام ١٩٦٨م (مظاهرات الطلبة في باريس ثم في معظم البلاد الأوروبية، وأحداث تشيكوسلوفاكيا) قد زعزعت إلى حدٍّ بعيد أركان البنائية التي كانت قد بلغت أوج ازدهارها قبل هذه الأحداث بعام أو عامين. فهي قد أكدت مرة أخرى أهمية عوامل الحركة والتغيير، وقدرتها على دفع العقل الإنساني إلى مراجعة كثير من المفاهيم التي يضعها في حالاته السكونية، وشككت الأذهان، من حيث المبدأ، في إمكان وجود أي بناء ثابت لعقل الإنسان وأنظمته.

وفي اعتقادي أن المشكلة الأساسية التي تثيرها البنائية هي: هل الإنسان، بالنسبة إلى النظم التي تسود حياته، فاعل أم مفعول؟ إن أنصار البنائية يغلِّبون صفة «المفعولية» للإنسان بالنسبة إلى هذه النظم، على حين أن نقَّادها يغلبون صفة «الفاعلية». ولقد لخص سارتر سمة الفاعلية حين قال: «إن الشيء الهام هو ما يفعله الناس بما فُعل بهم.»

L’important … c’est ce que les homes font de ce qu’on a fait d’eux.

فإذا كانت البنائية تؤكد على الدوام أن البناء «موجود هناك»، بغض النظر عن الاختلافات في ظروف الحياة الإنسانية التي يُطبق فيها هذا البناء؛ فإن قدرة الإنسان على القيام برد فعل على هذا البناء، حتى لو كان «موجودًا هناك»، هي الأمر الجدير بالاهتمام حقًّا.

ومن هنا كان الميل الذي نلمسه لدى كثير من البنائيين إلى تصوير الأنساق أو البناءات كما لو كانت تؤثر وتمارس فعلها وحدها، دون أن يكون للإنسان دور فيها، أعني الميل إلى جعل الإنسان «مفعولًا»، لا «فاعلًا»، يعبر عن نزوع إلى السلبية وقبول الأمر الواقع. ولقد ضرب «دوفرين» للتضاد بين سلبية الإنسان وفاعليته إزاء النسق مثلًا طريفًا، فقال: إن المشكلة التي ينبغي أن تفكِّر فيها الفلسفة المعاصرة بإمعان هي كيف استطاعت جبهة التحرير الفييتنامية أن تقاوم الأميركيين بكل هذا النجاح (وهي لم تكن قد انتصرت بعدُ عندما قال هذا الكلام). فتلك واقعة تثبت انتصار الفاعلية الإنسانية على العقول الإلكترونية التي طالما استعان بها الأميركيون في التخطيط وفي ممارسة الحرب ذاتها. وما العقول الإلكترونية إلا تجسيد «للنسق». وهكذا فإن الأنساق لا تستطيع أن تسير في طريقها بلا مقاومة، ولا تستطيع أن تكبت فاعلية الإنسان وتجعله مجرد مفعول.

وهكذا تظهر الصورة أخيرًا، في ضوء تطور التاريخ، مؤيدة لفكرة القدرة الفعالة للإنسان، حتى على أشد الأنساق والبناءات ثباتًا. فأحداث عام ١٩٦٨م تفجر الإطار السكوني للبنائية، وتنبه العالم إلى أهمية رد الفعل الإنساني على كل نسق يبدو ثابتًا، وانتصار فيتنام يبدو كما لو كان هزيمة لمبدأ أساسي تقوم عليه البنائية، هو استقلال الأنساق عن الإنسان.

ولكن، إذا كان التاريخ قد بادر إلى الإدلاء بشهادته بعد بلوغ البنائية قمتها مباشرة، فلنذكر — أخيرًا — أننا لسنا في حاجة ملحَّة إلى شهادة التاريخ؛ لكي ندافع عن فاعلية الإنسان إزاء بناءاته. فالمنطق الداخلي للبنائية هو خير شاهد على ما نقول: إذ إن كل البنائيين الكبار من ستروس إلى ألتوسير، ومن فوكو إلى لاكان، قد بذلوا جهدًا عقليًّا لا نظير له، ومارسوا «فاعليتهم» الذهنية إلى أقصى حد؛ لكي «يكتشفوا» بناءات يقولون إنها تجعل ذهن الإنسان «مفعولًا»!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤