الرسالة السادسة عشرة

وهي الأخيرة من الرسائل المؤتمرية وداع باريس وذكر الأندلس والبرتغال بوجه الإجمال.

من غرناطة في يوم الاثنين المبارك (٥ رجب الفرد سنة ١٣١٠ / ٢٣ يناير سنة ٩٣).

***

قضت نواميس الكون الإنساني ونظامات الوجود العمراني بأن دوام الحال من المحال، وأنه لا بد من الفِراق مهما طال التلاق، وأن لكل اجتماع انقطاعًا ولكل اتصال انفصالًا، تلك سُنة الله في خلقه جيلًا فجيلًا، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

أطلت المُقام في باريس على ما بعد الميقات الذي كنت ضربته لمبارحتها بأيام كثيرة، فإنني كنت كلما عزمت على السفر رأيت وجوب التأجيل لمناظرة بعض الآثار أو لشهود أنواع من الاحتفال أو غير ذلك مما يستوقف الراحل ويستغرق الأوقات ويحبس السائر عن عدوه ويُخرس الطائر المُفصح بشدوه، فكم فيها من مسارح تتضح بها الجوانح، ومحاسن يشغل بها عن وكره السائح، ومطارح تطرح ذكر الوطن من ذاكرة السائح، حتى اعتراني الكلال والملال من كثرة ما رأيت وما سمعت.

وصرت أترقب الفُرص لتيسر الخروج من هذه الدار كما دخلتها بسلام، فَيسَّر الله الأسباب وفتح الأبواب فودعتها في منتصف ليلة ١٩ إلى ٢٠ نوفمبر سنة ٩٢، ورحلت عن هذه الأرجاء المتألقة والروح بها وبمن فيها متعلقة، ثم سار القطار ينهب الأرض نَهبًا ويقطع الفيافي فدفدًا فدفدًا، ومر على كثير من مدائن فرنسا العامرة: مثل تور (Tours)، وهي مشهورة باعتدال اللسان الفرنسوي وصفاء اللغة، حتى إن أكثر الطالبين لا بد لهم من الإقامة فيها شهورًا طويلة لترسخ فيهم ملكته التي لا تشوبها أدنى شائبة، ومثل أنجوليم (Angouleme) المذكورة في كتب العرب باسم أنقلزم، ومثل بوردو (Bordeaux) المشهورة بخمورها شهرة تغني عن وصفها، وقد سماها العرب بحسب التسمية اللاتينية برديل وبرادال (وبالذال المعجمة في كلتا اللفظتين).
وكان بودي أن أقف بكل من هذه المدائن الثلاث بضعة أيام، ولكن وقتي لم يكن يسمح لي بإنالة نفسي هذه الأماني، ولم أصل إلى تخوم إسبانيا١ إلا بعد أن أمضيت في القطار مدة أربع وعشرين ساعة لم تكتحل فيها عيني بأثمد الكرى، حتى أجهدني السير وأضناني السرى، ولكنني تجددتْ فيَّ القوى حينما شممت عبير الأندلس واستنشقت نفحاته وتمتعت بالنظر إلى صافي سمائه، وقد ترصعت بالدراري كما هو الشأن في بلادي وأرض مهادي، بخلاف ما كنت قد اعتدت عليه في إنجلترا وباريز من كدورة الجو وقتمة السماء وتوالي الغيوم وتعاقب الأمطار، فصرت أُسامر بدر الظلام وأُطارح الكواكب الحديث، وأشكو إليها ما لاقيته في غربتي، وأطيل النظر إليها حتى لقد كان:
يُخيل لي أنْ سُمِّرَ الشهبُ في الدجى
وشُدَّت بأهدابي إليهن أجفاني
وحينئذ شطحت مع تيار الأفكار، ولكنني ما لبثت أن انقبض صدري وعلتني الكآبة وتولاني الانزعاج، إذ أحاطت بي جيوش من اللوعة والأسف والحسرة واللهف؛ لأنني تفكرت ما ناله الإسلام من العز والاقتدار في هاتيك الديار، أيام كانت تخفق فوق الأندلس أعلامه وتجول فيه أقوامه ناشرة ألوية الفَخَار والحضارة رافعة رايات المجد والكرامة، أيام كانت المآذن قائمة على أعاليه وروابيه تشق أكباد السحاب، ويرتفع منها صوت المؤذن إلى عنان السماء، فتخشع القلوب وتعنو الوجوه لذكر الحي القيوم، أيام كانت المساجد عامرةً بجماعات الموحدين القانتين وربوع العِلم زاهرة زاهية بالدارسين والمدرسين، أيام كان التمدن العربي باسطًا بسَاطَهُ من أطرافه إلى أطرافه إلى أطرافه، والمروءة والشهامة ساريتين في جسمانه، أيام كانت خلافة المغرب تفوق مناظرتها في المشرق بما احتاطت به من أسباب البَذَخ والعظمة والعرفان، حتى كانت ملوك أوروبا تتزلف إلى الخلفاء، وتلتمس رعايتهم وحمايتهم، أيام نَبَغ العلماء والمخترعون والمكتشفون الذين أفادوا العالم بأجمعه، ورفعوا كلمة السلام وجاءوا بأقوم برهان على أن الدين الحنيف يساعد بكلياته وجزئياته على البحث في أسرار الطبيعة، وأنه يحض على اقتناء ثمرات المعارف بجميع أنواعها ومطالبها.٢
وقد اشتد بي الوَجد والَوَله حتى عَدَمت التعبير وغاب عقلي، وما أبصرت نفسي إلا ولساني يندفع بترديد بعض أبيات من القصيدة المشهورة التي نظمها أبو البقاء الرُّندي في رثاء الأندلس، وترجمت نثرًا ونظمًا إلى اللغة الألمانية والفرنساوية والإسبانية وغيرها، وكنت أكثر من ذكرى هذه الأبيات بحسب ورودها على لساني، وإني أوردها الآن بنصها:٣
لكل شيء إذا ما تمَّ نقصانُ
فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ
هي الأمور كما شَاهَدتُها دولٌ
مَن سَرَّه زمن ساءته أزمانُ
وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ
ولا يدوم على حال لها شَانُ
يُمزق الدهر حتمًا كُل سابغةٍ
إذا نبت مُشرفيات وخرصانُ
وينتضي كل سيف للفناء ولو
كان ابن ذي يزن والغمد غمدان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن
وأين منهم أكاليل وتيجان
وأين ما شاده٤ شداد في إرم
وأين ما ساسهُ في الفرسِ ساسان
وأين ما حازه قارون من ذهب
وأين عاد وشداد وقحطان
أتى على الكل أمر لا مرد له
حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
وصار ما كان من ملك ومن ملك
كما حكى عن خيال الطيف وسنان
دار الزمان على دارا وقاتله
وأمَّ كسرى فما آواه إيوان
كأنما الصعب لم يسهل له سبب
يومًا ولا مَلك الدنيا سُليمان
فجائع الدهر أنواعٌ منوعة
وللزمان مسرات وأحزان
وللحوادث سُلوان يسهلها
وما لِما حل بالإسلام سُلوان
دَهَى الجزيرة أمر لا عزاء له
هوى له أحد وانهد ثُهلان
أصابها العين في الإسلام فارتزأت٥
حتى خلت منه أقطار وبُلدان
فاسأل بلنسيةَ ما شأن مرسية
وأين شاطبة أم أين جيان
وأين قُرطبة دار العلوم فكم
من عالم قد سما فيها له شان
وأين حمص وما تحويه من نُزه
ونهرها العذب فياض وملآن
قواعد كن أركان البلاد فما
عسى البقاء إذا لم تبق أركان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ
كما بكى لفراق الإلف هيمان
على ديار من الإسلام خالية
قد أقفرت ولها٦ بالكفر عمران
حيث المساجد قد صارت كنائس ما
فيهن إلا نواقيس وصلبان
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثى وهي عيدان
يا غافلًا وله في الدهر موعظة
إن كنت في سِنَة فالدهر يقظان
وماشيًا مرحًا يُلهيه موطنه
أبعد حمص لعز٧ المرء أوطان
تلك المصيبة أنست ما تقدمها
وما لها مع طول الدهر نسيان
يا راكبين عِتاقَ الخيل ضَامرة
كأنها في مجال السبق٨ عقبان
وحاملين سيوف الهند مرهفة
كأنها في ظلام٩ النقع نيران
وراتعين وراء البحر في دعةٍ
لهم بأوطانهم عز وسلطان
أعندكم نبأ من أهل أندلس
فقد سرى بحديث القوم ركبان
كم يستغيث بنو المستضعفين وهم
أسرى وقتلى فما يهتز إنسان
ماذا التقاطع في الإسلام بينكم
وأنتم يا عباد الله إخوان
ألا نفوس أبيَّات لها همم
أما على الخير أنصار وأعوان
يا من لذلة قوم بعد عزهم
أحال حالهم جور وطغيان
بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم
واليوم هم في بلاد الكفر عِبدان
فلو تراهم حَيارى لا دليل لهم
عليهم من ثياب الذل ألوان
ولو رأيت بكاهم حين١٠ بيعهم
لَهَالك الأمر واستهوتك أحزان
يَا رب أمٍّ وطفل حِيل١١ بينهما
كما تفرق أرواح وأبدان
… … … …
… … … …
… … … …
… … … …
لمثل هذا يذوب القلب من كمد
إن كان في القلب إسلام وإيمان
وصرت أردد هذه الأبيات وغيرها حتى وصلت مدينة إيرون Irun أول تخوم إسبانيا من الشمال، فنزلت بها وقد انتصف الليل، وما صدقت الوصول إلى الفندق حتى اضطجعت على الفراش طلبًا للراحة الضرورية، ولبثت به على خلاف عادتي إلى أن قرب الظهر. ولم أستيقظ إلا على جَلَبة الأطفال وصياحهم في لعبهم ولهوهم بترنيمات تكاد تنطبق على هذين البيتين.
شرِّد النوم عن جفونك وانظر
حكمة تُوقظ النفوس النِّياما
فحرام على امرئ لم يشاهد
حكمة الله أن يذوق المناما

فقمت فزعًا مرعوبًا وأنا أقول: «أين هذه الحكمة ولماذا ورد هذا البيت على خاطري، مع أن القصائد التي من بحره كثيرة؟» ثم تذكرت أن السبب في ذلك ما كنت فيه بالأمس، فهرعت إلى الخروج لأنظر البلد وما فيه وما حواليه، فرأيت المباني والنوافذ والأسطحة تشبه ما عهدته طول عمري في مصر، وكذلك الحارات والزقائق وغيرها.

وقد كنت وأنا في باريس درست نحو اللغة الإسبانية للاستعانة على مخاطبة القوم ومبادلة أفكاري معهم مباشرة، ولكنني لما حضرت إيرون وتكلمت مع أصحاب الفندق وخصوصًا مع الدليل تَحقق لي أن درس النحو شيء ومعرفة اللسان شيء آخر، وحينئذ زال ما كنت أجده من الغرابة من كون بعض الناس يقضون سنين طويلة مديدة في درس النحو بجميع فروعه، ثم هم لا يعرفون من العربية سوى هذه الآلة.

وأقول الحق إنني لما رأيت اضطراري لمخاطبة القوم ساعة بالإيطالية وتارة بالفرنساوية، وغالبًا باللغة الإشارية التي يفهمها جميع أصناف بني آدم، تراخت عزيمتي وثبطت همتي وهممت بالرجوع من حيث أتيت، وخصوصًا لِمَا كان يقوم بفكري من أن أهل الأندلس الآن أشد أهل الأرض تَعَصبًا على المسلمين وكراهةً للعرب وجفوة للغريب، مع ما هم فيه من الهَرَج الدائم على حكومتهم مما كنت قرأته حديثًا في التلغرافات وأنا في باريس، فضلًا عما رأيته في كُتب السياحات من التشنيع عليهم وتخويف الغريب من الدخول إلى ديارهم، ولما كان حب البقاء طبيعة في الإنسان، وكانت الحياة غالية خصوصًا عند وشك الوقوع في الخطر مع اشتداد الحنين، بل الوله بالرجوع إلى الوطن بعد طول الغيبة، كادت هذه الأفكار وأضرابها تفوز على ما عندي من الشوق لرؤية هذه البلاد الجميلة، وتَعَهد بقايا العرب فيها، فتذكرت حينئذ المثل السائر (من لم يركب الأهوال لم ينل الرغائب)، وأنشدت على نفسي لإحياء مائت قوتي قول الشاعر:

إن كنت تطلب عِزًّا فادَّرع تعبًا
أو فَارض بالذل واخترْ راحةَ البدنِ

فتجددت في عوامل القوى، وانبعثت في جسماني روح النشاط، وتذكرت أني أكون أول من زار جميع الأندلس من المسلمين والمصريين خصوصًا من أبناء هذا الجيل، وكتب ما رآه فيها وقارن بين حالتيها، وفي ذلك فخر عظيم.

ومن يجد الطريق إلى المعالي
فلا يذر المطي بلا سِنام
ولذلك توكلت على الله وقمت من إيرون إلى فنترابيا (Fontarabia) إلى سان سيبستيان (San Sebastian) إلى بنبلونة (Pamplona)، وتسمى في قليل من كتابات العرب بمفلونة، وقد حكمها المسلمون اثنتي عشرة سنة فقط، وهي أنظف مدينة رأيتها وجميع شوارعها وحاراتها وأزقتها تضاء بالنور الكهربائي.
ثم قمت إلى سرقسطة Zoragoza (Saragosse)، وقد نزلنا بها نبغي المقام ثلاثة فطابت لنا حتى أقمنا بها عشرًا، فإنني ألفيت بها من كرم أهلها وحسن مجاملتهم وكريم توددهم ما كاد ينسيني الإخوان، واطلعت فيها على كتب عربية نادرة جدًّا وتعلمت فيها الكلام الإسباني.
ثم إن جمعية العلوم الشرعية والأدبية Academia Juridico Iiteraria عينتني عضوًا افتخاريًّا بها، واحتفلت بي احتفالًا فائقًا، وعقدت جلسة مخصوصة لاستقبالي بغاية التكريم والترحيب، فخجلت أن أدخل بينهم خالي اليدين لا أقدم لهم موضوعًا في هذه الحفلة المهمة، وألهمني الله أن أكتب لهم خطبة باللغة الفرنساوية على مدينتهم في أيام العرب، فاستعنت ببعض الكتب القليلة التي وجدتها عند المشتغلين بالعربية من أساتذتها وببعض ما عن بالخاطر، وقدمت لهم خطبة في ١٥ صحيفة من الورق الكبير المعروف بالفولسكاب المستعمل في الدواوين، وقد راقت لديهم حتى طنطنت الجرائد بها، وذكرت هذا الاحتفال بألفاظ التبجيل والإجلال.١٢ وترجم كثير منها خطبتي إلى اللغة الإسبانية على ما علمته بعد قيامي من سرقسطة، وأن الجمعية شرعت في طبعها في مجموعتها، وقد أتحفني أكثر المؤلفين والعلماء بكتب كثيرة من تأليفهم. وخلاصة القول أن هذا اليوم كان من أسعد أوقاتي، وإني أحمد الله على هذا التوفيق الذي مكنني من تشريف اسم بلادي، وقد أجابوا على خطبتي بالإسبانية والفرنساوية والعربية والطليانية.
والسبب في ذلك أنه اتفق في بعض الأيام انعقاد جلسة الجمعية الشهرية، فدعاني حضرة رئيسها الافتخاري وهو العلامة بابلو خيل D. Pablo GIL مقدم الأساتذة في المدرسة العالية للفلسفة والآداب لأن أزورها، فتوجهت بصحبته وأجلسني عن يمينه. وبعد أن تمت أعمال الجمعية قدمني إليها، ثم دعاني لأن أخطب عليهم بشيء مما يفتح الله به عليَّ، وإذ لم يكن لي سابقة علم بهذا الأمر وقفت فيهم وحييتهم بالعربية ليهدأ روعي وأستجمع أفكاري، ثم خاطبتهم بالفرنسوية بكلام طويل، ولما جلست طلبوا مني أن أتكلم بالطليانية ففعلت، وحينئذ قام الرئيس الأصيل وطلب من الجمعية تعييني عضوًا افتخاريًّا بها، فأجابت بالإجماع، ثم عينوا جلسة غير اعتيادية لاستقبالي، وحينئذ أشار عليَّ الرئيس الافتخاري بأن أشكر الجمعية باللغة الإسبانية فامتثلت مع قلة البضاعة، وكنت حينما لا أجد اللفظ المطلوب أضع مكانه كلمة طليانية أو فرنسوية، ولو شئت ترجمة ما ذكرته الجرائد عن هذا الاحتفال لاستغرق رسالة أكبر من هذه الرسالة.
فأما الخطبة التي أجاب بها بالإسبانية الأستاذ المتضلع العلامة خوليان ريبيرا D. Julian Ribera، فكانت كلها دررًا وغررًا تشهد بمزيد اطلاعه على العلاقات العلمية الأدبية التي كانت بين المشارقة، وخصوصًا المصريين، وبين أهل الأندلس، وسأورد ترجمتها في فرصة أخرى، ويحق لي أن أورد هنا الخطبة العربية التي ألقاها أثناء الاحتفال أحد أعضاء الجمعية، وهو الدون سان بيو D. San Pio الذي تلقيت عليه اللغة الإسبانية، وها هي بنصها الفائق:

بالنيابة عن جميع إخواني سلام عليكم يا أيها العلَّامة المصري أحمد زكي أفندي … بودي أن ألقي الآن خطبة ولكني مثل أيوب قد ازدحمت عليَّ الأفكار، وقد دعاني إخواني أن أقول شيئًا بلغتك الفصحى فأقتصر على إيراد بعض جمل من الكتاب المقدس: يخرجك الرب إلى مصر في سفن، واذكر ما لاقيته في هذه المدينة، والقادر الكافي يبارك لك في السفر والإقامة … والسلام.

وقد اطلعت في مكتبة الدون بابلو خيل المذكور على كتب عربية كثيرة، وأغلبها باللغة التي يسمونها ألخميادو (Aljamiado)؛ وذلك لأن العرب لما انقرضت دولتهم بالأندلس وبقي بعضهم فيها حافظوا على دينهم مع شدة الاضطهاد، ولكنهم نسوا أو ألزموا بإهمال اللغة العربية، وصارت اللغة القشتالية؛ أي الإسبانية، ملكة متوارثة فيهم، فكتبوا علومهم بها لكن بحروف عربية، وقد رأيت في سرقسطة ومدريد عددًا عظيمًا من هذه الكتب في أنواع العلوم النقلية والعقلية، ورأيت كثيرًا من المصاحف الشريفة مكتوبة بهذه اللغة ترجمها إلى الإسبانية بقايا الأعراب المسلمين، وهذه اللغة تعرف ﺑ (الألخميادو)، ووجه هذه التسمية أن العرب يسمون كل ما ليس بعربي أعجميًّا، وجرى على منوالهم الأندلسيون، فكانوا يسمون اللغة القشتالية؛ أي الإسبانية باسم (الأعجمية)، ثم انتقلت هذه اللفظة إلى اللغة الإسبانية بغير حرف العين لعدم وجود ما يقابله في اللغات الإفرنكية، فصارت الكلمة مقابل هذا الصوت (ألاجاميا)، ولما كان أهل إسبانيا يقلبون أغلب الجيمات خاءات — كما سنبينه — قالوا: (ألاخاميا) أو (ألَخَميا)، ورسموها بحروفهم هكذا بعد أن سكنوا حركة اللام (Aljamia)، وعلامة النسبة عندهم توضع في آخر الكلمة؛ فلذلك قالوا: (Aljamiado)؛ أي «الأعجمي».

وإليك الشواهد على قلبهم الجيم خاء؛ فإنهم يقولون في الحجام «الفاخمي»، وفي علم الجبر «الخبرا»، وفي الجص «الخيذ»، وفي الجب بمعنى الصهريج والجابية «الخيبي»، وفي الحاجة بمعنى أمتعة البيت «الهاخا»، وفي الجعبة «الخابا»، وفي الجفنة «الخفنا»، وفي الجرس «الخزذ»، وفي البرتقال «نارنخا» من قول العرب: نارنج، وفي محل سجن النصارى عن عرب الأندلس «ساخينا» من قول العرب: سجن، وفي الترنجة «ترنخا»، وفي الجوهر «الخوفر»، وفي الجبة «الخوبا»، وفي المنجنيق «المنخنيكي»، وللجيفة «خيفا»، وتاريخ الهجرة «هخيرا»، ولخنزير الجبل أو الحلوف «خبلي» من قول العرب: جبلي.

هذه بعض ألفاظ علقتها أثناء تلقي اللغة، حتى إنني لاحظت دوران هذا الحرف في غالب كلماتهم الإفرنجية التي يكون فيها شين أو جيم أو سين، بحيث لو سمعهم رجل من أهل المزاح لاستمنح من القارئ السماح وقال إن لغة القوم تدور على حرف الخاء!

ولقد سمعتهم في بعض الأحيان يقولون: الخثيرا (Aljecira)، فسألت عن ذلك فأعلموني بأنها الجزيرة الخضراء، وحينئذ تشوفت لأن أعرف كيف يسمون بلاد الجزائر، فإن الفرنسوية يقولون ألجيري (Algérie) والطليانية ألجريا (Algeria)، ولكنني حمدت الله حينما رأيتهم قد قلبوا فيها وضع الحروف، فجعلوا الراء مكان اللام وقالوا: أرخليا (Argelia) ولم يقولوا غير ذلك …
وقد لاحظت بعض ألفاظ تنافي هذه القاعدة فيقولون: الخزانة «الأثينا» بمعنى الخزانة المنقورة في حائط البيت، وفي الخروع «تشرفا»، وفي طير الخطاف «فانكسا»، وفي المسجد «مسكينا»، ومنها قول الفرنساوية: موسكي (Mosquée)، وفي المخراز «المفريز» بياء ممالة، وفي المخذة «الموهادا» وفي تصغيرها «الموهاديدا»، وفي النخاع «الموكاتي» من قول العرب: المخ، وفي الخبازي «الهبازي»، وفي البطيخة «البوديجا والبوديكا وباديها وباديا»، وفي الخرشوف «الكتشوفا والكرتشوفا»، وفي البخور «البافور»، وفي الخروب «الجروبا»، وفي الخزامى «الهوثيما»، وفي المخزن «المائن»، وهو اللفظ الشائع ويقولون فيه أيضًا: «المجاثن والمارثن ومجاثن» (ومنها انتقلت إلى كافة اللغات الإفرنكية بهذه الصورة، ثم إن أهل مصر نقلوها عنهم وتناسوا أصلها فقالوا: «مغازة» للمخزن الكبير). والسخرة بمعنى العونة «أذوفرا»، والزرنيخ «أذرنيقي» بياءين ممالتين، والرخ في لعب الشطرنج «روكي»، وفي الشيخ «كسيكي» بياءين ممالتين، وفي الخزأى الحرير «التشز»، وفي الخياط «الفيات». هذه بعض ما لاحظته وسألم في الرحلة بشيء كثير من قواعد التحريف عندهم، فهلا من المستغرب بعد ذلك أنهم يقولون إن كلام العرب كله يشبه هذه الأصوات «خبط خبط خبط»!

وقد زرت جميع آثار سَرقُسطة العربية وغير العربية، وصعدت إلى قمة البرج المائل الذي يشبه برج كنيسة بيشة وهو من صنع الأعراب المرتدين، وقد شرع القوم في تقويض دعائمه خوفًا من سقوطه، ثم خرجت منها شاكرًا أفضال أهلها مرددًا ثنائي عليهم وعلى أخلاقهم الزكية.

وزرت قسطجون (Castejon) وميرندا (Miranda) ثم برغش (Burgos) وكنائسها المشهورة، وقدر رأيت في إحداها لواء في غاية الإبداع والجمال أخذه الإسبانيون من العرب في واقعة العقاب، التي سأذكر عنها شيئًا يسيرًا في هذه الرحلة، ثم زرت آبلة Avila ثم مدريد Madrid (وتسمى في كتب العرب القديمة مجريط)،١٣ وقد رأيت جميع ما فيها من المتاحف والمعارض، ولاقيت علماءها وكبراءها ووزراءها، واجتمعت بصاحب العطوفة طرخان بك سفير الدولة العَلية الذي كان واليًا على جملة ولايات مهمة من قبل مولانا الخليفة الأعظم أدام الله نصره ورفع كلمته. وقد رأيت منه رجلًا عالمًا بالسياسة والقوانين والنظامات، وفيه من الوطنية وحب الإسلام ما لم أجده في غيره إلى الآن، ويسرني أن أقول إن له مقامًا كبيرًا في كبراء إسبانيا والأسرة المالكة بأسرها، وله تمام الاطلاع على اللغة التركية والفارسية واليونانية والفرنساوية الإسبانية، وله إلمام عظيم بالألمانية والأرمنية وبعض العربية. وإنني أتمنى من صميم فؤادي أن يكون جميع نُواب الدولة العلية أيدها الله في جميع الممالك الأوروبية على شاكلته، فإنما تعلو الدول بنوابها وتعرف قيمتها بمندوبيها.

وقد أكثرت في مدريد من زيارة المعرض الأوروبي الإسباني الذي أقيم احتفالًا بمهرجان كرستوف كولمب؛ وذلك لأنني رأيت فيه كثيرًا من الآثار العربية الأندلسية التي تبعث في النفس فخارًا وفي القلب أحزانًا، ورأيت لواءً عربيًّا يشبه لواء برغش تمام المشابهة وبجانبه لواء آخر مما أخذه الإسبانيون من العرب، وقد رأيت في القسم المخصص للطوبجية المدافع التي سبق إلى اختراعها أهل غرناطة لصد عدوها عنهم، ورأيت غير ذلك مما لا يمكن الإحاطة به الآن.

وكنت أكثر من زيارة التياترات في كل ليلة لإتقان اللغة؛ ولأنها في مدريد مدرسة حقيقية لأخلاق القوم وعاداتهم، حتى إنني أثناء التشخيص كنت أتصور نفسي في بعض الشوارع أو في إحدى القرى، ثم زرت طليطلة Toléde١٤ فإذا هي مدينة عربية محضة لم يعتورها إلى الآن أدنى تغيير، ولا أتذكر أن مدينة في مصر حفظت هذا الشكل العربي المعهود، كما بقي فيها إلى الآن مع توالي الأزمان وتبدل الأحوال، فلا تزال شوارعها وأزقتها حجوج؛ أي متعرجة ملتوية ملتفة صاعدة نازلة حتى يخالها الإنسان أشبه شيء بتلك الحشرة المعروفة بأم أربعة وأربعين، وقد رأيت فيها من آثار العرب ما ينطق بفضلهم ويُخرس كل متعصب عليهم.
ثم رجعت إلى مدريد وتفرجت فيها ثلاث مرات على مقاتلة الأثوار المعروفة عند الفرنساوية باسم Course Combat Taureaux des Taureaux وعند الإسبان باسم Corrida de Ios Toros، وقد عرفت جميع تفاصيلها وقوانينها، وشَهدت غرام الإسبانيين رجالًا ونساء بها إلى الدرجة التي لا يكاد يتصورها العقل، بحيث إن المقاتلين يُعتبرون من أهم رجالهم ومن أحب الناس إلى الأمة التي تجل ذكرهم إلى حد يحسدهم عليه سراوات القوم وأماثل الأماجد، وإني أؤخر شرح ذلك إلى فرصة أخرى لما يستوجبه من زيارة البيان مع ما فيه من الطلاوة والمباحث الرائقة، وإنما أقول الآن إن عرب الأندلس كانوا مولعين بهذا القتال أيضًا، وكانوا يضارعون الإسبانيين وربما كانوا يفوقونهم.
وبعد أن أطلت الإقامة في مدريد ركبت القطار الإكسبريس الدولي متوجهًا إلى بلاد البرتغال (Portugal)،١٥ وزرت عاصمتها المعروفة بلسبون Lisbonne (Lisboa)١٦ وقد بدأت بزيارة حضرة قنصل جنرال الدولة العلية وويس قنصلها [أي نائب القنصل]، ورأيت آثارها العربية وغير العربية، وفي ثاني يوم من وصولي وردت لي تذاكر من الجمعية الجغرافية الملوكية بالتحية والسلام، وبوضع مكتبتها ومتاحفها ومعروضاتها وغرفة السلاح والنشان والبليارد وغير ذلك تحت تصرفي، فزرتهم وشكرتهم، واستفدت كثيرًا من لقائهم. وقد زرت المكتبة الأهلية ومدرسة المهندسخانة ومعرض التاريخ الطبيعي، وكل ما قدرت عليه، ورأيت من أهلها حفاوة تخلد لهم الثناء على صفحات الفؤاد، ثم زرت مدينة شنتره Cintra ورأيت حصون العرب على قمم الجبال وبجانب بعضها مسجد باقية آثاره للآن، وعلى مقربة منه قبر دفن فيه القوم عظامًا وجدوها ولم يعلموا أنها للمسلمين أو للنصارى فوضعوا على رخام القبر صورة الصليب وصورة الهلال، ثم رجعت إلى لشبونة وزرت فيها القسم الذي كانت تسكنه العرب، وكان يعرف عندهم باسم الحمة «بتشديد الميم»، ويسميه البرتغاليون الآن من باب التحريف «الفاما».

وقد تشرفت بمقابلة جلالة الملك فأكرم وفادتي وأحسن لقائي، ولبثت مع جلالته مدة طويلة ثم خرجت شاكرًا جليل رعايته. وهذه المدينة لها موقع من أجمل مواقع الدنيا يشبه أو يفوق موقع جنوة ونابولي، ويقرب من القسطنطينية على ما سمعت ومنظرها يشبه المدائن الشرقية.

ومما يحسن ذكره من باب الفكاهة أنني خرجت ذات يوم في بكرة النهار لأتفرج على حركة المدينة في مبدئها، فمن جملة ما رأيت فيها كثيرًا من النساء يسارعن في حركاتهن وهن حفاة الأقدام وعلى وسطهن حزام كبير بارز بروزًا شديدًا عن بقية الجسم، بخلاف سائر الإفرنجيات، فإنهن يبذلن غاية جهدهن في تنحيل الخصر وترفيعه، ومما أمتاز به هؤلاء النساء في البرتغال أنهن يضعن في أعناقهن قيطانًا يتدلى إلى حد ثنيات البطن، وينتهي بصليب كبير من النحاس، وفوق رءوسهن قطعة من القماش ملتفة على بعضها مثل الحواية، ويحملن عليها شيئًا شبيهًا بطست نحاسي مفرطح جدرانه مرتفعة قليلًا، ورأيت إحداهن تصيح بكلام لا أفهمه، فتشوفت لأستوقفها وأعرف ما معها فسألت الدليل ذلك، ولكنها لما نظرت إلى حالتنا وهيئتنا وتوسمت أننا ممن لا يشتري مما معها فهمَّت بمغادرتنا، فأظهرت لها قطعة من الورق قيمتها نحو قرش صاغ، فوقفت وأخذتها، ثم فرجتني على ما في الطست وإذا به الفول المدمس، ففرحت به كثيرًا ووطنت نفسي على أكلة مصرية في بلاد أوروبا، ثم استفهمت عن الاسم فإذا هو (Fava Rica)؛ أي الفول الغني، ولما رجعت الفندق أوصيت صاحبه أن يستحضر لي في صباح اليوم الثاني مقدارًا من هذا الفول الغني وقد كان، غير أني أردت أن تكون الأكلة مصرية محضة، وعلى الأسلوب المتبع عند عموم المصريين، فلبثت في غرفة النوم وأقفلتها إقفالًا محكمًا بعد أن استحضرت البصل حتى لا أكون مثل بني إسرائيل، حينما خرجوا من مصر ولم يجدوا البصل في التيه فتأسَّفوا عليه وتلهفوا، ثم إني تمتعت بهذا الفطور والحق يقال أكثر من جميع أيام سياحتي في أوروبا.
ثم قمت من الإشبونة إلى مدينة كويمبرا Coimbra المعروفة في كتب العرب باسم قلمرية، وهي الآن دار العلم ومحط المعارف في بلاد البرتغال، وقد رأيت مدارسها الجامعة ومتاحفها وبستان النبات البديع فيها. وبعد أن طفت على معظم آثارها قمت إلى مدينة بورتو (Porto)، واسمها في كتب العرب برتغال وبها يسمى هذا القطر برتغال، كما نقول نحن الآن: طرابلس وحاضرتها طرابلس، وتونس وحاضرتها تونس، وكما نقول: بني سويف وبندرها بني سويف، والفيوم وبندرها الفيوم، والمنيا وبندرها المنيا، وهكذا في سيوط وقنا، وكما كان الشأن في القليوبية وجرجا والمنوفية قبل أن ينتقل مركز المديرية إلى بَنها وسوهاج (المعروفة عند العرب بسوهاي) وشبين الكوم، وسأورد في الرحلة نصوصًا عربية معتبرة تكاد تكون مجهولة للدلالة على صحة هذا الاسم (برتغال).

رأيت في مدينة البرتغال هذه آثارًا كثيرة ولكن العرب لم يخلِّفوا فيها شيئًا يذكر؛ لأنهم كانوا يجيئونها فاتحين ثم يجوزونها إلى غيرها من البلاد، ولم ترسخ فيها قدمهم، غير أني رأيت دار البورصة فيها، وهي من الفخامة والجلالة بمكان، قد تآلف التجار على إنشائها على الطراز العربي، ونقشوا أكبر بهو فيها بحسب الأسلوب العربي وزينوه بالزخارف، وكتبوا في ضمن رسومها البديعة أشعارًا عربية سأوردها في الرحلة، وفي جميع الطرازات هذه العبارة: «عز لالانا السلطانة مريم ٢»، يريدون عز لمولاتنا السلطانة مريم الثانية.

وقد عن لي وأنا في هذه المدينة أن أُمتع نفسي بأكلة ثانية من الفول الغني، فأوصيت صاحب الفندق أن يستحضر لي جانبًا من هذا الطعام اللذيذ حتى أتغذى به في وقت الظهر، وأوصيته أيضًا باستحضار الزبد والبصل فنظر إليَّ نظر المستغرب وقال: كيف يمكن الغداء بالفول الغني والبصل والزبد! فقاطعته وقلت له: هذه إرادتي وما عليك إلا الإجابة. فامتثل غير قادر على إخفاء زيادة الاستغراب. ثم توجهت لزيارة الآثار وغير ذلك حتى جاء وقت الظهر، فأسرعت إلى الفندق وأنا أتلذذ مُقدَّمًا بأكلة الفول الغني التي أعددت نفسي لها في هذا اليوم السعيد، حتى إنني لم أتناول شيئًا من الزاد في الصباح، وقد صعدت في الحال إلى غرفة نومي فوجدت صينية عليها شيء كثير من … من … من الخروب فدققت الجرس بعنف وشدة لكثرة ما اعتراني من الغيظ والحنق، فحضر الخادم فقلت له: ما هذا الذي فعلت أيديكم؟ فقال: إنما أجبنا أمرك وأحضرنا الفول الغني. فكررت الاستفهام فقال لي: هذا هو الفول الغني بعينه فنزلت لصاحب الفندق وباحثته في هذا الموضوع وأعلمته بمقصودي الذي رأيته بكل انشراح في مدينة الإشبونة، فأدرك السر وقال لي: يا سيدي أهل بورتو يسمون الخروب فولًا غنيًّا، ولا يعرفون ذاك الصنف الموجود في إشبونة، بل إنهم يتهكمون على الإشبونيين لكونهم يسمون الفول المصنوع بهذه الكيفية فولًا، ولما كان في الخروب ميزة على الفول دعوه بالفول الغني ولهم الحق،١٧ وهذا ما دعاني للاستغراب حينما طلبت مني في الصباح أن أحضر لك غداءك من الفول الغني مع الزبد والبصل. فانشرحت من هذا الشرح مع أنني انقبضت للحرمان من أكلتي المصرية والاضطرار للأكل على المائدة العمومية بالطريقة الإفرنكية، ولكن هي السياحة يرى فيها الإنسان ما يسوء وما يَسُر.
ثم خرجت منها قاصدًا شلمنقة Salamanca١٨ من بلاد إسبانيا، ولم أتعرض لتعلم اللغة البرتغالية خوفًا من الاختلاط، ولكني لاحظت كثرة تردد الفاء والشين والراء فيها، فمثال الفاء الخروب يسمونه الفروب، والبحيرة يسمونها البفيرة، والصهريج يسمونه زفريش، ويسمون نوعًا من الأغطية والفراء يعرف عند العرب بالحنبل بقولهم: «الفامار»، وهذه الكلمة الحديثة الآن مأخوذة من الكلمة البرتغالية المهجورة المحرفة عن العربية مباشرة، وهي «ألفمبر»، ويسمون الخس «ألفس»، والهدية «الفدية»، والحرمل وهو السذاب البري «الفرما»، وفي الحلاوة «الفلووا»، ويقولون في الحمة: «الفاما»، والخياط يسمونه «الفيات»، وأمثال ذلك كثيرة لا أطيل بها الآن.

وأما الشين فإن معظم السينات التي في اللغات الإفرنجية يقلبونها شينًا، ولعل ذلك هو السبب في أن العرب نطقوا بأسماء البلدان التي فيها سين بالشين، والأمثلة كثيرة يعرفها من له أقل اطلاع على جغرافية هذه البلاد في كتب العرب. وأما الراء فهي كثيرة جدًّا خصوصًا مع الشين حتى تكاد لغتهم بسببها تشبه اللغة النمساوية، ولكن الخاء معدومة بالكلية.

وهنا أذكر أمرًا غريبًا، وهو أنني لما كنت في سَرقُسطة توجهت في صباح يوم وصولي إلى أجمل دكان للمزين فيها، وبعد أن حلقت ذقني وأصلحت شعر رأسي وضمخته بأنواع الخَلُوق المستعملة عندهم، سألت الرجل عن الأجرة؟ فقال لي ٣ ريالات، فبهت في قلبي، وأسفت على مجيئي إليه، ولكني تجلدت وأظهرت (مثل الكثير من الناس) تعارف الجاهل بعكس أهل البديع الذين يظهرون تجاهل العارف. ثم قلت: وهو كذلك، ودفعت إليه ورقة قيمتها ٢٥ فرنكًا فرد لي ٢٤ فرنكًا وربعًا، فعلمت بكل سرور أن الريال عند أهل إسبانيا يساوي جزءًا من عشرين منه عند أهل بلادنا، بل هو أقل من القرش الصاغ بقليل، ولكنني حينما جئت إلى بلاد البرتغال ونزلت في لشبونة اكتريت عربة أوصلتني إلى الفندق، ولما نزلت منها سألت ترجمان الفندق عن الأجرة فقال لي ٦٠٠ ريال. فقلت في نفسي: هذه هي الطامة الكبرى، وكيف أتظاهر الآن بتعارف الجاهل وليس معي ورقة تساوي هذه الثروة الجسيمة، ومع ذلك تجلدت وصبرت على مضض الأيام، واتقيت الله لعله يسهل لي سبيل الخلاص من هذه الورطة. فقلت له بصوت أبح: «وهو كذلك خذ النقود من صاحب الفندق.»

وصعدت إلى غرفتي أضرب أخماسًا لأسداس. ولما أصبح الصباح كان أول شيء طلبته هو الحساب، فجاءني بعشرات الآلاف. فقلت وأنا خائف واجم: وكم يساوي هذا كله من الفرنكات؟ فقيل لي إن الفرنك مائتا ريال، فكدت أخر لله ساجدًا وصرفت الغلام لأتضرع بالشكر منفردًا. وقد قاسيت كثيرًا من اشتداد الأزمة المالية على هذه البلاد، حتى إنني كنت أصرف الفرنك الصحيح المعتبر بمائتي ريال وبمائة وتسعين وبمائة وثمانين وبمائة وسبعين بل بمائة وستين في قلمرية، وعرفت حينئذ أن هؤلاء القوم يلزمهم عدد كبير لقيمة قليلة.

ولما توالت هذه الخسائر المالية استخرت الله في الرجوع إلى الأندلس، ووصلت شَلَمنقة ورأيت آثارها ومدارسها، فإنها في إسبانيا مثل قلمرية في البرتغال وأكسفورد وكمبريج في إنجلترا، ورجعت منها إلى مدريد فأصابتني النزلة الوافدة واشتدت عليَّ وطأتها حتى كدت أيأس من الحياة لولا مداركة كثير من أصحابي وأصدقائي وعناية الأطباء بشأني.

وقد كان صاحب السعادة طرخان بك طلب من البطانة الملوكية تشرفي بمقابلة جلال الملكة وأجيب السؤل، ولكن المرض كاد يحول بيني وبين هذا الشرف الأسنى غير أن الله — سبحانه وتعالى — رأف بي فخفف النازلة عني، وبذلك تيسر لي مقابلة جلالة الملكة فلاطفتني وتعطفت عليَّ كثيرًا وتكلمت معي في أشتات العلوم والأدبيات حتى بهرتني من كثرة اطلاعها، ودار الحديث مليًّا على اللغة العربية وآثار العرب بإسبانيا وبغيرها، واستطالت المقابلة مدة تنيف على العشرين دقيقة وكان معي حضرة السيد المفضال والأمير الكريم طرخان بك، وسأذكر في الرحلة ما دار بيننا من الحديث، ثم خرجت من بين يديها شاكرًا أفاضلها على هذه المقابلة الجليلة. وقد أخبرني كثير من أهل البطانة وخصوصًا صاحب العطوفة طرخان بك، بأنها أكثر من المعتاد بكثير، فشكرت الله ثم لبثت بمدريد ريثما تعافيت قليلًا من النزلة الوافدة التي ضربت فيها أطنابها الآن وفتكت بالأهالي فتكًا ذريعًا فمات بها كثير من الشيوخ، وزاد عدد الوفيات بها وبغيرها من الأمراض في مدريد حتى بلغ ستًّا وستين وفاة يوميًّا، وكان معدل عددها قبلًا إحدى وأربعين في اليوم.

ولأجل ذلك أمرني الأطباء بالتوجه إلى بعض البلاد الحارة في جنوب الأندلس، والعبور منها مباشرة إلى مصر متى ظهرت آثار الصحة وعاودتني العافية.

فقمت على إشبيلية (Sevilla) التي كانت تسمى أيضًا بحمص، وزرت جميع آثارها ودار اللقطاء فيها وكنائسها، وصعدت إلى قمة المنارة الإسلامية الفخيمة البديعة التي كانت بجانب أحد المساجد، وكانت مستعملة عند العرب لرصد الأفلاك فأصبحت الآن مقرًّا للناقوس، وزرت القصر Alcazar الذي أنشأه الإسلاميون فأنساني كل ما رأيته من العمائر الجميلة والآثار الجليلة التي رأيتها في أعظم مدائن أوروبا، وقد وقفت فيه متلهفًا وكنت كذلك الشاعر الذي قال:
قُلتُ يومًا لِدَار قوم تفانوا:
أين سكانك العزاز علينا؟
فأجابت هُنا أقاموا قليلًا
ثم ساروا ولست أعلم أينا

ومن غريب ما في إشبيلية أن جميع دورها وقصورها لها في وسطها فناء في غاية الإتقان مغروس بزاهر الأشجار، ومحفوظ بفائق العمدان وفوقه رواق مثل ما هو معروف في الإسكندرية باسم الحضير، وعليه عمدان وحنايا وقواصر مثل التي في الفناء، ولقد تحسنت صحتي باعتلال هوائها حتى صدَّقت من أنشأ مشببًا بها:

هواؤها في جميع الدهر مُعتدل
طيبًا وإن حَل فصل غير معتدل
ما إن يبالي الذي يحتل ساحتها
بالسعد أن لا تحل الشمس بالحمل

ولا غرو فقد اشتهرت باعتدال الهواء وحسن المباني، وهي واقعة على النهر الشهير المعروف بالوادي الكبير، يصعد المدُّ فيه ميلًا ثم ينحسر، ولذلك قال شاعرهم:

شَقَّ النسيم عليه جيب قميصه
فانساب من شَطيه يَطلب ثاره
فتضاحكت وُرق الحمام بدَوحها
هَزًّا فضم من الحياء إزاره

ولقد صدَّقت حينما حللت فيها قول بعض واصفيها:

إن شَرَفَها غابة بلا أسد
ونهرها نيل بلا تمساح
وهذا الشرف المذكور هو إقليم من أعمالها كائن على تَل عالٍ من التراب الأحمر ومسافته ٤٠ ميلًا في مثلها يمشي بها السائر في ظل التين والزيتون. واعلم أن الإسبانيين والإفرنج يرسمون اسم هذه البقعة هكذا Axarafe وAljarafe وهو الآن في الجغرافيا الجديدة لتلك الأقطار عبارة عن البلاد التي في قسم سان لوكار لامايور؛ أي سان لوكار الكبير San Lucar la Mayor وبعض القرى التابعة لمدينة إشبيلية.
ثم خرجت من هذه المدينة الجميلة قاصدًا غرناطة Granada (Grenade) وأنا أردد قول الشاعر فيها:
ذَكرتك يا حمص ذكرى هوًى
أمات الحَسود وتعنيته
كأنك والشمس عند الغرو
ب عروس من الحسن منحوته
غدا النهر عقدك والطود تاجـ
ـك والشمس أعلاه ياقوته

وصرت أثناء الطريق أمر على بلاد وقرى كثيرة تذكرني ما عهدته في بلاد المشرق، وخصوصًا المنارات التي كانت قائمة بجانب الجوامع، فصارت مجاورة للصوامع ومآذن المساجد التي أصبحت نواقيس للمعابد، وصرت أتذكر مجد العرب وعظم دولتهم حتى قدمت إلى غرناطة المعروفة قليلًا باسم إغرناطة، ويسميها العرب دمشق من باب التشبيه، واسمها معرب عن الإسبانية ومعناه الرمانة.

وصلت هذه المدينة إلى ما لم تكد تصل إليه مدينة ما، فإنها حينما استولى الإفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقلت إليها بقايا المسلمين، فصارت المصر المقصود والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود حتى بلغ عدد فرسانها وحدها ٥٠٠٠ ورجالها ٣٥٠٠٠ من غير ضواحيها وأعمالها، فقد كانت جيوشها تبلغ بهم ٢٠٠٠٠٠ يخرجون للقتال من أهل غرناطة والبُشرَّات Alpujarrat (Alpuxarat) ووادي آش Guadix، وقد رأيت أن أختم رسائلي المؤتمرية في هذه المدينة التي كانت آخر ملاذ للمسلمين.

وصلتها بالليل ونزلت في فندق واشنطون وهو على ما علمت فيما بعد من أهل التحقيق والمعرفة قائم (يا للأسف) على نفس مكان المقبرة الملوكية، التي كانت ملوك المغرب تدفن بها ويسميها ابن الخطيب «التربة».

وبعد أن تناولت شيئًا من الزاد عَجَّلت بالاضطجاع، وحينئذ ذهب عني الرقاد لهجوم الأفكار وتَذكُّر ما وقع بتلك الأعصار، والتفكر في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها حتى أثقلني السهر وبرَّح بي التعب، فأغمضت الجفون وما استيقظت إلا على تجاوب الأطيار فوق أغصان الأشجار كأنها تقول لي:

تَنَبَّه فقد شَق البهار مغلسًا
كمائمه عن نوره الخضل الندى
مداهُنَّ تِبر في أنامل فِضَّة
على أذرع مخروطة من زَبَرجد

فقمت ونظرت إلى الرياض وغابات الأشجار وتَدفق المياه، فقلت: لله دَر الشاعر في وصف مثل هذه المناظر:

رياضُ تعشقها سُندس
تَوَشَّت معاطفها بالزَّهر
مدامعها فوق خدي ربا
لها نظرة فَتَنَت من نَظر
وكل مكان بها جَنة
وكل طريق إليها سقر

ولكني تذكرت قول الوزير ابن عبدون الأندلسي، ولا غرو فإن أقوال الوزراء وزراء الأقوال:

يا نفحة الزهر من سراك وافاني
خلوص رياك في أنفاس آذار
والأرض في حلل قد كاد يحرقها
توقد النور لولا ماؤها الجاري
والطير في ورق الأشجار شادية
كأنهن قيان خلف أستار
ثم طفت بالحمراء Alhambra١٩ وقصرها ومساجدها وساحاتها وأطلالها ورسومها وبقاياها التي تذهب بالجنان وتأتي بالجنون، فوقفت باهتًا حائرًا فاقدًا اللب والرشاد من هذا الإتقان الذي لم يكن يخطر على قلبي مع ما سمعته عنها من الأوصاف وما شاهدته من غرائب المباني في غير هذه الدار، حتى لقد اشتد بي الهيام وكنت:
أمر على الديار ديار قومي
أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما حُب الديار أهاج وَجدي
ولكن حُب من سكن الديارا

ثم خرجت منها وأنا أخاطبها بقول الشاعر:

وَقفت بالحمراء مستعبرًا
معتبرًا أندب أشتاتا
فقلت: يا حمرا ألا فارجعي
قالت: وهل يرجع من ماتا
فلم أزل أبكي وأبكي بها
هيهات يُغني الدمع هيهاتا
كأنما آثار من قَد مَضى
نَوادِب يَندبن أمواتا
وعند الباب قدموا لي دفتر الزيارات، فكتبت هذه العبارة التي أملاها الخاطر، واليد مرتعشة، والفؤاد واجف، والعين باكية:

أحقًّا هذه الحمرا أحقًّا أنني فيها!

لله هذه القصور وهذه الدور! ولله قوم خلدوا فخرهم على مدى العصور! هذي آثارهم الباقية تنطق بعظمتهم الفائقة، وتنبه الغفلان إلى بقاء الملك الديان، وأن كل من عليها فان، وتذكِّر بني الإنسان بوجوب التعاون على البر والإحسان، والتباعد عن التخاذل فهو الخسران، ويرحم الله عبدًا رأى فتذكر ونظر فاعتبر.

أحمد زكي
مندوب الحكومة المصرية
في مؤتمر المستشرقين التاسع بلوندرة
يوم الثلاث ٧ رجب الفرد سنة ١٣١٠
٢٤ يناير سنة ١٨٩٣

ثم انتقلت من الحَمراء وزرت أسوار المدينة وأبراجها وبعض مناراتها وكثيرًا من قصور ملوكها، ويعلم الله أنني ما رأيت في طول سياحاتي شيئًا أدق وأتقن وأجمل وأكمل مما رأيته في هذه المدينة، حتى لقد رأيت أن المَقرِّي لم يقرب من الحقيقة حينما مدح غرناطة أثناء وصفه للأندلس بقوله:

هي جَنة الدنيا التي
قد أذكرت دار المقامه
لا سيما غرناطة الـ
ـغراء رائقة الوسامه
بروائها وبمائها
وهوائها النافي الوخامه
ورياضها المهتزة الـ
أعطاف من شدو الحمامه
وبمرجها٢٠ النضر الذي
قد زين الله ارتسامه
وقصورها الزهر التي
يأبى لها الحسن انقسامه
ولقد كانت غرناطة لا يعدلها في داخلها وخارجها بلد من البلدان، ولا يضاهيها في اتساع عمارتها وطيب قرارتها وطن من الأوطان، ولا يأتي على حصر أوصاف جمالها وأصناف جلالها قلم البيان، وكانت في آخر الأمر قاعدة بلاد الأندلس وعروس مدنها، ويقول كُتاب العرب: إن خارجها لا نظير له في الدنيا وهو مسيرة ٤٠ ميلًا يخترقه نهر شنيل (Jenil) Xenil المشهور وسواه من الأنهار الكثيرة والبساتين والجنات والرياضات والقصور والكروم محدقة بها من كل جهة، ومن عجيب مواضعها عين الدمع، وهو جبل فيه الرياضات والبساتين لا مثيل له بسواها، ويعرف عند المؤلفين الإسبانيين بهذا الاسم Aindamar محرفًا عن اللفظ العربي.

وما زلت أتردد بين هاتيك الديار وأجوب تلك المعاهد، وأنا أرى في كل حجر وفي كل جدار آية ناطقة بعظمة هذه الأمة ومجدها، وقد جَرَّني ذلك إلى ذكر بعض أمور مما يدل على بلوغ أهل الأندلس أرقى ذروة من ذرى النعيم وتأنقهم وترفههم للدرجة التي ليس بعدها مطلب أو غاية.

فمن ذلك أن اعتماد — وهي زوجة المعتمد وأم أولاده المعروفة بالرميكية — رأت ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن وهن رافعات عن سوقهن يخضن الوحل والطين، فقالت له: أشتهي أن أفعل أنا وجواريَّ مثل هؤلاء النساء! فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد وصيَّر الجميع طينًا في القصر، وجعل لها قِربًا وحبالًا من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين الثمين وأنالت النفس مناها، ثم اتفق بعد خلعه أنه حصلت بينهما منافرة كما يحصل عادة بين الأزواج فقالت له: والله ما رأيت منك خيرًا. فقال لها: ولا يوم الطين! تذكيرًا بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال ما لا يعلم مقداره إلا الله، فاستحيت واعتذرت وسكتت.

وقد مدح بعض الشعراء يعقوب أمير المؤمنين بالأندلس بقصيدة فيها ٤٠ بيتًا، فأعطاه على كل بيت ألف دينار.

وكان بعض ملوكهم إذا جاءته رسل من أعدائه يأمر في الحال باصطناع برك وحولها آساد وأشجار وأزهار كلها من الفضة الخالصة والذهب النضار، ترهيبًا لهم وإيقاعًا للرعب في قلوبهم من غير أن يشافههم بكلمة واحدة فينال من ملوكهم كل ما يرتضيه.

وقد كان عبد الرحمن بن الحكم أمير الأندلس كثير الميل إلى النساء، ووَلَع بجارية له اسمها طَروب، وكَلَف بها كَلَفًا شديدًا، واتفق أنها غَضت الطرف عنه ذات يوم وقابلته بالصد والإعراض واقتصرت في مقصورتها، فأرسل يترضاها وهي لا تزداد إلا إصرارًا على الجفاء، حتى أرسل الخصيان يغصبونها على الخروج، فغلقت الأبواب في وجوههم، فذهبوا إلى الخليفة يستأذنونه في اقتلاع الباب، فأمرهم بأن يسدوه ببدر من الدنانير يرصونها عليه رَصًّا، ثم جاء بعد ذلك يترضاها بنفسه ويعتذر إليها، ففتحت الباب وانهالت عليها الأموال، فقال لها: كل هذا المال لك دون سواك، ثم أعطاها حلية قيمتها مائة ألف دينار. فقيل له: إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك، فقال: إن لابسه أنفس منه خطرًا وأرفع قدرًا وأكرم جوهرًا وأشرف عنصرًا. وفيها يقول:

إذا ما بَدَت لي شمس النها
ر طالعةً ذَكرتني طروبًا

ومن ذلك أن محمد بن عامر المنصور وزير الأندلس المشهور صنع قصرًا من فضة صافية، وأهداه للسيدة صبح البشكنشية أم الخليفة هشام، وحمله على رءوس الرجال فجلب حبها بذلك، وقامت بأمره عند سيدها الخليفة الحكم، حتى قال الخليفة لبعض خواصه: إن هذا الفتى سلب عقول حرمنا بما يتحفهن به.

ومن ذلك أن الحكم ثالث خلفاء الأندلس كان له خاصةً ألفا فرس مرتبطة على شاطئ النهر بقبلي قصره تجمعها داران.

والأعجب من ذلك ما رواه المؤرخون من أن الخليفة عبد الرحمن الناصر المشهور أراد الفصد ذات يوم، فجلس في البهو الكبير المشرف بأعلى مدينة الزهراء، واستدعى الطبيب لذلك وأخذ الطبيب الآلة وحَبس يد الناصر، فبينما هو كذلك إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس وأنشد:

أيها الفاصد رفقًا
بأمير المؤمنينا
إنما تَفصد عِرقًا
فيه محيا العالمينا

وجعل يكرر ذلك بعد المرة، فاستظرف أمير المؤمنين ذلك غاية الاستظراف وسُرَّ به غاية السرور، وسأل عمن اهتدى إلى ذلك وعلم الزرزور، فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أم ولده، وولي عهد الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك وأعدته لمثل هذا اليوم، فوهب لها ما ينيف على ٣٠ ألف دينار.

وأمثال هذه الوقائع أكثر من أن تذكر. وأقول: إن أول تبليط حصل بالمدائن كان في قُرطبة، وكذلك الإنارة العمومية بالليل قبل أن يَعرف ذلك أحد من أهل الأرض قاطبة، فقد كان السائر يمشي فيها وفي أرباضها على ضوء السرج المتصلة مسافة ١٠ أميال.

وأما رسوخ قدمهم في العلم والعرفان فأمر يشهد به العدو والصديق، ولا أذكر منهم الآن سوى أبي القاسم بن فِرناس، فإنه أول من استنبط بالأندلس صناعة الزجاج من الحجارة، وأول من فَك كتاب العروض للخليل، وأول من فك الموسيقى، وقد صنع في بيته هيئة السماء وخيَّل للناظر فيها النجوم والغيوم والرعود والبروق، وصنع الآلة المعروفة بالمنقالة ليعرف الأوقات على غير رسم ومثال، وقد احتال في الطيران فكسا نفسه بالريش واتخذ جناحين، وطار في الجو مسافة بعيدة ولكنه لم يحسن الاحتيال في السقوط فتأذَّى؛ إذ غفل عن اتخاذ الذنب، ولم يتنبه إلى أن الطائر إنما يقع على زِمِكاه.

ولقد كانت ملوك الإفرنج جميعًا تستخدم الأطباء من العرب واليهود الأندلسيين، وكانت الصنائع والفروسية والأبهة في عهدهم في مزيد، وكان عندهم مواضع شتى للفرج واللهو، أما علم المساحة والفلك والكيمياء والطب فلم يكن إلا في قُرطبة دون غيرها من سائر المدن، حتى إن شانجه ملك ليون الملقب بالسمين اضطر إلى أن يسافر إليها ليأخذ الطب عن رجل كان مشهورًا في عصره، فلما استدعى به الملك أجابه مع الرسول قائلًا: إن كان للملك حاجة إليَّ فليقدم عليَّ. ومثل ذلك الزيج الذي اشتهر به ألفونس العاشر ملك قشتيلية، وصار له به فخر على ملوك أوروبا، إنما حرره له علماء العرب كما يشهد بذلك علماء الإفرنج أنفسهم.

ومما ينبغي ذكره في هذا المقام أن القوم ما وصلوا إلى هذه الدرجة إلا بالعلم والعرفان، وما أجدر شباننا المصريين الأذكياء المتعلمين أن يقتدوا بأهل الأندلس في ذاك الزمان، فإنهم كانوا جميعًا أحرص الناس على التمييز، حتى إن الجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة ويربأ أن يُرى فارغًا عالة على الناس. وكانوا يقرءون جميع العلوم في المساجد بالأجرة؛ لأنهم كانوا يتعلمون لأجل أن يُعلموا الخلائق وينوروا الأذهان لا لكي يأخذوا جاريًا أو معلومًا؛ ولذلك كان العالم منهم بارعًا؛ لأنه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على ترك الشغل الذي يستفيد منه، ويُنفق من عنده حتى يتعلم، ومثلهم الآن معظم علماء أوروبا.

ومما ينبغي إضافته للعلم مراعاتهم للشرع الشريف، حتى لقد كان للدولة الأموية في أيام عِز الأندلس هيبةً وتمكين ناموس من قلوب العالم، فكان في ذلك ضخامة لدولتهم ورسوخ لأقدامهم. وقد ذكر ابن حيان وقائع كثيرة يُستدل منها على توجُّه الحُكم على خليفتهم أو على ابنه أو على أحد حاشيته المختص به، وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد للحق لهم أو عليهم، وبذلك انضبطت لهم الأمور وكبرت الهمم وترتبت الأحوال وتوطدت القواعد، ولما خرقوا هذا الناموس تهتك أمرهم، واضمحل شأنهم وفشلوا وذهبت ريحهم، حتى قال شاعرهم:

مما يُزهدني في أرض أندلس
تلقيب معتضد فيها ومعتمد
ألقابُ مملكة في غير موضعها
كالهِر يحكي انتفاخًا صورة الأسد

وما زالوا على هذا الاضمحلال وهذا الانحطاط حتى تقلبت الدول، وكان الخرق لا يزداد إلا اتساعًا، وصَدق عليهم قول الشاعر:

فبينا نَسوس الناس والأمر أمرنا
إذا نحن فيهم سُوقة نتنصَّف
فوقع الاختلاف بعد ذلك الائتلاف وأعيا العلاج حكماء الرجال، وعصفت عليهم ريح العدو والحرب سجال، حتى لقد تمكن منهم بالتفريق وإلقاء العداوة بينهم وبين بعضهم بقبيح المنافسة ومرذول الطمع، وآل أمرهم إلى أن استقل العمال، وأقام كل واحد منهم نفسه ملكًا في بلد واحد، وصاروا يطمعون في بعضهم ويستجيشون بالإسبانيين وبطاغيتهم ويسلمونه حصون المسلمين تَشفيًا لبعض غاياتهم، حتى إن بعض ملوك الطوائف واسمه المأمون — قَبحه الله وأخزاه — بعث إلى ملك قشتالة المعروفة أيضًا باسم قشتيلية (Castilla) يستنصره على الموحدين، ويسأله أن يبعث له جيشًا من الروم يجوز به إلى العَدوة — أي مراكش — لقتال يحيى ومن معه من الموحدين، فقال له ملك قشتيلية: «لا أعطيك جيشًا إلا على شريطة أن تعطيني ١٠ حصون مما يلي بلادي كما أختارها لنفسي، وإذا مَن الله عليك ودَخَلت مدينة مراكش تبني للنصارى الذين يسيرون معك كنيسة في وسطها يُظهرون بها دينهم، ويضربون فيها نواقيسهم أوقات صلواتهم، وإن أسلم أحد من الروم لا يُقبل إسلامه ويُرد إلى إخوانه فيحكمون فيه بحكمهم، ومن تَنَصر من المسلمين فليس لأحد عليه من سبيل.» فأسعفه النَذل الجبان في جميع ما طلب من غير تَبَصر في العواقب.
ويشبه ذلك أيضًا ما جرى في واقعة العُقاب،٢١ وذلك أن محمد الناصر — المشئوم على المسلمين وجزيرة الأندلس بالخصوص — جَمَع جموعًا اشتملت على نحو ٦٠٠٠٠٠ مقاتل، وداخله الإعجاب والغرور بكثرة من معه من الرجال، فصافَّ الإفرنج فكانت الدائرة عليه وعلى المسلمين، فإن الإفرنج دهموهم وهم على غفلة وغير أهبة وخلا بسبب هذه الواقعة أكثر المغرب، واستولى الإفرنج على معظم الأندلس، إذ لم ينجُ من الستمائة ألف غير عدد يسير جدًّا لا يقارب الألف، وكانت هذه الواقعة هي الطامة الكبرى على الأندلس بل والمغرب، وما ذلك إلا لسوء التدبير؛ فإن الناصر ووزيره استخفا برجال الأندلس العارفين بقتال الإفرنج وشَنَقا بعضهم، وظنَّا أن كثرة الأجناد تغني عن دُربة القُواد، ففسدت النيات وتفرقت الكلمة وتخاذل المسلمون، حتى إن جماعات المُوحدين لم يسلوا سيفًا، ولم يشرعوا رُمحًا ولا أخذوا في شيء من أسباب الدفاع ولا أهبة القتال، بل انهزموا لأول حملة الإفرنج عليهم قاصدين لذلك والعدو يبلي فيهم ويقتل فيهم قتلًا ذريعًا، وهم (يا للنذالة يا للنذالة) معرضون عنه، بل عن الدفاع عن أنفسهم، ويقول المؤرخون: إن الناصر ثبت في ذلك ثباتًا لم يُر لملك قبله.
ولم يزل حالهم على هذا الاختلاف حتى حينما تضعضع أمرهم، وضيَّق عليهم العدو أشد الضيق، وأحدق بغرناطة من كل مكان، ومع ذلك لم تنقطع شأفة الشقاق، حتى كان في هذه المملكة الصغيرة ثلاثة ملوك٢٢ أحدهم في غرناطة نفسها، والثاني في أحد ضواحيها المعروف بربض البيازين،٢٣ والثالث في عملها القريب منها، وهو مدينة وادي آش المعروفة أيضًا بوادياش وبوادي الآشات.
وكانوا قد أحسوا بهذا الخطر إحساسًا لا مزيد عليه، حتى٢٤ إنهم استبدلوا الأقوال التي كانت تستعمل عادة في ضرب السكة بآيات وعبارات توافق مقتضى الحال، وقد رأيتها منقوشة على الدراهم والدنانير المحفوظة في متحف مدريد، وعند الماجد الفاضل الدون أنطونيو فيفس D. Antonio Vives٢٥ وهو من علماء أهلها المشتغلين بالعربية، وبفن النقود، وذلك مثل: «قُل اللهم مالك الملك تُؤتي المُلك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتُعز من تشاء وتُذل مَن تشاء بيدك الخير ولا غالب إلا الله». ومثل: «غرناطة حاطها الله» «غرناطة حرسها الله» «ومالقة حاطها الله». «ألمرية حرسها الله»، ومثل: «بحمراء غرناطة. نَصرٌ من الله وفتح قريب»، ومثل: «العاقبة للمتقين»، ومثل: «وما النصر إلا من عند الله»، ومثل: «وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم صدق الله العظيم»، ومثل: «يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تُفلحون»، ومثل: «الأمير فلان أعانه الله ونصره» أو «أيده الله ونصره». وجميع هذه العبارات لم تكن مستعملة في نقودهم قبل الأيام الأخيرة التي أعقبها انقراض دولتهم، وما زالوا على هذه الفتن حتى انمحى أثرهم من الجزيرة، ولقي من بقي فيها من أنواع الاضطهاد والهوان ما سأفصله في الرحلة إن شاء الله.
ومما ينبغي ذكره في هذا المقام أنهم قد شهد لهم الأعداء قبل الأصدقاء بأنهم لما تم لهم في ظرف أربعة عشر شهرًا فتح إسبانيا كلها ما عدا مغارات وصخور أسُتوريش (Les Asturies) Asturias لم يتجاوزوا الحدود ولم يشطوا في الطلبات كما فعلته جميع الأمم الفاتحة، بل أبقوا للمغلوبين أموالهم وشرائعهم وديانتهم مكتفين بضرب الجِزية وبَشَرف السيادة والسيطرة،٢٦ بل إنه لم يجل قط بخواطرهم إلزام أهل الجزيرة بالدخول في دين الإسلام، ولكن لما سَقَطَت غرناطة اشتدت وطأة المحكمة المعروفة بمحكمة التحري القسيسي (Inquisition) [محاكم التفتيش]، فكان لها من القسوة مع التنظيم في ارتكاب الفظائع ما يخجل له كل من في قلبه ذرة من المروءة والإنسانية.
وهذه المحاكم قد أمر الباباوات بإنشائها لخدمة الدين ظاهرًا والسياسة باطنًا، ولكن الإسبانيين أضافوا عليها أعمالًا بربرية وحشية تقشعر لهولها الجلود، وتجمد منها الدماء في الشرايين؛ فمن ذلك: إحراق الملايين من الكتب النفيسة وإبادة الآلاف المؤلَّفة من النفوس البريرة البريئة بأنواع العذاب والإحراق والإغراق، وغير ذلك مما لا يكاد يخطر على بال، وعندما سقطت غرناطة أراد الكردينال شمينيس Xéminés أن يتنصَّر جميع المسلمين الذين فيها مع مخالفة ذلك للمعاهدة الصريحة التي عقدت مع أهل غرناطة وقت التسليم. ولما كانت عملية التنصير تستوجب زمانًا طويلًا أراد الكردينال أن يصل إليها بغاية ما يمكن من السرعة، كما تم فتح غرناطة في وقت قريب، فأرسل قساوسته يعظونهم ويضطهدونهم كما يشهد بذلك نفس مؤرخيهم، وما زالوا بهم حتى أخضعوهم واضطروهم للتعميد فدخل بهذه المثابة خمسون ألف نفس في دين لا يعتقدونه ولا يقولون به، ويا ليتهم أبقوهم على ذلك بل جاء الكردينال تركماده Torquemada وزين لإيزابلا أنهم يُظهرون خلاف ما يبطنون، وأنه يسوغ حينئذٍ مصادرتهم في أموالهم وإعدامهم الحياة، وقد كان.

ولقد صدق على العرب ما قاله أحد ملوك فرنسا (وهو شارل مارتل)، حينما فزع إليه أكابر دولته لما رأوا امتداد فتوحاتهم وسرعة توغلهم في البلاد، فإنه قال لهم ما معناه: «الرأي عندي أن لا تعترضوهم في خرجتهم هذه، فإنهم كالسيل يحمل من يصادره وهم في إقبال أمرهم، ولهم نيات تُغني عن كثرة العدد وقلوب تُغني عن حصانة الدروع، أمهلوهم حتى تمتلئ أيديهم من الغنائم ويتخذوا المساكن ويتنافسوا في الرياسة، ويستعين بعضهم على بعض، فحينئذ تتمكنون منهم بأيسر أمر.»

فكان كذلك بالفتن التي استدامت بين البربر والعرب وبين العرب وبعضهم، وصار بعض المسلمين يستعين ويستجيش على بعض بمن يجاورهم من الأعداء، وانقلب الموضوع وتبدَّلت الأحوال. فقد أجلى المسلمون في أول الأمر جميع أهل الجزيرة، وأقصوهم إلى آخر حدودها شمالًا، حتى لم يبقَ منهم إلا ٣٠٠ رجل مع ملك يسميه العرب بلاي Pelayo ويسميه الإسبانيون بلايو ويسميه الإفرنج بلاج Pélage، فالتجأ هذا العدد القليل بمكان يعرف عند العرب بالصخرة، ويعرف عند الإفرنج الآن باسم جبل كوفادونجا Covadonga، ولم يزل المسلمون يلحون عليهم بالقتال حتى مات أصحابه جوعًا، وبقي في ٣٠ رجلًا و١٠ نسوة ولا طعام لهم إلا العسل يشتارونه من خروق بالصخرة، فيتقوتون به حتى أعيا المسلمين أمرهم واحتقروهم وقالوا: «ثلاثون عِلجًا ما عسى أن يجيء منهم.» وما علموا أن الائتلاف والاتحاد من جهة القشتاليين، والتغابن والتخاذل من جهة أبنائهم وأعقابهم جعل لهؤلاء «الثلاثين عِلجًا» من القوة والكثرة ما لا خفاء به، حتى قهروا العرب وأجلوهم بالمرة وأذاقوهم أنواع الذل والهوان مما هو مسطور في كتب التواريخ، وسألم ببعضه في الرحلة إن شاء الله.

واعلم أن إخراج العرب من إسبانيا أضر بهذه المملكة وبأهلها ضررًا بليغًا لم يحصل له نظير في مملكة من ممالك العالم على الإطلاق، فإنها كانت في أيام العرب عامرة زاهرة بالغة من الحضارة والجلالة ما هو مشهور معلوم، وكان عدد سكانها في أزمانهم ٤٠ مليونًا فأصبحت الآن مع الرجوع إلى العمار، وانتظام الأحوال بعض الانتظام ولَم الشعث ورم الرَّث ورقع الخرق ورتق الفتق لا تحتوي على أكثر من ١٧ مليونًا من النفوس؛ فلذلك ترى أغلب أراضيها خالية وأكثر مزارعها خاوية ومصادر الثروة فيها مهملة وأصول الاسترزاق مُعطَّلة. ولا أريد الإطالة بذكر الأسباب، وإنما أقتصر على إيراد شيء قليل يدل على ما يضطرني حجم هذه الرسائل وموضوعها للإجمال والإقلال في المقال.

وذلك أن الملك فيليب الثاني وحده طرد ممن بقي من المسلمين ما بين ٦٠٠ ألف و٧٠٠ ألف نفس، وكانوا كلهم لا يشتغلون بغير الزراعة والتجارة والصناعة، لا يعرفون استعمال السلاح بأي حال من الأحوال، وكانوا مفيدين نافعين لانهماكهم في الشغل والعمل في بلاد اشتهر أهلوها بالبطالة والكسل، وكان القوم يضطرونهم للتظاهر بالنصرانية، ويكثرون مع ذلك من تعذيبهم واضطهادهم ومصادرتهم وتجشيمهم أنواع الأهوال التي لا تخطر على البال، حتى إنهم لما بلغ الضيم بهم منتهاه نزعوا إلى الثروة وشَق عصا الطاعة فاسترسلوا لداعي الفتنة، ولكن أي فتنة وهم قوم لا يدرون شيئًا من الطعن والضرب؛ ولذلك لم يكن على الدولة سوى إرسال نفر قليلين من جنودها لإخماد هذه الشبه ثورة الضعيفة التي لا تذكر إخمادًا تم في أقل من لمح البصر.

ولقد رَقت لبلواهم حينئذ دولة فرنسا، حيث رأتهم أناسًا مستضعفين لا ناصر لهم ولا معين سوى انكبابهم على إتقان الصنائع وإخصاب الأراضي؛ ولذلك راسلهم ملك فرنسا هنري الرابع (وقد أشرنا إليه أثناء كلامنا على التماثيل والأنصاب في باريس)، ووعدهم بالإمداد والإنجاد وأنه يجعلهم تحت حمايته حتى لا ينالهم ضير ولا أذى، ولكن الدهر كان لهم بالمرصاد وشؤم الطالع ونحس البخت من ورائهم أينما وجهوا وجوههم لا يرون إلا نكدًا وبؤسًا، ولا يلقون إلا انتقامًا وتعسًا، فقد قُضي عليهم أن لا يخلصوا من ورطة إلا وقعوا في شر منها، وأن لا يسلكوا سبيلًا للنجاة إلا انقلب عليهم سبيلًا للهلاك.

ولله في خلقه تدبير سبحانه، قَسم الحظوظ فلا عتاب ولا ملامه، وذلك أنهم لما تَلهفوا بقدر ما تلهفوا ثم استنشقوا روح الأمل القليل بمساعدة هذا الملك الجليل، لم يلبثوا أن انقلبت أمانيهم خسرانًا عليهم ووبالًا، فإن أحد الكُتاب في نظارة الخارجية بفرنسا خان الملك، وأذاع هذا السر وأعلم ملك إسبانيا بما عزمت عليه فرنسا، فكان ذلك سببًا للتعجيل في تفريقهم والإسراع بتمزيقهم والمبادرة لطردهم (وهم بقية بقايا البقايا بالأندلس)، غير أنهم كانوا شديدي التعلق بالبقاء بالأندلس للتمتع به واستنشاق نسيمه فعرضوا على الملك أن يدفعوا له مليونين من الدنانير ثمنًا لإبقائهم في أرض مهادهم، فلم يرضَ فيليب بذلك على الإطلاق، ولكنهم لشدة تعلقهم ببلادهم أنفوا من الخروج مؤثرين الذل فيها على العز في غيرها، فالتجأ نحو ٢٠ ألفًا منهم إلى الجبال ولم يكن لديهم من وسائل الدفاع سوى الحجارة والمقلاع وهي من الوسائل التي لا تفيد شيئًا؛ ولذلك ما لبثوا أن اضطروا للتسليم ثم صار نقلهم خارج المملكة، ففقد فيليب بذلك أفضل رعاياه وأكثرهم حِذقًا ومهارة.

وقد لجأ أغلب من نجا بحياته من هؤلاء الأندلسيين المطرودين إلى أفريقية وطنهم الأول، وأدخلوا بها من الصنائع والفنون ما جعل صحاريها جنانًا وبواديها نعيمًا. وشَخَص بعضهم إلى أرض فرنسا في عهد ماري دومدسيس، ثم بارحها الذين لم يرضوا بتغيير دينهم إلى أرض تونس، وأما الباقون فتنصَّروا واستقروا بإقليم بروفنسه (Provence) ولانجدوك (Langdoc)، بل ذهب بعضهم إلى باريس واستوطن بها وكانوا معروفين متميزين عن بقية القوم، ولكنهم مع توالي الزمن امتزجوا بالأمة امتزاجًا تامًّا فاستفادت فرنسا من حيث خسرت إسبانيا. وهذه سُنة الله في خلقه؛ تتداخل الأمم في بعضها بالاضطهاد وبالفتوحات، وقد قرر العلامة فولتير هذا الموضوع.

ولقد أبقى العرب في إسبانيا آثارًا مادية كثيرة لا يزال بعضها باقيًا إلى يومنا هذا، كما أنهم خلدوا فيها كثيرًا من النظامات والقوانين والسياسات والتراتيب والأحكام مما يراه الإنسان في هذه البلاد حتى اليوم، كما أنهم كان لهم مُؤثر كبير في الأخلاق والآداب، حتى لقد رأيت في أخلاق أهل إسبانيا أخلاق العرب وشهامتهم وكرامتهم، فقد لقيت فيهم حسن الوفاء وحميد الطباع والتحبُّب إلى الغريب والفرح بإفادته وإعانته، سواء كانوا يعرفونه أو لا يعرفونه، وذلك ما يجعلني أفضلهم جهارًا وأشهد على رءوس الأشهاد بأن أخلاقهم أدمث وألطف وأشرف من جميع الأمم التي طُفت ديارها في هذه الرحلة المستطيلة، وسأشرح ذلك بالتفصيل عند الفرصة إعطاءً لكل ذي حق حقه وتقريرًا للوقائع كما هي، حتى إنني وجدت فيهم من الطباع النبيلة ما قد نسيه أهل البلاد العربية، وإنني إذا تَعصبت لأمة من الإفرنج فإنما يكون ذلك لأهل إسبانيا حيَّاهم الله وبياهم، فقد آنست فيهم وفي بلادهم — خصوصًا أيام كنت أجهل لغتهم وليس لي من صديق فيهم وقبل وصولي إلى مدريد — ما يجعل لساني يتلو آيات شكرهم في كل نادٍ، ويفصح بمفاخرهم وآثارهم في كل وادٍ على توالي الآماد، وأكرر قول الأندلسي على جميع البلاد:

تلك الجزيرةُ لَست أنسَى حُسْنها
بتعاقُب الأحيان والأزمان

كمالة الرسالة الأندلسية

وهي نبذة في امتزاج العرب بالعجم في إسبانيا، والاستشهاد على ذلك بالأسماء والألقاب.

اعلم أن كثيرًا من أشراف العائلات الإسبانية الأصلية، امتزجت بالعرب امتزاجًا كليًّا، ودخلت في دين الله القويم ولكنها لم تغير ألقابها الخاصة بها لما كان لها بالطبع من الجاه والحسب، وقد نبغ منها كثيرون.

مثال ذلك: ابن بونه، وهو اسم لكثير من أدباء الأندلس، وأصله الإسباني (Bono وBueno)، ومعناها الطيب والجيد — ولا تزال عائلات إسبانية كثيرة بهذا الاسم إلى الآن.
ومثل: ابن بيبش (وهذا هو الاسم الذي دعاني لتحرير هذه الكمالة)، وهو اسم لجملة أدباء أندلسيين؛ منهم الغرناطي اللغوي الأديب أبو عبد الله محمد بن بيبش (Ibn Vivax) من شيوخ وزير الأندلس المشهور بابن الخطيب. وأصل اسم العائلة من كلمة إسبانية لاتينية (Vivas وVives) مشتقة من فعل معناه الحياة والعمر والمعيشة — وربما كان صاحبنا الدون أنطونيو فيفس المذكور بالمتن من نسل هذه العائلة، فإذا صح ذلك الظن تكون أصلها إسبانية، ثم استعربت ثم استسبنت (أي صارت إسبانية كما كانت)، ويكون الحكم كذلك في بقية العائلات المذكورة في هذه النبذة.
ومثل: ابن بشكوال Ibn Paxcual وهو الشيخ العالم أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بَشكوال من مشاهير المؤرخين من أهل قُرطبة، وله كتب كثيرة جزيلة الفائدة؛ منها: كتاب «الصِّلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم»، وهو حجة ثقة واسمه مشتق من Pascual من كلمة لاتينية Paschalis ومعناها المنتسب لعيد الفِصح، ولا يزال بإسبانيا وأوروبا عائلات كثيرة بهذا الاسم.
ومثل: ابن الأقشتين، وهو لقب لكثير من الأندلسيين منهم الأديب محمد بن موسى بن هاشم، وهذا الاسم من كلمة إسبانية Agustin فرنساويتها Augustin ولاتينيتها Augustinus ومعناها العظيم الجليل.
ومثل: ابن الباذش وابن البيذش Ibn-al-Pedex، وهي كلمة إسبانية لاتينية، نصَّ ابن الأبار على أن معناها القدمان؛ أي الرجلان Pedes، وهو لقب لأديب غرناطي توفي سنة ٥٢٨.
ومثل: ابن برال Borrel وBurriel، وهو أبو بكر من مشاهير أدباء الأندلس ولا يزال لقبًا لعائلات إسبانية كثيرة.
ومثل: ابن بشتغير (Ibn Baxtagair) وهو من أدباء الأندلس واسمه أبو جعفر، ولقبه من كلمة لاتينية Bastagarius معناها الموكل بنقل أمتعة الدولة أو الكنيسة في الاحتفالات العمومية.
ومثل: الرُّشاطي، وهو النسَّابة الأندلسي أبو محمد الرشاطي Arroxati، وهذا الاسم مشتق من كلمة إسبانية (روسيتا Roseta بمعنى الوُرَيْدة تصغير وردة).
ومثل: ابن الرومية، وهو لقب لأحد مشاهير علماء النبات من أهل إشبيلية، وبما أن عادة العرب النسبة إلى الأب لا إلى الأم إلا في أحوال استثنائية قليلة جدًّا؛ فلذلك يخيل لي أنهم أبقوا له هذا اللقب دلالة على أصله، كما فعلوا بالنسبة لابن القُوطية أحد مشاهير كُتاب الأندلس، فإن العرب أطلقوا اسم القوطية La Goda بالإسبانية وLa Gothe بالفرنساوية على سارة Sara حفيدة الملك القوطي ويتيزا Witiza أو Vitiza المعروف عند العرب باسم غِيطشه، وربما كان الرجل من نسلها.
ومثل: ابن غَرسِية وهو لقب لكثير من الأندلسيين، منهم الفقيه العلامة عبد الرحمن بن أحمد، وهذا اللقب إسباني محض، وكان في القديم يكتب هكذا Garsea وGarsia وGarseas وGarseanus، ولا زال لقبًا لعائلات إسبانية كثيرة.
ومثل: ذو الوزارتين السَّرقسطي ابن غُنْدَشَلْب، وكان صاحب جاه عظيم ونفوذ كبير في دولة بني هود بمملكة الثغر الأعلى؛ أي مملكة سرقسطة، وله شعر جيد. وهذا الاسم إسباني محض Gonzalo وGonzalve وGonzalez إلخ، ولا يزال لقبًا لكثير من العائلات.
ومثل: ابن فورتش، وهو لقب لبعض علماء الأندلس (ولاتينيته Fortis بمعنى قوي شديد). ولا يزال لقبًا لكثير من العائلات الإسبانية الآن.
ومثل: ابن كُنبراط Comparath وهو من أهل بلنسية العارفين بالطب، وعنه أخذ القاضي أبو الوليد بن رُشد Averroés فيلسوف الأندلس المشهور. وهذا اللقب إسباني محض.
ومثل: ابن ليون، لقبٌ لأبي عثمان العالم الأديب الناشئ بمدينة ألمرية Almeria، ولأبيه أبي جعفر من علماء الفلاحة المبرزين ومن شيوخ الوزير ابن الخطيب. وهذه الكلمة إسبانية محضة leon تجيء من اللاتينية، leonis بمعنى الأسد، ولا زالت لقبًا لكثير من العائلات الإسبانية الآن.
ومثل: ابن سَلْبَطور، من مشاهير علماء الأندلس، وهذا اللقب مستعمل إلى اليوم. وهو بالإسبانية salvador، وبالطليانية Salvatore، وبالفرنساوية Sauveur، ومعناه المخلص والمنقذ والمنجي، وهو عَلَم في العادة عند النصارى على سيدنا عيسى عليه صلاة الله وسلامه.
ومثل: ابن فِيره، لقبٌ للعالم الأندلسي المشهور صاحب الشاطبية، وقد نص ابن خلكان على أنه لقب إسباني معناه الحديد. واعلم أن الحديد يسمى عند أهل الفرنساويين Fer، وعند الطليانيين Ferro، وكان يسمى كذلك في القديم عند أهل إسبانيا مشتقين له من اللفظة اللاتينية، ولكنهم اليوم حرفوه فلا يقولون «فِيره Ferro» إذا أرادوا ذكر الحديد بل يقولون من باب التحريف «هييره Hierro». وهم لا ينطقون بحرف مقابل الهاء ولكنهم يقولون عن السكك الحديدية: Ferrocariles وCaminos de hierro، فترى أن كلمة «فيره» لا زالت باقية عندهم في بعض التراكيب.
ومثل: ابن فورتون وابن مورجون لكثير من علماء الأندلس، وهما لقبان إسبانيان محضان لا يزالان مستعملين إلى اليوم Morejon وFortun.

وقد اطلعت على أسماء كثيرة للأندلسيين، وليست من العربية في شيء على الإطلاق؛ مثل تومرت وأنجلينو وأشقيلولة ومردنيش وهمشك وكثير غيرها، ولكنني لم يتيسر لي إرجاعها إلى أصولها الإفرنكية وسأستوفي ذلك في فرصة أخرى إن شاء الله.

ومن الأمور التي يجب ذكرها تكملة لهذه الكمالة أن أهل الأندلس المسلمين تفردوا بزيادة الواو والنون في آخر ألقابهم، بخلاف المشارقة، كما تفرَّد بعض الأعجام بزيادة «ويه» في سيبويه ونفطويه وعمرويه وخالويه ومردويه ومزرويه وحيويه وشاهويه ودرستويه وراهويه ورزقويه ومادويه وقاذويه وشيرويه وكاكويه وحمويه ورحمويه إلخ، وكما تفرد الأرمن بزيادة «يان» و«آن» في آخر أسمائهم، وكما تفرد الروس بزيادة «أوف» و«إيف»، ولا حاجة لإيراد الأمثلة هنا فإنها مشهورة، سوى أني أقول إن بعض أهالي إيران والجركس وغيرهم من التابعين الآن لروسيا ملزمين بإضافة «أوف» على أسمائهم، وقد لاقيت في المؤتمر عالمًا فارسيًّا من هذا القبيل اسمه «أحمد أغايف بك؛ أي أحمد أغا بك».

واعلم أن نظير هذين الحرفين «الواو والنون» أي: on في اللغات الإفرنكية، وخصوصًا الإسبانية إذا وضعا في آخر كلمة إفرنجية أفاداها القوة والشدة والتفخيم. وكأني بالأندلسيين أرادوا هذا المعنى من باب التسامي على المشارقة. ومثال هذه الأسماء مضافة إلى لفظة ابن: بدرون. برون. بكرون. جبرون. جلفون. حبرون. حبنون. حضرون. حفصون. حكمون. حمدون. حنون. حيون. خلدون.٢٧ خلفون. خيرون. دحون. رزقون. زرقون. زقنون. زكون. زيدون. سحبون. سعدون. سلبون. سلمون. سمحون. سمجون. سهلون. شبطون xabaton. ضيفون. عبدون. عبيدون (وفي هذا الاسم تصغير بالعربي وتكبير بالإفرنجي). عجلون. عسلون. عفيون. عمرون. عيسون. عيشون. غدرون. غلبون. فتحون. فحلون. فرحون. قلمون. قنون. لطفون. وهبون. يسعون. يشعون. يحيون.

واعلم أن زيادة الواو والنون تعدت أيضًا إلى بعض أسماء النساء، نذكر لك اسم الشاعرة نزهون، وهي من أشعر نساء الأندلس، ومن أكثر المشتغلين بالنظم بديهة وإجادة، كانت تسكن بغرناطة ولها واقعة حال مع شاعر أعمى من المشارقة تدل على شدة بديهتها حينما طارحته الشعر في حضرة أحد الأمراء، ولولا ما فيها من بعض الإخلال بالأدب لذكرتها من باب التفاخر بها، ولكن ذلك لا يمنع الطالب من البحث عليها في كتاب «نفح الطيب» المطبوع في بولاق صحيفة ٩٠ و٩١ و٩٢ وأخبارها في صحيفة ١١٤٦ و١١٤٧ من الكتاب المذكور، وقد أورد الضبي شيئًا من أشعارها في كتاب «بُغية المُلتمس في تاريخ أهل الأندلس» في صحيفة ٥٣٠ (نمرة ١٥٨٨) من النسخة المطبوعة في مدريد سنة ١٨٨٥.

ونذكر أيضًا اسم شاعرة أخرى مشهورة وهي سَعدونة، فقد أضيف إلى أمها علامة التأنيث.

والأغرب من ذلك أن بعضهم أضاف على اسمه حرفي الواو والسين، وهما علامة الانتهاء في اللغة اللاتينية Us ومثال ذلك: أحمدوس. أنسوس. عبدوس. عمروس. طحلوس. طملوس. فالوس. فرعوس. فرغلوس. قبتروس. قبيلس. ومنهم من يسمى حمديس، وهذان الحرفان الانتهائيان هما أيضًا من خصائص اللغة اللاتينية (Is) كما لا يخفى على العارف. واعلم أن هذه الأسماء التي ذكرناها هي أعلام لعلماء ترى تراجمهم في كتب ابن الأبار وابن الفَرضي والضبي وابن بشكوال و«نفح الطيب» وابن خلكان ودائرة المعارف و«آثار الأدهار»، ومجموعة القطع العربية التي انتخبها العلامتان الإسبانيان (Lerchundi y Simonet) لرتشندي وسيمونيت و«المعجم العربي الإسباني» الذي ألحقاه بكتابهما المذكور.
واعلم — أيدك الله وأبقاك — أنه لما آل أمر بقاياهم بالأندلس إلى منتهاه من التلاشي والاضمحلال، وتناسوا اللغة العربية وأساليبها مرة واحدة أهملوا لفظة «ابن» واستبدلوها بعلامة الإضافة في اللغة القشتالية وهي «دو»، فكانوا يقولون: (فلان دو فلان) أي: (فلان من) أو (ابن فلان) ولقد نبهني بعض الفضلاء إلى أن الإفرنج قد يكونون استعملوا لفظة (ذو de) في إضافة الأسماء والألقاب الخاصة بعائلاتهم الشريفة نقلًا عن استعمال العرب اليمانيين، الذين يستعملون لفظة (ذو = صاحب) أمام أسمائهم. وإني وإن لم يتيسر لي استكمال البحث واستيفاء المراجعة لا أرى مانعًا من الظن بأن الإفرنج قد أخذوا ذلك عن أهل اليمن، خصوصًا وأن التبابعة والأقيال كانوا يوالون الغزو في جهات الشمال من آسيا وفي بلاد فارس والهند، ومن المحتمل أن كبار عائلات البلاد التي أخضعوها أو مروا بها قد تشبهوا بهم في التكنية بألقاب الشرف كما يحصل عادة من تقليد الأمم المستضعفة للأمم القوية العلية الشأن، ولا يجهل الباحثون الواقفون على ارتباط اللغات ببعضها أن بين اللغات الفارسية والهندية، وبين اللغات الأوروباوية ارتباطات ومشابهات كثيرة جدًّا فيما يتعلق بأصوال الألفاظ والتراكيب النحوية والأساليب الصرفية، وطرائق التعبير وغير ذلك من العلاقات والمناسبات التي لا تنكر.

وإني أذكر لك الآن أسماء بعض ملوك اليمن الذين تصدرت ألقابهم بلفظة (ذو): ذو الأذعار – ذو أصبح – ذو الأعواد – ذو جدن – ذو جيشان – ذو رعين – ذو رياش – ذو سدد – ذو شدد – ذو الشناتر – ذو الصرح – ذو ظلم – ذو فائش – ذو القرنين – ذو إقلاع – ذو كرب – ذو كلاع – ذو مرثد – ذو المنار – ذو مهدم – ذو نفر – ذو نواس – ذو هجرس – ذو هرب – ذو يزن – ذو يمن.

وكذلك وردت أعلام جغرافية كثيرة في بلاد اليمن وغيرها مُصدَّرة بهذه الأداة (ذو)، ولعلي أستكمل البحث عن ذلك في فرصة أخرى.

ونرجع الكلام على ما يتعلق ببقايا الأندلسيين في هذا الموضوع فنقول: إنهم بعد أن تناسوا لفظة (ابن) وصاروا يقولون (فلان دو فلان) استبدلوا لفظة السيد بالكلمة المقابلة لها في اللغة القشتالية (الدون)،٢٨ كما يفعل الآن بعض العوام من وضع كلمة موسيو الفرنساوية أمام الأعلام العربية في الكتابات والمخاطبات على ما هو مشاهد اليوم، ومثال ذلك عندهم الدون عيسى دو جابر الفقيه الأكبر والمفتي بجامع شقوبية (Ségovie) في سنة ١٤٦٢ إفرنكية، فإنه ألف كتابًا جليلًا في الفقه الإسلامي باللغة الأعجمية (الألخميادو) التي سبق لنا الإشارة إليها، وقد طبعتْ هذا الكتاب جمعية التاريخ الملوكية بمدريد في سنة ١٨٥٣ (في الجزء الخامس من مطبوعاتها)، وعندي نسخة منه تدل على غزارة فضله وواسع علمه.

وقد بلغني من بعض العلماء أن بعض المراكشيين المتوطنين على الساحل يستعملون ذلك التلقيب اليوم. والأغرب من هذا وهذا ما بلغني في مدريد من بعض أهل السياحة والتحقيق أن الأعراب البدويين المتوطنين في صحاري مراكش — أي بعيدًا عن الساحل بمسافات شاسعة تمنع خيال الظن بوجود أي تأثير للاختلاط مع أهل إسبانيا الآن — لا يزالون يستعملون هذه الطريقة في التسمية: أي وضع كلمة «دو» في المكان الذي يضع فيه بقية العرب لفظة «ابن»، وهذا دليل على اتصال نسبتهم بالأندلسيين الذين أخرجوا من ديارهم. هذا وقد رأيت عند الدون بابلو خيل في سَرقسطة حُججًا شرعية وصُكُوك معاملات ووقَفيات مكتوبة باللغة الأعجمية (الخميادو)، وفيها «الدنيا عائشة»؛ أي السيدة عائشة والدون فلان وهكذا.

ثم أقول — من باب الاستطراد غير متعرض في هذا المقام إلى استكمال البحث، فإنني أريد توفيته في فرصة أخرى — إن الإسبانيين وقع منهم مثل ما وقع من العرب، فإن الناظر إلى أسمائهم لا يعسر عليه أن يتعرف فيها أعلامًا عربية قد يكون بعضها مأخوذًا بالوراثة وبعضًا عفوًا أو لمناسبة أخرى.

ومثال ذلك Codera وهو قديرة (ولا يزال الحاج قديرة والحاج قدور من أسماء أهل طرابلس وتونس والجزائر ومراكش)، ومثل Zaidyn زيدين، وAbad؛ أي: عباد، وAlvarez الفارس، وAlvarez del campo أي: فارس الميدان، وBaguer الباقر، وMoreira مريرة وSofi صوفي، وFerran فران، وAlmenara أي: المنارة، وAlcayde القائد، وAlcalde القاضي (ولا يزال هذا اللقب عندهم مرادفًا للمحافظ والمدير وحاكم البلد، كما كان يسمى عند العرب بالقاضي، إذ له اختصاصات كثيرة في الشرع الشريف، ويسمى عند الفرنساوية Alcade، وإن كان الإسبانيون أضافوا لامًا L من باب التحريف في قولهم: Alcalde، فإنما ذلك لإظهار تفخيم الضاد)، وRabadan رمضان (الباء حلت تحريفًا محل الميم العربية)، وNasarre نصار (والإسبانيون ينطقون بحرف S سينًا على الدوام مهما كان موقعه بين الحروف الأخرى)، وCalaf خلف، وMaymon ميمون، وAlvaro البر، وMeaza معازة، وAlfageme الحجام إلخ.
وهذه الأعلام كلها لأناس موجودين في إسبانيا الآن، رأيت بعضها في كتب الدلالات وعرفت بعضهم بنفسي. ومن ينظر إلى أعلام الإسبانيين الآن يرى في آخر أكثرها هذين الحرفين، وهما على ما تأكدته علامة على البنوة، فكل اسم في آخره ذلك يكون معناه ابن فلان؛ مثل Fernando أي: فرنندو ثم Fernandez أي: ابن فرنندو، وهكذا في جميع الأسماء، ولم أر ما يشبه ذلك في بقية اللغات الإفرنجية التي اطلعت عليها، نعم إن كثيرًا من أسماء الإنكليز تنتهي بمرادف لفظة ابن وهي سن أو سون Son مثل سامويلسن وروبرتسن وجونسن، ونحو ذلك ولكنها لا تشعر بالدلالة على البنوة، وربما كان هذا المعنى مفهومًا منها في أول الأمر، ثم تنُوسي الآن مرة واحدة بخلاف ما هو في إسبانيا.

وهذا ما يدعوني إلى الظن بأنه أثر باقٍ من آثار العرب الذين ينتسبون على الدوام إلى الأب مع لفظة ابن، والذي يُقوي ذلك الظن أن هذه الزيادة في آخر الأعلام الإسبانية تشبه تمام المشابهة لفظة «زاده» و«أوغلي» التي تضاف على أواخر الأعلام التركية، والله أعلم.

هوامش

(١) وقد ورد اسمها في كتب العرب إشبانيا، وفي كتاب مختصر الدول لأبي الفرج إسفانيا.
(٢) وما زلنا إلى الآن نقتبس أنوار الهدى من مؤلفاتهم القليلة التي استبقتها يد الصدفة، فنجت من التبديد والتمزيق، وسأشير إلى بعضها في الرحلة.
(٣) إن العلامة الفرنساوي جرنجره ديلا جرنج (Grangeret dela)، (Grange) طبع في باريس سنة ١٨٢٣ كتابًا سماه «نخب الأزهار في منتخب الأشعار، وأذكى الرياحيين من أسنى الدواوين» جمع فيه كثيرًا من مستجاد شعر المتنبي بشرح الواحدي له، وشعر ابن الفارض وشرحه والصفدي ومن فتوح الشام للواقدي ولجملة شعراء متعددين، ثم ترجم ذلك كله إلى الفرنساوية، وعلق عليه كثيرًا من الحواشي الأدبية والانتقادية، وأورد في جملتها قصيدة أبي البقاء هذه نقلًا عن نسخة من نفح الطيب في مكتبة باريس، وهي مترجمة بغاية الدقة والضبط، ولما كان الناقل أخطأ في نقل بعض الكلمات فترتب على ذلك أن ترجمة بعض الأبيات جاءت مختلة، فأحببت التنبيه على هذه الأبيات هنا لإكمال الفائدة.
(٤) نقلها العلامة لا جرانج المذكور هكذا (ساده شداد) بالسين المهملة وترجم بما معناه السيادة ولا معنى لذلك، إذ المقصود المباني والآثار التي أقامها شداد في إرم المشهورة بمبانيها الفاخرة.
(٥) أوردها العلامة المذكور (فامتحنت) وهي بالبناء المجهول والمعنى واحد.
(٦) … (وبها بالكفر إلخ) وهي غلط في الطبع.
(٧) وفي رواية أخرى (تغر المرء أوطان)، وإني أستحسن قوله: (لعز المرء)؛ أي الأندلسي؛ لأنه صار لا وطن له.
(٨) استبدل العلامة ديلا جرانج لفظة (السبق) بقوله (السيف) وترجم بهذا المعنى وهو غلط واضح.
(٩) وفي رواية أخرى (في مُثار النفع)، والمعنى صحيح لكن الظلام أنسب لظهور النيران فيه بوضوح أكثر.
(١٠) أورد العلامة ديلا جرانج (عند بيعهم) وهو واحد غير أنه قدم هذا البيت على الذي قبله، وهو غلط يدل عليه سياق الكلام وانسجام المعاني.
(١١) أورد العلامة ديلا جرانج الشطر الأول من هذا البيت هكذا (يا رب أم وطفل جبل بينهما)، وترجم بما معناه (يا الله هل يلزم أن جبلًا يوضع بين الأم وأولادها وأن الأرواح تُفصل عن الأجساد)؛ وهو غلط مبين؛ لأنه تصور أن رب بضم الراء هي رب بفتحها، واللفظة الثانية من أسمائه تعالى، وأما الأولى بمعنى ربة، وربتما وربما من حروف الجر للتقليل في الشهور وللتكثير، وقيل: بل إنهما يستفادان من سياق الكلام. ثم إنه أخطأ في قراءة (حيل)، فوزع النقطتين على الحرفين، فرأى (جبل) وهي قراءة يترتب عليها هد بيت الشعر، وكان الرجل عارفًا ببحوره وأوزانه كما يستدل عليه من شرحه للقصائد التي في كتابه.
(١٢) أرسلت في ذلك الوقت نسخًا من هذه الجرائد إلى العاصمة لبعض أصدقائي.
(١٣) مجريط بفتح الميم كما ضبطه ياقوت في معجم البلدان، وقد عقد العلامة أحمد فارس المشهور فصلًا في كتاب «الجاسوس على القاموس»، أشار فيه إلى بعض انتقادات جغرافية على الفيروزأبادي بمناسبة ذكره لبعض بلدان الأندلس في قاموسه، ولكن وقع صاحب الجاسوس نفسه في وهم أرى من الواجب إصلاحه في هذا المقام، وبيان ذلك أن المجد ذكر بلدًا اسمه النبرة وقال إنه من عمل ماردة، فجاء صاحب الجاسوس (صحيفة ٣٠) معقبًا لهذه العبارة بالتفسير قائلًا: (أي مدريد.) وأقول: إن ماردة Mérida بلد ومدريد بلد آخر، وماردة في الجنوب الغربي بقرب بطليموس Badajos على تخوم البرتغال ومدريد في الوسط. وماردة كانت بلدًا مشهورًا جدًّا في أيام العرب، ولا يزال فيه إلى الآن آثار جليلة تشهد بفخامته بخلاف مدريد، فإنها عند العرب مجريط وكانت في أيامهم عبارة عن حصن ليس إلا.
(١٤) تسمى عند العرب مدينة الأملاك؛ أي الملوك، لكون اللاتينيين كانوا يسمونها بذلك أيضًا (Urbs Begia)، وكانت تسمى عند الرومانيين كذلك (Toletum) وبالتصغير (Toletula)، ومنه الاسم العربي طليطلة. وقد ورد اسمها في قليل من كتابات العرب توليطه مثل التسمية الإسبانية، ويقول مؤرخو العرب إن معنى توليطه بلسان قيصر «أنت فارح».
(١٥) هذا هو اسمها في كتب العرب، لا بورتغال أو بورتكال أو بغير واو فيهما.
(١٦) يذكرها العرب باسم لشبونة وإشبونة والإشبونة.
(١٧) ليتنبه القارئ إلى أنه منهم فلذلك هو يصوب رأيهم.
(١٨) هذا هو اسمها الحقيقي في كتب الجغرافية العربية القديمة وابن الأثير في حوادث سنة ١٤٠ في الجزء الخامس. وقد وهم صاحب دائرة المعارف حيث سماها سلمنقة بالسين المهملة، ثم خلط بينهما وبين بلد أخرى اسمها طلمنكة فقال إنه اسمها في بعض كتابات العرب، والصواب غير ذلك، فإن طلمنكة Talamanca بليدة في ولاية مدريد في وسط الأندلس كانت من أعمال طليطلة في أيام العرب، وأما شلمنقة فهي في الشمال من ولاية جليقية التي قد يسميها العرب غليسية Galicie.
(١٩) وهي مدينة ثانية قائمة على قلة الجبل وأما غرناطة فهي في سفحه.
(٢٠) مرج غرناطة يعرف عند الإفرنج بهذا الاسم (La vega)، وهو كلمة إسبانية معناها المرج، ومن الغرائب أن الدون إيجيلاذ (Eguilaz) وهو من أعيان أهلها ومن نبهاء المشتغلين بالآداب والآثار العربية قد أطلعني على صورة إله مصري طولها ٨ سنتيمترات، ومنقوشة بالحروف الهيروغليفية، وأخبرني أن أحد الفلاحين قد عثر عليها في المرج أثناء الفلاحة وتقليب الأرض، فنبهته إلى وجوب الاعتناء بهذه المسألة وموالاة البحث لما وراء ذلك من الفوائد التاريخية التي لا تنكر، كما علمت أن القوم عثروا بمدينة برشلونة على آثار مصرية كثيرة.
(٢١) جمع عقبة لكثرة العقبات التي بجانب مدينة طلوسه Tolosa في شمال إسبانيا، وتعرف هذه الواقعة عند الإفرنج بما هو ترجمتها Las Navas de Tolosa، وقد أشرت إلى الراية التي أخذها الإسبانيون منهم وهي في برغش.
(٢٢) فمن أكبر المصائب أن أبا عبد الله (المعروف عند الإفرنج باسم Boabdil، وهو الذي اضطر فيما بعد لتسليم غرناطة للإسبانيين) ثار على عمه أبي القاسم ملك غرناطة، فساعده على خلع الطاعة وشق عصا الجماعة الملك فردينند الكاثوليكي طمعًا في اشتداد الخصام واحتدام الفتنة؛ ليضعف كل من الأميرين المسلمين صاحبه ويبقى فتح غرناطة هينًا عليه، ثم توفي أبو القاسم فخلفه على سرير الملك أبو عبد الله المذكور فلم يلتفت فردينند إلى ما بينهما من سابق المؤالفة والمحالفة، بل استضعفه ورأى الغنيمة باردة فهجم عليه بجيوش قشتيلية وأراغون وبما جاءه من المدد الكثير من أوروبا، ومع ذلك لم يتمكن من فتح غرناطة إلا بعد ست سنوات، فإنه في آخر الأمر تمكن من حصارها ثمانية شهور، وساعده نزول الثلج وكلب الشتاء على قطع الطرق وتضييق الحصار، فجاءت الملكة إيزابلا لتحضر هذا الفتح بنفسها وتتمتع بالدخول إلى غرناطة. وقد تم التسليم بشروط وامتيازات تدل على أن المدينة كان في وسعها استمرار الدفاع، فإنه تقرر أن الفاتحين لا يمسون شيئًا من أموال المسلمين ولا شرائعهم ولا ديانتهم ولا حريتهم، وأن لا يتعرضوا لهم بأي وجه كان، بل إنهم يردون إليهم أسراهم من غير فدية. ومما يمدح عليه المسلمون وينبغي تسطيره في بطون التواريخ تخليدًا لمكارمهم أنهم اشترطوا أن يكون لليهود كل هذه الامتيازات أيضًا، وعلى هذه العهود خرج أبو عبد الله من غرناطة وسلم مفاتيحها لفردينند وإيزابلا. ويقول المؤرخون العصريون: إنه أذرف الدموع حينما رمى ببصره على هذه المدينة التي كانت في يد المسلمين منذ ٥٠٠ عام تقريبًا، فاضطرته الأقدار لتركها عامرة آهلة تفوق كل مدينة سواها، وقد رأيت في بعض التواريخ الإفرنكية أنه حينما خنقته العبرة وأفحمه البكاء قالت له أمه بيتًا من الشعر معناه: انتحب مثل النساء على ملك لم تقدر على حفظه مثل الرجال. ولم أقف للآن على لفظ هذا الشعر بالعربية غير أن الشاعر الأديب محمود أفندي واصف قد نظمه في هذا البيت:
ابك مثل النساء ملكًا مضاعًا
لم تحافظ عليه مثل الرجال
(٢٣) هذا المحل سمي كذلك لكونه كان سوقًا لأناس اتخذوا تربية الباز حرفة لهم، ويسمى عند الإفرنج Albaicin.
(٢٤) هذا الاستخراج مما ينبغي الالتفات إليه، وأقول إنه مما لم يتنبه إليه أحد من العلماء الباحثين على ما أعلم، وهذا من ضمن الفوائد التي تنتج من علم النقود والمسكوكات.
(٢٥) انظر النبذة التي وضعتها بخصوص أسماء الأعلام.
(٢٦) وكذلك السلطان محمد الثاني لما فتح القسطنطينية وبلاد الأغارقة (La Grèce) ترك أهلها يتمتعون بحياتهم بكل سلام وأمان، وأباح لهم ممارسة ديانتهم كأنه لم يطرأ عليهم شيء من الانقلاب وجرى على سننه الشريف خلفاؤه من بعده.
(٢٧) أذكر هنا من باب التفكهة أن أحد شعراء الأندلس، وهو أبو علي المالقي هجا العلامة ابن خلدون بهذين البيتين.
يا شاعرًا يتسامى
وجده خلدون
لم يكف أنك خل
حتى بأنك دون
وهذا شبيه بالشاعر الذي ذم نفطويه، والقائل أبو عبد الله محمد بن زيد بن علي بن الحسن الواسطي المتكلم المشهور قال:
من سره أن لا يرى فاسقًا
فليجتهد أن لا يرى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه
وصير الباقي صراخًا عليه
قال ابن خالويه: ليس في العلماء من اسمه إبراهيم وكنيته أبو عبد الله سوى نفطويه، وهو بكسر النون وفتحها، والكسر أفصح لقب بذلك لدمامته تشبيهًا له بالنفط.
(٢٨) وهي مستعملة عند أهل إسبانيا في مقابلة موسيو عند الفرنساوية وسير عند الإنكليز وسنيور عند الطليانية، وهي مختصرة من كلمة لاتينية Dominus ومعناها الرب والمولى والسيد، وقد أطلق هذا اللقب في أول الأمر على سادات إسبانيا ثم على ملوكها ثم هو الآن لقب التعظيم فيها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤