القسم الثالث

بؤساء الحظ

ومن البؤساء طائفة عاكسهم الحظ، وعاندهم الدهر؛ فضلوا سبيل القصد، وتاهوا في غياهب الظلم، ولم يبلغوا أملًا من دنياهم، وأصابتهم العلل في أجسامهم، ولم يقف بهم البؤس عند هذا الحد، فسلط عليهم المصائب فانقضَّت عليهم، ووقف أمامهم سوء الطالع وما استطاع أن يحوِّلهم عن مطامعهم، ولما فقدوا عقيدة الأمل الذي كانوا به يتعللون؛ تركوا دنياهم ليتخلصوا مما هم فيه، وماتوا بحسرة لا تنتهي عنهم، وشجون لا يحصرها عدد.

ابن دُريد

figure

هو محمد بن الحسن بن عتاهية الأزدي الملقب بابن دريد، العالِم المتفقه اللغوي البصري، إمام عصره في اللغة والأدب والشعر الفائق الذي كان يستهوي القلوب سماعه.

كان رحمه الله كثير الخلاعة والمجون والمنادمة والشجون، رقيقًا مبدعًا، مع إحكام قوافي الشعر ومبانيه. يُضرب بعلمه وفنونه المثل، وله بين إخوانه ليالٍ كلها أسحار، ومجالس كلها طرب.

قيل إنه جاوز التسعين من عمره وهو يشرب الخمر، وكان من بؤسه إدمان داء الخمر الذي هو علته وآفته. «وقال ابن شاهين»: كنا ندخل عليه نستفتيه في فتوى، أو نستفهم منه عن بعض ملتبسات لغوية، فتعترينا هيبته وهو في مجلسه، ولكننا نخجل ونستحي من رؤية العيدان وآلات الطرب المعلَّقة، وأواني الشراب المصفوفة.

وقال رشيد الدين العناني:

كان ابن دريد علَمًا من أعلام العلم، وطودًا من الأطواد الشامخة، يُضرب بعلمه وذكائه المثل، كما صار مثلًا من الأمثال الشائعة بخلاعته ومجونه.

وكان يحتفل بمجلس أنس تتهافت عليه عشاق الطرب والحظوظ. وفي ذات يوم ذكرناه فوجدنا العلَّامة المقَّري عناه في ميميته المشهورة بقوله:

أين الذين تفيئوا
ظل السعادة والزعامه؟
وتعشَّقوا لما بدا
لهمُ محيَّا الأرض شامه
والزاعمون بجهلهم
أن القبور صدًى وهامه
والمكثرون من المجو
ن إذا شكا الفكر اغتمامه
أين الغريض ومعبد
أو أشعب وأبو دلامه؟

ومن الأمثال الشائعة فيه ما قاله عنه أبو منصور ظافر الحداد من ذاليته المشهورة:

تالله ما علقت محاسنك امرأً
إلا وعز على الورى استنقاذه
أغريت حبك بالقلوب فأذعنت
طوعًا وقد أودى بها استحواذه
ما لي أتيت الحظ من أبوابه
جهدي فدام نفوذه ولواذه
إياك من طمع المنى فعزيزه
كذليله وغنيه شحاذه
ذالية «ابن دريد» أستهوي بها
قومًا غداة نبت به بغداذه
دانوا لزخرف قوله فتفرقت
طمعًا به صرعاه أو جذاذه
من قدر الرزق السني لك إنما
قد كان ليس يضره إنفاذه

وكان ابن دريد رحمه الله على ما هو عليه من الحظوظ ومعاقرة الراح والإدمان على الخمر وانغماسه في موبقاته عالِمًا خطيبًا، بل هو أفقه أهل زمانه وأعلمهم وأزكاهم.

وليس به من نقص يذكرونه فيه إلا تعاطيه الخمر، واندماجه دائمًا في دائرة المجون، وانكبابه على خلاعته، الأمر الذي نفَّر العلماء والعظماء منه، حتى تآمر عليه ونفوه من بغداد، وأصابته الفاقة.

شهاب الدين السُّهروردي

هو أبو حفص عبد الله البكري الملقب ﺑ «شهاب الدين السُّهروردي»، نسبةً إلى بلدة سُهرورد التي وُلِد بها «سنة ٥٣٩ هجرية»، ويُعرف بالشهاب. كان أوحد زمانه في الفلسفة والحِكم البالغة، مفرط الذكاء، حسن العبارة، متبحر في العلم والأدب، وله تصانيف كثيرة، منها؛ «الهياكل»، و«التلويحات»، و«الرقم القدسي في تفسير القرآن»، و«اللمحات في المنطق». نال حظه من العلم والذكاء، إلا أنه من سوء حظه رُمي بالزندقة عند السلطان صلاح الدين الأيوبي؛ فخاف أن يهدر دمه فهرب إلى الشام.

figure

ولما دخل حلب اجتمع بالملك الظاهر غازي، فأعجبه كلامه ومال إليه؛ فكتب أهل حلب إلى والده السلطان صلاح الدين بما معناه: «أن أدرك ولدك وإلا أتلفه الشهاب السهروردي.»

فكتب السلطان صلاح الدين إلى ولده الظاهر بالابتعاد عن شهاب الدين، وأمره بطرده من حلب فطرده، ثم أمره بقتله فهرب. وكان الشهاب السهروردي على قوة رسوخه في العلم، زرئ الخلقة، دنس الثياب. توفي فقيرًا بائسًا «سنة ٦٣٢ هجرية». ومن محاسن شعره في التصوف قصيدته الحائية، وهي:

أبدًا تحن إليكم الأرواح
ووصالكم ريحانها والراح
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وا رحمتا للعاشقين تكلَّفوا
سَتر المحبة والهوى فضَّاح
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباح
وإذا همُ كتموا تحدَّث عنهم
عند الوشاة المدمع السفاح
وبدت شواهد للسقام عليهمُ
فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكمُ
للصب في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مرتاحة
وإلى رضاكم طرفه طماح
عودوا بنور الوصل في غسق الجفا
فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهمُ فصفوا له فقلوبهم
في نورها المشكاة والمصباح
وتمتعوا فالوقت طاب لقربكم
راق الشراب ورقت الأقداح
يا صاح ليس على المحب ملامة
إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوةً
فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفا ودموعهم
بحر وشدة شوقهم ملَّاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه
حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم
أبدًا فكل زمانهم أفراح
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
فتهتَّكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهمُ عنهم وقد كُشفت لهم
حُجُب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح

قطب الدين الشيرازي

figure

«قطب الدين الشيرازي» هو محمود بن مصلح الشيرازي، إمام عصره في المعقولات، وكان في غاية الذكاء، وله تصانيف مشهورة، وهو من طبقة العلماء المعدودين، ومن الكرام المطبوعين على الفضل، إلا أنه كان متهاونًا بالدين، محبًّا للخمر، وكان من سوء حظه الجلوس في مجتمعات المساكر وحلقات المساخر، ومع ذلك كان محبوبًا عند الأمراء، معظمًا عند الملوك، وكل منهم يعطف عليه، ويجزل له العطاء، ويجد فيه النديم المسامر. وكان له بين أصحابه وعارفي فضله منزلة سامية. ولم يكن فيه ما يشين غير انحرافه عن مبدأ العظماء ومكانة العلماء.

وكان على هذه الصفات معروفًا بين معارفه بتعيس الحظ، وبعضهم يدعونه ببائس الحياة.

وله من التصانيف والمؤلفات بدائع شتى تنبهر منها العقول. وله في وصف الحياة:

الحياة على حالتها وما فيها من علل وآلام، وقيود وأغلال، وسراء وضراء؛ تبدو لنا زاهيةً جميلة.

الحياة على كثرة همومها وما نقاسيه من أمراضها الوبيلة نهيم فيها عشقًا، ولا نطيق الرحيل منها؛ لأننا نجد في الموت عقائد ما عرفناها بعد.

الحياة على علاتها جميلة فاتنة تسحر العقول، وتلعب بالألباب، وهي كالهالة بين متناقضات من الأحزان والأشجان، وكوارث الزمن وشقاء العمر والآلام الثقيلة، ولكنا وسَط هذه الآلام تقودنا الآمال العذبة فنتعلل بها؛ وحينئذٍ يظهر لنا الكون باسمًا ضاحكًا، والحياة خضراء ناضرة، والطيور تغرد بألحانها الشجية، والمياه تضطرب بين أمواج متراكمة، والنسيم يهب عليلًا بليلًا، كأنه ترديد أنفاس الطبيعة الخلابة. توفي رحمه الله سنة «٧١٠ هجرية».

أبو الحسن علي بن صاعد الصدفي

figure

هو العالم الفلكي المشهور المعروف ﺑ «ابن يونس المصري»، صاحب الزيج الحاكمي المعروف ﺑ «زيج ابن يونس»، وقد وضعه في أربعة مجلدات كبار. وكان ابن يونس المذكور أبله مغفلًا، بائس الحظ في الدنيا. وكان غريب الشكل؛ يجعل عِمامته على طرطور عجيب الوضع، وكان إذا لبس العباءة في فصل الشتاء يجعلها فوق الطرطور. وكان طويل القامة جدًّا، إذا مشى نظر الناس إليه باستغراب، وإذا ركب على دابة ضحك الناس عليه لطول ساقيه؛ إذ يكادا أن يكونا مرتفعين عن الأرض قليلًا. وكان سيئ الحال رث الثياب، وله مع هذه الهيئة منزلة عظيمة، بل هو أعلم الناس بحرفة التنجيم، وأمهرهم في علم الفلك، ولا جدال في ذلك، وعلى نبوغه لا يشاركه فيها أحد.

وكان متفننًا في علوم شتى. «ومن أخباره» أنه دخل يومًا على الحاكم بأمر الله الفاطمي، صاحب مصر في ذلك العصر، والحاكم على ما هو مشهور عنه كان ظالمًا غشومًا مستبدًّا كثير الأضاليل والزندقة. فلما دخل مجلسه وضع مداسه في يده وقبَّل الأرض بين يديه، وجلس والمداس إلى جانبه، والحاكم بأمر الله ينظر إليه باستغراب. ولما أراد الانصراف من حضرة الخليفة قبَّل الأرض ولبس مداسه، فضحك عليه الحاكم ضحكًا شديدًا وأسماه «المنجم الخليع»؛ فالتصق عليه هذا الاسم وعُرف به.

عاش طول عمره وهو يكافح الأهوال ويعاني المصاعب، مع سوء حاله وضيق ذات يده، وما زال في اجتهاد مستمر حتى انتهى من زيجه المعروف، والناس غير مصدقين ما هو عليه من قوة العلم. وقد كذَّبوا من تعرَّض بذكره، فعاش موصومًا بالجنون واختبال العقل. على أنه كثيرًا ما تنبأ بحصول حوادث بمصر، وأخبر عنها قبل حصولها، وصدق فيها فعلًا؛ فكان من الناس من صدَّق، ومنهم من كذَّب.

ومكث فقيرًا معدِمًا لا يمتلك شيئًا، ولما حانت وفاته أوصى بعض من يثق بهم بإظهار زيجه المعروف. ولما انتهت حياته ظهر فضله وعرف الناس قوة إدراكه، وحينئذٍ شهد له العلماء، واعترفوا بنبوغه وتفوُّقه.

وكانت وفاته «سنة ٣٩١ هجرية».

حسين بن محمد الإربلي

figure

الشاعر الضرير، تلميذ أفضل الدين الخلنجي، كان شاعرًا بصيرًا بالعربية، بل أستاذًا في العقليات كلها، إلا أنه كان فيلسوفًا رافضيًّا تاركًا للصلاة. «ومن بؤسه» أنه كان رث الثياب زرئ الشكل، عظيم الهيئة ضخم الجسم، يصدر منه ما يُحس بفساد العقيدة والانحلال. ابتلاه الله بالعمى وبطلوعات وقروح في جسمه، وكان من شدة فاقته لا يجد ثمن ما يغتسل به؛ حتى أصبح قذر الجسد والثياب، لا يتوقى النجاسة.

ومن طباعه المذمومة فيه أنه كان يهين السادات، ويطعن في الأكابر إذا حضر مجلسهم، وكانوا يكرهونه كرهًا شديدًا، ومع كل ذلك كانوا بالرغم عنهم يعظمونه ويبجلونه إكرامًا لعلمه. وكان رحمه الله مهيبًا محترمًا، وهو من أبلغ علماء عصره، ومن الخطباء المعدودين. توفي «سنة ٦٦٠ هجرية».

محمد بن هانئ الأندلسي

figure

هو أبو الحسن محمد بن هانئ الأزدي الأندلسي، الشاعر المشهور، «من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن الملهب بن أبي صفرة»، كان شاعرًا مُجيدًا. وُلد بإشبيلية «سنة ٣٣٠ هجرية»، واتصل بصاحب إشبيلية وحظي عنده، ثم ارتحل إلى عدوة وهي «مدينة الزاب»، وامتدح واليَيها جعفر ويحيى ابنا علي، وكانا بالمسيلة؛ فبالغا في إكرامه. ونما خبره إلى المعز لدين الله الفاطمي فطلبه منهما، فلما وصل إليه مدحه بغرر القصائد فبالغ في الإنعام عليه بعطايا جزيلة يندر أن يهبها ملك إلى شاعر مثله. امتدح جوهر الصقلي قائده وغيره من أعيان الدولة. ولم يكن في المغاربة أشعر منه، وكان عندهم كالمتنبي عندنا بالشرق، وكانا في عصر واحد. ولم يكن فيلسوفًا، ولكن له آراء أشبه بالفلسفة. ورحل إلى بلاد البربر ببلاد إفريقية، ولقي بها جوهر الصقلي قائد جيوش المعز، فمدحه ووصله. ومن بؤسه أنه كان متهمًا بالخلاعة والمجون وشرب الخمر والإدمان على السكر، وزعموا أنه كان متهمًا بمذهب الفلاسفة، وذلك كان علة بؤسه. وسبب وفاته أنه نزل على شخص من برقة فأضافه، وأقام عنده في مجلس حافل، وسكروا وأسكروه معهم، فلما انتشوا عربدوا عليه فقتلوه. وكانت وفاته في شهر رجب «سنة ٣٦٥ هجرية»، وله من العمر ٣٥ سنة. ولما بلغ المعز لدين الله الفاطمي خبر وفاته وهو بمصر حزن عليه حزنًا شديدًا وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، كنا نرجو أن نفاخر به شعراء الشرق فلم يقدَّر لنا.

ولابن هانئ ديوان شعر كله غرر ودرر قرط بهذين البيتين:

إن تكن فارسًا فكن كعلي
أو تكن شاعرًا فكن كابن هاني
كل من يدَّعي بما ليس فيه
كذَّبته شواهد الامتحان

ومن محاسن شعره:

فتكات طرفك أم سيوف أبيك
وكئوس خمر أم مراشف فيك
منعوك من سِنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك
ودعَوك نشوى ما سقوك مُدامةً
لمَّا تمايل عطفك اتَّهموك
حسبوا التكحل في جفونك حليةً
تالله ما بأكفهم كحَلَوك
ولوى مقبَّلك اللثام وما دروا
أن قد لثمت به وقُبِّل فوك

ابن عفيف الدين التِّلِمساني

هو سليمان بن محمد بن عبد الله، الأديب البارع والألمعي الأريب، شاعر عصره وفريد دهره. كان رحمة الله عليه حسن العِشرة كريم الأخلاق، ذا وجاهة واعتبار، يجالس الأمراء، ويباحث العلماء. واشتُهر بين أهل دمشق بنظم الشعر، واعتبروه من نوابغ شعراء الشام؛ فكانوا لا يرون عليه تفضيل شاعر، ولا ينظرون له شعرًا إلا عظموه كالمشاعر.

وسبب بؤسه؛ أنه اتُّهم في آخر أيامه بالخمر والفسق والقيادة؛ فهجره عارفوه، وتخلى عنه والده؛ فعاش ما بقي من عمره بائسًا يائسًا غير مرضي عنه. ومات غمًّا سنة «٦٨٨ هجرية». وله ديوان شعر نفيس. ومن محاسن شعره:

لما رأت عشاقها قد أحدقوا
من حسنها بحدائق الأحداق
شغلت سواد عيونهم في شَعرها
وتوشحت ببياضهن الباقي
figure

وله أيضًا:

لا تُخفِ ما فعلت بك الأشواق
واشرح هواك فكلنا عشاق
فعسى يعينك من شكوت له الهوى
في حمله فالعاشقون رفاق
قد يخفى الحب لولا دمعك الـ
ـجاري ولولا قلبك الخفاق
لا تجزعنَّ فلست أول مغرم
فتكت به الوجنات والأحداق
واصبر على هجر الحبيب فربما
عاد الوصال وللهوى أخلاق
كم ليلةْ أسهرت أحداقي بها
ملقًى وللأفكار بي إحداق
يا رب قد بعُد الذين أحبهم
عني وقد ألِف الرفاق فراق
واسودَّ حظي عندهم لما سرى
فيه بنار صبابتي إحراق
عرب رأيت أصح ميثاق لهم
أن لا يصح لديهم ميثاق
وعلى النياق وفي الأكلَّة معرض
فيه نفار دائم وتفاق
ما ناء إلا حاربت أردافه
خصرًا عليه من العيون نطاق
ترنو العيون إليه في إطراقه
فإذا رنا فلكلها إطراف

وله أيضًا:

مُذ رأته الشمس في الحَمَل
لم تكد تبدو من الخَجَل
غصن بان مثمر قمرًا
يُخجل الأغصان بالميَل
ورد خديه يضرجه
خجل من نرجس المُقَل
وسوى ذا أن مبسمه
جامع للخمر والعسل
من مجيري من لواحظه
إنني منها على وَجَل
كلما سلَّت صوارمها
قال قلبي قد دنا أجلي

وله أيضًا:

بتثنيِّ قوامك الممشوق
وبأنوار وجهك المشوق
وبمعنى في الحسن مبتكر فيك
وقلب كقلبيَ المسروق
جُد بوصل أو زورة أو بوعد
أو كلام أو وقفة في الطريق
أو بإرسالك السلام مع الريح
وإلا فبالخيال الطروق

وله أيضًا في صباه:

أسير ولو أن الصباح مواكب
وأسري ولو أن الظلام قتام
وأغشى بيوت الحي لا مترقبًا
وأطرق ليلي والوشاة نيام
إذا لم تكن للصب إقدام صبوة
تحل تلاف النفس وهْو حرام
فليس له بين المحبين رحلة
ولا بين هاتيك الخيام مقام

لابن العفيف في النبي عليه الصلاة والسلام:

أرض الأحبة من سفح ومن كُثُب
سقاك منهمر الأنواء من كثَب
ولا عدتْ أهلك النائين من نفس الصـ
ـبا تحيَّة عاني القلب مكتئب
قوم همُ العرب المحمي جارهمُ
فلا رعى الله إلا أوجه العرب
أعز عنديَ من سمعي ومن بصري
ومن فؤادي ومن أهلي ومن نسبي
لهم عليَّ حقوق مُذ عرفتهمُ
كأنني بين أُم منهم وأب
إن كان أحسن ما في الشعر أكذبه
فحسن شعريَ فيهم غير ذي كذب
حيَّاكِ يا تربة الهادي الشفيع حيًا
بمنطق الرعد بادٍ من فم السحب
يا ساكني طيبة الفيحاء هل زمن
يدني المحب لنيل القصد والأرب؟
ضممت أعظم من يدعى بأعظم من
يسعى إليه أخو صدق فلم يخب
وحزت أفصح من يهدي وأوضح من
يبدي وأرجح من يُعزى إلى نسب
تحدو النياق كرام نحو تربته
فتملأ البر من نُحب ومن نُجب
يسعون نحو هضاب طاب موردها
كأنما العذب مشتق من العَذَب
أرض مع الله عين الشمس تحرسها
فإن تغب حرستها أعين الشهب
يا خير ساعٍ بباع لا يُرد ويا
أجلَّ داعٍ مطاع طاهر الحسب
ما كان يرضى لك الرحمن منزلةً
يا أشرف الخلق إلا أشرف الرتب
لي من ذنوبيَ ذنب وافر فعسى
شفاعة منك تنجيني من اللهب
جعلت حبك لي ذخرًا ومعتمدًا
فكان لي ناظرًا من ناظر النوب
إليك وجهت آمالي فلا حُجبت
عن باب جودك إن الموت في الحجب
وقد دعوتك أرجو منك مكرمةً
حاشاك حاشاك أن تُدعى فلم تُجب

ابن العفيف التلمساني يمدح الأمير ناصر الدين الحرني:

صبا وهزته أيدي شوقه طربًا
وجدَّ من بعد ما كان الهوى لعبًا
لا تعتبوه فما أبقى الغرام له
من سمعه ما به يصغي لمن عتبا
ولا ثناه وأمر الحب في يده
عذل فكيف وأمر الحب قد غلبا
يهوى بروق الحمى لكن يخالفها
فكلما ابتسمت في جوها انتحبا
يا قلب حتَّامَ تهوى مَن سلاك ويا
جفنيَ كم تبكيان الجيرة الغيبا؟!
أعيذ قلبًا ثوى حب الأمير به
من أن يرى بسوى حُبَّيْه ملتهبًا
لا تنظر العين منه السيف منصلتًا
إن فارق الغمد حل الهام فاحتجبا
لو أقسم المُدلِج الساري على قمر
باسم الأمير دعاه قط ما غربا
ولو وضعت اسمه يومًا على ذكر
طاحت رءوس الأعادي وهو ما ضربا
ولو تلوت على ميْت مناقبه
رد الإله له الروح التي سُلبا
ولو مزجت بماء المزن ما اكتسبت
من لطف شيمته ما غص من شربا
من المكارم أبناء الأكارم آ
باء الأكارم لا زورًا ولا كذبًا
تسعى لنيل العلا من معشر وهمُ
تسعى المعالي إلى أبوابهم أدبًا
يعلِّمون الورى آدابهم ولهم
بِيض إذا غضبوا لا تعرف الأدبا
لو لُقبوا بالغصون السُّمر صدَّهمُ
جعل الرءوس لها يوم الوغى كُثبا
المنجدين أخًا والموجدين سخًا
والماجدين أبًا والواجدين إبا
لما انتسبت إلى أبوابه كبُرت
بي همة صغَّرت في عينيَ الرتبا
لو رُمت أسحب أذيالي على فلك
لمد لي سببٌ من جوده سببًا

ابن حزم

figure

هو «أبو محمد الظاهري» الإمام العلَّامة، والبحر الفهامة، إمام وقته، ووحيد عصره، منبع العلوم والمعارف، واللطائف والطرائف، وصاحب المعقول والمنقول، حجة العلماء الحافظ المجتهد. كان رحمه الله من النوابغ الأعلام، وفحل من فحول الكلام، المشهود لهم بلا جدال. ولشدة نبوغه وذكاء عقله، وتفوُّقه على من عداه بالعلم والأدب، كان كثير الوقوع في العلماء؛ فاتفق عدد عظيم من معاصريه على بغضه وتضليله، وشنعوا عليه، وخطلوا في ذمه حتى نفَّروا قلوب الناس منه، وقاطعوه ومانعوه، وما اكتفوا بذلك حتى وشوا به إلى الخليفة؛ فأقصاه من البلاد، وأصدر أمره إلى الولاة بطرده من إمارتهم، وأن يحذِّروا العامة عن الدنو منه؛ فخرج رحمه الله من دياره شريدًا طريدًا، ولما انتهى إلى بادية فلاة تُوفي بها سنة «٤٥٦ هجرية»، ووجدوا تحت رأسه جعبةً وضع فيها مؤلفاته، ولما قُرئت بمعرفة لجان تأسست لدرسها تاهوا في بحر علمه، وقدَّروا له حق قدره. وكانت مؤلفاته سببًا في رفع ذكره مادامت الأرض وامتدت القرون إلى يوم العرض.

وكان رحمه الله على حالة لا تسر حبيب، حتى إن البؤس قد اعترضه طول أيام حياته رحمه الله. ا.ﻫ.

أبو الحسن التهامي

figure

أبو الحسن علي بن محمد التهامي، كان عالِمًا أديبًا وشاعرًا مُجيدًا، تشبَّه بعادة الشعراء أمثاله؛ فطاف البلاد متوسلًا بشعره مستجديًا بقصائده، فمر بالعراق وفارس والشام وسائر الأقطار الشرقية، حتى انتهى إلى مصر مستخفيًا ومعه كُتُب كثيرة من حسان بن مفرج بن دغفل البدوي، وهو متوجه إلى «بني قرة»؛ وهي بلدة بصعيدَي مصر بمديرية أسيوط، فظفروا به فقال: أنا من بني تميم. فلما انكشف حاله عُرف أنه التهامي الشاعر المشهور؛ فاعتُقل في خزانة البنود وهو سجن بالقاهرة، وذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر ربيع الآخر سنة «٤١٦ هجرية»، ثم قُتل سرًّا في سجنه في اليوم التاسع من شهر جماد الأول سنة «٤١٦ هجرية».

ومن محاسن شعره:

سأنفق ريعان الشبيبة آنفًا
على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن لياليًا
تمر بلا نفع وتُحسب من عمري
أبان لنا من درِّه يوم ودَّعا
عقودًا وألفاظًا وثغرًا وأدمعًا
وأبدى لنا من دلِّه وجبينه
ومنطقه ملهًى ومرأًى ومسمعًا
فقلت أَوَجه لاح من تحت برقع
أم البرق بالغيم الرقيق تبرقعا؟

وله أيضًا:

عبسن من شعَر في الرأس مبتسم
ما نفَّر البيض مثل البيض في اللمم
ظنت شبيبته تبقى وما علمت
أن الشبيبة مرقاة إلى الهرم
ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خُلقي
ولا وفائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاض رأسي غير صبغته
والشيب في الرأس دون الشيب في اللمم
بالنفس قائلة في يوم رحلتنا
هواك عندي فسر إن شئت أو أقم
فبحت وجدًا فلامتني فقلت لها
لا تعذليه فلم يلؤم ولم يهم
لمَّا صفا قلبه شفَّت سرائره
والشيء في كل صاف غير مكتتم
بعض التفرق أدنى للقاء وكم
لاءمت شملًا بشمل غير ملتئم!
كيف المقام بأرض لا يخاف بها
ولا يُرجَّى شبا رمحي ولا قلمي؟!
فقبَّلتنيَ توديعًا فقلت لها
كفى فليس ارتشاف الخمر من شيمي
لو لم يكن ريقها خمرًا لمَا انتظمت
بلؤلؤ من حباب الثغر منتظم
ولو تيقنت غير الراح من فمها
ما كنت ممن يصد اللثم باللثم
وزاد ريقتها بردًا تحدُّرها
على حصى بَرَد من ثغرها شَبِم
إني لأطرق طرفي عن محاسنها
تكرمًا وأكف الكف عن أمم
ولا أهم ولي نفس تنازعني
أستغفر الله إلا ساعة الحلم

وله أيضًا:

أعاصي الهوى في حال نومي ويقْظتي
فسيان عندي وصلها والتجنب
لحى الله قلبي ما له الدهر عاكفًا
عليها ومن شأن القلوب التقلب
ولم أنسها تصفر من غربة النوى
كما اصفر وجه الشمس ساعة تغرب

علي بن سليمان النحْوي

figure

هو علي بن سليمان بن محمد الشهير بالنحوي، كان من مشاهير القرن الثالث والرابع، بل هو من العلماء المعدودين، والنوابغ الأعلام، وإن شئت مزيدًا فهو إمام اللغة والأدب في عصره، والنابغ المجتهد الفهَّامة، الذي اعترف الجميع بذكائه، وانبهر الطلاب من سرعة جوابه، وهو وإن كان من البؤساء الذين أخنى عليهم الدهر، إلا أنه كان في مجلس علمه تحتفل به الأمراء، وتتقرب إليه الوزراء. وعلى وجاهته وسمو مكانته كان يخفي تحت مظهره الخلاب، ونباهته الفائقة، حالته من البؤس التي كان يتألم في الباطن منها، وكانت عزة نفسه وشهامة قلبه تأبى عليه أن يبوح بما هو فيه من سوء الحال لأحد. وكان من أكرم أصدقائه عليه «أبو علي بن مقلة» الكاتب المعروف، الذي يُضرب المثل بحسن خطه، والذي يقول فيه الشاعر:

فصاحة حسان وخط ابن مقلة
وحكمة لقمان وعلم ابن أدهم
إذا اجتمعت في المرء والمرء مفلس
ونودي عليه لا يباع بدرهم

وكان دائمًا يتلازمان وبينهما عهود صداقة توطدها صلة العلم، وأبو علي بن مقلة يبره ويراعيه، ويحفظ حقوق محبته غائبًا أو حاضرًا، وهذان الصديقان كانا على أتم وفاق وأطيب عِشرة، ولا يكتم أحدهما عند الآخر سرًّا يختلج في صدره، ويبوحان لبعضهما بالمكتوم من أمرهما.

ففي ذات يوم حضر ابن مقلة لزيارة صديقه ابن سليمان، فدخل عليه وهو مستقبل القِبلة يصلي، ثم جلس في ناحية من أركان الغرفة وابن سليمان لا يشعر به؛ لأنه كان غائبًا بشواهد ذاته، حيث تجول روحانيته في سرمدانية الحق، فسمعه يناجي الحضرة العلية بقوله: إلهي وسيدي ومولاي، إني ولك الحمد على ما أنعمت أصبحت في حالة من الضنك كاد أن ينخلع لها صدري؛ لأني أدافع البؤس وأكافح الضيق، وفي نفسي من آمال الثقة بك جيش من الاطمئنان يزحف متمردًا على هذا الشقاء الذي أكرهه وأمقته. اللهم أنت تعلم سوء حالي، وتعلم أني أقابل الناس وهم من طبقة الأغنياء؛ فتدفعني النفس الأمارة بالسوء أن أطلب منهم فضل نوالهم أستعين به على وقتي، ولكني أعود فأخجل لأني لا أعرف ما في نفوسهم. وكم من مرة جلست مترددًا وفي قلبي غصة من ألم الحياة ومتاعبها، وحول عنقي سلاسل من مشاكل الوجود! وكلما أصبِّر النفس وأمنيها أجدها شاردةً في فلاة هذه الحياة العميقة؛ وحينئذٍ تظهر الطبيعة أمامي تفيض برونقها، ثم تتلألأ ببهاء أنوارها الساطعة؛ فتنقشع العباسة عن وجهي، ويتهلل قلبي بِشرًا وسرورًا، وتلوح الحياة أمامي جنة أفراح ومسرات، وما هي غير لحظة حتى تنقلب هذه الظواهر الخلابة.

اللهم أسبغ عليَّ نعمتك، واسترني بسترك الجميل، وإلا فألهمني الصبر واجعلني قانعًا باليسير من الرزق، وبتلك الحالة التي أصبحت فيها؛ لأني لا أستطيع الاكتفاء في حياتي بهذا العيش التافه الذي لو استمر على ما أنا عليه عراني السقم، وصرت من سوء التغذية وعدمها وهمًا وخيالًا.

اللهم إن كان في الأجل امتداد، وفي الحياة بقية، فمتعني بطاعتك في مسرات الوجود حتى أبتهج بها، واجعل الأيام تمر سرعى وتنطوي على عمل؛ حتى أفوز بالهناء المقيم، وأحظى بالنظر إلى وجهك الكريم في جنات النعيم.

فاستاء ابن مقلة من هذه الحال التي يعاني بؤسها صديقه العالِم الفاضل الفيلسوف المجتهد، الأديب الأريب الذي يضن الدهر بمثله، ولا تتمخض الأيام بمن هم على شاكلته، وانسكبت عبراته تتقاطر حتى صار يشهق بالزفير تبعًا لعواطفه الرقيقة.

ولاحت من على ابن سليمان نظرة على أثر ما سمع من تصعُّد الزفرات، فأبصر صديقه ابن مقلة في شدة الحزن، وهو يكاد أن ينفطر كمدًا عليه، فقال له: مهلًا يا صديقي، فكهذا نصيب العلماء.

فقال ابن مقلة: ونصيب العظماء أيضًا.

وبعد أن مكثا ساعةً باح فيها ابن سليمان بما يبطن من همومه ونكبات دهره، فقال له ابن مقلة: إني سأجتهد في الوساطة لك عند بعض الأمراء فيُلحقك في مرتزق من خيرات المحسنين.

فكرهت نفس ابن سليمان هذا الرجل الشريف النبيل أن يكون هكذا حاله، وهو الرجل العاقل المؤتمر بأوامر الله والمنتهي بنواهيه، أن يقبل على نفسه هذه الوساطة الشائنة، وهو ذلك الرجل العالم الوقور الذي يعترف بالحق، ويؤدي الواجب عليه، ويعرف ما يعترض الإنسان من خير أو شر، وله من عظمة نفسه العالية الأبية ما يجعله يترفع عن مثل هذه الدنايا. لم يكن أبدًا من أولئك الذين يطلبون رزقهم من غير الخالق جل شأنه، ولا هو ممن يطلبون الرفعة على مزالق السقوط، لم يكن أبدًا يطلب رزقه في عظمة مسلوبة، ثم ينحدر في بؤرة السفالة والمعروف.

فنظر إلى ابن مقلة وقال: إذا كانت الأرزاق تأتي من هذا الباب؛ فدعني أغلقه، ومن أدراك؟ فربما تلحظنا عناية الله عز وجل؛ فتكتب لنا السلامة وتهدينا إلى الطريق المستقيم.

وهنا أبت عزة نفس ابن سليمان أن يجعل صديقه عرضةً لطلب الإحسان باسمه، وأبت صداقة ابن مقلة إلا أن يسعى في خير صاحبه فيتوسط له في مرتزق يتعيش منه. ولما ودَّعه وانصرف من حضرته قصد في الحال منزل الوزير «أبو الحسن علي بن عيسى»، وليشرح له حالة صديقه علي بن سليمان، وما هو فيه من الفاقة والفقر وشدة الضيق، ويطلب منه أن يساعده فيقرر له مرتزقًا يتعيش منه في جملة من يرتزق من البؤساء والفقراء المحتاجين.

فلما وصل ابن مقلة إلى الوزير أبي الحسن بن عيسى، وعرض عليه مساعدة ابن سليمان برق وأرعد، واشتد به الغضب؛ فصرخ في ابن مقلة وأهانه إهانةً شديدة، وانتهره وشنع به من غير ما سبب يوجب ذلك.

ولقد كان ما حصل لابن مقلة من الإهانة أمام مجلس حافل من الوجوه والأعيان، وطبقة أخرى من جماعة المتقاضين وغيرهم؛ فشق على ابن مقلة ذلك، ولم يستطع أن يعمل عملًا مع هذا الوزير الفظ الأخلاق السيئ التربية، غير أن توجه إلى بيته وهو يكاد أن يتميز من شدة الغيظ، اعتراه الخجل من جراء هذا الحادث الذي أحزنه وقلل من مقامه واعتباره، وكتم الأمر تمامًا عن علي بن سليمان، وعزم على أن لا يفاتحه بما حصل؛ خوفًا على رقة إحساسه وشعوره العالي.

وبعد أيام وقف علي بن سليمان على صورة الحال، فاغتم غمًّا شديدًا على ما حل بصاحبه من الإهانة التي وُجهت إليه بسببه، فأكبر فيه هذه المروءة وهي من صفات الرجل الكريم، ومقت للوزير سفالته إذ كانت من خصال الرجل اللئيم.

واشتدت به الأحزان فاضطربت أعصابه، واعترته آلام نفسانية لا يعلم أحد عن كيفية أسبابها، وظهرت عوارض اليأس عليه.

وكانت نفسيته في حالة شديدة ظهرت مرتبكة بالتأثير، فكان كلما تصور المعركة العنيفة التي قامت بين الوزير وصديقه ابن مقلة؛ تجلَّت له عظمة الرجل الغيور، صاحب النفس العطوفة، الرجل الحكيم الداعي للمسامحة والتساهل، لأسباب قهرية لولاها لكانت نفس ابن مقلة نشطت من عقال الخمول، وتصدرت للدفاع عن كرامتها، وما كان علي بن سليمان ممن يستهينون بكرامة النفس، فإن ما حصل من الوزير أبي الحسن علي بن عيسى جرحه في كبريائه، وصدع عزة نفسه؛ فانتفض ممتقع اللون، وشعر بحمى عنيفة، فأراد أن ينتهيَ من حياته على أي وجه أو شكل؛ فأتى بشيء من السلجم وأكله نيًّا فقبض على قلبه فانتحر، ومات على الإثر.

فكان هذا الخبر شديد الوقع على ابن مقلة؛ فحزن عليه حزنًا شديدًا.

وكانت وفاته سنة «٧١٥ هجرية».

التلعفري

figure

هو الإمام الأوحد، والعلَّامة المفرد، الشيخ شهاب الدين محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة الشيباني التلعفري الشاعر المشهور، وُلد بالمَوصل سنة «٥٩٣ هجرية»، واشتغل بالأدب حتى ضُرب به المثل في لطافة الغزل، ورصانة الشعر، ورشاقة المعاني، وكانت تميل به نفسه إلى الخلاعة، ثم ابتلاه الله بالقمار فأفسد عليه عيشه، وكان كلما أعطاه الملك الأشرف شيئًا يقامر به فطرده من خدمته وأقصاه إلى حلب، فلما وصلها مَدَح صاحبها العزيز فأحسن إليه وقرر له رسومًا، فسلك معه مسلك الملك الأشرف، فنادى في حلب أن من قامر مع الشهاب قطعنا يده؛ فامتنع الناس من اللعب معه، فضاقت به الحال فترك الخدمة، وجاء إلى دمشق ولم يزل يستجدي بها ويقامر حتى صار لا يملك درهمًا، وصار من شدة الفاقة في حالة يرثى لها، ثم نادم في أواخر أيامه أمير حماة، ومات بعدها بقليل سنة «٦٨٥ هجرية» وله من العمر اثنان وثمانون سنة، وله ديوان شعر جيد. ومما حكاه الشيخ تقي الدين بن حجة الحموي، قال: اتفق أن الشيخ نور الدين علي بن سعيد الأندلسي لما نزل بمصر اجتمع بالوزير بهاء الدين أبو الفضل زهير، وسأله أن يرشده إلى ما يجعله رقيق الغزل، فقال له: طالع ديوان الحاجري والتلعفري، وأكثر المطالعة فيهما، وراجعني بعد ذلك، فغاب عنه مدةً وهو يشتغل بمطالعة الديوانين إلى أن حفظ غالبهما، ثم اجتمع به بعد ذلك وتذاكرا الغراميات، فأنشده بهاء الدين زهير «يا بان وادي الأجرع»، فرد عليه نور الدين «سُقيت غيث الأدمع». فقال له: حسن، لكن الأقرب إلى الطريق الغرامي «هل ملت من طرب معي». ومن محاسن شعر التلعفري:

هذا العذول عليكمُ ما لي ولهْ
أنا قد رضيت بذا الغرام وذا الولهْ
شرط المحبة أن كل متيم
صب يطيع هوًى ويعصي عُذَّلهْ

ابن الراوندي

figure

هو الإمام الأجل، العالم العامل، الفاضل المجتهد، حسن بن محمد بن علي الراوندي، وُلد ببغداد سنة «٨٩٠ هجرية»، فحفظ القرآن وله من العمر سبع سنين، ولما بلغ الثانية عشر جوَّد القرآن بالسبع قراءات، وتبحر في العلم، وكان رخيم الصوت حسن الغناء، يكاد صوته أن يكون ملائكيًّا يستهوي القلوب سماعه، ووهبه الله جمال الخَلق والخُلق؛ فكان صبيح الوجه حسن التقاطيع، وقد رزقه الله التقوى؛ فنشأ على الورع والزهد وكثير العبادة، يتهجد طول ليله ولا ينام إلا غرارًا. وشاع ذكره في جميع الممالك الإسلامية، فطاف مدن العراق فصادف من إعجاب الناس وحفاوتهم به ما جعله مكبًّا على العلم بجملته، وعظَّمته الأمراء واحتفلت به الملوك، ولما بلغ العشرين من عمره كمله الله بالعلم ومحاسن الجمال الفتَّان؛ فكانت تعشقه النساء، وتهيم بحبه الغادات الحسان، وتتمنى كل غانية من الغانيات، والبارزات في الحسن المشهود لهن بالجمال ورقَّة الغناء؛ أن تكون له أمةً تتمتع بهيئته الوسيمة، وطلعته النادرة المثال. وبالجملة فقد أصبح ابن الراوندي لا ينادم إلا الملوك، ولا يسامر غير الأمراء.

ففي ذات يوم دعاه الأمير بهاء الدين بن حشاد صاحب الوائلية، وكان بنو حشاد سادات هذه الجزيرة، ولهم من الإقطاعات والعِزب والحدائق والغيطان والقصور الشماء ما جعلهم يفاخرون الملوك، ويتعاظمون على من عداهم. «قيل» إن جيش ابن حشاد كان لا يقل في زمن السلم عن عشرين ألفًا، وكان في زمن الحرب لا يعلم عدده إلا الله.

وكان الأمير بهاء الدين قد بلغه خبر ابن الراوندي، ووقف على صيته البعيد وما وهبه الله من جمال الصوت والخلق، فأراد أن يراه ويسمع صوته، ويولم وليمةً يجمع فيها جميع الأمراء وأعيان البلاد المجاورة له، ويجعل الأفراح في مدينته شهرًا كاملًا؛ فأرسل رئيس حرسه إلى ابن الراوندي بكتاب رقيق الحاشية، يدعوه فيه بتشريف الوايلية، وأعد له هودجًا، وما يلزم لراحته. ولما وصل إليه رسول الأمير أسرع في الذهاب إليه وهو مبتهج طروب، ولما دخل الوايلية قابله الناس بالترحاب والتهليل، ودُقت له الطبول، وخرج الأمير ابن حشاد لمقابلته، ولما وقعت عينه عليه أخذه بالأحضان وهنأه بالسلامة، وشكره على إجابة طلبه، وبعد أن استراح ثلاثة أيام من وعثاء السفر؛ دعا الأمير الناس للاحتفال، ونصب له مجلسًا عاليًا يشرف فيه على هذه الجموع المتزاحمة.

أخذ ابن الراوندي مجلسه بين بطانته، وكانوا أربعة شبان على شاكلته، يُضرب بهم المثل، وكانوا يرددون صوته بما تستدعيه صناعة الغناء التي ابتكرها لهم هذا الأستاذ، وما كاد يفتتح الحفلة بتلاوة ما تيسر من القرآن حتى هاج الجمع وماج، وبعد ذلك أخذ في غناء قصيدة غرامية قام لها الحاضرون وقعدوا. اندهش الأمير ابن حشاد مما سمع، واستهواه جمال هذا الصوت الحنون الرنان، وترجيع المواقف بنغمة شهية فيها بحة احتلام لذيذة، يتوهمها السامع أنها موصلة بنياط قلبه، واشتد الطرب بالأمير فالتفت إلى من بمجلسه من أصدقائه وندمائه وقال: لو أقسمت أني سمعت صوت الملائكة ما حنثت في يميني. وما زال يغنيهم؛ تارةً بالإنشاد، وطورًا بالتواشيح، حتى سلب عقولهم. وانتهت تلك الحفلة بعد الفجر حيث تفرقت هذه الجموع للصلاة، وانتشروا بعد ذلك لمزاولة أشغالهم، وكان لا هم للناس إلا الإعجاب بما سمعوه من جمال صوت ابن الراوندي.

واقترب منه الأمير ابن حشاد، فأخذه بين أحضانه وهو مغتبط طروب، وقد أحبه أحسن حب، وما زال به حتى أوصله إلى الغرفة التي خصصها له لينام فيها، وكانت فاخرة الرياش حسنة الترتيب، فيها سرير عليه فرش وثير مما ينام عليه الملوك، وجعل له خادمًا خصصه له، ثم ودعه وانصرف لينام.

وما كاد يرتدي بملابس نومه ويستلقي على سريره حتى سمع نقرًا ضعيفًا على باب غرفته، ثم دخلت فتاة حسناء ما وقعت عين إنسان على أجمل منها، فحيته بإشارة من يدها، وقالت: أظنك لا تعرفني طبعًا، وتجهل سبب حضوري إليك، وأنا ربة خدر لم أتعرَّف برجل قبلك.

فنظر إليها نظرة حياء ووقار وقال: إن صدق ظني فأنت من بيت حشاد الرفيع العماد، الأثيل في المجد والسؤدد. فنظرت إليه نظرةً طويلةً تطفح حنوًّا وغرامًا وقالت: لقد صدقت، فأنا شقيقة الأمير حشاد، ولقد حضرت إليك لأشرح عواطف حبي، وأقول لك إني سمعت نغمة صوتك التي استهوتني بالوجد الشديد، ورأيت جمال صورتك الذي استمال عواطفي نحوك، ولما تحققت من دعة نفسك وكرم أخلاقك أحببتك حبًّا خالصًا شريفًا وملَّكتك قلبي.

فاضطربت أعصاب ابن الراوندي، وثبت في مكانه جامدًا، وأرخى للفكر سدوله؛ فهام في مهامه التفكير. ثم رفع إليها رأسه، وقال: هذه طربة من شجون الحب، وبدعة من هواجس الغرام. أظنك تسرعت كثيرًا ولم تفهمي أن بيني وبينك فوارق هائلة لا أستطيع أن أزحزحها؛ أنت من ذوات الصون والعفاف، شقيقة ملك وسلطان، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أكون من ضمن خدمه.

فبكت الأميرة وقالت: أنت يا ابن الراوندي فتًى جمَّله الله بالمحاسن النادرة التي تروق في عين النساء، وإني فتاة لا أمتلك أمر نفسي، ولكني حضرت إليك ألتمس في حبك الهناء، راجيةً منك أن تقاسمني واجب الحب ولو حالت دونه الحياة.

فبكى ابن الراوندي بكاءً مرًّا ونظر إلى الفتاة، وقال: إنك يا سيدتي حسناء ولا جدال في ذلك، وإني منذ هذه اللحظة التي رأيتك فيها شعرت بتأثير الحب، أحببتك يا ذات الشباب الغض والجمال الباهر، وإني في غد سأسكب عبرات الأمل الزاهر، وأستعذب هذه الحياة المباركة.

فقالت: تأكد يا حبيبي بأننا من أصحاب الآمال العظيمة الهائلة، والقلوب الكبيرة الذابلة.

فقال: نعم، ولكن مع الأسف إن هذه النفوس العالية خاوية خالية.

وبعد ذلك تعاهدا على الوفاء في الحب.

واستمر ابن الراوندي والأميرة حسنات يتقابلان سرًّا مدة شهر كامل، كانا في خلاله لا يستطيع أحدهما البعد عن الآخر، وزاده الحب نباهةً؛ فكان يغني بالحب حتى لا يستطيع من يسمعه إلا أن يصيح عاليًا من قلب مندمل.

وانتهت الضيافة، وقرر الأمير ابن حشاد أن يعلن بفض هذه الحفلات.

ومن سوء حظ ابن الراوندي وحبيبته الأميرة حسنات أنهما اجتمعا معًا في ذات الليلة التي شكر فيها الأمير حشاد على تلبية دعوته جميع من حضروا حفلات أنسه بسماع ابن الراوندي، الذي شنف الأسماع برخيم صوته، وقال وإن الليلة الآتية هي خاتمة هذه الحفلات.

وفي وقت الفجر تقريبًا حضرت الأميرة كعادتها، وأخذت تتحدث مع ابن الراوندي بحديث العشاق.

وبينما هما كذلك وإذا بالأمير قد وقف أمامهما وقال: سلام على العشاق في كل مكان، وسلام عليكما يا من جهلتما أن بين المضاجع يختلف المؤتلفون، ويعتنق المتباعدون، أما أنتما فمحبان باعدت بينهما الأيام، وحكمت عليهما بالفراق.

فوجم العاشقان وجومًا رهيبًا، واعتراهما خوف شديد، فوقفا مضطربان، وقد زادهما الحياء حسنًا وجمالًا.

وشعر الأمير بأن أعصابه تضطرب، وقد وهنت عزيمته، فوقف باهت اللون يترنح من شدة الغيظ، وظهرت على محياه ثورة الحزن واليأس.

أما الأميرة فقد ضعضعها الوجل، واستولى عليها الحياء، ومادت بها قدماها فهوت ساقطةً إلى الأرض.

فاحتملها الأمير إلى غرفة ثانية، وكتم غيظه، وعاد بعد ذلك إلى ابن الراوندي وقال: لا تحزن ولا ترتبك، وتأكد بأني قد وهبت لك حسنات.

وما زال به حتى طابت نفسه، وذهبا معًا إلى غرفة الفتاة، وما زال بها حتى أفاقت، فأمَّنها على نفسها بحجة أنه قد وهبها له.

فرح العاشقان فرحًا شديدًا، وإكرامًا لذلك قال الأمير: وبما أني قد أمرت بجمع شملكما فيجب أن نجلس جميعًا نستقبل هذا الصباح الجديد، وهيا نصطبح فأشرب نخب هنائكما كاسات المدام.

وجيء بالخمر فصب كأسه وصب لكل من شقيقته وابن الراوندي كأسه، وبسرعة مدهشة وضع لهما في الكاسات سمًّا زعافًا.

ودارت الكاسات خمرًا صافيًا بين الثلاثة، وعلى أثر ذلك شعرت الأميرة بدوار شديد، وعادت في الحال إلى غرفتها.

أما ابن الراوندي فقد شعر بأحشائه تكاد أن تتمزق، فأفرده الأمير في غرفة خاصة وهو موقن أن سيموت عما قليل، وأدرك ابن الراوندي ما حل به من الأمير، فجاء في ذات ليلة حينما أمكنته الفرصة فهرب، وأخذ يسير طول الليل وهو في حالة من المرض والتعب لا يمكن معها أن يواصل سفره في البيداء، فمكث في ضيافة رجل مدة ثلاثة أشهر، أصبح في خلالها عظمًا باليًا في جلد، وفي حالة يرثى لها.

وما زالت تتناوشه الأسقام وتعترضه الأشجان، حتى تغير شكله، وصار من يراه لا يظن أنه هو، وقد تغير هندامه؛ فانقلبت سحنته وضاعت محاسنه الجسمانية، وفقد نغمة صوته الشجي، واستحال بعد ذلك إلى شكل مخيف بشع من تأثير السم الذي فتك به.

وصار صوته خشنًا مريعًا لا يخرج من حنجرته إلا بصعوبة، وكان وقتئذٍ يبلغ من العمر نحوًا من ثلاثين سنة، فعاد إلى بغداد وهو موقن أنه فقد فضيلة الصوت، وأن حياته صارت كالعدم؛ فانكب على العلم بجملته، فكان من العلماء الراسخين في العلم. ولما لم يجد من يعوله تزوج بامرأة من قومه فقيرة مثله؛ فرزقه الله بكثير من الأولاد على سوء حاله. «قيل» إنه اشترى يومًا جانبًا من الدقيق، ووضعه في طرف ردائه وشده بخيط وحمله على كتفه، وبينما هو سائر في الطريق خطر بباله سوء الحال الذي هو فيه، وضيق ذات يده، وتراكم المحن والشدائد عليه؛ فرفع طرفه إلى السماء وقال: «يا رب حلَّ مشكلي» وأكثر من الدعاء بذلك، وبينما هو يدعو عثر في حجر فارتج جسمه، ومن شدة الرجة انقطع الخيط المربوط به الدقيق، وتبعثر الدقيق على الأرض واختلط بالتراب، فلما أبصر ذلك قال: الحمد لله قد انحل المشكل، وسيموت العيال جوعًا!

ومن تلك الساعة اختبل عقله ومات بعد عدة أسابيع، وكانت وفاته سنة «٩٨٥ هجرية»، وله من العمر «٩٥ سنة».

الفقيه نجم الدين بن عمارة

figure
هو الأديب الأريب، العالم العلَّامة، الفقيه نجم الدين بن عمارة بن الحسن الخزرجي البوريني النعماني، كان عالمًا من أئمة الفقهاء، شافعي المذهب، من أهل السُّنة، ومن الشعراء المجيدين. قدِم إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، وصاحبها يومئذٍ الظافر بأمر الله إسماعيل بن الحافظ.١ وكان وزيره الصالح بن زريك، فأكرم مثواه وصار عنده في أكرم محل وأعز جانب، واتحد نجم الدين مع الخليفة على ما كان بينهما من الاختلاف في العقيدة، ودولة الفواطم على ما هو مشهور عنهم أنهم بعد أن انقسم المسلمون على إثر تولية الإمام علي كرَّم الله وجهه الخلافة إلى قسمين؛ قسم يشايع لعلي والآخر مع بني أمية، وقد استفحلت العداوة بين الفريقين، وخاصةً بعد قتل علي، وموت ابنه الحسن، واغتيال الحسين، فسُمِّي أتباع علي بالشيعة، وأخذوا يعملون سرًّا وجهرًا على القضاء على الدولة الأموية واسترجاع الخلافة منهم. واستمروا كذلك في جهادهم إلى عصر الدولة العباسية؛ حيث ذهب أحد دعاة الشيعة إلى بلاد البر «شمالي إفريقية» داعيًا لعبيد الله بن محمد، المنتسب إلى السيدة فاطمة بنت رسول الله ، وطرد الأمير الحاكم بتلك البلاد التابع للدولة العباسية. وهذه آخر وسيلة عوَّلوا عليها؛ لأنهم لما عجزوا عن الاستحواذ على الخلافة من طريق السياسة، عادوا إلى الدين، فقالوا إن الإمامة ركن من الدين، إذ لا يصح أن يُترك المسلمون بلا إمام. وقال أحدهم يجب أن يكون الإمام من ذرية الرسول ، وهم أولاد فاطمة. وبالفعل أعلنوا أن الخليفة الحقيقي للمسلمين هو عبيد الله المذكور، وأنه المهدي المنتظر، وكان ذلك سنة «٢٩٦ﻫ» الموافق لسنة «٩٠٨م». وحضر عبيد الله في العام التالي إلى بلاد المغرب، وحكمها أربعة وعشرين عامًا، كان الأمر فيها كله بيده، وأخضع قبائل البربر ودانت له جزيرة صقلية، فكان بذلك مؤسسًا للدولة الفاطمية. وكان أكبر أمانيه فتح مصر؛ فأرسل إليها ولي عهده في جيش جرَّار فلم يفلح.

ولما مات خلَفه ابنه القائم بأمر الله سنة «٣٢٢ﻫ»، الموافقة لسنة «٩٣٤م»، فأرسل جيشًا إلى مصر فهزمه الإخشيد، ولم يحاول خلَفه المنصور إسماعيل الاستيلاء عليها. ثم تولى الخليفة الرابع «المعز لدين الله الفاطمي» سنة «٤٣١ﻫ»، الموافقة لسنة «٩٥٣م»، فكانت أيام مبدأ عصر جديد في تاريخ الدولة الفاطمية؛ فبدأ بتوطيد الأمور في بلاده، حتى دانت له جميع رؤساء القبائل العربية، وخضعت له مراكش بأكملها.

ثم صرف همه لفتح مصر، وكانت وقتئذٍ في اضطراب شديد عقب وفاة كافور الإخشيد، ولم يكن في وسع الخليفة العباسي ببغداد مساعدتها لاشتغاله بصد الغارات عن الدولة، واغتنم المعز هذه الفرصة؛ فسيَّر قائده جوهر الصقلي في مائة ألف مقاتل، وأعدهم بأفخر العُدد وزودهم بالمال الكثير؛ فاستولى على مصر بعد مناوشات ضعيفة سنة «٣٥٨ﻫ»، الموافقة لسنة «٩٩٦م»، ومن ذاك العهد ابتدأت دولة الفاطميين بمصر.

ثم خضعت بلاد النوبة للفاطميين، ودانت لهم مكة والمدينة، واعترف لهم أمراء بني حمدان (حكام أعالي الشام) بالسيادة على حلب، واستولى أحد قُواد جوهر على دمشق عنوة، ونشر فيها عقيدة الشيعة كرهًا.

ثم قدِم المعز إلى مصر في موكب حافل سنة «٣٦٢ﻫ»، الموافقة لسنة «٩٧٣م»، ومعه بنوه وإخوته وعشيرته وجثث أسلافه، وكان عصره أزهى عصور مصر وأزهرها.

«حضارة الفاطميين»: وكانت دولة الفواطم من أعظم دول الإسلام ملكًا، وأرقاها حضارةً وأدبًا، وأنبلها ترفًا وتمتعًا، وتقدمت في عصرها الصنائع على جميع أنواعها، ولهذه الدولة أهمية عظمى في تاريخ مصر؛ إذ كان لها تأثير في صيغ البلاد، لا تزال بقيتها إلى اليوم؛ فهم الذين أحدثوا في مصر كثيرًا من المواسم والأعياد والحفلات الوطنية، مثل: موسم «أول السنة الهجرية»، ويوم عاشوراء، ومولد النبي، ومولد الحسين، وفتح الخليج، وقافلة الحج (المحمل) … إلخ.

وبعد أن مكث الفقيه نجم الدين بن عمارة في رحاب الخليفة الظافر مدةً طويلة، رحل إلى اليمن في مهمة ثم عاد إلى مصر، وكانت الحروب الصليبية قائمةً على قدم وساق، فأقام بالرغم عن هذه القلاقل في أمن وطمأنينة، ملحوظًا بعناية هؤلاء الخلفاء الفاطميين، إلى أن زالت هذه الدولة من سوء حظه على يد السلطان صلاح الدين بن أيوب، فأصبح في حالة من البؤس يرثى لها.

ولما اشتدت به محنته رثى من كانوا سبب عزه من الفواطم بين القصرين بقصيدته التي أولها:

رميت يا دهر كف المجد بالشلل
ورعته بعد حسن الحَلْي بالعطل

ومنها:

قدمت مصر فأولتني خلائفها
من المكارم ما أربى على الأمل
قوم عرفت بهم كسب الألوف ومن
تمامها أنها جاءت ولم أسل
يا لائمي في هوى أبناء فاطمة
لك الملامة إن قصَّرت في عَذَلي
بالله زر ساحة القصرين وابك معي
عليهما لا على صِفين والجمل

وقال منوِّهًا عن الحروب الصليبية:

ماذا تُرى كانت الإفرنج فاعلةً
بنسل آل أمير المؤمنين علي

وهي طويلة في غاية الحسن، نطق بها بغاية من وجدانه، وأملاها عليه يقينه بنية خالصة وعقيدة ثابتة، فلما بلغت السلطان صلاح الدين الأيوبي؛ تغير عليه وطرده من مصر منفيًّا، فمكث مدة سنوات في حالة من البؤس يرثى لها، حتى مات غمًّا سنة «٥٧٠ هجرية».

محمد أفندي المرزوقي

figure

هو محمد بن أحمد بن علي بن صلاح الدين المرزوقي، وُلد بالإسكندرية سنة ١٨٤٤ ميلادية، فربَّاه والده الشيخ صلاح الدين المرزوقي تربيةً عالية، فتعلَّم علومه الابتدائية في المدرسة الأولية بالإسكندرية، ثم تلقَّى علومه العالية على مدرسين، عهد به والده إليهم، فتعلَّم اللغة الفرنسية، حتى صار كأنه من أبنائها. وفي سنة ١٨٦٤م حضر والده إلى مصر، وتشرَّف بمقابلة سمو الخديوي إسماعيل باشا ومعه ابنه محمد، ولما وقعت عليه أنظار الجناب العالي قال له: من هذا الغلام الذي معك يا مرزوقي؟

فأجابه: هذا نجل عبد سموكم يا ولي النعم.

وارتجل محمد المرزوقي بين يدي سموه قصيدته النونية التي مطلعها:

فخر الملوك وصاحب الإيوان
أفديك من مَلِك رفيع الشان
ذكَّرتنا عهدًا تقادم وانقضى
بزمان ذاك العالم الروحاني
حِقَب مضت وتناسخت بجلالها
وجلال عصرك ساد في الأكوان
قل للملوك ومن أتوك لينظروا
هِمَم الملوك وحكمة الديان
عني خذوا عهد الفراعنة الأُلى
دامت مفاخرهم على الحدثان

ومنها يخاطب مصر:

طوباك يا مهد الفخار فقد حما
ك مليك مصر وفاتح السودان
الشهم إسماعيل فياض الندى
جم المواهب باذل الإحسان
المانح الخيرات للبؤساء والـ
ـمحتاج فهو صنيعة الرحمن
لا يلهجون بغيره من سيد
في العالمين ولابسي التيجان

ومنها:

والنيل تاه ففاض فوق جسوره
من عطفك السامي على الأوطان
إن المواهب سيدي مقبولة
لا زلت باب الفضل والعرفان

فسُر الجناب العالي من نباهته، وأنعم على والده برتبة البكوية، وطلب من محمد المرزوقي أن يقدِّم طلبًا إلى المدرسة الحربية؛ ليكون ضابطًا في الجيش المصري.

وفعلًا تقدم الطلب، وصار قَبول محمد أفندي المرزوقي تلميذًا بالمدرسة الحربية، بعد أن أدى الامتحان فنجح نجاحًا باهرًا، وبعد مدة الدراسة وتعليم الحركات العسكرية؛ تخرَّج في المدرسة برتبة الملازم ثاني، فألحقه الجناب العالي بين الحرس الخديوي، فترقَّى إلى رتبة اليوزباشي، ولما توسَّم فيه مولاه النباهة والنشاط؛ سُر منه سرورًا لا مزيد عليه، وكثيرًا ما كان يشمله بعطفه وينعم عليه دون إخوانه الضباط، حتى باتوا جميعًا يحسدونه على هذه الغبطة، وأوغرت قلوبهم عليه، حتى صاروا يتمنون له غلطةً يغلطها، أو إساءةً يسبكونها في قالب وشاية يلفقوها ضده. وكان الجناب الخديوي مع ما هو مشهور عنه من مكارم الأخلاق كثيرًا ما يسمع بعض الوشايات، ولو كانت فيمن هو أعز الناس عنده، ولم يكن من أحد في السراي ولا من جلساء الخديوي من يعطف على المرزوقي، أو يميل إليه.

اتفق بعض الضباط على تلفيق وشاية ينفِّرون بها قلب الجناب العالي عن عبده المخلص المتفاني في خدمته، ووجدوا من الخديوي أذنًا صاغية، وقد صادق على ذلك بعض من كان حاضرًا من قرناء السوء، فصدرت إرادته السنية بنقله من الحرس الخديوي إلى الأورطة السابعة. وكان محمد أفندي المرزوقي شعر بهذا الانقلاب، ووجد حالة مولاه قد تغيرت حتى ما عاد يلتفت إليه.

كره الدنيا وما عليها، كره حياته وتمنى لو تصادفه منيته، ولكنه رغم ما حصل له من الاضطهاد، انتقل إلى الأورطة التي اندمج بين ضباطها، وهناك وجد من سوء المعاملة والتحامل الشديد، ما جعله في حالة من اليأس لا مزيد عليها. انزوى في خيمته المخصصة له لا يزور ولا يزار، تذكَّر وهو في وحدته ما قام به من الأعمال الخالدة، وهو الذي ترجم قانون التعليمات والتشكيلات من اللغة الفرنساوية، وضاهاه على قانون التعليمات التركية، وكان ماهرًا في اللغتين، فأخذ على عاتقه إخراج كتاب التعليمات العسكرية، ولما عرضه على نظارة الحربية أقرَّته اللجنة الاستشارية، وصدر المرسوم العالي بإعطائه خمسمائة جنيهًا مصريًّا مكافأةً له. تذكَّر أنه الشاب الوحيد الذي يجيد ثلاث لغات ويقرأ بها ويكتب جيدًا، وهي؛ اللغة الفرنساوية، اللغة التركية، اللغة العربية. وعلاوة على ذلك فقد كان أعلم الضباط بجميع الفنون العسكرية؛ البيادة، والسواري، والبحرية.

وتصادف أن الأورطة السابعة نُقلت إلى الإسكندرية؛ فانتقل معها، وهناك شعر بالمضايقة الشديدة، حتى كاد قومندان الأورطة أن يحجر على حريته بناءً على التوصيات التي وردت إليه، وتصادف أن محمد أفندي المرزوقي تعرَّف في الإسكندرية ببعض من الإخوان الذين لا دأب لهم إلا الإدمان على الخمر، والاندماج حول موائد القمار، فوجد في ذلك راحةً يتسلى بها؛ فأخذ يسكر ويقامر، تارةً يربح وأخرى يخسر، حتى فقد كل ماله، وفي هذه الفترة تُوفي والده، وكان من تجار البورصة، وعاكسته الحظوظ فخسر كل ثروته، ولمَّا لم يحتمل هذه المصيبة أثَّر عليه الحزن فمات.

وما كاد يسمع بموت والده حتى اشتدت عليه المصيبة، وحزن حزنًا شديدًا، حتى صار في ذهول من شدة اليأس، ولاحظ قومندانه عليه ذلك فأرسل في طلبه، فلما مثل بين يديه أخذ في تعنيفه وصار يوبخه توبيخًا صارمًا. ما كان محمد أفندي المرزوقي يسمع هذه الإهانة حتى تأكد بل علم أن الرجل يقصد النكاية به؛ فاشتد به الغيظ، وانفجرت في صدره مرارة الكتمان، فأخذ يرد على ضابطه الأعلى هذه الإهانة حرفًا بحرف، وطال الخلاف بينهما بحالة أخرجت المرزوقي عن حده؛ فأمسك بأحد المقاعد وضرب بها الضابط القومندان على رأسه فشجه، وتعينت لجنة مكونة من المجلس العسكري العالي لمحاكمته.

ولقد كان جميع رؤساء محمد أفندي المرزوقي ومرءوسيه وزملائه يغارون منه غيرة شديدة، والغيرة كما لا يخفى إذا وصلت إلى قلب رئيس تعميه وتطغيه، وتجعله طائشًا مخبولًا، وربما تحوِّله عن جادة الاعتدال إلى معاملة مرءوسه معاملةً قاسيةً لا تخلو من الفظاظة والظلم.

وفي تلك الأثناء كانت الحالة السياسية في مصر قد تغيرت بتنازل الخديوي إسماعيل باشا عن عرش مصر لابنه توفيق باشا سنة ١٨٧٩ ميلادية، وبذلك استطاع خصومه النكاية به فحكم عليه المجلس بالعزل وبالسجن خمسة أعوام، فكانت هذه أعظم مصيبة زلزلت كِيانه، ومكث في السجن مدة ثلاث سنوات إلى سنة ١٨٨٢م، حيث كانت الثورة العرابية فأخرجوه من سجنه بعد أن كُسرت السجون وفر المسجونون، فكان في حالة شديدة من البؤس، يمر بين الناس ببذلته الملكية المرقعة في هيئة محزنة يرثى لها، واضطُر أخيرًا إلى التسول، وفي يوم ١٣ نوفمبر سنة ١٨٨٨م وُجد ميتًا في أحد الشوارع وعمره ٤٤ سنة.

صادق بك العفيفي

figure

هو صادق بن حسن بن قويدر بن ممتاز العفيفي، وُلد بالقسطنطينية ١٧٩٦ ميلادية، وفي سنة ١٨٠٠م حضر به والده ممتاز بك العفيفي إلى القطر المصري وعمره أربع سنوات، ولما حظي بمقابلة والي مصر محمد علي باشا الكبير عيَّنه سنجقًا بجهة الفيوم، فمكث في هذه الجهة ثلاث سنوات، ومعه عدد لا يقل عن الأربعمائة جندي من المماليك الأتراك. وفي سنة «١٨١١م» جمع محمد علي باشا جيشًا مؤلفًا من ٤٠٠٠ جندي، بقيادة ابنه طوسون باشا لغزو بلاد العرب وإخضاع الوهابيين، فأقام احتفالًا في القلعة تذكارًا لذلك اليوم المشهود، دعا فيه رؤساء المماليك وفرسانهم، وكان عدد من حضر منهم يقرب من الخمسمائة، وكان الغرض الحقيقي من دعوتهم التخلص منهم ومن شرورهم ودسائسهم، فأسرَّ محمد علي بذلك إلى «حسن باشا» و«صالح فوج» الأرناءُوطيين فقط، وفي صبيحة هذا اليوم أسرَّ به إلى حارس الباب، ولما جاءت الساعة المعلومة أُغلق الباب وأبيد كل من في القلعة من المماليك. وفي أثناء حدوث هذه الحوادث في القاهرة أصدر محمد علي باشا الأوامر المشددة إلى المديريين والمحافظين من الوطنيين في المديريات والمحافظات وبنادر القطر المصري، بقتل كل من يُعثر عليهم من المماليك.

•••

وما كاد ممتاز بك العفيفي يقف على هذا الخبر المدهش حتى انزعجت نفسه أيما انزعاج، وارتبك ارتباكًا شديدًا، ولكنه كان قوي البأس صعب المراس، ما كاد يستسلم للأفكار طويلًا حتى عنَّت له فكرة، فأمر بجمع من معه من الجنود الأربعمائة، ووقف بينهم خطيبًا فقال: تعلمون أيها الأبناء أننا أصبحنا في خطر شديد، وها هو محمد علي باشا قد قام منذ أيام بمذبحة دموية هائلة، قطع فيها دابر المماليك، بل قضى على البقية الباقية منهم، وصدرت أوامره بعد ذلك إلى جميع مديريات القطر المصري بقتل من يجدونه من الأتراك، وبما أننا في أول الأمر، ولم يكن من سمع بهذا الخبر غيري؛ فيجب أن نتأهب للرحيل منذ هذه الساعة، وأستحضر لكم مراكب وذهبيات تحملون فيها متاعكم وما ملكته أيديكم من مال وطعام، وإياكم أن تتركوا سلاحكم وذخيرتكم؛ إنها خير حافظ لكم وبها تعرفون كيف تقاتلون عدوكم.

وفي مدة وجيزة كانت عساكر الأربعمائة قد احتلوا جميع المراكب الراسية في البحر اليوسفي بإقليم الفيوم، وشحنوها بخيراتهم وأموالهم، وأخذوا حريمهم وأطفالهم، وساروا في النهير «بحر يوسف»، حتى انتهوا إلى النيل جهة ديروط، ومن هناك استقاموا في النيل يغالبون التيار بمراكبهم، وقد فردوا لها القلوع حتى وصلوا إلى أسوان، ومن هناك واصلوا سيرهم في النيل حتى انتهوا إلى مدينة دنقلة.

وكانوا على آخر مجهود من التعب، وقد أثَّرت في صحتهم أهوال السفر ومشقات الانتقال في حرارة الشمس المحرقة والتجديف، إلى غير ذلك.

وكان هناك في مدينة «دنقلة» قد سبقهم عدد عظيم من مهاجري المماليك، واتخذوا بلاد النوبة مسكنًا لهم.

وعسكر ممتاز بك العفيفي بقافلته هناك، وأخيرًا دلوه على قرية مهجورة قد رحل سكانها، فأعجبه مُناخ هذه الجهة فاتخذها مسكنًا له ولأتباعه، وابتنى فيها قصرًا فخمًا يشرف على النيل، أقام فيه مع جنوده الذين كانوا في بيوت صغيرة متقاربة من بعضها.

واتسعت إدارة ممتاز بك العفيفي فصار يشار إليه بالبنان، وأصبح بفضل استيلائه على كنوز الذهب الغشيم من أغنى الأغنياء، وكان وقتئذٍ عمر ابنه صادق إحدى عشرة سنة، فأرسله إلى فرنسا ليتلقى العلوم والمعارف، فمكث في باريس إلى سنة ١٨٢٢م؛ فنبغ نبوغًا هائلًا، وأرسل إلى والده آلة بخارية (وابور طحين)، وعرف كيفية تركيبه وإدارته، فكانت أول آلة دخلت السودان.

وعاد صادق بك العفيفي يحمل شهاداته العالية، وقد قرت به عين والده.

وتصادف أنه من سوء طالع صادق بك العفيفي أنه بعد أن تثقف عقله بالعلوم والمعارف، وصار من أفاضل عصره وأمهر علماء وقته؛ اغتالت المنية والده، فحزن عليه حزنًا شديدًا، إلا أنه وجد أن الحزن لا يفيد؛ فانصرف إلى أشغاله وإدارة أملاكه الواسعة، فسافر إلى باريس ليستحضر المسيو فورينة ديلانوا؛ ليبحثا معًا على مناجم الذهب، ومتى تحصَّل على ثروة عظيمة يغادر بلاد السودان إلى فرنسا، حيث هناك يعيش خلي البال، ويطلق لنفسه العِنان في تلك الحرية المتناهية. وما كاد يعود من فرنسا حتى وجد الجيوش المصرية قد دخلت السودان قهرًا، بعد أن أعملوا السيف في جميع المماليك الذين استوطنوا هذه البلاد.٢

ولما نظر إلى ما حل بقومه وأبناء جنسه من الممالك، وما كان من محمد علي باشا الذي جعل فتح السودان ذريعة إلى إعدامهم جميعًا، والقضاء على هذه البقية منهم، بما يجعل إراقة هذه الدماء وسيلةً إلى تثبيت عرشه بمصر، اعتقل محمد العفيفي رمحه، وتقلد سيفه، وتدرع بآلة حربه، ووقف أمام جماعة أبناء المماليك الذين هاجروا مثله إلى بلاد النوبة، واتخذوا السودان موطنًا لهم خوفًا من محمد علي باشا، الذي كان من أخطر الناس عليهم، هربوا من وجهه فكان خلفهم بالمرصاد يتعقبهم في كل مكان.

وقف صادق العفيفي وِقفة القائد الباسل يحرض جنود على وجوب القتال، مستمدًّا حكمته من قول الأستاذ المتنبي:

وإذا لم يكن من الموت بُدٌّ
فمن العجز أن تموت جبانًا

وما كاد يلتقي بجنود الجيش المصري حتى دارت بينهما الحرب بكل شدتها، وثبت هؤلاء الأتراك أمام هذا الجيش الفاتح، فمثلوا في هذا الموقف، موقف أسلافهم بمصر حينما غزاها نابليون إمبراطور فرنسا.

سالت الدماء أنهارًا، وسدوا شوارع دنقلة بالمتاريس والخنادق، ورغمًا عن طلقات المدافع المهلكة التي على أثرها كانت تزهق الأرواح، وتندثر الأجسام. تجلَّد هؤلاء الشجعان، ووقفوا يلاقون الموت بثغور باسمة ضاحكة مستبشرة، ثم صاروا بعد ذلك يستهدفون الموت الواحد بعد الآخر حتى هلك معظمهم، ولقد أُعجِب سمو الأمير إسماعيل باشا بشجاعة هؤلاء الشبان وقال: لو كان في جيش أبي من هم على بسالة هؤلاء الفرسان؛ لكانت الدنيا جميعًا ملكًا لنا.

ولما وجد أن فرسان الطوبجية كانت تقاسي متاعب جمةً في رد جماح المماليك؛ أصدر أوامره بضرب النار بشدة، فكانت مذبحةً هائلةً ما شهد مثلها تاريخ هذه البلاد.

اندحر المماليك وتمزق شملهم شر ممزق، واستولت الجيوش المصرية على دنقلة، وقُتل من قُتل، ووقع في الأسر عدد عظيم من الجرحى.

أما من بقي حيًّا فقد لاذ بالفرار، متجولًا في حدود السودان.

أما صادق بك العفيفي فترك أمواله وأملاكه، وسار في قفار الأرض شريدًا طريدًا خائفًا من القتل.

اعتراه البؤس وهو ذلك العالِم العامل المجتهد، الذي تجوَّل في جميع ممالك أوروبا، وأحسن التكلم بلغات كثيرة، اعتراه البؤس وهو الأديب المهذب، تاركًا خلفه ما دوَّنته يده من العلوم والفنون التي جادت بها قريحته.

وأخيرًا عثر عليه الجيش المصري وهو على آخر رمق فقضوا عليه، فكانت وفاته «سنة ١٨٢٥م» وعمره ٢٩ سنة.

١  الظافر بأمر الله الخليفة الفاطمي، تولى الخلافة، وعاصمة ملكه مصر «سنة ٥٤٤ﻫ» بعد موت أبيه، وفي أيامه عُمِّر الجامع المعروف بالفكهاني داخل باب زويلة، ومكث في الخلافة أربع سنين وسبعة أشهر، إلى أن قُتل بدار الوزارة بالسيوفية بمصر سنة «٥٤٩ﻫ».
٢  بعد أن قضى محمد علي باشا على الوهابيين، عنَّت له حاجة شديدة إلى فتح السودان، وذلك لأسباب أهمها؛ أنه يقضي على المماليك الفارين في تلك الجهات. وأنه كان يريد تنظيم جيش من أبناء السودان بدلًا من جنده الألبانيين الذين كانوا خطرًا عليه في كل وقت. وأنه أراد تجديد طرق القوافل بين مصر والسودان؛ لاتساع نطاق التجارة بين القطرين. وأنه رأى أن سعادة مصر متوقفة على استحواذه على السودان وضمه إلى ملكه، وعدا عن ذلك ما كان يسمعه عن مناجم الذهب هناك. ففي سنة ١٨٢١م أرسل جيشًا إلى السودان بقيادة ابنه إسماعيل باشا، وهناك قضى على الفارين من المماليك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤