الفصل السادس

الماهوية اللغوية

إثمٌ تصوُّري يكبِّل اللغة ويعوق انطلاق العقل.

***

ثمة توترٌ في اللغة بين النزعة الماهوية المحافظة من جهة والنزعة التقدمية الواقعية العملية من جهة أخرى.

هل للغة ماهية مسبقة، ثابتة، تامة، دائمة؟

أم اللغة من الناس، وبالناس، وللناس؟

هل من المحتمل أن يكون للتعاليم اللغوية العسيرة التي نفرضها على التلاميذ دورٌ ما في تجميد إبداعيتهم وتعويق تدفقهم؟

من الذي يقرر أن القواعد الموروثة صواب والاستعمال الحديث خطأ؟

يبدو أن النزعة الماهوية هي في القلب من كل مذهب محافظ في اللغة، وأن موقف المرء من الماهوية هو الذي يحدد مذهبه في فقه اللغة:
  • في أصل اللغة: توقيفٌ هي أم اصطلاح؟

  • في طبيعة اللغة: علاقة الدال بالمدلول؛ أهي علاقةٌ طبيعيةٌ ضروريةٌ أم هي مواضعة واتفاق؟ هل اللغة شيءٌ ثابتٌ أم شيءٌ متغيرٌ؟

  • في علوم اللغة: أينبغي لها أن تكون معيارية حاكمة أم وصفية سمحة؟

سيقول مَنْ أُشْرِبَ بالنزعة الماهوية إن اللغة توقيفية، طبيعية، ثابتة، حاكمة. وسيقول مَنْ عُوفيَ من الماهوية بغير ذلك.

(١) توقيفٌ أم اصطلاح؟

سيقول الماهوي: إن اللغة البشرية هبطت من السماء وظهرت فجأة بطريقة إعجازية خارقة، في لحظةٍ زمنيةٍ واحدة، مستويةً مكتملة، كما وُلِدَت مِنِرفا من رأس زيوس! اللغة عند هؤلاء هي «توقيف» أو وحي أو إلهام من الله.

من الثابت الآن في ضوء اللغويات الحديثة وعلم الاجتماع الحديث «أن اللغة ليست إلا ظاهرة اجتماعية، وتلك الظواهر الاجتماعية لا تقوم إلا على غير ما تصوره الأقدمون من أمور عقلية منطقية وأعمال صناعية تحكمية»١ … تلك الظواهر الاجتماعية ليست صناعة فرد بعينه أو أفراد بعينهم، ولا عمل جيل بذاته، ولا توجيه فيها لعقل الفرد، أو الإرادة الفردية، ولا تأثير له عليها، فلا هو يستطيع دفعها إذا أراد، ولا هو يستطيع صدها إذا شاء، وما هو ولا قومه مجتمعين بمستطيعين أن يقدموا من أمرها شيئًا أو يؤخروه. فلا هم يتدخلون تدخُّلًا إراديًّا في وجودها، ولا هم يسهمون في تنظيمها، ولا هم يختطُّون طريقها؛ وكل ما تتعرض له وما يواجهها من دوافع أو موانع … وما ينالها من تغير وتحول، أو توسط وتبسط، أو توقف وتعطل، لا يكون شيء منه إلا من نتائج العقل الجمعي، ومقتضيات الوجود التجمعي، وهو ما لا ينفي فيه منطقُ الأفراد ولا يُثبِت، ولا تعطي فيه إرادتُهم ولا تمنع، ولن يغيروا أبدًا من واقع تحتمه القوانين الاجتماعية الثابتة المطردة.»٢
هذا أمرٌ ينبغي تفهمُه ابتداءً حتى يتبين لنا خطأ القدماء الأوَّلي فيما ذهبوا إليه. «فاللغة في كل مجتمع نظامٌ عام يشترك الأفراد في اتباعه، ويتخذونه أساسًا للتعبير عما يجول بخواطرهم، وفي تفاهمهم بعضهم مع بعض. واللغة ليست من الأمور التي يصنعها فرد معين أو أفراد معينون، وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث عن الحياة الجمعية، وما تقتضيه هذه الحياة من تعبير عن الخواطر وتبادل للأفكار. وكل فرد منا ينشأ فيجد بين يديه نظامًا لغويًّا يسير عليه مجتمعه فيتلقاه عنه تلقيًا بطريق التعليم والمحاكاة، كما يتلقى سائر النظم الاجتماعية الأخرى، ويصب أصواته في قوالبه، ويحتذيه في تفاهمه وتعبيره.»٣

(٢) من خصائص العقل القديم

لم يكن العقلُ الإنساني في تلك المرحلة التاريخية من تطوره لحظةَ تأسيس علوم اللغة، لم يكن قد تخلَّصَ بعدُ من آثار الشفاهية والبدائية وسذاجة الطفولة البشرية. كان عقلًا قديمًا يهيمنُ عليه «بارادايم»٤ قديمٌ بائد؛ وما يزال يتلقَّط روايةً من هنا وأسطورةً من هناك يَسدُّ بها الثغرة وينفي الحيرة. وكان التاريخ عنده لا يتجاوزُ بضعة آلاف من السنين؛ ومن ثَمَّ لم يكن بوسع الإنسان في هذا التاريخ المُقزَّم أن يصنع شيئًا هائلًا كاللغة. من هنا تنفذ الأسطورة وتستوي وتتربَّع.

وجهُ الأمر أن كفاح الإنسان على الأرض بدأ منذ ملايين السنين، كما تدلنا علومُ الأنثروبولوجيا والجيولوجيا، وأن اللغة ظاهرةٌ اجتماعية نشأت على رِسْلِها كنتيجةٍ حتميةٍ للحياة في جماعة أفرادُها يجدون أنفسهم مضطرين إلى اتخاذ وسيلة للتواصل والتعبير وتبادل الأفكار والخواطر. اللغة ظاهرةٌ اجتماعيةٌ تَظهَرُ بظهور المجتمع وتتأثر بعاداته وتقاليده وطرائق سلوكه وتفكيره، وتخضعُ لسُنَنِ التطور التي يخضع لها المجتمع، فترتقي بارتقائه وتنحط بانحطاطه.

ولم يكن العقل الإنساني في هذه المرحلة من تطوره ينفر من التناقض نفورَنا منه الآن. ولم يكن «قانون التناقض» law of contradiction فاعلًا فيه، هذا ما يجب أن نعيه ونحن نشهد النقائض متراصَّة في فكر القدماء جنبًا إلى جنب juxtaposed في وئام وسلام، مثلما تتراصُّ في أحلامنا! ونشهد التصورات الميثوبية٥ والغيبية تُبتلَع ببساطةٍ تدعونا إلى العجب. كان الفكر القديم «يدرك العلاقة بين السبب والنتيجة (العلة والمعلول)، ولكنه لن يدرك ما نراه من سببية (عِلِّيَّة) تعمل كالقانون آليًّا ودونما أي هوًى شخصي؛ وذلك لأننا قد ابتعدنا كثيرًا عن عالم التجربة المباشرة بحثًا عن الأسباب الحقيقية … إنه أعجزُ من أن ينسحب كل هذا الانسحاب عن الحقيقة المحسوسة. كما أنه لن يقنع بأفكارنا، فإذا بحث عن السبب، فإنه يبحث عن «من» لا عن «كيف». إنه يبحث عن إرادة ذاتِ غرض تأتي فعلًا مُعيَّنًا.»٦ هذا ما جعل مسألة «اللغة» كظاهرة «انبثاقية» emergent تنجم تلقائيًّا من طبيعة الاجتماع شيئًا عَصِيًّا على إدراكه، بعيدًا عن منال فهمه.
اللغة إذن «ظاهرة اجتماعية يتميز بها كل مجتمع إنساني. وهي ظاهرة إنسانية لا علاقة لها بالآلهة، ولم تهبط من علٍ، بل نشأت من أسفل، وتطورت بتطور الإنسان ذاته، ونمت بنمو حضارته.»٧ لقد اختُرِعَت اللغة — كما يقول هيردَر — «بوسائل الإنسان الخاصة، ولم تُبتكَر بصورة آلية بطريق التعليمات الإلهية. لم يكن الله هو الذي اخترع اللغة للإنسان، ولكن الإنسان نفسه هو الذي اضطُر إلى اختراعها بطريق ممارسته قدراته الخاصة.»

(٣) طبيعة اللغة

ما هي العلاقة بين الكلمات والأشياء؟ بين الدال والمدلول؟ بين الألفاظ وما تُشير إليه الألفاظ؟

ثمة جوابان ممكنان على هذا السؤال: الأوَّل يقول: إن العلاقة بين الكلمة ومدلولها علاقةٌ طبيعية ضرورية تجعل هذه الكلمة بعينها هي المقيَّضة للتعبير عن هذا الشيء بعينه، وهي المناسِبة — دون غيرها من الأصوات الممكنة — للإشارة إلى هذا المعنى المحدد؛ وبالتالي فإن أمر الدلالة (أو التدليل signification) غيرُ متروكٍ للمصادفة أو الاعتساف. ذلك هو «المذهب الطبيعي» naturalism في اللغة.
والجواب الثاني يقول: إن العلاقة القائمة بين العلامات اللغوية — كالكلمات — وبين معانيها هي في عامة الأحوال مسألة «عُرف» أو «اصطلاح» أو «تواطؤ» أو «مواضعة» convention. «إن الرموز اللغوية لا تحمل قيمة ذاتية طبيعية تربطها بمدلولها في الواقع الخارجي. فليس هناك أي علاقة بين كلمة «حصان» ومكونات جسم الحصان. والعلاقة كامنة فقط عند الجماعة الإنسانية التي اصطلحت على استخدام هذه الكلمة اسمًا لذلك الحيوان. ومعنى هذا أن قيمة هذه الرموز اللغوية تقوم على العرف؛ أي على ذلك الاتفاق الكائن بين الأطراف التي تستخدمها في التعامل. وهذا معناه أن المؤثر والمتلقي متفقان على استخدام هذه الرموز اللغوية المركبة بقيمتها المعرفية.»٨ وليس هناك ما يحتم على كلمة dog أن تعني ذلك الصنف المستأنَس من الكلبيات. إنما يجعل هذه الكلمةَ تعني ما تعنيه هو أن الناطقين بالإنجليزية يرقُب بعضُهم بعضًا ويتوقعون فيما بينهم أن يلتزم كل منهم بالعرف المتفق عليه والذي يربط كلمة dog بالكلب،٩ ذلك هو «المذهب الاصطلاحي أو التواضعي» conventionalism في اللغة.

شغلت هذه المسألة عقولَ المفكرين اللغويين منذ أقدم العصور. وفي زمن الإغريق طُرِحَ هذا السؤالُ طرحًا ناضجًا، وانقسم الفلاسفة فيه بين قائل بالمذهب الطبيعي مثل هيراقليطس وكراتيلوس، وقائل بالمذهب الاصطلاحي مثل ديمقريطس وهيرموجينيس.

(٤) اعتباطية العلامة اللغوية

هناك أكثر من طريقة لتجزئة العالم وتقطيعه، وكل لغة من اللغات الطبيعية تقوم بذلك على نحوٍ مختلفٍ بعض الشيء. هذه العرفية المزدوجة لكل العلامات اللغوية هي ما يُعرَف حاليًّا ﺑ «اعتباطية العلامة» arbitrariness of sign، وهو مصطلح مأثور عن فرديناند دي سوسير (١٨٠٧–١٩١٣م). يقول سوسير: إن العلاقة التي تربط «الدال» signifier ﺑ «المدلول» signified علاقة اعتباطية. ولما كنتُ أعني بالعلامة اللغوية النتيجة الإجمالية للربط بين الدال والمدلول، فإن بوسعي القول بإيجاز وبساطة: العلامة اللغوية علامة اعتباطية. ففكرة «الأخت» sister لا ترتبط بأية علاقة داخلية مع السلسلة المتتابعة من الأصوات s-o-r التي تُستعمل كدالٍّ بالنسبة لهذه الفكرة في اللغة الفرنسية؛ إذ يمكن تمثيل هذه الفكرة باستخدام أي سلسلة أخرى من الأصوات. وأكبر دليل على ذلك هو الفروق القائمة بين اللغات، بل وجود لغات مختلفة: فللمدلول «ثور» الدال b-o-f على طرف من الحدود (الفرنسية-الألمانية)، وo-k-s (ochs) على الطرف الآخر.١٠ لقد استُخدِم لفظ «رمز» symbol للدلالة على العلامة اللغوية، أو على وجه الدقة: للدلالة على ما نسميه «الدال». ولكن هناك بعض المصاعب التي تمنعنا من اتخاذه، وذلك بسبب مبدئنا الأوَّل نفسه؛ فللرمز خاصية أنه لا يُدرَك دومًا اعتباطيًّا؛ فهو ليس فارغًا، بل فيه بقية من رابطة «طبيعية» بين الدال والمدلول؛ فرمز العدالة مثلًا — أي الميزان — لا يمكن أن يُستبدَل به أي شيء آخر: دبابة مثلًا أو عربة!١١
يستدعي لفظ «اعتباطية» الملاحظة التالية: فهذه الكلمة لا ينبغي أن تعطي انطباعًا بأن أمر اختيار الدال متروك تمامًا للمتكلم (وسنرى أنه ليس بمُكنة أي أحد أن يغير شيئًا في علامة لغوية استتبت في مجتمعٍ لغويٍّ ما). إنما أعني بالاعتباطية أن العلامة اللغوية ليس لها سبب؛ أي إن العلاقة بين الدال والمدلول بها لا تقوم على أية رابطة طبيعية.١٢
والاستثناء الوحيد الممكن لهذه الطبيعة الاعتباطية للعلامة اللغوية هو ما يُعْرَف بالأونوماتوبيا onomatopoeia أي التسمية بالمحاكاة الصوتية، حيث تقوم بعض الكلمات بمحاكاة الأصوات التي تسميها (مثل كلمة boom بمنى هدير أو أزيز، وكلمة bow-wow بمعنى نباح).١٣

غير أن دي سوسير سرعان ما يهوِّن من شأن الأونوماتوبيا ويضعها في حجمها: «قد تُتَّخذ الكلمات الأونوماتوبية كدليلٍ على أن اختيار الدال ليس اعتباطيًّا دائمًا؛ غير أن الكلمات الأونوماتوبية ليست عناصر حيوية (عضوية) في بناء النظام اللغوي، ثم إن عددها أقل بكثير مما يُعتقَد … كما أن أونوماتوبيتها إنما جاءت نتيجةً تصادفيةً للتطور الصوتي فيها.»

أمَّا الكلمات التي هي أمثلة حقيقية للعلاقة بين الصوت والمعنى، مثل: glug-glug، tuik-tick فهي قليلة العدد، فضلًا عن أن اختيارها يكون عادةً بصورة اعتباطية؛ لأنها محاولات تقريبية تعتمد أيضًا على العُرف، في محاكاة بعض الأصوات (مثال ذلك bow-wow في الإنجليزية يقابله ouaoua في الفرنسية (نباح الكلب)). ثم إن هذه الكلمات ما إن تدخل اللغة حتى تصبح إلى حد ما خاضعةً للتطور اللغوي — الصوتي والصرفي إلخ — الذي تخضع له الكلمات الأخرى (مثال ذلك: كلمة pigeon (حمام) مشتقة من اللاتينية العامية pipio) وهذه الكلمة بدورها مشتقة من الصوت الذي يوحي به صوت الطائر). وهذا دليل واضح على أن هذه الكلمات تفقد شيئًا من صفتها الأولى؛ لكي تكسب الصفة العامة للعلامة اللغوية وهي صفة الاعتباطية (انعدام الصلة الطبيعية).
وأما ألفاظ التعجب، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالكلمات الأونوماتوبية (التي توحي أصواتُها بمعانيها)، ويصح عليها أيضًا النقد السابق؛ فهي ليست دليلًا على بطلان حجة الاعتباطية في العلامة اللغوية. وقد ينظر المرء إلى ألفاظ التعجب على أنها تعابير تلقائية للحقيقة تمليها على المتكلم القُوَى اللغوية الطبيعية. ولكننا نستطيع أن نبين عدم وجود علاقة ثابتة بين المدلول والدال في معظم ألفاظ التعجب؛ فما علينا إلا أن نقارن بين هذه الألفاظ في لغتين حتى نرى اختلافها من لغة إلى أخرى (فلفظة aie! الفرنسية يقابلها ouch! في الإنجليزية).١٤ ثم إننا نعلم أن كثيرًا من ألفاظ التعجب كانت في وقتٍ ما كلمات لها معانٍ مُحدَّدة، لاحظ: الكلمة الفرنسية diable (اللعنة)، mordieu (الله) من mort dicu (في الإنجليزية: Zounds goodness). إذن فالألفاظ التي توحي بمعناها وألفاظ التعجب ذات أهمية ثانوية، وأصلها الرمزي موضع خلاف.١٥
وقع كثير من النحاة العرب في الغلو في خصائص اللغة، وذهب بهم إعجابهم باللغة العربية بعيدًا بحيث تصوروا فيها ما لا وجود له إلا في خيالهم، وأضفوا عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر.١٦ من ذلك أنهم كانوا يؤمنون إيمانًا قويًّا بوجود «مناسَبة» بين اللفظ والمعنى، أو رابطة عقلية منطقية بين الأصوات ومدلولاتها، ولا يتصورون أن الأمر يمكن أن يكون اعتباطيًّا مَردُّه إلى التكرار والعادة، وأن يكون وهميًّا ناتجًا عن التداعي وميل العقل إلى الربط والتعميم. يقول ابن جني في كتابه: «التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري»: «وقد ذهب بعضُهم إلى أن العبارات كلها إنما أوقعت على حكاية الأصوات وقت وقوع الأفعال، ولا أبعد أن يكون الأمر كذلك، ثم إنها تداخلت وضورعَ ببعضها بعض، ألا ترى أن الخَضم لكل رطب والقَضم لكل يابس، وبين الرطب واليابس ما بين الخاء والقاف من الرخاوة والصلابة … وهذا باب إنما يصحب وينجذب لمتأمله إذا تَفَطَّن وتأتَّى له، ولاطفه ولم يجفُ عليه، ومنه قولهم: «بحثت» التراب ونحوه، وهو على ترتيب الأصوات الحادثة عنده؛ فالباء للخفقة بما يبحث به عن التراب، والحاء فيما بعدُ كصوت رسوب الحديدة ونحوها إذا ساخت في الأرض، والثاء لحكاية صوت ما ينبث من التراب فتأمله، فإن فيه غموضًا. فأمَّا قولهم: بحثت عن حقيقة هذا الأمر، وبحثت عن حقيقة هذه المسألة، فاستعارة للمبالغة في طلب ذلك المعنى، ولا تُتْرَك الحقيقة إلى المجاز إلا لضرب من المبالغة، ولولا ذلك لكانت الحقيقة أَوْلى من المجاز.»١٧
وفي «الخصائص»: «فإن كثيرًا من هذه اللغة وجدته مضاهِيًا بأجراس حروفه أصواتَ الأفعال التي عبَّر بها عنها، ألا تراهم قالوا: قَضْم في اليابس، وخَضْم في الرطب؛ وذلك لقوة القاف وضعف الخاء، فجعلوا الصوت الأقوى للفعل الأقوى، والصوت الأضعف للفعل الأضعف. وكذلك قالوا: صَرَّ الجندب، فكرروا الراء لما هناك من استطالة صوته، وقالوا: صَرْصَرَ البازي، فقَطَّعوه، لما هناك من تقطيع صوته، وسمَّوا الغرابَ غاق حكايةً لصوته، والبطَّ بطًّا حكايةً لأصواتها. وقالوا: «قَطَّ الشيء» إذا قطعه عَرْضًا، و«قدَّه» إذا قطعه طولًا؛ وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال. وقالوا: «مَدَّ الحبلَ» و«مَتَّ إليه بقرابة» فجعلوا الدال — لأنها مجهورة — لما فيه علاج، وجعلوا التاء — لأنها مهموسة — لما لا علاج فيه.»١٨ ثم يقول في الفقرة التالية عليها: «نعم، وقد يمكن أن تكون أسبابُ التسمية تخفى علينا لبُعدها في الزمان عَنَّا.» وهو شبيهٌ بقول أفلاطون في كراتيلوس: «إن العصور القديمة قد ألقت عليه حجابًا.»

(٥) التغير اللغوي

يقول فرديناند دي سوسير: «إن الزمن يغير كل شيء، إذن ليس من سبب يجعل اللغة لا تخضع لهذا القانون العام … فاللغة لا حول لها في الدفاع عن نفسها في مواجهة القوى التي تُغَيِّر من لحظة إلى أخرى العلاقة بين المدلول والدال. وهذه إحدى نتائج الطبيعة الاعتباطية للعلامة.»١٩ وحيثما كان هناك جماعة بشرية تسير في الزمان فثَمَّ تغير سيعروها شاءت أم أبت. وليست اللغة من ذلك ببعيد؛ فالحق أن «الزمن إذ يفكك المدلول والدال فإنه لا يعمل في فراغ بل في مجتمع المتكلمين، فلا وجود للغة خارج الإطار الاجتماعي. وإذا نظرنا إلى اللغة ضمن الزمن وأهملنا مجتمع المتكلمين (تصوَّر فردًا لوحده يعيش عدة قرون) ربما لا نلاحظ أي تغيير؛ فالزمن إذَّاكَ لن يؤثر في اللغة. وعلى العكس من ذلك، فإذا أخذنا — بعين الاعتبار — مجتمع المتكلمين وأهملنا الزمن لما رأينا أثر القوى الاجتماعية التي تؤثر في اللغة.»٢٠
«التطور أمرٌ لا مناص منه، ولا توجد لغة واحدة في العالم تقاومه. فما إن تمضي فترة من الزمن حتى تدون بعض التغييرات الواضحة. إن التغيير أمرٌ لا بد منه، حتى إنه لَيظهر في اللغات الاصطناعية (غير الطبيعية). بوسع من يخترع لغةً ما أن يسيطر عليها قبل أن توضع موضع الاستخدام. ولكن ما إن تدخل في مجال الاستخدام لتحقيق الغاية التي وُضِعَت من أجلها حتى تصبح ملكًا لجميع الأفراد، فيفقد صاحبُها السيطرةَ عليها.»٢١
يقول فونت في كتابه «عناصر السيكولوجيا الشعبية»: «اللغة يستحيل أن يخلقها فرد من الأفراد. صحيح أن أفرادًا قاموا باختراع الإسبرانتو وغيرها من اللغات الاصطناعية، إلا أن هذه الاختراعات كان من المستحيل تحقيقها ما لم تكن هناك لغةً أصلًا. بل لم تستطع أي من هذه اللغات أن تعيل نفسها، ومعظمها لم يعش إلا بفضل عناصر مستعارة من لغات طبيعية.»٢٢ وعن هذه اللغة الاصطناعية يقول سوسير:٢٣ «ولنأخذ الإسبرانتو٢٤ على سبيل المثال: إذا نجحت هذه اللغة ستتحرر من القيد الذي فُرِض عليها، فأغلب الظن أن الإسبرانتو بعد أن توضع قيد الاستخدام تدخل مرحلة من الحياة الكاملة للعلامة اللغوية. وتنتقل طبقًا لقوانين تختلف تمامًا عن تلك التي وُضِعَت لتُلائم طبيعتها المنطقية الأولى، ولن تعود إلى هذه الطبيعة أبدًا. إن الذي يقترح لغةً ثابتةً تستخدمها الأجيالُ المقبلة وتقبلها بطبيعتها الأولى، فإنه مثله كمثل الذي يضع تحت الدجاجة بيضة البط؛ فاللغة التي يخلقها هذا الرجل يجرفها — رغم صاحبها — التيارُ الذي يجرف بقيةَ اللغات.»٢٥

يسير الزمن فتتغير حاجاتُ الناطقين باللغة، وتتبدل الأجيالُ والأحوال وأشكال الحياة وأنماط التفكير وأدوات العمل ووسائط المعلومات. تتغير اللغةُ بتغير الحياة. تتغير الأشياء وغطاؤها الرمزي.

(٦) أسباب التغير اللغوي

مبدأ الاقتصاد

أي ميل الناطقين إلى التعبير المفيد بأقل مبذول من الطاقة. مثال ذلك: التخلص من الهمزة في لهجة قبائل الحجاز وفي معظم اللهجات العربية الحديثة، وانكماش «الأصوات المركبة» diphthong؛ فتحول نطق «يَوْم» إلى «يُوم»، و«نَوْم» إلى «نُوم»، و«بَيْت» إلى «بِيت»، و«عَيْن» إلى «عِين»، واندثار الأصوات الأسنانية (الثاء والذال والظاء) في بعض اللهجات العربية الحديثة، والقضاء على التفريعات الكثيرة والأنواع المختلفة للظاهرة الواحدة في داخل اللغة. مثال ذلك: الاكتفاء بالتاء كعلامة تأنيث والاستغناء بها عن الألف المقصورة (فنقول: سَلمه، عَدوه، فَتوه، بدلًا من: سلمَى، عدوَى، فتوَى)، وعن الألف الممدودة (فنقول: حَمره، صَحره، شَقره، بدلًا من: حمراء، صحراء، شقراء).
يشير فراي إلى أن ما دُرِج على تسميته بالأغلاط في الاستعمال اللغوي العادي ما هو إلا محاولة لتبسيط التنظيم اللغوي باتجاه الانتفاع إلى أقصى حد من المجهود الذي يقوم به متكلم اللغة من حيث الإنتاج اللغوي، فينم الاستعمال اللغوي عن حاجة ثابتة إلى الاختصار اللغوي والدقة في التعابير والتناسب المنطقي في التركيب …٢٦

مبدأ القياس

ويعني «القياس» analogy في اللغة ارتجال ما لم نسمعه قياسًا على ما سمعناه، أو ابتكار كلمة أو تصريف من عندنا بالقياس على ما لدينا من كلمات أو تصريفات تشبهه. ويدخل القياس ضمن مبدأ «الاقتصاد» في المجهود وتخفيف العبء على الذاكرة، من خلال الحمل على الشائع المطَّرِد وإقصاء الصيغ النادرة الشاذة وإعادة صياغتها على القاعدة المطردة؛ فتزول الاختلافات وتتوحد الظاهرة ويجري المختلف مجرى المؤتلف leveling.
مثال ذلك: أن الأفعال الشاذة الأنجلو سكسونية قد خضعت لتأثير القياس على المطرد في الألف سنة الماضية. من ذلك أن الفعل (help) helpan كان يُصَرَّف إلى الماضي healp والتصريف الثالث holpen، ولكن بحلول القرن الرابع عشر كان هذا الفعل منتظِمًا على القاعدة المطردة للأفعال الإنجليزية (help, helped, helped).

الاتصال بلغة أخرى

من أسباب التغير في اللغة: اتصالها بلغة أخرى من خلال الغزو أو الهجرة أو التجارة. ومن أهم صور التغير في حالة احتكاك اللغات «الاقتراض»؛ فقد اقترض العرب — على سبيل المثال — ألفاظًا أعجمية من لغات كثيرة، عن طريق الاشتقاق والنحت والمجاز، أو عن طريق تعريب اللفظة الأجنبية إذا كانت تدل على معنًى اصطلاحي دقيق يُخشَى ضياعُه في ثنايا اللفظ العربي.

أمَّا ما أخذته اللغات الأخرى من العربية فلا يكاد يُحصَى؛ فمعظم مفردات الفارسية الحديثة عربي الأصل، ومعظم مفردات التركية عربي أو فارسي، وثلاثة أرباع مفردات الأردية عربي أو فارسي، وفي الإنجليزية الحديثة كلمات كثيرة من أصل عربي، مثل: lemon, muslin, saffron, sherbet, syrup, sugar, camphor, candy, coffee, cotton, crimson, cumin, damask وهي على الترتيب: الليمون، الموصلي (نسيج خاص يُنسَب إلى الموصل)، الزعفران، الشراب، السكر، الكافور، القنوة (عسل القصب المجمد)، القهوة، القطن، القرمزي، الكمون، الدمشقي (نسيج).٢٧

تغير أشكال الحياة

من أسباب التغير اللغوي تغير أشكال الحياة ومعالم الثقافة ووسائط الاتصال، وبزوغ مفاهيم جديدة تتطلب مصطلحات جديدة؛ من ذلك أن كثيرًا من الألفاظ العربية قد تجردت من معانيها العامة القديمة وأصبحت تدل على معانٍ خاصةٍ تتصل بالعبادات والشعائر، أو شئون السياسة والإدارة والحرب، أو مصطلحات الفلسفة والكلام والفقه، أو مصطلحات النحو والصرف والعَروض … إلخ.

تأثير الكُتَّاب والمترجمين والمجامع العلمية

للكُتَّاب والأدباء والمترجمين أثر كبير في نهضة اللغة وتهذيبها واتساع نطاقها وزيادة ثروتها. والأمثلة على ذلك كثيرة في تاريخ الأمم. فأكبر الفضل في نهضة العربية في العصر العباسي يعود إلى العلماء والأدباء والمترجمين عن اليونانية والفارسية. لقد اقتبسوا مفردات أجنبية وطوَّعوها لمقتضيات العربية، فاتسع متن اللغة وازدادت مرونةً وقدرةً على التعبير عن العلوم والآداب. كذلك الأمر في عصر النهضة الحديثة في مصر والشام؛ إذ أفاد الكُتَّاب والأدباء والعلماء من أساليب اللغات الأوروبية وتأثروا بها، وترجموا وعرَّبوا الكثير من مصطلحات الأدب والعلم، ونقلوا الكثير من مذاهب الفن والأدب والفكر.

عوامل داخلية في ذات اللغة

إن بنية اللغة ذاتها — متنها وأصواتها وعناصر كلماتها ودلالاتها وقواعدها — تنطوي على خصائص تعمل هي نفسها في صورةٍ آليةٍ على التطور اللغوي وعلى توجيهه وجهة خاصة. إنه الطابع «الكموني» أو «المُحايث» immanent ﻟﻠ «بنية» structure الذي ألحَّ عليه البنيويون واضطلع جيل دولوز بتبيانه: إن كل ما يطرأ على «البنية» من أحداث أو عوارض لا يقع لها «من الخارج»، وإنما ينبع مما تنطوي عليه البنية ذاتها من ميول كامنة واتجاهات باطنة تكون هي المسئولة عن كل ما يَعْرِض لها من تغيرات.٢٨

(٧) أنواع التغير الدلالي

من الأمثلة النموذجية على التطور الدلالي ما حدث لكلمة «السيد»؛ فقد كانت هذه اللفظة في البداية هي متضايف correlative كلمة «عبد»؛ فالسيد هو مَن له عبد، أو هو مقابل العبد. ثم تطور استعمال كلمة «السيد» لتدل على صاحب النفوذ والسلطان. ثم أصبحت كلمة «سيد» تعني «الهاشمي»، وهي عند الإخوة الشيعة لقب للمرجع الشيعي العلمي. وفي العصر الحديث وبعد تقليص الفوارق بين الطبقات وإلغاء الألقاب أصبح الناس جميعًا يُلقَّبون ﺑ «السيد»، وصارت الكلمة لقبًا يسبق الأسماء جميعًا على سبيل الاحترام والتأدب. وقد استجدَّت في الفترة الأخيرة كراهة معينة لاستعمال هذه الكلمة في بعض الأوساط العربية المتحفظة.

(٨) توسيع المعنى (التعميم) widening/extension

وذلك نتيجة إسقاط بعض الملامح التمييزية للفظ، فيتسع «مفهومه» intension وتزداد «ماصَدَقاته» extension؛ أي إن معنى الكلمة يتسع ويمتد لتشمل ما لم تكن تشمله في الماضي، أمثلة ذلك:
  • كلمة salary التي تعني الراتب، وهي كلمة من أصل لاتيني كانت تعني في بدايتها القديمة حصة الجندي من الملح، ثم صارت بمرور الزمن تعني مرتب الجندي، وانتهت في زمننا الحديث إلى أن تعني أي مرتب لأي عمل.
  • كلمة picture كانت تُطلَق على اللوحة المرسومة، واتسع معناها الآن ليشمل أي صورة بما فيها الصورة الفوتوغرافية.
  • كلمة dog كانت قديمًا تعني سلالة معينة من الكلاب، وصارت الآن تشمل جميع السلالات.
  • كلمة girl كانت تعني طفلة صغيرة، وقد اتسع معناها ليشمل أيضًا أي امرأة من أي عمر.
  • القافلة: في الأصل هي الرفقة الراجعة من السفر، ثم اتسع المعنى ليشمل رفقة السفر ذاهبة كانت أو راجعة.٢٩
  • الوِرد: في الأصل إتيان الماء، ثم اتسع معناها ليشمل إتيان كل شيء.

  • الوَرد: تُطلَق على ذلك الصنف المعروف من الأزهار، وقد اتسع معناها وصارت تُطلَق أيضًا على كل زهر.

  • العربة: كانت مقصورة على العربة التي تُدفَع باليد أو تجرها الدواب، وصارت تشمل كل السيارات الآلية.

  • اللبن: كان يخص لبن الناقة والشاة وغيرهما من الدواب (أمَّا الذي تُرْضِعُه الأم ابنها فهو لِبان)، وقد تطور معنى اللبن ليشمل الناقة والشاة والمرأة المرضع التي كان يختص بها اللبان.

  • الرائد: في الأصل طالب الكلأ، ثم صار طالب كل حاجة رائدًا.

  • البأس: في الأصل الحرب، ثم كثر استخدامه في كل شدة.

(٩) التضييق (التخصيص) narrowing

وهو تقلص نطاق المعنى واقتصاره على شيء بعينه من بين الأشياء التي كان يشملها في الماضي، وذلك نتيجة إضافة بعض الملامح التمييزية أو المكونات الدلالية للفظ، فكلما زادت المكونات الدلالية لشيء قل عدد أفراده (كلما ضاق المفهوم قل الماصدَق). والتضييق هو التغير الدلالي الأغلب في اللغة.

من أمثلة التضييق في الدلالة:
  • كلمة mete في الإنجليزية القديمة كانت تشير إلى الطعام أو الغذاء بصفة عامة، وما زال أثر المعنى العام في كلمة sweetmeat (مربى أو حلوى). وقد ضاق معناها الآن ليخص صنفًا واحدًا من الطعام.
  • كلمة hound الإنجليزية كانت في الأصل تشير إلى جميع الكلاب، وقد ضاق معناها الآن ليخص نوعًا بعينه منها.
  • كلمة poison (سم) الإنجليزية كانت تعني «الجرعة من أي سائل».
  • كلمة corpse الإنجليزية كانت تعني ما يعنيه أصلها اللاتيني corpus أي «الجسم» البشري أو غير البشري حيًّا أو ميِّتًا، وقد ضاق معناها ليخص جثة الإنسان الميت.
  • حريم: كانت في الأصل تدل على كل محرم لا يُمَس، ثم أصبحت تدل على النساء.

  • العيش: ضاق معناها لتدل على «الخبز» (في مصر)، وعلى «الأرز» (في بعض البلاد العربية).

  • مأتم: في الأصل تعني اجتماع الناس نساءً ورجالًا في الخير والشر، في الفرح والحزن. وقد ضاق معناها لتعني اجتماع النساء للموت. وهي الآن تعني اجتماع الناس في الأحزان.

  • طَرَب: كانت تعني خفة تعتري المرء في الفرح أو الحزن.٣٠ ثم تطور معنى الطرب وسقط منه ملمح الحزن واستُبقيَ ملمح الفرح، وصارت الكلمة تعني الفرح فحسب، أو اهتزاز النفس للجمال من نغم أو تعبير.
  • وعد: كانت تُستعمَل في الخير والشر أيضًا النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا (الحج: ٧٢). وقد صارت الآن تُستعمَل في الخير فقط، واختصَّت كلمة «وعيد» بالشر.
  • حَمام: كانت تُطلَق على ذوات الأطواق وما أشبهها كالفواخت والقمارى واليمام والقَطا. ثم ضاق معناها ليدل على ذلك النوع بعينه من الطيور.

  • المُدام: في الأصل كل ما سكن ودام، ثم شاع استعمالها في الخمر لدوامها في الدن، أو لأنه يُغلَى عليها حتى تسكن.

(١٠) التحول (النقل) shift

أي انتقال الكلمة من مجموعة من الأحوال إلى أخرى:
  • كانت كلمتا «مِلاحة» navigation و«ميناء» port مقصورتين على مجال السفن أو المجال البحري والنهري، وقد انتقل معناهما الآن ليشمل المجال الجوي والبري، ويمكن أن يُعَدَّ هذا أيضًا ضمن «التوسيع» الدلالي widening.
  • كلمة bead (خرزة) كانت في الإنجليزية القديمة gebet وتعني التضرع والدعاء؛ إذ كان الكهنة الكاثوليك يعدون تسبيحاتهم وأدعيتهم على حبات منظومة في خيط. ثم صارت bead أو bede في الإنجليزية الوسيطة تدل على المعنيين: دعاء، وحبات عد الأدعية.
  • شَنَب: كانت تعني جمال الثغر وصفاء الأسنان. وصارت الكلمة الآن تعني الشارب عند العامة.

  • السُّفرة: كانت تعني الطعام الذي يُصنَع للمسافر، وصارت تعني المائدة وما عليها من الطعام.

  • طول اليد: كان يُكنى به عن السخاء، وصار يكنى به عن الميل إلى السرقة.

  • التنزُّه: كانت في الأصل تعني «التباعد» عن الأقذار، وأحيانًا عن المياه والريف، وقد تطورت الآن لتعني البُعد عن الصخب والفلوات إلى البساتين والخضر.

  • القطار: هو في الأصل عدد من الإبل على نسق واحد تُسْتَخْدَم في السفر وفي النقل. وقد تغيَّر الآن معناها لتطور وسائل النقل.

(١١) الاستعمال المجازي figurative use

وهو تحول في المعنى قائمٌ على مماثلة أو مشابهة بين الأشياء:
  • كلمة crane (كركي) وهو طائر طويل العنق، وتُستعمَل الآن لتعني الرافعة أيضًا.
  • كلمة bureau (مكتب) في الأصل تدل على نوع من نسج الصوف الغليظ، ثم أُطلِقَت على قطعة الأثاث التي تُغَطَّى بهذا النسج، ثم على قطعة الأثاث التي تُستعمَل للكتابة أيًّا كانت، ثم على الغرفة التي تحتوي على هذه القطعة من الأثاث، ثم على الأعمال تُعْمَل في هذه الغرفة، ثم على الأشخاص الذين يقومون بهذه الأعمال، ثم على أية مجموعة من الأشخاص تقوم بإدارة إحدى الإدارات أو الجمعيات.٣١
    يقول الأستاذ محمد المبارك: «ينتقل اللفظ من الدلالة الحسية (الحقيقية) إلى الدلالة المعنوية (المجازية) نتيجة كثرة الاستعمال وتأثير مرور الزمن، فاستعماله بالمعنى الجديد في بادئ الأمر عن طريق المجاز، ولكنه بعد كثرة الاستعمال وشيوعه بين الناس تذهب عنه هذه الصفة وتصبح دلالته على مدلوله الجديد حقيقة لا مجازية.»٣٢ ويقول د. أحمد مختار عمر: «وعادةً ما يتم الانتقال المجازي بدون قصد، وبهدف سد فجوة معجمية. ويميز الاستعمال المجازي من الحقيقي للكلمة عنصر النفي الموجود في كل مجاز حي، وذلك كقولنا: رِجْل الكرسي ليست رِجْلًا، وعين الإبرة ليست عينًا … وقد يحدث بمرور الوقت أن يشيع الاستعمال المجازي فيصبح للفظ معنيان، وقد يشيع المعنى المجازي على حساب المعنى الحقيقي ويقضي عليه، وميَّزَ بعضُهم بين الأنواع الثلاثة الآتية للمجاز:
    • (١)

      المجاز الحي: الذي يظل في عتبة الوعي، ويثير الغرابة والدهشة عند السامع.

    • (٢)
      المجاز الميت أو الحفري fossil: وهو النوع الذي يفقد مجازيته ويكتسب الحقيقية من الألفة وكثرة التردد.
    • (٣)
      المجاز النائم أو الذاوي faded: ويحتل مكانًا وسطًا بين النوعين السابقين. والفرق بين المجاز الميت والمجاز النائم هو جزئيًّا سؤال عن درجة الوعي اللغوي.»٣٣

أمثلة أخرى

  • المجد: معناه الأصلي امتلاء بطن الدابة من العلف، ثم كثر استخدامه مجازًا في الامتلاء بالكرم وطيب السمعة وبُعد الصيت، وانقرض معناه الأصلي، وأصبح حقيقة في هذا المعنى المجازي.

  • الأفَن: هو قلة لبن الناقة، وانتقل إلى نقص العقل.

  • الوَغَى: هو اختلاط الأصوات في الحرب، وانتقل إلى الحرب نفسها.

  • بَنَى الرجلُ على امرأته: عبارة كانت كناية عن دخوله بها؛ لأن الشاب البدوي كان إذا تزوج يبني له ولأهله خباءً جديدًا، وقد فقدت الآن معناها الأصلي لانقراض هذا النظام، وإن كانت لا تزال تُستخدَم كنايةً عن الزفاف.

  • الراوية: تعني في الأصل الجمل الذي يحمل قربة الماء. وقد صارت تعني القربة نفسها (مجاز مرسل)؛ لعلاقة المجاورة بين البعير الذي يحمل الماء في آنيته وبين الإناء المحمول.

  • البريد: في الأصل الدابة التي تُحمَل عليها الرسائل، ثم تطور مدلولها لتطلق على الرسائل المنقولة، وعلى النظم والوسائل المتخذة لهذه الغاية في العصر الحاضر.

  • الغفر والغفران: من الستر، وانتقل إلى الصفح عن الذنوب.

  • ساق الرجلُ إلى المرأة مهرَها: كان هذا التعبير يُستخدم قديمًا حينما كان المهر عددًا من الأنعام. ولكن بعد أن تغير العُرف وصار المهر نقودًا أُعطيَ الفعل معنًى أوسع واحتفظ بحيويته.٣٤
  • لسان القوم (أو المتحدث باسم …): صار يُستعمَل بمعنى المتكلم عن قومه أو مؤسسته على سبيل المجاز المرسل (إطلاق اسم الجزء على الكل).

(١٢) الانحطاط الدلالي deterioration/pejoration

هو تغير يلحق بمعنى اللفظة فيُكسبها دلالةً سلبيةً، ومن أمثلته:
  • كلمة Sir وLady: هي في الأصل ألقاب شرف رفيعة لا تحظى بها إلا الطبقة العليا أو من تمنحه الأمة هذا اللقب تقديرًا لمكانته الاستثنائية (مثل سير كارل بوبر)؛ غير أنه شاع إطلاقها اليوم على الأشخاص العاديين نتيجة التغيرات الكبيرة الاجتماعية والسياسية التي شهدتها أوروبا في العصر الحديث.
  • كلمة notorious كانت في الأصل تعني «مشهور»، ثم انحدرت دلالتها وصارت تعني «مُشَهَّر» أي مشهور بشيء قبيح.
  • كلمة dogmatic في الأصل تعني «ذو اعتقاد راسخ»، وكانت كلمة dogma تعني عقيدة أو مبدأ هاديًا ومرشدًا. وقد انحدرت دلالتها واقتصرت على اليقين المتصلب الجازم اللاعقلاني.
  • كلمة skeptic تأتي من الكلمة اليونانية القديمة skeptikos التي تعني «متسائل» أو «مُستعلِم» inquiring؛ أي الشخص الذي يسأل ويلتمس الإجابات ولم يصل بعدُ إلى اعتقاداتٍ راسخةٍ، ثم تغير معناها وصارت تعني «الشاك» أو «المرتاب».
  • حاجب: كانت تعني في الدولة الأندلسية «رئيس الوزراء»!

  • أفندي: تركية كانت تعني في الأصل مركزًا رفيعًا ومنصبًا مرموقًا.

(١٣) «الارتقاء» أو «التحسن» الدلالي melioration/amelioration

يقابل الانحطاط الدلالي الارتقاء الدلالي، حيث تكتسب اللفظةُ دلالةً إيجابيةً أو يزايلها ما كان لها في الأصل من دلالة سلبية، ومن أمثلتها:
  • كلمة Marshal الإنجليزية (مشير): كلمة من أصل جرماني معناه السايس أو خادم الإصطبل أو الغلام الذي يتعهد الأفراس mares.
  • كلمة angel كانت تدل على «الرسول» الذي يشبه «موزع البريد» في أيامنا، ثم رفع الفقهاء هذا اللفظ باستعماله للدلالة على الكائن الوسيط بين العقل الإلهي والعقل الإنساني.٣٥
  • كلمة Knight التي تعني الآن لقب «فارس» أو «سير»، وكانت تعبِّر في فروسية القرون الوسطى عن مركز مرموق، وقد انحدرت إلى اللغات الأوروبية من معنى أصلي هو «ولد خادم».٣٦
  • كلمة minister (وزير) كانت قديمًا تعني «خادم» (ولا تزال تُستعمل كفعل بمعنى يُسعِف أو يُعِين أو يقدم خدمة).
  • كلمة wicked بمعنى شرير أو خبيث، صارت في السياقات العامية تعني «ذكي» أو «متألق» أو كقولنا في عاميتنا: «شاطر».
  • كلمة mischievous (مؤذٍ) فقدت كثيرًا من حدتها وصارت تعني «مزعج بظرف ومرح» أو كقولنا في عاميتنا: «شقي».
  • كلمة nice (لطيف) تنحدر من كلمة فرنسية قديمة بمعنى «غبي» أو «أحمق».
  • بيت: في الأصل هو المسكن المصنوع من الشعر، ثم صار يعني كل بيت حتى «البيت الأبيض»!

(١٤) قُل ولا تَقُل

ماذا يعني أن تقول في اللغة: «هذا خطأ»؟

يعني أنه لا يُراعِي «مستوى صوابيًّا» standard of correctness معينًا كان ينبغي أن يراعيه. يقول جاردنر في كتابه: «الكلام واللغة» (١٩٣٣م): «ومن أجل هذا يجب أن نسأل أنفسَنا أوَّلًا: ما هي اللغة؟ ومَن صاحبُ السلطة في وضع القواعد والأسس والاستعمالات والكلمات التي يجب التزامها وتُفْرَض على الجميع؟ وهذه أسئلة سهلة، ولكن الإجابة عليها عسيرة؛ فهناك تقدير تقريبي للموضوع من رأيه أنه كما يقف الفرد وراء كلامه ليدافع عنه، فإن «المجتمع اللغوي» يقف أيضًا من وراء اللغة عمومًا» …٣٧ وكان السائد في الجيل الماضي اتجاه اللغويين إلى النظرة للغة نظرة معيارية صرفًا: فمهمة النحو تدريس قواعد صحة الكلام، ووظيفة المعجم ليست إعطاء معاني الكلمات فقط، بل الإشارة أيضًا إلى ما يجب أن تعنيه الكلمات. ولكن الاتجاه الآن يسير ضد هذا الاتجاه المعياري؛ إذ أصبحت جل المؤلفات اللغوية «تصف» الاستعمال اللغوي في صورتيه الماضية والحاضرة … مع وضع «التغير اللغوي» في الاعتبار؛ «لأن اللغة في أي لحظة من لحظاتها ليست فقط ما هو كائن بالفعل وإنما ما سيكون في المستقبل؛ فاللغة في حركة دائمة وفي تحول دائم.»٣٨
لم يكن قُدامى اللغويين العرب يبحثون أسباب التغير، ربما لأنهم عَدُّوا التغيرَ خطأً وحثوا العامة على اجتنابه، وقصروا جهدهم على تعقب الخطأ ورصده؛ بغية التحرز منه واجتنابه، في «أدب الكاتب» — على سبيل المثال — أفرد ابن قتيبة بابًا بعنوان: «باب معرفة ما يضعه الناسُ في غير موضعه.»٣٩ صفوة القول: إن قدامى اللغويين لم يدرسوا التغير؛ لأنهم عدوه لحنًا فدرسوا اللحن!
وحين نقول: إن السلطة اللغوية هي المجتمع اللغوي، فإنما نعني تلك «الجماعة التي تستعمل نظام الكلام بطريقة موحدة» على حد قول بلومفيلد؛ ففي كل وسط اجتماعي متجانس السكان نجد عادةً أن للغة شيئًا من الوحدة، بل إن لَشرطٌ أساسيٌّ لوجود اللغة أن يحرص من يتكلمونها على استخدام نفس الوسائل للتعبير؛٤٠ فالجماعة المتزاملة لغويًّا تستعمل — كما يقول فيرث — ما يتقاسمونه من تجارب مشتركة، وهم يستمسكون بهذا التماثل ويحرصون عليه؛ لأنه شرط الفهم والإفهام في بيئتهم الخاصة.٤١

والأفراد يكتسبون اللغة من بيئتهم وفي عصرهم الذي عاشوا فيه؛ ومن ثَمَّ فإنهم يراعون اللغة كما تُنطَق في عصرهم لا كما تُنطَق في عصورٍ سبقت، ولا كما ينبغي أن تُنطَق وفقَ نموذجٍ مثالي لعصرٍ ذهبي غيَّبَته الأيام. اللغة في تغير مستمر، وقد يكون هذا التغير بطيئًا لا يتضح إلا بمرور جيل أو أجيال، ولكنه يحدث ولا ينفيه بُطءُ حدوثه. ونحن إذ نفترض الثبات اللغوي فإنما نفعل ذلك لدواعي التشريح والدراسة، وبُغية اقتناص «حالة لغوية» سينكرونية لضرورة الرصد والتقعيد، بينما اللغة في حركة مستمرة والعُرف اللغوي في تغير دائب. الثبات اللغوي إذن ليس أكثر من حيلةٍ إجرائية ووَهْمٍ عملي.

نخلص من ذلك إلى تعريف المستوى الصوابي على أنه: «مراعاة العُرف اللغوي المقتصر على بيئة خاصة في زمنٍ خاص، مع اعتبار التطور في اللغة؛ يتوافق معه نشاط المتكلم ويلاحظه الباحث بهذه الصفات.»٤٢ يتبع ذلك بالضرورة تغير ما يراعيه المتكلم على حسب العرف اللغوي الجديد الذي يفرض نفسه عليه كي يتوافق معه، ويترتب عليه أن مستعمل اللغة لا يطالَب بغير مراعاة المستوى الصوابي في اللغة الذي اكتسبه من الجيل الذي هو أحد أفراده، ومِن عُرف العصر الذي عاش فيه.٤٣

ليس هذا الحديث دعوةً إلى إلغاء القواعد والانصراف عن جهات الاختصاص اللغوي، بل دعوة إلى أن تُراعي جهاتُ الاختصاص طبيعةَ القواعد ومنشأها وحركتها، بحيث تأتي القواعد متفقة مع استعمال اللغة وتطورها وتبرأ من التعسف والجمود، وتأتي المقترحات الجديدة متوافقة مع طبيعة اللغة، بوصفها ظاهرةً اجتماعيةً تخضع للعرف الاجتماعي العام والعرف اللغوي الخاص، ولا تكون محاولات دونكيشوتية تُحارَب في غير ميدان، ومماحكات تكِدُّ الذهنَ في غير طائل.

لقد توقَّف النحاة في تقعيداتهم عند زمنٍ معين لا يتجاوزونه، بينما اللغة الحقيقية تمضي في سبيلها غير عابئةٍ بهم، توقفت القواعد بينما العرف اللغوي يتغير مع الزمن، فاتسعت الفجوة بينهما وصارت هوة. هذا ما أربك الفصحى وصعَّب قواعدها وجعلها أشبه بلغة أجنبية في دراستها وفي استخدامها.

«إن التطور اللغوي (الصوتي والصرفي والنحوي والمعجمي والدلالي) ليستتبع تغييرًا في المستوى الصوابي من الناحية التاريخية كذلك، فما كان صوابًا في الماضي يصبح خطأً في الوقت الحاضر، ويصبح خطأُ اليوم صوابَ الغد إذا رأى المجتمعُ اللغوي أن يتبناه في الاستعمال.»٤٤
«وليس من حق الباحث في اللغة أن يفترض فيها التوقف عند فترة معينة أو جيل خاص أو عدة أجيال، فيُجَمِّد الدراسةَ ويترك عملَه الحقيقي في ملاحظة اللغة الدائبة التغير، وينصرف إلى تفريعاتٍ ومماحكاتٍ وعَنَتٍ ذهنيٍّ عقيمٍ لا حاجة باللغة إليه، ثم يفرض ما لاحظه عن اللغة في فترة من فتراتها على فترة أخرى أدى إليها تطورها. وهذا عكسٌ لمهمة الدارس من الوصف إلى التحكم، ومن الملاحظة إلى المصادرة.»٤٥
«ولو أن الاستشهاد لم يقف عند حد على يد النحاة العرب لأمكن أن تجري دراسة اللغة على مراحل وعصور باستقراء ما يَجِدُّ من النصوص إلى أيامنا هذه، ولاعتُبر كل ميل غير فردي إلى مخالفة القواعد السابقة تطوُّرًا في الاستعمال اللغوي يتطلب تطوُّرًا في النظرة إلى هذه القواعد في ظل منهج وصفي لدراسة اللغة. ولكن إيقاف الاستشهاد عند حد معين جعل النحاة — وقد جفَّت روافد الاستقراء عندهم — يلجأون إلى ما لديهم من القواعد، فيجعلونها مادة الدراسة بدل النصوص التي أعوزهم الجديد منها، وما دامت القواعد نفسها هي الهدف وهي مادة الدراسة فلا مهرب إذن من النظرة إلى هذه القواعد باعتبارها مقاييس ومعايير من صلب المنهج، لبيان الصحيح والخطأ من التراكيب؛ أي إن المستوى الصوابي بدل أن يكون فكرة اجتماعية يراعيها المتكلم أصبح فكرةً دراسيةً يراعيها الباحث. وبهذا توقَّف العمل بالمنهج الوصفي في دراسة اللغة، وأصبح لزامًا علينا الآن أن ننظر إلى الدراسات اللغوية العربية باعتبارها دراسة تصف مرحلة معينة من تطور الفصحى، ولكن هذه المرحلة تشتمل في الحقيقة على مراحل، وقد كان مؤرخو الأدب أسرع إلى الاعتراف بعصور اللغة من النحاة، وكان أَوْلى بالنحاة أن يعترفوا بهذه المراحل ويدرسوا كل واحدة منها دراسة وصفية على حدة كما فعل أصحاب تاريخ الأدب.٤٦ وقد أصبح لزامًا علينا أيضًا إذا أردنا دراسة ما جَدَّ من تطور في هذه الفصحى أن نبدأ بدراسة مرحلتنا هذه التي نعيش فيها دراسة وصفية، وأن نتطرق منها إلى ما سبقها من المراحل التاريخية التي حدثت منذ توقف الاستشهاد وأن نقطع النظر عن نفوذ هذه الدراسات القديمة على تفكيرنا، ونبدأ بالدراسة على أساس منهج وصفي يتوخى الاستقراء والتقعيد من جديد.»٤٧

(١٥) خطأ مشهور

تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها!

يسبرسن
التغير «عملية» و«حالة»: «عملية» process ابتداع وتجديد (فردي في الأغلب) مخالف «بطبيعة حالِه» ipso facto للعرف السائد، تتبعها «حالة» state يستتب فيها الطارفُ المستجد ويدخل متنَ اللغة فلا يعود جديدًا وهكذا دواليك. يقول أولمان: إن التغير في اللغة يقع على مرحلتين: الأولى هي مرحلة التغير نفسه وما يطلق عليه «الابتداع والتجديد» innovation ويحدث هذا في الكلام الفعلي، وقد يقوم به فرد من الأفراد بإدخال عناصر جديدة في استعمال اللغة، والثانية هي مرحلة «انتشار التغير» dissemination بأن تتداوله الجماعة فيما بينها، وإذا حدث ذلك أصبح التغيُّر عنصرًا من عناصر نظام اللغة، ما دام قد سمح له بالاستعمال العام بين الناطقين بها؛ فالتغير يبدأ أوَّلًا فرديًّا بما يُدخِله فردٌ أو أفراد على نظام اللغة من استعمالات جديدة، مما ينظر إليه أوَّلًا على أنه «مخالفة» (خطأ!) لما عليه الجماعة، فإذا قُدِّر لهذه «المخالفات» (الأخطاء!) أن تلقَى قبولًا من غيرهم، فإنها تأخذ الطابع الاجتماعي العام، وتصبح القاعدة التي يتبعها كل الناطقين باللغة.٤٨ هذا تأويلُ قول يسبرسن عن بعض اللغويين: «إن تاريخ اللغة ليس سوى تاريخ الأخطاء اللغوية فيها.»٤٩

(١٦) شرعية اللغة الشيوع

ومن ثَمَّ فإن عبارة «خطأ مشهور» شأنها شأن «مربع مستدير» … تناقض ذاتي! فإذا ما وجدت الخطأ المشهور أكثر جمالًا ووضوحًا وإبانةً، فاعلم أن شهرته مشروعة مستحقة: الجمال والوضوح والإبانة. وماذا يكون «الصواب» أكثر من ذلك؟! «خطأ مشهور» هي ذاتها خطأ مشهور!

حين تشيع مجاوزةٌ لغوية وتنشر رايتها على الألسنة يتحول عنصرها وتتبدل صفتها وتأخذ رتبة «قاعدة»؛ قاعدة لها علينا كل ما للقاعدة من حقوق. وما كان لهذه «المخالفة» أن تبسط سلطانَها لو لم تكن تقدم فكرًا وتحقق وصلًا وتسد فراغًا وتُثبِتُ نَجاعة. لقد تمت لها «المواضعة» convention فصارت من ثَمَّ «لغة»، ومن السفه أن نتنازل عنها بدعوى قُل ولا تَقُل! وهل اللغة إلا «مواضعة» جَدَّت — على رِسلِها — لتحقيق التواصل بعد أن كانت وسيلةُ التواصل فأفأةً و«قاعدته» صُراخًا و«نَحوُه» صفيرًا ونخيرًا. هل اللغة إلا ذاك «الخروج» على الصراخ والمروق من الحُبسة؟ وإذا كان الخطأ هو خروج عن المتَّبَع وتململ عن المستقر؛ فاللغة بقضِّها وقضيضها هي بهذا المعنى خطأٌ مشهور، وإن امتاز عن غيره من الأخطاء بأنه خطأ كبير … بحجم العالم.

•••

ومن الحق أن «مذهب» المرء في منشأ اللغة يُملِي عليه «منهجه» في دراستها: فأنت إذا قنعتَ بأن اللغة عُرفٌ اجتماعيٌّ اتفاقيٌّ، فسوف تقنع في دراستها بالوصف المحايد والاستقراء السمح. أمَّا إذا امتلأتَ بأنها ماهيةٌ مُقدَّرة و«توقيف» إلهي٥٠ فسوف تصطنع في دراستها القاعدة الصارمة والمعيار الملزِم، وسوف تتحول إلى شرطي لغوي وإرهابي نحوي!

ولكنْ ما احتيالُك فيمن شَرَع في بحثه اللغوي وقد وَقَرَ في قلبه أن اللغة ماهيةٌ ثابتةٌ وتوقيفٌ إلهي أو وَضعُ حكماء أو سليقةٌ سحرية؟ إنه مدفوع بأحسن نية إلى حفظها والذود عنها ضد أي تحوُّل أو تغير. ومدفوع إلى فرض قواعدها الموروثة بلا هوادة. ومدفوعٌ إلى البحث عن «الحكمة» القابعة في هذه الظواهر اللغوية التي لم تأتِ عبثًا ولم تنشأ اعتباطًا. يقول السيوطي في «الاقتراح»: «إن العرب لم تبتدع اللغة العربية، وإنما هي من صنع الله سبحانه، وعلى النحاة أن تبحث عن حكمة الله فيما صنعه» (التوقيف). ويقول سيبويه: «وليس شيءٌ يُضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجهًا» (حكمة العرب).

إنما اللغة ملكُ مستخدميها، اللغة لمن ينطقها، لمن يتواصل بها، والصواب هو الصواب التواصلي، والتغير اللغوي نفسه ضربٌ من القول، يترجم البيئة القائمة، ويعكس الثقافة الراهنة، ويشفِّر الخبرة الجديدة. وعلى مُنَظِّرِي اللغة أن يلاحقوا الكلمةَ المنطوقةَ ويتأقلموا معها لا العكس … أن يَصِفوها لا أن يحاكموها! ولو كان شكسبير قد اتبع مبدأ قل ولا تقل لما أرفدَ الإنجليزية بفيض من التعبيرات الجريئة والألفاظ المبتكرة تحفظ رمقها وتجدد دماءها، مثل: eyeball, obscene, hot-blooded, epileptic, alligator … etc..

•••

إن فينا قومًا تملَّكهم «إرهابٌ معجمي» و«سادية لغوية»، يقومون من زمنٍ بوظيفةِ شرطةٍ لغوية مولعة بتحرير المخالفات، وبلعبة قُل ولا تقل، ينصبونها للتسلُّط والتَّسَلِّي، «كفعل الهرِّ يحترشُ العَظايا!» ويُغالون في ذلك إلى حد «تصحيح الصحيح»! يظن هؤلاء أنهم يحسنون إلى اللغة وهم يؤذونها غايةَ الإيذاء وينشرون فيها الفوضى والاضطراب، ويبثُّون في الناس اليأسَ من الفصحى والانصراف عنها، وها هي العربية تُحتضَر على أيديهم الخشنة، وليس موت اللغة سوى أن تهجر اللسان. يظن هؤلاء أنهم يُصلِحون اللغة وهم يهزون القاربَ وينخرون فيه نخرًا منكَرًا. لقد أضلَّتهم القواعدُ (البَعدية) فسلبتهم السليقة (القبلية)، وكأنَّا بالذيل يهز الكلبَ وبالعربة تتقدَّم الحصان.

لماذا كان العربي القديم يتكلم بسجيةٍ تَعنُو لها القواعدُ وتأتي بعدها ووراءها وعلى قَدِّها، حتى لقد شُرِّعَ السَّماعُ وأصبح الذوقُ قواعد، بينما قلبنا نحن الآية وبدأنا بالقواعد نتحنَّثُ في محرابها ونطوِّعُ لها الذوقَ، حتى ضَجِرَ الناسُ من العربية، وانفَضُّوا عن الخطأ والصواب، وفقدوا الذوقَ والقواعد؟!

•••

إن اللغة لفي سيرورةٍ دائمةٍ وتحوُّلٍ دائب، وهناك ألفُ سببٍ يُلِحُّ على الألفاظ أن تخرج من جِلدِها وتكتسي معانيَ جديدةً غير ذات صلة بمعناها القديم. وما دامت اللغة في تغير مستمر فمن الطبيعي أن تواكبها في ذلك علومُ اللغة المنوطُ بها رصدُ الظاهرة اللغوية وضبطُ حركتها، وأن يكون نهجُ العلوم اللغوية توتُّرًا محسوبًا بين «المعيارية» و«الوصفية»: معيارية تصون اللغة من التحلل والانهيار، ووصفية تفتح لها آفاقًا للتطور والارتقاء.٥١
١  «تتميز الظواهر الاجتماعية — كما أوضح إميل دوركايم — بخصائص رئيسية ثلاث: «(١) أنها تتمثل في نظم عامة يشترك في اتباعها أفراد مجتمع ما، ويتخذونها أساسًا لتنظيم حياتهم الجمعية، وتنسيق العلاقات التي تربطهم بعضهم ببعض والتي تربطهم بغيرهم. (٢) أنها ليست من صنع الأفراد، وإنما تخلقها طبيعة الاجتماع، وتنبعث من تلقاء نفسها عن حياة الجماعات ومقتضيات العمران. وهذا هو ما يعنيه علماء الاجتماع إذ يقررون أنها من نتاج «العقل الجمعي». (٣) أن خروج الفرد على أي نظام منها يَلْقَى من المجتمع مقاومة تأخذه بعقاب مادي أو أدبي، أو تلغي عمله وتعتبره كأنه لم يكن، أو تحول بينه وبين ما يبتغيه من وراء مخالفته وتجعل أعماله ضربًا من ضروب العبث العقيم … وهذه الخواص الثلاث تتوافر في اللغة على أكمل ما يكون.» (د. علي عبد الواحد وافي، اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧١م، ص٣-٤).
٢  أمين الخولي، مشكلات حياتنا اللغوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٧م، ص٤٠–٤٤.
٣  د. علي عبد الواحد وافي، اللغة والمجتمع، ص٤.
٤  نموذج شارح أو إرشادي أو مثال قياسي أو إطار معرفي، والمصطلح من وضع توماس كون فيلسوف العلم ومؤرخه.
٥  الأسطورية أو الصانعة للأساطير mythopeic.
٦  ﻫ. فرانكفورت وآخرون: ما قبل الفلسفة، ترجمة: جبرا إبراهيم جبرا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط٣، ١٩٨٢م، ص٢٧-٢٨.
٧  أنيس فريحة: نحو عربية مُيَسَّرة، بيروت، ١٩٥٥م، ص٧٢.
٨  د. محمود فهمي حجازي: مدخل إلى علم اللغة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة، ١٩٧٨م.
٩  William James Earle: Philosophy of Language. In: Introduction to Philosophy; McGraw-Hill, Inc., 1992, p. 152.
١٠  فرديناند دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة د. يوئيل يوسف عزيز، بيت الموصل، ١٩٨٨م، ص٨٧.
١١  المرجع السابق، الصفحة نفسها.
١٢  المرجع السابق، ص٨٧-٨٨.
١٣  William James Earle: Philosophy of Language, p. 152.
١٤  يقابل ذلك في العربية: آخ! (د. يوئيل يوسف).
١٥  دي سوسير: علم اللغة العام، ص٨٨-٨٩.
١٦  د. إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط٨، ٢٠٠١م، ص٥٦.
١٧  ابن جني: التمام في تفسير أشعار هذيل مما أغفله أبو سعيد السكري، تحقيق ناجي القيسي، بغداد، ١٩٦٢م، ص١٣٠-١٣١.
١٨  ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط٤، ١٩٩٩م، ج١، ص٦٦-٦٧.
١٩  دي سوسير: علم اللغة العام، ص٩٤.
٢٠  المرجع السابق، ص٩٦.
٢١  المرجع السابق، ص٩٤.
٢٢  Wundt. W., 1921. Elements of Folk Psychology. London: Allen and unwin., p. 3.
٢٣  تُوفي دي سوسير عام ١٩١٣م، ونشر تلميذاه: شارل بالي وألبرت سيكاهي محاضراته في علم اللغة العام سنة ١٩١٦م.
٢٤  الإسبرانتو: هي أشهر اللغات العالمية الاصطناعية، دفع بها عام ١٨٨٧م العالم الروسي الدكتور لازاروس زامنهوف وطوَّرها من بعده الكثيرون. وقد راجت كثيرًا كلغة عالمية وخُصِّصَت لها المجلات وبرامج الإذاعة ودُرِّسَت في عدد من المدارس والجامعات، واستُعمِلَت في المؤتمرات والندوات العلمية. والإسبرانتو ليست لغة طبيعية ولكنها ليست أيضًا لغةً صناعية بالمعنى الدقيق؛ لأنها قائمة على قواعد منتقاة من اللغات الأوروبية. وهي لغة شديدة التبسيط وسهلة التعليم للغاية؛ إذ تحتوي على أقل ما يمكن من القواعد النحوية (ست عشرة قاعدة)، ومن المفردات الأساسية وقواعد الاشتقاق المنتظم التي تساعد على صياغة أعداد كبيرة من المفردات الأخرى. ومع كل هذه التسهيلات فقد أفل نجمُها بعد سطوعه في بدايات القرن العشرين وحتى الخمسينيات والستينيات منه؛ وذلك لأسباب ليس أقلها أنها لا تعبِّر عن حضارة أمة بعينها ونبض عيشها الخاص وأفق رؤيتها، وأن لغات الدول العظمى المسيطرة تكتسب ضغطها ورواجَها من قوة أهلها وسيطرتهم على الغير في جميع المجالات، وأن اللغة المصطنعة لا بد أن يطرأ عليها من التغيرات ما يطرأ على اللغات الطبيعية من جيل إلى جيل، وأن اللغة المشتركة لا تضمن الوفاق وتُحصِّن ضد الشقاق، ولم تكن يومًا مانعًا من الحروب والصراعات.
٢٥  دي سوسير، علم اللغة العام، ص٩٤-٩٥، وواضح أن الزمن قد حقَّق تنبُّؤ دي سوسير وأكثر.
٢٦  فتحي إمبابي: تحرير اللغة تحرير للعقل وإعادة منهجيته، في «قضايا معاصرة»، الكتاب: ١٧-١٨، ١٩٩٧م، ص٢٨٣.
٢٧  د. علي عبد الواحد وافي: اللغة والمجتمع، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة، ١٩٧١م، ص٣٤.
٢٨  د. زكريا إبراهيم: مشكلة البنية، مكتبة مصر، القاهرة، ١٩٧٦م، ص٣٩.
٢٩  د. مجدي إبراهيم محمد إبراهيم: بحوث ودراسات في علم اللغة، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ٢٠٠٤م، ص٢١٣–٢١٥.
٣٠  يقول النابغة الجعدي:
وأراني طَرِبًا في إثرِهم
طَرَبَ الوالِه أو كالمختبَل
ويقول المتنبي:
لا يَملِكُ الطَّرِبُ المحزونُ منطقَهُ
ودمعَهُ وهما في قبضة الطَّرَبِ
٣١  د. رمضان عبد التواب: التطور اللغوي، مظاهره وعلله وقوانينه، مكتبة الخانجي، القاهرة. ط٣، ١٩٩٥م ١٤١٥ﻫ، ص١٩٢ وما بعدها.
٣٢  محمد المبارك: فقه اللغة وخصائص العربية، دار الفكر، بيروت، ١٩٦٨م، ص٢٢١.
٣٣  د. أحمد مختار عمر: علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، ط٧، ٢٠٠٩م، ص٢٤١-٢٤٢.
٣٤  علم الدلالة، ص١٦٢.
٣٥  المرجع السابق، ص٢٤٩.
٣٦  المرجع السابق، الصفحة نفسها.
٣٧  د. محمد عيد: المستوى اللغوي للفصحى واللهجات، عالم الكتب، القاهرة، ١٩٨١م، ص١٢-١٣.
٣٨  المستوى اللغوي، ص١٤.
٣٩  المؤلفات القديمة في اللحن تفوق الحصر؛ نذكر منها على سبيل المثال: البهاء فيما تلحن فيه العامة للفراء، ما يلحن فيه العامة للأصمعي، ما يلحن فيه العامة لأبي نصر الباهلي، إصلاح المنطق لابن السِّكِّيت، لحن العامة لأبي علي الدينوري، تقويم اللسان لابن دريد، تقويم الألسنة للديمرتي، ليس في كلام العرب لابن خالويه، لحن العوام للزبيدي، ما تلحن فيه الخاصة لأبي هلال العسكري، درة الغواص في أوهام الخواص لأبي محمد القاسم بن علي، تهذيب الخواص من درة الغواص لابن منظور، غلطات العوام المنسوب للسيوطي.
٤٠  المستوى اللغوي، ص٢١.
٤١  المرجع نفسه، ص٢٧.
٤٢  المرجع نفسه، ص١٢.
٤٣  المرجع نفسه، ص٣١.
٤٤  د. تمام حسان: اللغة بين المعيارية والوصفية، عالم الكتب، القاهرة، ط٤، ص٦٨.
٤٥  المستوى اللغوي، ص٣١.
٤٦  فطن دارسو الأدب القدامى إلى ظاهرة التطور التاريخي وأخذوها بعين الاعتبار. يقول ابن رشيق في «العمدة»: «قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيُستحسَن في وقت ما لا يُسْتَحْسَن في آخر، ويُستحسَن في بلدٍ ما لا يُستحسَن عند أهل غيره. ونجد الشعراءَ الحُذَّاق تُقابل كلَّ زمانٍ بما استجدَّ فيه وكثر استعماله عند أهله.»
٤٧  اللغة بين المعيارية والوصفية، ١٦٧-١٦٨.
٤٨  ستيفن أولمان: دور الكلمة في اللغة، ترجمة د. كمال بشر، القاهرة، ١٩٦٢م، ص١٦٥.
٤٩  أوتو يسبرسن: اللغة بين الفرد والمجتمع، ترجمة: عبد الرحمن أيوب، القاهرة، ١٩٥٤م، ص١٥٦.
٥٠  انظر السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، تحقيق: أحمد الحمصي ومحمد قاسم، جروس برس، ١٩٨٨م، ص٨١.
٥١  د. عادل مصطفى: المغالطات المنطقية، فصول في المنطق غير الصوري، المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٧م، ص٢٣١–٢٣٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤