روبيسبيير يرتدُّ خائبًا

قصة من الثورة الفرنسية

هزَّ روبيسبيير كتفيه وقال: كما تريدين، طبعًا، ولكني أذكرك — أيتها المواطنة — أن الحياة غالية، وأن القبر بارد، ولو كنت في مركزك …

ولكن دنيزدي فرانكورت ابتسمت بدورها وهي تقاطعه: إن الموت لأفضل من الحياة معك.

وعرتها رعشة شديدة وهزت كتفيها، أما روبيسبيير فقد نفض بعض الغبار عن ردائه وقال ملاطفًا: «إنك لتخطئين أيتها المواطنة، إنني لا أقدم لك الموت، فستعيشين على كلا الحالين، إنه حبيبك فقط الذي إن أخطأت الحكم والاختيار سيموت. إنك تقولين إنك تحبينه — أيتها المواطنة — فلا ريب إذن أنك تكرهين رؤيته وهو يصعد الدرجات درجات المقصلة، وهو يقع في طريقه جملة مرات؛ فإن الدرجات تكون زلقة في كثير من الأحيان لكثرة الدماء التي أريقت عليها، فإن دماءهم — أولئك الأرستقراطيين — لتشبه دماء الخنازير في غزارتها، إن قبلاتها — هذه المقصلة — لهي قبلات حمراء نارية، أيتها المواطنة، وإني أراهن أنه ليفضل عليها شفتيك أنت …»

ثم اقترب منها خطوة، وأردف: «وعلى كل حال، فهذا ما سيحدث غدًا … إلا إذا …»

ولكن دنيز ألقت بيده التي مدها إليها بعيدًا عنها، وقالت وهي تنظر إليه نظرةً كلها احتقار: «أَوَتَظن أنني أبيع شرف حبيبي كي أشتري حياته؟ أَوَتَظن أنه يقبل الحياة بهذا الثمن الذي تطلب؟ حقًّا إنه ليفضل أن يموت ألف ميتة على أن يعرف أنني بين ذراعيك، وأنا …»

وهنا احمرَّ وجهها خجلًا وهي تقول: «إنني لأموت خجلًا إذا كنت لأخبره بما تطلب!»

وقد حدَّق روبيسبيير فيها وقال: آه! إن الكبرياء كانت دائمًا عيبك الوحيد، أيتها المواطنة، ثم أخذ يفكر وهو يفتح علبة عطوسه ويغلقها: «إنك تذكرين يومًا من أيام الصيف منذ بضع سنين، حينما رفضت إحدى الأرستقراطيات الجميلات، وكانت تلبس الحرير بخديها الموردين كلون الشرائط التي كانت تحلي شعرها — ولاحظي أيتها المواطنة أن لي ذاكرة حسنة — مساعدة غريب رثِّ الثياب مدَّ لها يده لتستند إليها وهي تنزل من عربتها كي تلجأ إلى فندق صغير في الطريق. لقد كانت يدك فقط هي التي أردت لمسها حينذاك، ولكن الآن …»

ثم قال وقد لمعت عيناه تحت حاجبيه: «… الآن أطلب أكثر من يدك!»

وحاول مرة أخرى أن يقترب منها، ولكن دنيز ردَّته ثانية، ثم قالت وقد أصابها عناء شديد، وتدلت رأسها على عنقها الأبيض: «إني أفضل الموت سريعًا مع جاستون؛ فالفترة التي يموت الإنسان فيها قصيرة، أما الحياة فطويلة جدًّا، ألا دعني أموت معه …»

وهنا علت وجه روبيسبيير ابتسامة شر، وقال وكأنه يزمجر: أهذه كلمتك الأخيرة، أيتها المواطنة …؟

فقالت دنيز بثبات وقد حدَّقت بكل شجاعة في عينيه بعينيها الزرقاوين: نعم!

فصفَّق روبيسبيير بحدة وقال بخشونة: أيها الحرس، خذوا سجينكم …

وقد خرج حبيب دنيز من الغرفة مسرعًا، ولما وصل إلى الباب انحنى لها تحية كما كان معتادًا أن يفعل في الماضي، ثم صاح: الوداع يا دنيز!

وقد التقت نظراته بنظراتها لحظة.

ثم مدت يديها كأنها تريد أن تمسك بجسمه أيضًا؟ ثم قالت: إن هي إلا فترة قصيرة ثم نلتقي أي جاستون.

وكانت لا تزال تبتسم حينما أغلق الباب والتفت إليها روبيسبيير قائلًا: «له القبر، أيتها المواطنة، سرير زواج مؤلم مقبض ولا شك.»

ثم قال وقد احتدَّ صوته: «أما أنت فإلى الكونسيير جيري١ تسمعين كل يوم النداءات إلى عربات النقل٢ المنتظرة للجميع، كل بدوره إلا أنت …»

فقالت دنيز محتدة: لا؛ فلي أنا هذا …

ثم وضعت يدها في صدرها، ولمع في يدها شيء وهي تخرجه إلى الضوء …

قفز روبيسبيير وهو يقسم، ويلعن …

ولكنه كان متأخرًا.

فقد سبقت دنيز لكي تنتظر حبيبها!

عن «لويز هيلجرز‏»‏
١  سجن الثورة الفرنسية.
٢  عربات النقل: ويقصد بها العربات التي تشبه تلك التي تنقل فيها الخضروات من الحقول عندنا. وكانت تستعمل زمن الثورة الفرنسية في نقل المحكوم عليهم بالإعدام من السجن إلى المقصلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤