الفصل الثالث والعشرون

الانطلاق

البحر، البحر، البحر!

جاء كودي ظُهرَ أمس من أقصى المَرسى راكضًا، وقال: «العم دوك يقول إنها ساعةُ الصفر. أعِدُّوا أغراضَكم. سنتحرَّك.»

قلت له: «أتقصد الآن؟ في هذه اللحظة؟».

قال وهو يبتسم ابتسامته العريضة: «نعم! سنتحرَّك الآن يا صوفي!».

أخذتُ أجهِّز أغراضي في عُجالة، ولم يكن لديَّ متَّسَع من الوقت لأفكر فيما كان يحدث أو في شعوري تجاهَه، لكن ها نحن ذا، ها نحن في الطريق! نحن ننطلق، لقد بدأت الرحلة!

ساد التوتُّر المكان في الساعات القليلة الأولى؛ إذ كان الجميع يتحقَّق بدقة من أغراضه، ويتشاجر بشأن الأماكن التي سنضعُها فيها، والخال ستيو وبراين يوزِّعان المهامَّ والجداولَ الزمنية، ويبذلان أقصى جهدِهما ليجعَلاني أشعر بأنني فتاةٌ كَسولة بلا فائدة، لكني لم أعبأ بذلك، واحتفظتُ بهدوئي، ولم أحاول حتى أن أثيرَ ضيقهما.

بينما كنا نُغادر خليج فندي، سمعنا صوتَ شيء يتحرك في الماء، ثم تَكرَّر هذا الصوتُ مرارًا! كنا مُحاطين بعشرات الفُقمات، تُخرج رءوسها الجميلة من الماء لتُلقيَ نظرةً على ما حولها.

قال كودي: «مرحبًا يا عزيزاتي …» بينما كانت الفقماتُ تُحرك شواربَها تجاهنا. حتى براين بدا منبهِرًا بها، لأول مرة لم يكن لديه تعليقٌ متسلِّط. فقد جلس على ظهر القارب يُشاهد الفُقمات مسنِدًا ذقنَه إلى يدَيه.

جلس الخال مو بالخلف يرسم. أُحبُّ رسوماته. لقد شرح لي كيف أن الفُقماتِ البعيدةَ يجب أن تظهر صغيرةَ الحجم في الرسم مقارنةً بالفقمات الأقرب. حاولتُ أن أرسمها أنا أيضًا، لكنَّ رسمي لم يكن بجمال رسم الخال مو.

سألته: «هل أنت رسَّام؟».

أجاب: «أنا؟». وأردف: «لا، لستُ رسَّامًا.»

قلت: «لكنك تبدو لي رسَّامًا. فأنت ترسم رسومات رائعةً حقًّا.»

قال: «لا. هذا الرسم ليس جيدًا بما يكفي. لقد صدئت موهبتي.»

سألتُه عن مهنته، عن عمله الذي يقتاتُ منه. فقطَّب جبينَه. وقال: «أنا محاسب. أجلس على الكمبيوتر طَوال اليوم وأعبث بالأرقام.»

سألته: «لكن هل أردتَ أن تكون رسَّامًا؟ أقصد قبل أن تُصبح محاسبًا؟».

أجاب: «بالتأكيد.»

«ولماذا لم تفعل ذلك إذن؟»

قال مو: «لماذا لم أفعل ماذا؟». كان يضع الشواربَ للفُقمات في رسمته.

«تُصبح رسَّامًا. لماذا لم تُصبح رسَّامًا بدلًا من أن تصبح محاسبًا؟»

استخدم إصبعه ليُلطخ خطَّ الماء في رسمته، جاعلًا إياه يبدو ناعمًا وضبابيًّا وأقربَ إلى شكل الماء. أظن أنه ربما لم يسمَعْني، لكنه قال لي أخيرًا: «لا أعرف. لماذا يصبح المرءُ أيَّ شيء؟»

سألت: «أليس لأنه يريد ذلك؟ ألا يصبح المرءُ ما يريد أن يصبح عليه؟».

نظر لي الخال مو. كان فمُه نصفَ مفتوح، وبدا أن على لسانه كلماتٍ يريد أن ينطق بها، لكنها أبَت أن تخرج من فمه. فأغلق فمَه وحاول مجددًا. قال: «ليس هذا ما يحدث دائمًا يا صوفي. ليس هكذا تسير الأمور في الغالب.»

«ولكن لماذا؟ لماذا لا يفعل الشخص ما يُجيده وما يرغب فيه؟»

كان الخال مو في هذه الحظة يرسم موجاتٍ صغيرةً حول الفقمات. قال: «لأن الشخص أحيانًا لا يحتاج إلا إلى وظيفة يا صوفي. وأحيانًا تكون الوظيفة التي يُمكنه الحصول عليها ليست هي التي يَصبو إليها.»

قلت: «حسنًا، أتمنى ألا يحدث ذلك معي. أتمنى ألا أعمل بوظيفة لا أحبُّها. يبدو الأمر لي خَسارةً كبيرة.»

قال الخال مو وهو يضع رسمته جانبًا: «آه. شباب.»

•••

في الليلة الأولى، كان القمر يتوارى وراء السُّحب، وكان المشهد مخيفًا، فقد غشي الظلامُ الدامس كلَّ الأرجاء، وكانت السماء والبحر كدِثارٍ أسودَ ضخم يلفُّنا. لمحتُ بريقًا ووميضًا في الماء، ثم توالى ظهورُهما بكثرة، كانت كخيوطٍ واهية من الضوء تسير بجانب القارب، كما لو كانت هذه الأضواءُ إشاراتِ استغاثةٍ خاطفةً من شخص قد ضلَّ الطريق بالأسفل.

قال الخال دوك: «العوالق الفسفورية! إنها بديعة!».

على مدار الليل ظلَّت بُقَع صغيرة حول القارب من كل جانب تُصدر وميضًا كيَراعاتٍ تحت الماء. بدا الأمر سحريًّا وغامضًا، كما لو كانت يُرسلون لي رسالة مُشفَّرة. تملَّكَتني رغبةٌ شديدة في فكِّ شفرةِ رسالتها تلك، لكنني لم أستطِع، وتعرَّضتُ للتوبيخ لانشغالي الشديد بمشاهدةِ وميض العوالق، ولم أكن منتبِهةً إلى الأشرِعة.

في وقتٍ لاحق من تلك الليلة، بينما كنا نخوض بالقارب في المحيط المفتوح، سمِعْنا اندفاعًا صاخبًا للمياه، وراحت تفيض وتُحدِث صوتًا عاليًا. إنها حِيتان! كان الظلامُ حالكًا فلم نتمكَّنْ من رؤيتها، إلا أنَّ أحدَها اندفع نحوَنا حتى أصبح على مَقربةٍ شديدة، حتى إنني تسلَّقتُ الصاريَ تقريبًا. كان يبدو من صوته أنه حوتٌ ضخم عملاق!

•••

أحيانًا عندما أفكر فيما يحدث، تسري قُشَعريرةٌ باردة في جسدي. نحن نعبر المحيط! ولن نتمكَّن الآن من مغادرة القارب والتسكُّع. لا أشخاصَ جُددًا لمقابلتهم، لا أطعمةَ جديدةً لِتَجرِبتها، لا وقتَ أقضيه بمفردي، لا يابسة، لا ماءَ عذبًا، لا أشجار، لا تمارينَ رياضية باستثناء المهامِّ المَنوطين بها في القارب. وكيف سننسجمُ جميعًا معًا ونحن محتجَزون بهذا الشكل دون أيِّ فرصة ليبتعد أحدُنا عن الآخر؟

يُساورني القلق بشأن أن أكون محتجَزةً بصحبة الخال مو؛ لأنه غالبًا ما يكون صاخبًا جدًّا، ودائمًا ما يبدو هو وكودي على وشك أن يضرب أحدُهما الآخَر. ثم هناك الخال ستيو وبراين، وهما دائمًا ما يوجِّهان الآخَرين، ويُثيران ضجةً بشأن كلِّ شيء، ويجعلاني أشعر بالدُّونية. الخال دوك هو الأهدأ، وهو أكثرُ شخص أشعرُ بالارتياح في وجوده، لكنه في بعض الأحيان يبدو غيرَ منظَّم وقلقًا للغاية بشأن ما قد يحدث، حتى إنني أتساءل عمَّا إذا كان سيسمح لنا حقًّا باستكمال الرحلة، أو أنه سيجعلنا نعودُ أدراجَنا عندما يجد أول تسرُّب للماء في القارب أو أيَّ كسرٍ بسيط.

لكن كلَّ هذه المخاوف تتبدَّد أمام هذا الشعور القوي الدافع، كما لو أن البحر يُنادينا والريح تدفعنا، وها نحن ذا ننطلق في طريقنا! وتشعر كما لو أن هذا هو المكان الذي يجب أن تكون فيه، وتتساءل إلى أين أنت ذاهب ولا يُمكنك حتى التفكير؛ لأنك قد أصبحتَ على الطريق!

•••

بوووم! إنه هزيمُ الرعد! يوجد رعدٌ الآن! يُظهِر تقريرُ الطقس وجودَ برودة ورياح قوية، رائع! هذا سوف يُضفي بعض الحياة على القارب بالتأكيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤