٢٥

إنه السبت. اختلت ماريانا بدراجو في غرفة المكتب؛ بينهما ما يشبه المُشاجَرة. صوتها سريع وملحٌّ، يرتفع من وقت إلى آخر فوق صوت ابنها، ثم تخفضه.

ليوبا على السلم، تقفز السلالم صعودًا وهبوطًا، مُحدِثة صخبًا.

يناديها: ليوبا! تعالَي لأعطيك بعض الزبادي!

تتجاهَلُه الطفلة.

تخرج ماريانا من غرفة المكتب. هل يمكن أن أترك ليوبا هنا، تبقى مع دراجو؟ لا مشكلة. أعود فيما بعدُ لآخذها.

كان يأمل أن يتلقَّى من ماريانا بعضًا مما يدفع لها مقابله، ولو جلسة أخرى من رعاية الجسد؛ آلة صغيرة في البنك تُحوِّل فلوسًا من حساب ريمنت إلى حساب يوكتش. في مقابل فلوسه، في مقابل المأوى الذي يقدمه في بيته لدراجو، يتلقى ماذا؟ خدمة التسوق، التي تقل باستمرار؛ خدمة مهنية صحية في أوقات متباعِدة. ليست صفقة خاسرة، من منظور ماريانا. ومن ثم، كما تقول كُسْتِلُّو المرأة باستمرار، إذا أراد أن يكون أبًا فمن الأفضل أن تكون أبوة حقيقية، أبوة ليست روحية.

ما تكاد ماريانا تنصرف إلا وتأتي أصوات من بئر السلم وتظهر ليوبا مرة أخرى مع كُسْتِلُّو المرأة تَجرُّ معها شون صديق دراجو، يرتدي شون اليوم تي شيرت واسعًا وشورتًا يصل إلى سمانتيه.

تقول كُسْتِلُّو المرأة: أهلًا، بول. أتمنى ألا يزعجك هبوبنا عليك. عزيزتي ليوبا، أخبري دراجو أن شون هنا.

هو وهي، الاثنان الكبيران، وحدهما للحظة.

تقول كُسْتِلُّو: إنه، صديقنا شون، ليس في فصل دراجو. لكن هكذا تبدو الآلهة والملائكة: تختار أبشع الفانين وتوفق بينهم.

يصمتُ.

تواصل: ثمة حكاية أنوي أن أحكيها، وأظن أنها ستسليك. تعود إلى زمن بعيد، إلى أيام شبابي. كان هناك ولد في شارعنا يشبه دراجو إلى حد كبير. نفس العينين الداكنتين، نفس الرموش الطويلة، نفس النظرات الإنسانية الطيبة وإن لم تكن بالضبط. فُتِنْتُ به. كنتُ في الرابعة عشرة آنذاك، وكان أكبر مني بقليل. كنتُ متعوِّدة على الدعاء في تلك الأيام، كنتُ أقول: «يا رب، دعْه يجود عليَّ بمجرد ابتسامة وسأخلص لك إلى الأبد.»

– ثم؟

– لم يهتم الرب، ولا الولد، لم تُلبَّ أشواقي العذرية. وهكذا، يا للأسف، لم أصبح أبدًا ابنة الرب! آخر ما سمعتُه عن مستر رموش، أنه تزوج وانتقل إلى ساحل الذهب حيث كان يجني أرباحًا كثيرة من العقارات.

– هل هذا كل مضمونها؛ من تحبه الآلهة يموت شابًّا؟

– أخشى. أخشى أن الآلهة لم يَعُد لديها وقت لنا، سواء لِتُحبَّنا من ناحية أو لِتعاقِبَنا من الناحية الأخرى؛ لديهم مشاكل كافية في بيئتهم المغلقة.

– لا وقت حتى من أجل دراجو يوكتش؟ هل هذا مغزى حكايتك؟

– لا وقت حتى من أجل دراجو يوكتش. دراجو حر نفسه.

– مثل بقيتنا.

– مثل بقيتنا، يمكن أن يسترخي، ليس هناك حُكْمٌ مثير مُعلَّق على رأسه؛ يمكن أن يكون بحارًا أو جنديًّا أو سمكريًّا أو ترزيًّا، كما يختار، يمكن حتى أن يدخل مجال العقارات.

هذا أول حوار بينه وبين كُسْتِلُّو المرأة يمكن أن يصفه بالودِّي، وربما حتى باللطيف. يقفان مرة في صف واحد، عجوزان يثرثران عن الشباب.

ربما هذا هو التفسير الحقيقي لهبوط المرأة عليه من حيث لا يدري، ليس لتكتب عنه في كتاب ولكن لتدخله في زمرة المُسنِّين؟ ربما كل العلاقة مع يوكتش، وفي مركزها عاطفته، المهمَلة العقيمة، تجاه مسز يوكتش، ليست في النهاية سوى طقس مُعقَّد للمرور أُرسِلتْ خلاله مسز إليزابيث كُسْتِلُّو لترشده؟ واعتقدَ أن واين بلايت كان الملاك المكلَّف بحالته؛ ولكن ربما يعملون جميعًا معًا، هي وواين ودراجو.

يطل دراجو برأسه من الباب: مستر ريمنت، هل يمكن أن نلقي نظرة أنا وشون على كاميراتك؟

– نعم. لكن بحذر، وأعيداها إلى أغلفتها حين تنتهيان.

تهمهم إليزابيث كُسْتِلُّو: دراجو مهتم بالتصوير الفوتوغرافي؟

– بالكاميرات. لم يرَ أبدًا مثل كاميراتي. لا يعرف إلا الأنواع الإلكترونية الجديدة. هَسِلْبلاد تشبه سفينة شراعية بالنسبة له، أو قاربًا بمجاديف. تحفة. إنه يقضي الساعات أيضًا في تأمل صوري الفوتوغرافية، صور القرن التاسع عشر. اعتقدتُ في البداية أن ذلك غريب، لكن ربما كان خاليًا من الغرابة تمامًا. لا بد أنه يتحسس طريقه وكأنه يود أن يكون له ماضٍ أستراليٌّ، أصل أسترالي، أسلاف أستراليون روحيون. بدل أن يكون مجرد طفل مهاجر اسمه يوكتش.

– هذا ما يقوله لك؟

– لا، لا يحلم بأن يقوله، لكن يمكن أن أخمن، يمكن أن أتعاطف، خبرة المهاجر ليست غريبة عليَّ.

– نعم، بالطبع. أنسى. جنتلمان أنجلو-أدليدي حقيقي لدرجة أني أنسى أنك لست إنجليزيًّا. مستر ريمنت على وزن بيمنت.١
– على وزن فريمنت.٢ تناولتُ ثلاث جرعات من خبرة المهاجر، لا جرعة واحدة؛ ولذا فهي عميقة التأثير. الأولى حين اجتُثِثْتُ وأنا طفل وأُحضِرْتُ إلى أستراليا؛ ثم حين أعلنتُ استقلالي وعدْتُ إلى فرنسا؛ ثم حين غادرتُ فرنسا وعدْتُ إلى أستراليا. تساءلْتُ مع كل انتقال. هل هذا وطني الحقيقي؟

– عدْتَ إلى فرنسا؟ نسيتُ ذلك. لا بد أن تحكي لي ذات يوم عن تلك الفترة من حياتك. ولكن ما إجابة سؤالك؟ هل هذا وطنك الحقيقي؟ تحرك يدها في إشارة لا تتجاوز الغرفة التي يجلسان فيها بل المدينة أيضًا، ووراء ذلك هضاب القارة وجبالها وصحاريها.

يهز كتفيه. وجدتُ دائمًا أن مفهوم الوطن مفهوم إنجليزي خالص. يقول الإنجليز: الصحة والوطن. الوطن بالنسبة لهم هو المكان الذي تشتعل فيه النار في المدفأة، حيث تأتي لتتدفأ. المكان الذي لن تغادره في البرد. لا، لا أشعر بالدفء هنا. يحرك يده في إشارة تشبه إشارة يدها، تحاكيها بطريقة ساخرة. أشعر بالبرد حيثما ذهبتُ. أليس هذا ما قلْتِه عني: أنت رجل بارد؟

تصمتُ المرأة.

– عند الفرنسيين، كما تعرفين، لا يوجد وطن. أن نكون في الوطن عند الفرنسيين يعني أن نكون معًا، مع نوعنا. لستُ في وطني في فرنسا. لا بوضوح، لا أنضوي تحت أي نحن.

إنها خلوة دخلها، مع كُسْتِلُّو المرأة، للنواح على مشاكله الكثيرة، وهي خلوة تُمْرِضه بشدة. لا أنضوي تحت أي نحن، كيف تستطيع أن تنتزع منه مثل تلك الكلمات؟ سقطتْ إيماءة هنا، وسقط اقتراح هناك، وهو ينساق كالحَمَل.

– وماريانا؟ ألا تود أن تنضوي تحت نحن ماريانا ودراجو؟ وليوبا؟ وبلنكا، التي لم تقع عينك عليها حتى الآن؟

– تلك مسألة أخرى، يسكت فجأة. ولن ينساق أكثر من ذلك.

تمر الظهيرة، ولا تظهر ماريانا. علق دراجو دمية على ظهر أخته الصغيرة بشريط مطاطي؛ تهرول من غرفة إلى غرفة، فاردة ذراعيها، ومصدرة أزيزًا يشبه أزيز الطائرة. انهمك شون في لعبة إلكترونية. يجلس الولدان أمام شاشة التلفزيون التي ينبعث منها هتافات منخفضة وطنين.

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: تعرف، ليس علينا أن نتحمل هذا. هؤلاء الشبان ليسوا في حاجة لرعاية أحد. علينا أن نخرج بهدوء ونعود إلى المنتزه. يمكن أن نجلس في الظل ونستمع إلى تغريد الطيور، يمكن أن نعتبرها نزهة عطلة الأسبوع، مغامرتنا الصغيرة.

إنه مستعد لتقبُّل يد المساعدة من ماريانا، وهي رغم كل شيء ممرضة تتقاضى أجرًا، لكنه ليس مستعدًّا لتقبلها من امرأة تكبره. تسبقه كُسْتِلُّو وتنتظر في المدخل بينما هو يناوش الدرج بعكازيه.

أثناء النزول يلتقي بإحدى جيرانه، فتاة نحيلة بنظارة من سنغافورة، هي وأختاها يشبهن الفئران، يشغلن الشقة التي فوق شقته. يومئ لها؛ لا ترد التحية. لم تشعر الفتيات بوجوده طوال إقامتهن في ممر كنستون. كل واحدة تعتمد على نفسها. لا بد أن هذا ما تعلمنه في جزيرتهم. الاعتماد على الذات.

وجد هو وكُسْتِلُّو أريكة خالية، ثمة كلب يهرول، ينظر إليه نظرة مرحة خاطفة، ثم ينتقل إليها. يحتار دائمًا حين يدفع كلب أنفه في انفراجة ساقي امرأة. هل هذا تذكير بالجنس، جنس كلبي، أم مجرد تشمم للروائح الجديدة المعقدة؟ فكَّر دائمًا في كُسْتِلُّو باعتبارها كائنًا لا جنسيًّا، لكن ربما يعرف الكلب أفضل، وقد وضع ثقته في أنفه.

تتحمل إليزابيث الفحص بشكل جيد، تاركة الكلب يشق طريقه معها، ثم تدفعه بعيدًا بلطف.

تقول: هكذا. كنْتَ تقول لي.

– ماذا كنْتُ أقول لك؟

– كنْتَ تحكي قصة حياتك، تحكي عن فرنسا، كنتُ ذات يوم زوجة لفرنسي. هل أخبرْتُكَ؟ زوجي الأول. أيام لا تُنسى. تركني، في النهاية، من أجل امرأة أخرى، تركني ومعي طفل على يدي. كنْتُ، في رأيه، متقلبة. حية سامة،٣ مصطلح آخر من المصطلحات التي وصفني بها، وهو بالإنجليزية أفعى أكثر منها حية سامة. حية سامة مدنسة،٤ تلك كانت كلماته. لم يعرف مكانه أبدًا معي. الفرنسيون أعظم من أن يخضعوا للنظام، أعظم من أن يعرفوا مكانهم معك. لكن هذا يكفي، كنا نتحدث عنك.

– اعتقدتُ أنك اعتقدتِ أن الفرنسيين أعظم من أن يخضعوا للعاطفة. للعاطفة وليس النظام.

تنظر إليه في تأمل. العاطفة والنظام، بول. الاثنان، لا أحدهما. لكن واصلْ قصة حبك في فرنسا.

– ليست قصة طويلة. في المدرسة كنتُ شاطرًا في العلوم، لم أكن متفوقًا، لم أكن متفوقًا في شيء، مجرد شاطر؛ ولذا اخترْتُ العلوم حين التحقْتُ بالجامعة، بدت العلوم الرهان الرابح في تلك الأيام، بدا أنها تَعِد بالأمان، وهذا ما تريده أمي لي ولأختي في المقام الأول، أن نجد محرابًا آمنًا في هذه الأرض الغريبة حيث كان الرجل الذي تبعته، يعرف الرب لماذا، ينكمش أكثر وأكثر في نفسه، ولم تكن لنا عائلة نعوِّل عليها، وكانت تتخبط في اللغة ولا تتمكن من عمل شيء. التحقتْ أختي بالتعليم، وهو من طرق الأمان، والتحقْتُ بالعلوم.

– لكن أمي رحلت، وبدا لي أنه لم تعد بي حاجة لارتداء السترة البيضاء والتحديق في أنبوبة الاختبار؛ تركتُ الجامعة واشتريتُ تذكرة إلى أوروبا، أقمْتُ في تولوز مع جدتي وعملتُ في معمل تصوير، وبدأت مسيرتي في التصوير الفوتوغرافي. لكن ألا تعرفين كل هذا؟ اعتقدْتُ أنك تعرفين كل ما يتعلق بي.

– هذه معلومات جديدة بول، أعِدُكَ. أتيتَ إليَّ بدون تاريخ. رجل بساقٍ واحدة وعاطفة تعيسة تجاه ممرضة، هذا كل شيء. حياتك السابقة أرض بكر.

– أقمتُ مع جدتي وقدمتُ اقتراحات، بقدر ما استطعْتُ، إلى عائلة أمي؛ لأن العائلة في فرنسا التي أتينا منها، ريف فرنسا، هي كل شيء، قد يكون أبناء عمومتي ميكانيكي سيارات ومُساعدِين في محلات ومُشرفِين في محطات، لكنهم ما زالوا فلاحين في أعماقهم، على بُعد جيل واحد من الخبز الأسود وروث البقر. أتكلم عن ستينيات القرن العشرين بالطبع، عن عصر انقضى، الوضع مختلف الآن؛ تغير كل شيء.

– ثمَّ؟

– لم أنجح، أو لنقلْ لم أوفَّقْ. افتقدتُ الكثير جدًّا مما يمكن أن يكون تكويني، ليس فقط التعليم الفرنسي الحقيقي لكن الشباب الفرنسي أيضًا، بما في ذلك صداقات الشباب، التي كانت في قوة الحب وطويلة. كان أبناء عمومتي ومن قابلتهم عن طريقهم، أناسًا في سني، استقروا في حياتهم، حتى قبل أن يتركوا المدرسة كان يعرفون المهنة٥ التي سيلتحقون بها، الولد أو البنت التي سيتزوجونها، والمكان الذي سيعيشون فيه. لم يستطيعوا أن يتفهموا ما كنت أفعله هناك، هذا الشخص المسافر الذي يتكلم بلهجة مضحكة ونظرته مربكة، ولم أكن أستطيع أن أخبرهم؛ لأني لم أكن أعرف. كنتُ دائمًا الشخص الشاذ، الغريب الذي يجلس في الركن في اجتماعات العائلة. كانوا يسمونني فيما بينهم الإنجليزي.٦ صُدمْتُ حين سمعت ذلك أول مرة؛ لأنه لا يوجد أي ارتباط لي بإنجلترا، ولم أزرها أبدًا. لكن أستراليا خارج مجال إدراكهم. كان الأستراليون في عيونهم إنجليزًا ببساطة، المعاطف الواقية من المطر، الكرنب المسلوق وغيرها، وقد أعيد غرسها في آخر الأرض، يحفرون حياتهم بين الكنجارو.٧
كان لي صديق، روجر، يحضر طلبات للاستوديو الذي أعمل به. كنا أيام السبت نحزم حقائبنا وننطلق بعد الظهيرة إلى سان-جيرو أو تَرَسكو؛ أو أعمق إلى البرانس أو بعيدًا إلى أوست أو أولوس-لي-بيه. نأكل في المقاهي، نقضي الليالي في الهواء الطلق، نقود الدراجات طوال اليوم، ونعود في وقت متأخر من يوم الأحد مُرهقين ومُفعمين بالحياة، لم يكن هناك أبدًا ما يقوله أحدنا للآخر، أنا وهو، إلا أنه يبدو لي الآن أفضل صديق عرفته، أفضل صاحب.٨

– كان ذلك قبل قصة الحب الفرنسية وقد أقلعت السيارة كما ينبغي. كانت الطرق أروق، ولم يكن الوصول إلى الريف على دراجة غريبًا.

– ثم تعرفتُ على فتاة، وفجأة بدأتُ أستخدم العطلات الأسبوعية استخدامات أخرى. كانت من المغرب، وهذا في الحقيقة سبب الانفصال، كانت أول عاطفة غير ملائمة، كان من الممكن أن أتزوجها إلا أن أُسرتها جعلتْ زواجي منها مستحيلًا.

– يصيبك سهم العاطفة البرَّاق! ومع سيدة غريبة أيضًا! مادة تصلح لكتاب في حد ذاتها! يا لكَ من رائع! يا لكَ من مُتهوِّر! تذهلني، بول.

– لا تَسخري، كانت علاقة لائقة وجديرة بالاحترام تمامًا، كانت تدرس لتكون أمينة مكتبة، حتى استُدْعِيتْ إلى الوطن.

– ثم؟

– هذا كل شيء، استدعاها والدها، أطاعت، وانتهت العلاقة. بقيتُ في تولوز ستة أشهر أخرى، ثم غادرْتُها.

– أتيتَ إلى الوطن.

– الوطن … ماذا يعني؟ حدَّثتُكِ عن فكرتي عن الوطن. للحمامة وطن، وللنحلة وطن. وربما للإنجليزي وطن. لي مسكن، لي مأوى. هذا مأواي، هذه الشقة، هذه المدينة، هذا البلد، الوطن مفهوم روحي لا أدركه.

– لكنكَ أسترالي، لسْتَ فرنسيًّا، حتى أنا يمكن أن أرى ذلك.

– يمكن أن أمرَّ بين الأستراليين، لا يمكن أن أمرَّ بين الفرنسيين، هذا هو كل ما هناك، فيما يتعلق بي، بالنسبة لمسألة الهوية والجنسية؛ حيث يمر المرء وحيث لا يمر، أو على العكس يقف المرء خارجه، مثل إبهام مؤلم، كما يقول الإنجليز؛ أو مثل صبغة، كما يقول الفرنسيون، صبغة على مفارش نظيفة. فيما يتعلق باللغة، لم تكن الإنجليزية لغتي أبدًا، مثلما هي لغتك. الأمر لا علاقة له بالحديث بطلاقة، أتحدَّث بطلاقة تامة كما تسمعين، لكن الإنجليزية أتت إليَّ متأخرة جدًّا؛ لم تأت مع حليب أمي، في الحقيقة لم تأتِ على الإطلاق. بشكل شخصي أشعر دائمًا أني أخرس يتكلم من بطنه، لستُ أنا الذي ينطق اللغة لكن اللغة تُنطَق من خلالي، لا تأتي من الأعماق، من قلبي.٩ يتردد، يراجع نفسه، كان على وشك أن يقول: أنا مجوَّف في الأعماق، مثلما أنا متأكِّد من أنكِ تسمعين، لكنه، بدلًا من ذلك، يقول: لا تحاولي أن تعولي على هذه المحادَثة بأكثر مما تَتحمَّل، إليزابيث! لا أهمية لها، مجرد سيرة ذاتية مفككة.

– لكنها مُهمَّة، بول، مهمة حقًّا! تعرف هناك ما أطلق عليهم الأرضيين؛ أولئك الذين يقفون وأقدامهم مغروسة في الأرض التي وُلِدوا فيها؛ وهناك الفراشات، مخلوقات الضوء والهواء، سكان مؤقَّتون، يحطون هنا وهناك. تزعم أنك فراشة، تريد أن تكون فراشة؛ وذات يوم تقع، وقعة مفجعة، تُصدَم وتسقط على الأرض؛ وحين تلتقط أنفاسك تجد أنك لم تَعُد تستطيع الطيران مثل كائن أثيري، ولا تستطيع المشي، لسْتَ سوى كتلة من اللحم الجامد، إنه بالتأكيد درس واضح، درس لا يمكن أن تغمض عينيك وتصم أذنيك أمامه.

– حقًّا. درس، درس قاسٍ، يبدو لي، مسز كُسْتِلُّو، يمكن للمرء أن يستخلص درسًا من أكثر الأحداث عشوائية. هل تحاولين أن تُفهمِيني أن الرب كان في عقله خُطة ما حين صدَمني على طريق مَجيل وحوَّلني إلى أعرج؟ ماذا عنكِ؟ أخبرْتِني بأنكِ تعانين من حالة في القلب. فسِّري لي حالة قلبك. ما الدرس الذي كان في عقل الرب حين صدمك في القلب؟

– صحيح، بول، أعاني من حالة في القلب، لم أكذب، لكني لا أعاني من ذلك وحدي، أنت الآخَر تُعاني من حالة في القلب، ألا تعرف ذلك حقًّا؟ حين أتيْتُ طارقةً بابك، لم آتِ لأكتشف كيف يقود رجل درَّاجة بساقٍ واحدة. أتيتُ لأكتشف ماذا يحدث حين يُعامِل رجل في الستين قلبه بصورة غير ملائمة. وإذا كنتَ لا تبالي بقولي هذا، فما كنْتَ لتجلس خائب الأمل بهذه الصورة.

يهز كتفه: لم أُوضَعْ على هذه الأرض لأسليكِ، إذا أردْتِ التسلية — يطوح يده باتجاه أناس يَجرُون، وأناس يركبون دراجات، وأناس طيبين يَتمشَّوْن مع كلابهم — لديكِ مَجال واسع يمكن أن تستكشفيه. لماذا تُضيِّعين وقتكِ مع شخص يستثيرك ببلادته ويصيبك بالإحباط؟ تَخلِّي عني كما يتخلى المرء عن وظيفة سيئة. اهبطي على شخص آخر.

تلتفِتُ وتبتسم له ابتسامة تخلو — بقدر ما يرى — من الخبث. تقول: قد أكون متقلِّبة يا بول، لكنني لستُ متقلِّبة إلى هذه الدرجة. متقلِّبة مثل عنزة، تقفز من صخرة إلى أخرى. أنا أكبر من أن أقفز، أنت صخرتي، سأبقى معك، في الوقت الحالي. كما قلتُ لك — تتذكَّر؟ الحب ثبات.

يهز كتفه مرة أخرى: الحب ثبات. يمكن للمرء أن يقول بِسادِيَّة إن الحب صاعقة تصيب من تشاء. لو كان طفلًا جاهلًا حين تصادفه أوجاع الحب، لما رأى أن كُسْتِلُّو المرأة في حالة طيبة. لكنه لن يناقشها، إنه مُرهَق من المناقشة.

إنه عطشان أيضًا، كوب من الشاي كافٍ لإطفاء عطشه، يمكن أن يَعبُرَا الجسر إلى غرفة الشاي على الضفة الأخرى، يمكن أن يَعودَا إلى الشقة بصخبها وفوضاها، أو يمكن أن يَنسيَا الشاي ويواصِلا إضاعة الوقت هنا على شاطئ النهر، حتى يأتي المساء، ويشاهدا طيور الماء تلهو مع نفسها. أَيُّهما؟

تقول إليزابيث كُسْتِلُّو: حدِّثْني عن زواجكَ. لم تذكر زوجتك أبدًا.

يقول: لا أظن، لا يمكن أن يكون الأمر حقيقًا. ما كانت زوجتي تشكرني لمعاملتي إياها كشخصية ثانوية في أعمالك الأدبية، لكن إن أردْتِ قصصًا، فسأحكي لك قصة من فترة زواجي لكنها لا تتعلق بزوجتي، يمكن أن تستخدميها، ويمكن ألا تستخدميها، لرسم شخصيتي إن شئْتِ.

– حسن. انطلقْ.

– تدور أحداث القصة حين كنتُ أدير الاستوديو في أُنلي. كانت لي مساعدتان، وقد وقعتْ إحداهما في حبي، وإذا تَوخَّيت الدقة، لم يكن حبًّا بل عبادة. لم تكن تدبِّر لي خططًا؛ ولذا كانت صريحة تمامًا بشأن هذا الحب، فتاة على قدر كبير من الذكاء، جميلة أيضًا. فتاة في العشرين ناضرة الوجه، جميلة، جسمها ممشوق وقوي، مثل جسم لاعبة الرجبي. لم يكن لها في الأمر حيلة، ما كان هناك غذاء لينقذها، فتحولتْ إلى كائن خرافي يعيش في السماء.

– كنْتُ ألقي دروسًا مسائية آنذاك، عن تعدد التقنيات، مبادئ التصوير الفوتوغرافي. كانت هذه الفتاة تأتي إلى الفصل ثلاث مرات أسبوعيًّا، تجلس في الصف الخلفي تحدِّق فيَّ، ولا تكتب شيئًا.

– قلتُ لها: «إيلين، ألا تعتقدين أن الأمر تجاوز الحدود؟» ردَّتْ: «إنها فرصتي الوحيدة.» بلا خجل، لم تخجل أبدًا. «فرصتك الوحيدة لماذا؟» «لأكون وحيدة معك.» هكذا كانت تعرِّف وحدتها معي: أن تجلس في الفصل بِحرِّية تشاهد وتستمع.

– اتبعتُ قاعدة: لا تتورطْ أبدًا مع من يَعمَلْن معك. لكن قدمي زلَّتْ في هذه الحالة، كسرْتُ القاعدة؛ تركتُ ورقة فيها الزمان والمكان، ليس إلا. جاءت، وأخذْتُها إلى السرير.

– ربما تتوقعين أن أصفها بالتجربة المُهينة لها وبالتالي لي، لكنها لم تكن مُهينة على الإطلاق، بل وصلتْ إلى حد يمكن معه أن تُوصَف بالممتعة. تعلمتُ درسًا من هذه التجربة، لا يحتاج الحب إلى أن يكون متبادَلًا ما دام منه ما يكفي في الغرفة. كان لدى هذه الفتاة من الحب ما يكفي اثنين، لكن هل عرفْتِ ذلك أيتها الكاتبة، خبيرة القلوب؟ إذا أحببْتِ بعمق كافٍ، فلن تكون هناك ضرورة لأن يبادِلَك الطرف الآخر الحب.

كُسْتِلُّو المرأة صامتة.

– شكرتْني، نامت بين ذراعَيَّ لاهثة تبكي «شكرًا! شكرًا! شكرًا!» قلت: «الأمر على ما يرام. لا حاجة بأحد منا إلى أن يشكر الآخر.»

– في اليوم التالي كانت هناك ورقة على مكتبي: «وقتما تحتاجني …» لكني لم أدْعُها مرة أخرى، لم أحاول تكرار التجربة، كانت مرة واحدة كافية لاستيعاب الدرس.

– عملتْ معي عامين آخرَين، محتفظة بمسافة مناسبة بيننا؛ لأنه كان يبدو لها أن هذا هو ما أريده. لا دموع، لا تأنيب، ثم اختفتْ بلا كلمة، توقفَتْ عن المجيء إلى العمل. تحدثتُ إلى زميلتها، مساعدتي الأخرى، لكنها كانت في جهل تام من أمرها. اتصلتُ بأمها، قالت الأم: ألا تعرف؟ حصلتْ إيلين على وظيفة جديدة وانتقلت إلى برِسبان مندوبة لشركة أدوية. ألم تترك كلمة؟ قلتُ، لا، هذه أول مرة أسمع بذلك، قالت الأم: أوه، قالت لنا: إنها أخبرتك وأنك تمزقتَ حزنًا.

– ثمَّ؟

– هذا كل شيء، انتهت القصة، تمزقتُ حزنًا. بجانب الدرس، شدني هذا الجزء أكثر من غيره؛ لأني لم أتمزق، إطلاقًا، هل اعتقدَت الفتاة أنني سأتمزق حقًّا؛ لأنها تركتْ وظيفتها معي؟ أم أن قصة تَمزُّق رئيسها حزنًا لم تكن إلا شيئًا قالته لأمها لكي لا تبدو في وضع مُهين؟

– هل تطلب رأيي؟ لا أعرف الإجابة، بول. ربما تجد ادعاءها بأنك، رئيسها، تمزقتَ حزنًا، أمرًا شيقًا، لكني لا أراه شيقًا، ما أراه شيقًا هو شكرًا! شكرًا! هو شكرًا! شكرًا! ماذا تنوي أن تقول لماريانا حين تَستسلِم لك، إن استسلمتْ؟ لماذا لم تقل شكرًا، شكرًا! للفتاة التي قدَّمْتُها لك، الفتاة التي انجذبتَ إليها؛ لأنها لا تستطيع أن تراك في حالتك المختزلة الحزينة؟

– لم أنجذبْ إليها، أنتِ التي أتيتِ بها.

– هراء، أخذتُ الكلمة منكَ، انجذبتَ إليها في مصعد المستشفى. حلمْتَ بها. أكرر، لماذا لم تشكرها؟ لأنك دفعْتَ لها، وهل حين تدفع لا تحتاج إلى أن تشكر؟ كان لدى لاعبة الرجبي من الحب ما يكفي اثنين، كما تقول. هل تعتقد أنه يمكن قياس الحب؟ هل تعتقد أن الحب يأتي بالحجم كالبيرة؟ إذا أتيتَ منه بصندوق، يمكن للطرف الآخر أن يأتي خاوي اليدين، خاوي اليدين، خاوي القلب؟ شكرًا ماريانا (ماريانا بنون مخففة هذه المرة)؛ لأنكِ تركْتِني أحبكِ. شكرًا لأنكِ تركْتِني أحب أبناءكِ. شكرًا لأنك تركْتِني أُقدِّم لك فلوسي. هل أنت بكل هذا الغباء؟

يتخشب: طلبتِ مني قصة، حكيتُ لك قصة. آسف لأنها لم تعجبك. تقولين إنك تريدين أن تسمعي قصصًا، أحكي لك قصصًا، ولا أجني إلا السخرية والاستهزاء. أية مقايضة هذه؟

– أي نوع من الحب؟ ربما أضفْتَ. لم أقل إن قصتك لم تعجبني، أرى قصتك أنت ولاعبة الرجبي شيقة، قلتُ ذلك أيضًا. حتى التفسير الذي قدَّمتَه شيق في حد ذاته. لكن السؤال الذي يزعجني هو: لماذا يختار هذه القصة، قبل كل شيء، ليحكيها لي؟

– لأنها حقيقية.

– إنها بالطبع حقيقية. لكن ماذا يعني كونها حقيقية؟ من المؤكد أنني لست مكلَّفة بلعب دور الرب، لأفصل النعجة عن الماعز، وأمحو القصص الزائفة، وأصون القصص الحقيقية. إذا كان لي أن أكون نموذجًا، فلن يكون الرب، سيكون راهب سيتو، الشخص سيِّئ السمعة، الرجل الفرنسي، الشخص الذي قال بطريقته الرعوية، اذبحوهم جميعًا، سيعرف الرب أتباعه.

– لا، بول، لا يمكن أن يَقلَّ اهتمامي إن حكيتَ لي قصصًا مختلقة. تَكشِفُنا أكاذيبنا بقدر ما تَكشِفُنا حقائقنا.

تتوقف، تنظر إليه رافعة حاجبيها. هل أتى دوره؟ ليس لديه ما يضيفه. إذا تساوى الحقيقة والكذب، فقد يتساوى أيضًا الكلام والصمت.

تستأنف الحديث: هل تلاحظ، بول، كيف تسير المحادثات بيني وبينك على وتيرة واحدة؟ يسير كل شيء بشكل رائع لحظةً. ثم أنطق بشيء لا تود أن تسمعه، فتصمت أو تغضب أو تطلب مني الانصراف في الحال. ألا يمكن أن تتجاوز هذه التصرفات الهِستيرية؟ لم يَتبقَّ أمامنا، أمام أي منا، مُتسَّع من الوقت.

– ليس كذلك.

– لا. تحت نظرة السماء، في عين الرب الباردة، ليس أمامنا.

– تلك هي الحقيقة. استمري.

– هل تظن أني أرى هذا الوجود أقل صعوبة مما تراه؟ هل تعتقد أني أريد النوم في العراء، تحت أجمة في المنتزه، بين السكارى، والاغتسال في نهر تورنس؟ لسْتَ أعمى. ترى كم أتدهور.

يُحدِّق فيها بقسوة. تُؤلِّفين قصصًا. أنت امرأة محترفة وناجحة، أنتِ ميسورة الحال مثلي، لا حاجة بك للنوم تحت الآجام.

– قد يكون الأمر كذلك، بول. ربما أضخِّم القليل، لكن هذه القصة مناسبة، مناسبة لحالتي. وأنا أحاول التأثير عليك، أيامنا معدودة، أيامي وأيامك، إلا أنني هنا، أقتل الوقت، ويقتلني الوقت، أنتظر، أنتظرك.

يهز رأسه يأسًا. يقول: لا أعرف ما تريدين.

تقول: ادفعْ!

١  Payment: كلمة إنجليزية بمعنى دفْع.
٢  Vraiment: كلمة فرنسية بمعنى حقًّا أو صدقًا.
٣  بالفرنسية في الأصل.
٤  بالفرنسية في الأصل.
٥  بالفرنسية في الأصل.
٦  بالفرنسية في الأصل.
٧  بالفرنسية في الأصل.
٨  بالفرنسية في الأصل.
٩  بالفرنسية في الأصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤