الفصل الخامس

(١) فَزَعٌ وَطُمَأْنِينَةٌ

أمَّا «الْمُرَامِقُ» فَقَدْ رَأَى فِي تِلْكَ الْفَتاةِ الْبَارِعَةِ الفَصيحَةِ الرَّاجِحَةِ الْعَقْلِ مَثَلًا كامِلًا لِلزَّوْجِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي كانَ يَنْشُدُها (أَيْ: يَطْلُبُها) وَيَتَمَنَّاها.

فَأرْسَلَ يَسْتَدْعِي «عُمَرَ الصَّبَّاغَ» إلَيْهِ. وَما كادَ «الصَّبَّاغُ» يَرَى رَسُولَ «الْمُرامِقِ» حَتَّى امْتُقِعَ وَجْهُهُ، (أَيْ: تَغَيَّرَ لَوْنُهُ)، وَحَسِبَ أَنَّ أحَدَ أعْدَائِهِ قَدْ شَكَاهُ إلَى الْحَاكِمِ، فَذَهَبَ يَتَوَجَّسُ شَرًّا، (أَيْ: أحَسَّ صَوْتًا خَفِيًّا يَهْجِسُ فِي نَفْسِهِ بِالضَّرَرِ). وَما كادَ يَصِلُ، حَتَّى هَشَّ «الْمُرَامِقُ» بِهِ وَبَشَّ (أَيْ: خَفَّ إلَيْهِ وَارْتاحَ)، وأدْناهُ (أَيْ: قَرَّبَهُ) مِنْ مَجْلِسِهِ، واسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْبَهْجَةُ (أَيْ: تَملَّكَهُ الفَرَحُ) بِلِقَائِهِ.

(٢) سَبَبُ الْحَفَاوَةِ

فَعَجِبَ «الصَّبَّاغُ» مِمَّا رَأَى مِنْ بَشاشَةِ «الْمُرَامِقِ» وَحَفاوَتِهِ بِهِ، (أَيْ: مُبَالَغَتِهِ فِي إكْرامِهِ وإلْطافِهِ والْعِنايَةِ بِهِ). ولَمْ يَدْرِ لِهذا التَّكْرِيمِ سَبَبًا، وظَهَرَ الارْتِباكُ عَلَى وَجْهِهِ. ثُمَّ قالَ لَهُ «الْمُرَامِقُ»: «إنِّي لَسَعِيدُ الْحَظِّ إذْ أرَاكَ يا «أبَا نَصْرٍ»، فَقَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ ثَنَاءً مُسْتَطَابًا. وقَدِ اسْتَفاضَتْ بَيْنَ النَّاسِ شُهْرَتُكَ بِالاسْتِقامَةِ وَالْوَرَعِ (أَي: التَّقْوَى وَالصَّلاحِ).»

فَأجابَهُ «الصَّبَّاغُ»: «أشْكُرُ لِسَيِّدِي «أبِي ثَعْلَبَةَ» حُسْنَ رَأْيِهِ فِيَّ، وَثَناءَهُ عَلَيَّ، كَما أشْكُرُ لَهُ أنْ أتَاحَ لِي هذِهِ الْفُرْصَةَ السَّعِيدَةَ لِلُقْياهُ وَالتَّعَرُّفِ بِهِ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيا سُرُورٌ أعْظَمُ مِنَ التَّعَرُّفِ إلَى الْكُبَراءِ الصَّالِحِينَ، والْأتْقِياءِ البَرَرَةِ مِنْ أمْثالِ مَوْلايْ.»

(٣) الْفَتاةُ التَّاعِسَةُ

فقالَ «الْمُرَامِقُ»: «لَقَدْ عَلِمْتُ أنَّ لَكَ بِنْتًا لَمَّا تَتَزَوَّجْ.»

فَقالَ لَهُ «الصَّبَّاغُ»: «لَسْتُ أَكْذِبُكَ الْقَوْلَ — يا سَيِّدِي «أَبا ثَعْلَبَةُ» — فَإنَّ بِنْتِي قَدْ أرْبَتْ سِنُّها (أَيْ: زادَ عُمْرُها) عَلَى الثَّلاثِينَ عَامًا. وَلكِنَّها مَخْلوقَةٌ تاعِسَةٌ لا تَصْلُحُ لِلزَّواجِ، لِأنَّها عَوْراءُ، صَمَّاءُ، بَكْماءُ، حَدْباءُ، شَوْهاءُ، دَمِيمَةُ الْخِلْقَةِ، جَرْباءُ، مُقْعَدَةٌ (أَيْ: عاجِزَةٌ عَنِ الْمَشْيِ) وَهِيَ — عَلَى ذلِكَ — شَلَّاءُ. وقَدْ جَمَعَ اللهُ فِيها مِنَ الْعُيُوبِ الْجِسْمِيَّةِ ما لَوْ وُزِّعَ عَلَى مِائَةِ واحِدَةٍ لَشَوَّهَ حُسْنَهُنَّ (أَيْ: قَبَّحَ جَمالَهُنَّ)، وأصْبَحَ كَافِيًا لِلتَّنْفِيرِ مِنْهُنَّ، (أَيْ: لِجَعْلِ مَنْ يَراهُنَّ يَتَباعَدُ عَنْهُنَّ).»

(٤) حَدِيثُ الْمَخْدُوعِ

فَقالَ «الْمُرَامِقُ» مُبْتَسِمًا: «مَرْحَى مَرْحَى يا «أَبا نَصْرٍ»! فَإنَّكَ لَمْ تَعْدُ ما فِي نَفْسِي، فَقَدْ كُنْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أنَّكَ لَنْ تَتَمَدَّحَ بِجَمالِ ابْنَتِكَ، وَلَنْ تَصِفَها بِغَيْرِ ما وَصَفْتَ، لِبُعْدِكَ عَنِ الْخُيَلَاءِ (أَي: الزَّهْوِ). ولَكِنِ اعْلَمْ يا صاحِبِي أنَّ هُناكَ رَجُلًا يُرِيدُ أنْ يَتَزَوَّجَ بِهذِهِ الْفَتَاةِ التَّاعِسَةِ الْجَرْباءِ، الْمُقْعَدَةِ الشَّوْهاءِ، الشَّلَّاءِ الْعَوْرَاءِ الصَّمَّاءِ. وَأنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى ذلِكَ بالِغَةً ما بَلَغَتْ بِنْتُكَ مِنَ الدَّمامَةِ والْقُبْحِ والتَّشْوِيهِ.»

فَعَجِبَ «الصَّبَّاغُ» مِمَّا سَمِعَ، وقالَ لَهُ: «ومَنْ هُوَ هذا الرَّجُلُ يا سَيِّدِي «أَبا ثَعْلَبَةَ»، فَإنَّنِي شَدِيدُ الشَّوْقِ إلَى التَّعَرُّفِ بِهِ.» فَقَالَ لَهُ «الْمُرَامِقُ»: «يَسُرُّنِي أَنْ أُخْبِرَكَ أنَّ ذلِكَ الرَّجُلَ هُوَ مُحَدِّثُكَ.»

(٥) حَيْرَةُ «الصَّبَّاغِ»

وَهُنا اشْتَدَّتْ حَيْرَةُ «الصَّبَّاغِ» وَزادَ ارْتِباكُهُ، ثُمَّ حَدَّقَ (أَيْ: سَدَّدَ نَظَرَهُ) فِي وجْهِ الْحاكِمِ، وَبَرَّقَ عَيْنَيْهِ (أعْنِي: وسَّعَهُما وأحَدَّ النَّظَرَ) وَهُوَ يَحْسَبُهُ هازِلًا غَيْرَ جادٍّ، وقالَ لَهُ وَهُوَ لا يَكادُ يُصَدِّقُ ما سَمِعَتْهُ أُذُناهُ: «لا ضَيْرَ أَن يَمْزَحَ سَيِّدِي ما شاءَ أَنْ يَمْزَحَ، وأنْ يُمْعِنَ فِي السُّخْرِيَةِ مِنِ ابْنَتِي، ما دامَ يَجِدُ فِي ذلِكَ دُعابَةً لَهُ وتَسْلِيَةً.»

فَقالَ لَهُ «الْمُرَامِقُ»: «كَلَّا، كَلَّا، فَما خَطَرتْ لِيَ الدُّعابَةُ (أَي: الْمُزاحُ) عَلَى بالٍ. وما كُنْتُ لِأُداعِبَكَ (أَيْ: أمْزَحَ مَعَكَ) أَوْ أسْخَرَ مِنْكَ (أَيْ: أهْزَأَ بِكَ) أو أتَظَاهَرَ بِما لا أعْتَقِدُهُ. لَقَدْ عَزَمْتُ عَلَى الزَّواجِ بِابْنَتِكَ. أفَهِمْتَ ما أقُولُ؟ عَزَمْتُ عَلَى ذلِكَ عَزْمًا لا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلا هَوادَةَ، فَهَلْ تَسْمَعُ؟ عَزَمْتُ وَلا سَبِيلَ إلَى الْعُدُولِ (أَي: الرُّجُوعِ) عَنْ رَأْيِي، وَلَنْ يَثْنِيَنِي عَنْ عَزْمِي كائِنٌ كانَ.»

فَلَمْ يَتَمالَكِ «الصَّبَّاغُ» أنْ قَهْقَهَ ضَاحِكًا، وَقَالَ لِلْمُرَامِقِ: «أُقْسِمُ بِاللهِ وَبِأنْبِيائِهِ وَرُسُلِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ (يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيامَةِ) إنَّ ابْنَتِي مُقْعَدَةٌ، شَوْهاءُ، شَلَّاءُ، بَكْماءُ، صَمَّاءُ، وَإنَّها إلَى ذلِكَ صَلْعاءُ، عَوْرَاءُ، حَدْبَاءُ، وَإنَّها قَدْ جَمَعَتْ مِنْ صُنُوفِ الْقُبْحِ، وَألْوانِ الدَّمامَةِ، ما لَمْ تَقَعْ عَلَى مِثْلِهِ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بالِ مُتَخَيِّلٍ.»

فَقالَ «الْمُرامِقُ»، وقَدْ حَسِبَ أنَّ «الصَّبَّاغَ» يَخْدَعُهُ: «لَقَدْ عَرَفْتُ عَنْها كُلَّ هذِهِ الصِّفَاتِ، وَعَلِمْتُ مِنْ دَمامَتِها وَقُبْحِ وجْهِها وَتَشْوِيهِ جِسْمِها أكْثَرَ مِمَّا رَوَيْتَهُ لِي، وَحَدَّثْتَنِي بِهِ، وَقَصَصْتَهُ عَلَيَّ. ومِنَ الْعَجِيبِ أنَّنِي لا أتَمَنَّى الزَّواجَ بِفَتاةٍ إلّا إذا اكْتَمَلَتْ لَها أسْبابُ الدَّمامَةِ، وَاجْتَمَعَتْ لَها وَسائِلُ التَّشْويهِ والْقُبْحِ. وقَدْ بَحَثْتُ — طُولَ عُمْرِي — عَنْ واحِدَةٍ تَجْتَمِعُ لَها كُلُّ هذِهِ الصِّفاتِ، فَلَمْ أعْثُرْ عَلَيْها إلّا الْيَوْمَ، فَعَلِمْتُ أَنَّ أُمْنِيَّتِي تَحَقَّقَتْ وَرَغْبَتِي تَمَّتْ، فَلا تَعْجَبْ مِمَّا تَسْمَعُ، فَلِلنَّاسِ فِيما يَعْشَقُونَ مَذاهِبُ.»

(٦) بِنْتُ «الصَّبَّاغِ»

فَزَادَ عَجَبُ «الصَّبَّاغِ»، وَاشْتَدَّتْ حَيرَتُهُ مِمَّا سَمِعَ، وقالَ مُرْتَبِكًا: «أُقْسِمُ لَكَ جَهْدَ أيْمَانِي (أَيْ: مُبالِغًا فِي الْيَمينِ، باذِلًا جُهْدِي فِي الْقَسَمِ): إنَّنِي صادِقٌ فِيما وَصَفْتُ بِهِ ابْنَتِي، وإِنَّ دَهْشَتِي مِمَّا رزَقَها اللهُ مِنْ صُنُوفِ الدَّمامَةِ والتَّشْويِهِ لا يَعْدِلُها (أَيْ: لا يُساوِيها) إلّا دَهْشَتِي مِنْ رَغْبَةِ مِثْلِكَ فِي مِثْلِها، وَإصْرَارِك عَلَى الزَّواجِ بِها. أُقْسِمُ لَكَ — وَاللهُ يَعْلَمُ أنَّنِي صادِقٌ فِيما أقُولُ — إنَّنِي لَمْ أكْذِبْكَ شَيْئًا مِمَّا حَدَّثْتُكَ بِهِ. وَحَسْبُكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اسْمَها «عِفْرِيتُ النَّهارِ». وَلَيْسَ يَجُوزُ لِمِثْلِي أنْ يَغُرَّ (أَيْ: يَخْدَعَ) أحَدًا أوْ يُغَرِّرَ بِهِ، (أَيْ: يُعَرِّضَهُ لِلْهَلاكِ).»

فقالَ الْحَاكِمُ، وقَدْ نَفِدَ (أَيْ: فَرَغَ) صَبْرُهُ، واشْتَدَّ بِهِ الْغَضَبُ، حَتَّى أخْرَجَهُ عَنْ وَقَارِهِ (أَيْ: حِلْمِهِ وَرَزَانَتِهِ): «مَهْ أَيُّها الرَّجُلُ (أَيِ: اكْفُفْ عَنِ الْحَدِيثِ)، فَقَدْ أضْجَرْتَنِي بِثَرْثَرَةٍ لا طائِلَ تَحْتَها، وَلا فَائِدَةَ مِنْها. لَقَدْ عَقَدْتُ نِيَّتِي (أَيْ: تَفَكُّرِي فِي الْأَمْرِ)، وَلَقَدْ أقْسَمْتُ لَأُنْفِذَنَّ مَشِيئَتِي، وَلَنْ أرْضَى عَنْها بَدِيلًا، فَقَدِ اخْتَرْتُها أَيًّا كانَتْ، وبالِغَةً ما بَلَغَتْ مِنَ الدَّمامَةِ والتَّشْوِيهِ، فَأقْصِرْ (أَيْ: كُفَّ وامْتَنِعْ) عَنْ مُكَابَرَتِكَ وَعِنَادِكَ. وَحَسْبُكَ ما ألْصَقْتَهُ بِالْفَتاةِ مِنْ قَبِيحِ الأَوْصَافِ والنُّعُوتِ. قُلْتُ لَكَ إنَّنِي لَنْ أَعْدِلَ عَنِ الزَّواج بِعِفْرِيتِ النَّهارِ، فَكَيْفَ تَقُولُ؟»

(٧) حِيلَةٌ بَارِعَةٌ

وَلَمَّا رَأَى «الصَّبَّاغُ» إصْرارَ «الْمُرَامِقِ» وَتَشَبُّثَهُ بِرَأْيِهِ، أدْرَكَ أَنَّ فِي الْأَمْرِ حِيلَةً، وَقَدَّرَ أَنَّ بَعْضَ خُصُومِ «الْمُرامِقِ» وَأعْدَائِهِ مِمَّنْ ألْحَقَ بِهِمُ الْأذَى — وهُمْ كَثِيرُونَ — أَرادَ أَنْ يَتَلَهَّى (أَيْ: يَتَسَلَّى) بِهِ وَيَنْتَقِمَ مِنْهُ، فَزَيَّنَ لَهُ الزَّواجَ بِعِفْرِيتِ النَّهارِ، بَعْدَ أَنْ مَثَّلَها لَهُ فِي أحْسَنِ صُورَةٍ؛ ذَكاءً، وعِلْمًا، وَفَصَاحَةَ لِسَانٍ، وَجَمالَ خَلْقٍ وَخُلُقٍ. وَلَمْ يَشُكَّ «الصَّبَّاغُ» فِي أَنَّ «الْمُرَامِقَ» قَدِ انْخَدَعَ فِي حَقِيقَتِها، وَأَنَّ خادِعَهُ كانَ ماهِرًا بارِعَ الْحِيلَةِ لَبِقًا، (أَيْ: حاذِقًا رَفِيقًا بِما يَعْمَلُهُ).

(٨) مَهْرُ الْعَرُوسِ

وَرَأَى «الصَّبَّاغُ» أنْ يَنْتَهِزَ الْفُرْصَةَ، فَهِي — بِلا شَكٍّ — فُرْصَةٌ لا تَسْنَحُ (أَيْ: لا تَعْرِضُ) فِي الْعُمُرِ كُلِّهِ إلّا مرَّةً واحِدَةً، فَإِذا ضاعَتْ، ضاعَتْ إلَى الأبَدِ، فاشْتَطَّ فِي طَلَبِ الْمَهْرِ: ألْفَ دِينارٍ مُعَجَّلَةً، وَمِثْلَها مُؤخَّرَةً، فَأعْطاهُ «الْمُرامِقُ» ما طَلَبَ مِنَ الْمَهْرِ كامِلًا عَلَى فَداحَتِهِ (أَيْ: عَلَى ثِقَلِهِ وَكَثْرَتِهِ). وَلَمَّا تَمَّتْ صِيغَةُ الْعَقْدِ أبَى «الصَّبّاغُ» أَنْ يُمْضِيَهُ إِلّا إذا أَحْضَرَ الْحاكِمُ مِائَةً مِنْ سَراةِ الدَّوْلَةِ (أَيْ: أَشْرافِها) وَأعْيانِها وَوُجَهائِها وَأُولِي الأَمْرِ فِيها، لِيَشْهَدُوا بِما رَأوْا وَسَمِعُوا.

(٩) شُهُودُ الْعَقْدِ

فَعَجِبَ «الْمُرامِقُ» مِنْ تَشَكُّكِ «الصَّبَّاغ» وارْتِيابِهِ وَأحْضَرَ لَهُ جُمْهُورًا كَبِيرًا مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهاءِ والْأعْيانِ يَرْبُو (أَيْ: يَزِيدُ) عَلَى مِائَةٍ. وَلَمَّا اكْتَمَلَ المَجْلِسُ قالَ «الصَّبَّاغُ»: «هَلْ يَأذَنُ لِي سَيِّدِي الْحاكِمُ أَنْ أُشْهِدَ الْحَاضِرينَ عَلَى أنَّنِي لَمْ أقْبَلْ أنْ أُزَوِّجَ ابْنَتِي إلّا بَعْدَ أنْ رَأيْتُ إصْرَارَكَ عَلَى رَأْيِكَ؟ وَأنَّنِي لَمْ أُذْعِنْ لِمَشِيئَتِكَ إلّا بَعْدَ أَنْ يَئِسْتُ مِنْ مُقاوَمَةِ إرَادَتِكَ؟ وهَلْ يَأْذَنُ لِي سيِّدِي فِي أَنْ أُشْهِدَ هَذَا الْجَمْعَ الْحافِلَ بِأعْيانِ الدَّوْلَةِ وسَراةِ الْمَدِينَةِ أنَّنِي لَمْ أُقَصِّرْ فِي إِخْبارِكَ أنَّ ابْنَتِي مِثالٌ لِلتَّشْوِيهِ والدَّمامَةِ (أَيْ: الْقَبَاحةِ)؟ فَإذَا أصْرَرْتَ عَلَى الْبِناءِ (أَيْ: عَلَى الزَّواجِ) بِها ثُمَّ ظَهَرَ لَكَ مِنْ عُيُوبِها ما حَذَّرْتُكَ، فَلَمْ تُطِقِ البَقاءَ مَعَها، فَلَنْ أُمَكِّنَكَ مِنْ تَرْكِها والْخَلاصِ مِنْها، إلّا إِذا دَفَعْتَ لَها ألْفَ دِينارٍ أُخْرَى مِنَ الذَّهَبِ تَعْوِيضًا لَها، وَهُوَ الْمَبْلَغُ الّذِي اتَّفَقْنا عَلَى أَنْ يَكُونَ مُؤَخَّرَ صَداقِها (أَيْ: مَهْرِها).»

(١٠) لَيْلَةُ الْعُرْسِ

فَقالَ «الْمُرامِقُ» وقَدْ نَفِدَ صَبْرُهُ مِنْ ثَرْثَرَةِ «الصَّبَّاغِ»: «اللَّهُمَّ إنَّنِي قَبِلْتُ، اللَّهُمَّ إنَّنِي رَضِيْتُ. قَبِلْتُ وَرَضِيْتُ فَلْيَشْهَدِ الْحاضِرُونَ وَلْيُبَلِّغُوا الْغَائِبِينَ، أنَّنِي قَبِلْتُ زَواجَ بِنْتِ «عُمَرَ الصَّبَّاغِ» بالِغَةً ما بَلَغَتْ مِنَ الدَّمامَةِ والتَّشْويِهِ، كَما قَبِلْتُ أنْ أدْفَعَ لَهُ — عَنْ طِيبِ خاطِرٍ — ألْفَ دِينَارٍ ذَهَبًا مَهْرًا لَها وَألْفَ دِينَارٍ أُخْرَى إذا فَكَّرْتُ فِي فِراقِها، فَهَلْ يُرْضِيكَ هَذا؟»

فَقالَ «الصَّبَّاغُ»: «الآنَ قَدْ هَدَأَ بالِي، وارْتَاحَ خَاطِرِي وَاطْمَأنَّ ضَمِيرِي. وسَتَحْضُرُ إلَيْكَ عَرُوسُكَ بَعْدَ قَلِيلٍ.»

ثُمَّ اسْتَأذَنَهُ «الصَّبَّاغُ» فِي الانْصِرَافِ، كَما اسْتَأذَنَهُ سائِرُ الْحَاضِرِينَ. ولَبِثَ «الْمُرَامِقُ» يَنْتَظِرُ عَرُوسَهُ بِفَارِغِ الصَّبْرِ، وهُوَ يَعُدُّ الدَّقَائِقَ والثَّوانِي، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّ كُلَّ دَقِيقةٍ تَمُرُّ كَأنَّها يَوْمٌ، وأنَّ كُلَّ ساعَةٍ تَنْقَضِي كَأنَّها شَهْرٌ.

(١١) قُدُومُ الْعَرُوسِ

وجَلَسَ «الْمُرَامِقُ» تَتَمَثَّلُ لَهُ عَرُوسُهُ الَّتِي رآها فِي الصَّباحِ، ويُصَوِّرُ لِنَفْسِهِ أنَّها قَدْ أصْبَحَتْ سَيِّدَةَ بَيْتِهِ وشَرِيكَتَهُ فِي الْحَياةِ. ويَحْمَدُ اللهَ عَلَى أنْ مَنَحَهُ — بَعْدَ الصَّبْرِ الطَّويلِ — فَتاةً كامِلَةَ الْفَضْلِ، راجِحَةَ الْعَقْلِ، فَصِيحَةَ اللِّسانِ، بارِعَةَ البَيانِ.

ثُمَّ أمَرَ إحْدَى جَوارِي قَصْرِهِ أنْ تُطْلِقَ الْبَخُورَ فِي غُرْفَةِ الاِسْتِقْبَالِ احْتِفَاءً بِمَقْدِمِها.

وطالَ بِهِ الانْتِظَارُ فَأرْسَلَ الزَّنْجِيَّ إلَى بَيْت «الصَّبَّاغِ» لِيَسْتَحِثَّهُ (أَيْ: لِيَتَعَجَّلَهُ) عَلَى الإسْرَاعِ، كَما استَحَثَّهُ — أمْسِ — عَلَى الإسْرَاعِ بِإحْضَارِ الثِّيابِ الَّتِي وهَبَها لِلأمِيرِ «فَضْلِ اللهِ».
figure
وَبَعْدَ زَمَنٍ يَسِيرِ سَمِعَ الْحَاكِمُ جَلَبَةً (أَيْ: أَصْواتًا) وضَوْضاءَ، وَرَأَى حَمَّالًا يَحْمِلُ صُنْدُوقًا مِنَ الْخَشَبِ ويَصْعَدُ بِهِ إلَى غُرْفَةِ الاسْتِقْبالِ، فَسَألَهُ الْحاكِمُ مَدْهُوشًا: «ماذا تَحْمِلُ أيُّها الرَّجُلُ؟»

فَوَضَعَ الْحَمَّالُ الصُّنْدُوقَ أمَامَهُ، ثُمَّ قالَ: «أحْمِلُ عَرُوسَ مَوْلايَ الْحاكِمِ، فَإِذا شِئْتَ — يا سَيِّدِي — رَفَعْتُ السِّتْرَ عَنْها لِتَرَى الْعَرُوسَ الَّتِي اخْتَرْتَها وفَضَّلْتَها عَلَى نِسَاءِ الْمَدِينَةِ جَمِيعًا.»

(١٢) عِفْرِيتُ النَّهَارِ

ولا تَسَلْ عَنْ دَهْشَةِ «الْمُرَامِقِ» وَحَيْرَتِهِ وَذُعْرِهِ حِينَ رَفَعَ السِّتْرَ، فَرَأَى أشْنَعَ ما رَأَتْهُ عَينْانِ، وأقْبَحَ ما سَمِعَتْ بِهِ أُذُنانِ، وأبْصَرَ أمامَهُ طِفْلَةً عَجُوزًا، لا يَزِيدُ طُولُها كُلُّهُ عَلَى مِتْرٍ، وَلا يَقِلُّ طُولُ وجْهِها وَحْدَهُ عَنْ نِصْفِ جِسْمِها، إِنْ لَم يَزِدْ عَلَيْهِ. وقَدْ شَوَّهَ الْجَرَبُ وَجْهَها وجِسْمَها أشْنَعَ تَشْوِيهٍ، فَغَارَتْ عَيْناها، وظَهَرَ احْمِرارُهُما، وتَوَرَّم أنْفُها، وتَبَدَّى لَها فَمُ تِمْسَاحٍ. ما أَصْدَقَ مَنْ سَمَّاها: «عِفْرِيتَ النَّهارِ».

(١٣) فَزَعُ «الْمُرَامِقِ»

وهالَ الْحاكِمَ ما رَأَى، فَلَمْ يَكَدْ يُصَدِّقُ ما تُبْصِرُهُ عَيْناهُ، فَأسْرَعَ بِإسْدالِ السِّتْرِ عَلَيْها، وصَرَخَ فِي الْحالِ قَائِلًا: «أَيُّ حَيَوانٍ فَظِيعٍ هذا الَّذِي تَحْمِلُهُ إلَيَّ؟ أتُرَى عَرُوسِي لا تُحِبُّ أنْ تَتَسَلَّى بِغَيْرِ هذا الْمَخْلُوقِ الْعَجِيبِ؟»

فَقالَ لَهُ الْحَمَّالُ: «كَلَّا، يا سَيِّدِي. لَيْسَتْ هذِهِ لُعْبَةً لِعَرُوسِكَ — كَما تَخَيَّلْتَ — بَلْ هِيَ عَرُوسُكَ نَفْسُها، هِيَ بِنْتُ «الصَّبَّاغِ»، هِيَ «عِفْرِيْتُ النَّهارِ»، ولَيْسَ لِلصَّبَّاغِ بِنْتٌ سِواها.»

figure

فَصاحَ «الْمُرَامِقُ» مُتَألِّمًا: «يا للهِ، وكَيْفَ يَخْطُرُ بِالْبالِ أنْ يَتَزَوَّجَ أحَدٌ مِثْلَ هذا الْحَيَوانِ الْبَشِعِ، الَّذِي جَمَعَ مِنْ فُنُونِ التَّشْوِيهِ وَصُنُوفِ الدَّمامَةِ ما لا يَدُورُ بِخاطِرِ إنْسانٍ.»

(١٤) والِدُ الْعَرُوسِ

وكانَ «الصَّبَّاغُ» واثِقًا مِنْ دَهْشَةِ «الْمُرَامِقِ» وَنُفُورِهِ (أَيْ: تَجافِيهِ وَتَبَاعُدِهِ) وَفَزَعِهِ، مَتَى رَأَى عَرُوسَهُ رَأْيَ الْعَيْنِ، فَأقْبَلَ «الصَّبَّاغُ» فِي أثَرِ «عِفْرِيتِ النَّهارِ». وَلَمْ يَكَدِ «الْمُرَامِقُ» يَرَى صِهْرَهُ حَتَّى ثارَ ثَائِرُهُ (أَيِ: اشْتَدَّ غَضَبُهُ)، وَقالَ لَهُ وَهُوَ يَكادُ يَنْشَقُّ مِنَ الْغَيْظِ: «كَيْفَ تَخْدَعُنِي أيُّها الشَّقِيُّ وَتَسْتَهِينُ بِغَضَبِي؟ وَكَيْفَ سَوَّلَتْ (أَيْ: زَيَّنَتْ) لَكَ نَفْسُك أَنْ تَبْعَثَ إلَيَّ بِهذا الْحَيَوانِ الْفَظِيعِ ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّهُ ابْنَتُكَ؟ أَمَا وَاللهِ لَئِنْ أصْرَرْتَ (أَيْ: أقَمْتَ وَدُمْتَ) عَلَى عِنَادِكَ وَخُبْثِكَ وَلَمْ تَبْعَثْ إلَيَّ بِابْنَتِكَ الْحَسْنَاءِ الَّتِي رأيْتُها فِي هَذَا الصَّباحِ لَأُعَذِّبَنَّكَ أشَدَّ الْعَذابِ، وَلَأُذِيقَنَّكَ مِنْ أَلْوانِ الشَّقاءِ وَالتَّبْرِيح ما لا قِبَلَ لِأَحَدٍ بِاحْتِمالِهِ.»

فَقالَ لَهُ «الصَّباغُ»: «أتَوَسَّلُ إلَيْكَ — يا مَوْلايَ — أَنْ تُخَفِّفَ مِنْ غَضَبِكَ عَلَيَّ، فَلَيْسَ لِي بِنْتٌ غَيْرُ هذِهِ الشَّوْهاءِ الَّتِي تَرَاها. وَقَدْ أقْسَمْتُ لَكَ — مِنْ قَبْلُ — جَهْدَ أيْمانِي: إنَّ ابْنَتِي غايَةٌ فِي الدَّمامَةِ، وَآيَةٌ فِي الْقَبَاحَةِ، فَلَمْ تَسْمَعْ إلَيّ، وَأَبَيْتَ إلَّا الزَّواجَ بِها؛ فَأَيُّ لَوْمٍ عَلَيَّ فِي ذلِكَ؟ وتَقُولُ يا سَيِّدِي: إنَّ ابْنَتِي حَضَرَتْ إلَيْكَ فِي هذا الصَّباحِ، فَكَيْفَ كانَ ذلِكَ؟ كَيْفَ حَضَرَتْ إلَيْكَ وَهِيَ — كَما تَرَى — مُقْعَدَةٌ لا تَسْتَطِيعُ السَّيْرَ؟»

(١٥) عَوْدَةُ الْعَرُوسِ

وَلَمَّا سَمِعَ «الْمُرَامِقُ» كَلامَ «الصَّبَّاغِ» أدْرَكَ نَئِيشًا (أَيْ: بَعْدَ فَواتِ الْوَقْتِ) أنَّ فِي الْأَمْرِ سِرًّا خَفِيًّا، وَعَرَفَ أَنَّ بَعْضَ خُصُومِهِ قَدِ ائْتَمَرَ بِهِ، فَلَمْ يَرَ حِيلَةً أبْلَغَ مِنْ هذِهِ لِلانْتِقامِ مِنْهُ، فأَطْرَقَ بِرَأْسِهِ مَلِيًّا، وَقَدْ كادَ الْغَيْظُ يَقْتُلُهُ، ثُم قالَ لِلصَّبَّاغِ: «لَقَدْ نَفَذَ قَضاءُ اللهِ، وَلا حِيلَةَ لِأَحَدٍ فِي رَدِّ الْقَضاءِ، وَدَفْع الْبَلاءِ، فارْجِعْ بِبِنْتِكَ إلَى بَيْتِكَ، وحَسْبُكَ ما ظَفِرْتَ بِهِ مِنَ غُنْمٍ، وما ألْحَقْتَهُ بِي مِنْ غُرْمٍ.»

فَلَمْ يَنْبُسِ «الصَّبَّاغُ» بِبِنْتِ شَفَةٍ (أَيْ: لَمْ يَنْطِقْ بِكَلِمَةٍ)، وانْصَرَفَ وَمَعَهُ الْحَمَّالُ يَحْمِلُ ابْنَتَهُ «عِفْرِيتَ النَّهارِ» إلَى بَيْتِهِ.

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤