خاتمة القصة

(١) بَيْنَ يَدَيِ الْخَلِيفَةِ

وسُرْعانَ ما ذاعَتْ قِصَّةُ «عِفْرِيتِ النَّهارِ» فِي مَدِينَةِ «بَغْدَادَ»، وظَلَّتْ رَدْحًا مِنَ الزَّمَنِ فُكاهَةَ النَّاسِ فِي أحَادِيثِهمْ وأسْمَارِهِمْ. وَقَدْ فَرِحَ الْأهْلُونَ بِما أَصابَ الْحاكِمَ الَّذِي عَمَّ شَرُّهُ وَأَذاهُ كُلَّ مَنْ أَوْقَعَهُ سُوءُ الْحَظِّ فِي شِرَاكِهِ.

•••

ومَا زالَتْ قِصَّةُ «بِنْتِ الصَّبَّاغِ» تَنْتَقِلُ مِنْ مَكانٍ إلَى مَكانٍ، حَتَّى سَما خَبَرُها إلَى الْخَلِيفَةِ، فَدَهِشَ لَها، وَأُعْجِبَ بِما فِيها مِنْ لُطْفِ الْحِيلَةِ، وَبَرَاعَةِ الْوَسِيلَةِ. وَقَدْ كَشَفَتْ لَهُ تِلْكَ الْقِصَّةُ ما كانَ مَسْتُورًا عَنْهُ مِنْ أخْلاقِ «الْمُرامِقِ»، وَأزاحَتْ لَهُ السِّتْرَ عَمَّا كانَ يُخْفِيهِ مِنْ ذَمِيمِ الْخِلالِ (أَيْ: قَبِيحِ الصِّفاتِ)، فَعَرَفَ عَنْهُ ما لَمْ يَكُنْ لِيَخْطُرَ لَهُ عَلَى بالٍ. وَما عَتَّمَ الْخَلِيفَةُ (أَيْ: لَمْ يَلْبَثْ) أنْ أمَرَ بِاسْتِدْعاءِ الْأَمِيرِ «فَضْلِ اللهِ» إلَيْهِ. وَقَدْ سَمِعَ مِنْهُ قِصَّتَهُ كُلَّها، وَحَزِنَ لِما لَقِيَهُ مِنْ جُهْدٍ وعَنَتٍ (وَالْعَنَتُ: الْوُقُوعُ فِي أمْرٍ شاقٍّ).

(٢) عِتَابُ الْخَلِيفَةِ

ثُمَّ قالَ لَهُ الْخَلِيفَةُ: «أعْزِزْ عَلَيَّ ما لَقِيتَ — يا ابْنَ أَخِي — مِنْ شَقاءٍ وَبَلاءٍ! وَلَيْسَ لِأَحَدٍ حِيلَةٌ فِي رَدِّ ما فَاتَ، عَلَى أنَّنِي لا أكْتُمُكَ ما فِي نَفْسِي مِنْ عَتْبٍ عَلَيْكَ، لِتَهاوُنِكَ فِي أمْرِكَ، وَتَقْصِيرِكَ فِي لِقَائِي، فَقَدْ كانَ أوَّلَ واجِبٍ عَلَيْكَ — مُنْذُ حَللْتَ «بَغْدادَ» — أَنْ تُزُورَنِي لِتُهَيِّئَ لِي الْفُرْصَةَ لِتَكْرِيمِكَ وَالْحَفاوَةِ بِكَ. ولَسْتُ أدْرِي: كَيْفَ يَخْجَلُ مِثْلُكَ مِمَّا يَرْتَدِيهِ مِنْ أسْمالٍ بَالِيَةٍ؟

وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْمَرْءَ لا يُكْرَمُ لِمالِهِ وثِيابِهِ. وَهَلْ حَسِبْتَ أنَّ فِي اسْتِطَاعَةِ أَحَدٍ — كائِنًا مَنْ كانَ — أَنْ يَدْفَعَ الْمَقْدُورَ؟ وَما أدْرِي: كَيْفَ غَابَ عَنْ فِطْنَتِكَ وَذَكائِكَ ما بَيْنِي وبَيْنَ أَبِيكَ مِنْ صِلاتِ الْمَوَدَّةِ والْإخَاءِ؟»

•••

فَشَكَرَ الْأَمِيرُ «فَضْلُ اللهِ» لِلْخَلِيفَةِ فَضْلَهُ وحُسْنَ الْتِفَاتِهِ وكَرَمَ وِفادَتِهِ. ودَعا لَهُ بِطُولِ الْعُمْرِ وراحَةِ الْبالِ. وأنْساهُ ما غَمَرَهُ بِهِ مِنْ رِعايَتِهِ كُلَّ ما لَقِيَهُ مِنَ الْمَصَائِبِ والْأحْدَاثِ فِي رِحْلَتِهِ. ثُمَّ بَعَثَ إلَيْهِ الْخَلِيفَةُ بِفَيْضٍ (أَيْ: كَثِيرٍ) مِنَ الْهَدايا والنَّفائِسِ.

(٣) إنْصافُ «الْمُوَفَّقِ»

وَعَرَفَ الْخَلِيفَةُ للسَّيِّدِ «الْمُوَفَّقِ» فَضْلَهُ الَّذِي أَوْغَرَ صَدْرَ خَصْمِهِ (أَيْ: مَلَأَهُ غَيْظًا)، وَأغْرَاهُ بِالْكَيْدِ لَهُ، واخْتِلاقِ الْأَكاذِيبِ عَلَيْهِ، فاسْتَدْعاهُ إلَيْهِ، وأَدْناهُ مِنْ مَجْلِسِهِ، وَرَفَعَهُ إلَى أَعلَى مَنْصِبٍ، وَأصْبَحَ لَهُ — مُنْذُ ذلِكَ الْيَوْمِ — نَدِيمَهُ ومُدَبِّرَهُ وَسَمِيرَهُ.

(٤) جَزاءُ «الْمُرامِقِ»

وفَكَّرَ الْخَلِيفَةُ مَلِيًّا (أَيْ: وَقْتًا طَوِيلًا) فِي أمْرِ ذلِكَ الْحَاكِمِ الدَّسَّاسِ، فَكانَ أوَّلَ ما بَدَأَ بِهِ عَزْلُهُ. ثُمَّ اجْتَمَعَ رَأْيُهُ عَلَى أَنْ يُعاقِبَهُ عِقابًا لَمْ يُعَاقَبْ بِمِثْلِهِ أحَدٌ، فَلَمْ يَرَ أبْلَغَ — فِي إيذَائِهِ والنِّكايَةِ بِهِ وتَنْغِيصِ عَيْشِهِ — مِنَ الْبَقاءِ طُولَ حَياتِهِ مَعَ عَرُوسِهِ الْمُخْتَارَةِ: «عِفْرِيتِ النَّهارِ».

(٥) عاقِبَةُ الْإِساءَةِ

وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُرَامِقِ — حِينَئِذٍ — بُدٌّ (أَيْ: مَفَرٌّ) مِنْ طاعَةِ الْخَلِيفَةِ، فَقَضَى حَياتَهُ كُلَّها مَعَ «بِنْتِ الصَّبَّاغِ» مُعَذَّبًا مُنَغَّصًا (أَيْ: مُكَدَّرًا)، دُونَ أَنْ يَجْرُؤَ عَلَى مُفارَقَتِها والْخَلاصِ مِنْها.

وَكانَ ذلِكَ — وَحْدَهُ — أبْلَغَ انْتِقَامٍ وَقَعَ عَلَيْهِ، وَأقْسَى عِقابٍ حَلَّ بِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤