الفصل الخامس

هيام نابوليون بجوزفين

على أنه إذا كان نابوليون لم يُغيِّر سلوكه مع أهله بعد ذاك الفوز الباهر فإنَّ منصبه كان يضطره إلى الظُّهور في مظهر الأبهة في المجالس، فكنتَ تراه يدخل الردهات دخول الظافر المعتز لا دخول الجنرال الوضيع المعوز كما رأيناه، وكان بحكم منصبه يُقابل كثيرًا أعضاء الحكومة، فيكرمون وفادته ويلقبونه تحبُّبًا ﺑ «جنرالنا الصغير».

ولم ينقطع الجنرال نابوليون عن زيارة «صالون» السيدة تاليان وهناك كان يجد نُخبة من السيدات والرجال، وهناك عرف جوزفين دي بومارشيه وعشقها أشد عشق. قال مارمون: «إنَّ هذا أول عشق دَاخَلَ قلب نابوليون على ما يظهر، وكان عمر نابوليون لا يزيد حينئذٍ عن سبع وعشرين سنة وعُمر جوزفين يبلغ اثنتين وثلاثين، على أنَّ فقدها لنضارة الشباب لم يحل دون تملكها لقلبه»، والظاهر من أقوال أُخرى أن مارمون جَارَ على جوزفين في حكمه؛ لأنها لم تكُن محرومة من نضارة الشباب بالقدر الذي يدلُّ عليه كلام مارمون، وإذا كان جمالها لا يُضارع جمال مدام تاليان، فإنه كان كافيًا لاجتذاب قلب لم يعرف الغرام كقلب نابوليون.

ولقد وصف المؤرخون جوزفين بأنها كانت متوسطة القامة، متناسبة الأعضاء، ليِّنة المعاطف، قليلة التكلف في حركاتها وسكناتها، حنطية اللون، ذات عينين شديدتي الزرقة وحاجبين مرتفعين بعض الارتفاع، وكانت ملابسها على الغالب من الحرير الهندي الرقيق.

وزعم بعض أولئك المؤرخين — الذين اشتهروا بالتحامل على أسد أوسترليتز — أنه كان يرمي في حبه لجوزفين إلى غرض واحد هو الحصول على منصب القيادة العامة لجيش إيطاليا، ولكن الآخرين يُؤكدون أنَّه أحبها حبًّا أكيدًا شديدًا، وأنَّ فكرة الزواج كانت مُلازمة له منذ سنة ١٧٩٤؛ بدليل قوله عن أخيه جُوزيف بعد زواجه: «إنَّ جُوزيف لسعيد»، وبدليل سعيه للاقتران بدزيريه كلاري أخت زوجته، وبدليل رغبته في الاقتران بجوزفين التي كان لها ولدان.

فليس بعجيب بعد أن رفضته دزيريه أن يتزوج أول امرأة يحبها وتمد يدها إليه، وكانت جوزفين دي بومارشيه التي أوقعت على نفسها الشُّبهات بشدة امتزاجها مع مدام تاليان، واسترسلت إلى اللهو والصفاء بعد وفاة زوجها، تحتاج إلى الاعتماد على قرين يُرجى له مستقبل جميل، وكل من اطَّلع على ما كتبته يعلم أنها كانت أشد رغبة من نابوليون في الاقتران به، وإليك ما كتبته إليه في ٢٨ أكتوبر سنة ١٧٩٥: «إنك انقطعت عن زيارة صديقة تحبك، وأهملتها إهمالًا تامًا، فأنت مُخطئ في عملك؛ لأنَّ قلبها مُتعلق بك… فتعال غدًا لتناول الغداء معي، فإني في حاجة إلى رؤيتك ومحادثتك فيما يختصُّ بمصلحتك … أُقبلك أيها الصديق …»

فإذا نظرنا إلى هذا الكتاب بعين الناقد المُنصف ظهر لنا منه أمران؛ أولهما: أنَّ نابوليون مع حبه لجوزفين لم يكن يُوالي الزيارات لها خوفًا من إزعاجها. والثاني: أنه لم يكن يستخدمها لتأييد مصلحته الخاصة كما اتُّهم، بل أن جوزفين هي التي كانت تتوسل بجُملة وسائل لتستميله إليها، ومن جُملة وسائلها التحدُّث عن مصلحته ومستقبله.

وليس بصحيح أنَّها كانت رفيقة باراس مع مدام تاليان، فإنها لم تكُن على رواية المحققين إلا صديقة لمدام تاليان عشيقة باراس، ومما لا ريب فيه أنها لو كانت كما زعموا لقذفت بها مدام تاليان من مجلسها، ولما احتملت منها تلك الخيانة، وكل ما يمكن تصديقه هو أنَّ جوزفين لمَّا صارت خطيبة للجنرال نابوليون التمست توسط مدام تاليان لدى باراس ليُساعد على تعيين نابوليون قائدًا عامًّا لجيش إيطاليا، وليس هذا بغريب من خطيبة ترجو تحسين سُمعتها وإعلاء منزلتها وتأييد مصلحتها بارتقاء خطيبها، ولا سيما أنَّ جوزفين كما ظهر واشتهر بعد حين لم تندفع بعامل الحب إلى ذاك الاقتران، وإليك ما كتبته إلى إحدى صديقاتها:

إنك رأيت عندي الجنرال بونابارت، فهذا الجنرال أراد أن يكون أبًا لليتيمين اللذين تركهما ألكسندر دي بومارشيه وزوجًا لأرملته، ولعلك تسألينني: «أأنت تحبينه؟» فأقول: «كلا»، ولكني لا أرى ما ينفرني منه …

على أنَّ نابوليون نفسه كان يتعالى عن الدسائس ويعتمد على سيفه قبل كل شيء، بدليل ما قالته جوزفين نفسها في كتاب، وهو أنَّ «باراس أكدَّ لي أني إذا اقترنت بالجنرال نابوليون أناله القيادة العامة لجيش إيطاليا»، فحادثت نابوليون في شأن هذا المنصب الذي ساء رفاقه قبل وصوله إليه، فقال لي: «أيظنون أني أحتاج إلى الحماية؟ إنهم إذا حصلوا على حمايتي لهم كانوا من السعداء، وما دام سيفي معي فإني أرتقي به إلى أسمى المناصب …»

ولكن تلك الأنفة عند نابوليون لا تنفي أنَّ جوزفين صاحبة السلطان على قلبه كانت تستطيع أن تُجبره على التسليم بإرادتها، والمعروف أنها كانت تُريد توسط باراس وتسعى إليه في بيت حبيبته، وإذا أراد القارئ أن يعرف مبلغ الحب الذي تمكن من قلب نابوليون بعد خطبة جوزفين فليقرأ كتبه إليها، فقد كتب إليها على أثر سهرة: «إنِّي أستيقظ ولا أرى أمامي غيرك، فإن صورتك والسهرة المُسكرة التي قضيناها أمس لم تُبقيا لحواسي شيئًا من الراحة، فما هذا التأثير الغريب الذي أحدثته في قلبي يا جوزفين، يا عزيزة المثال … إني إذا رأيتك مكدرة الصفاء أو حزينة القلب أو قلقة الفكر تَفَطَّر فُؤادي وفقدتُ الرَّاحة»، ثم ختم بقوله: «أعطني ألف قبلة، لا بل امنعيها عنِّي فإنها تحرق دمي في عروقي …»

حسبك ما تقدم لتعلم أنَّ نابوليون كان يحب جوزفين حبًّا حارًّا، وقد استمرَّ حبه لها زمنا طويلًا بعد بلوغه ذروة المجد وإحرازه النصر الباهر، وهذا يدلُّ دلالة دامغة على خطأ بعض المُؤرخين الذين زعموا أنَّ نابوليون إنما أحب تلك المرأة مُتَصنِّعًا وراميًا إلى غرضٍ مادي، في حين أنَّه كان يحبها حبًّا خالصًا وشديدًا إلى حدٍّ منعه من درس حقيقة الحب الذي تظاهرت به جوزفين، ولم يدرك أنها اتخذته واسطة لبلوغ غرضها — أي الوصول إلى مركز في المجتمع — إلا بعد زمن.

أما الوقت الذي بدأ فيه نابوليون يتحبَّب إلى جوزفين ويجتمع بها على نية الزواج، فهو على ما يظهر شهر نوفمبر سنة ١٧٩٥، وكانت جوزفين تقيم حينئذٍ في شارع الكلية مع عمتها فاني دي بومارشيه، التي قال فيها أحد الشعراء ما معناه: «إنَّ فاني جميلة وشاعرة، ولكن فيها عيبين؛ الأول أن وجهها مصطنع، والثاني أنها لا تنظم شعرها …»

على أنَّ نابوليون لم يخطب جوزفين خطبة رسمية إلا سنة ١٧٩٦، ولم يَكُن يُكثر من الزيارات لها قبل هذا الميعاد؛ لأن الحكومة الفرنسوية «حكومة الديركتوار» فوَّضت إليه أن يضع خطة الحرب الإيطالية، فاستغرقت مع أعماله الأخرى معظم وقته، وبعد أن عُقدت الخطبة بينهما انتقلت جوزفين إلى منزل نمرة ٦ في شارع شانترين بالعاصمة، وهو المنزل الصغير الجميل الذي اشتراه لها نابوليون بمبلغ ٥٠٤٠٠ فرنك.

وكان نابوليون يزور الأحباء والأصدقاء مع خطيبته، وقيل إن جوزفين أظهرت شيئًا من التردد بعد الخطبة، بدليل أنها كانت يومًا مع نابوليون مارَّة أمام منزل مُستشارها الموسيو راجيدو أحد موثقي العقود، فدخلت منزله وسألت خطيبها أن يبقى خارج غرفة هذا الرجل، ولما خلت به استشارته لآخر مرة في مسألة اقترانها بنابوليون، فقال لها: «ماذا تفعلين؟ أتقترنين بجنرال لا يملك إلا السيف والعباءة العسكرية … بجنرال صغير ليس له اسم ولا مُستقبل … بجنرال هو دون سائر قواد الجمهورية! إنه لخير لك أن تتزوجي أحد المتعهدين بتقديم البضائع والحاجيات من أن تعقدي مثل هذا القران.»

figure
حفلة زواج نابوليون وجوزفين.

وكان نابوليون في تلك الساعة يُنصت وراء الباب المفتوح قليلًا، فسمع حديث الموسيو راجيدو، ولكنه كظم غيظه وأضمر استياءه ولم ينبس ببنت شفة، وبعد مضي ثماني سنوات انتقم لنفسه بأن دعا راجيدو إلى حفلة القران التي أُقيمت في قصر التويلري ليرى ذاك «الجنرال الذي ليس له اسم ولا مستقبل.»

وكان اقتران نابوليون بجوزفين في ٩ مارس من سنة ١٧٩٦، ومما يُذكر أن جوزفين نقصت من عمرها يوم كتابة عقد الزواج أربع سنوات، ونابوليون زاد على عمره سنة واحدة مراعاةً لعواطفها، وكان شاهدا جُوزفين باراس وتاليين، وشاهدا نابوليون ياوره ماروا والمسيو كالميلي أحد رجال القضاء، وبعد التوقيع على السجل الرسمي أمام المسيو لكليرك مُسَجِّل الأحوال الشخصية في القسم الثاني من العاصمة، ذهب نابوليون وعروسه إلى منزلهما في شارع شانتيرين حيث ابتدأ شهر العسل رسميًّا، أمَّا ولدا جوزفين أوجين وهورتنس فقد أُرسِلا إلى سان جرمين.

وقبل زواج نابوليون باثني عشر يومًا صدر الأمر بتعيينه قائدًا عامًّا لجيش إيطاليا، فأخذت الألسن اللاذعة تقول: «إنَّ باراس جعل القيادة العامة مهرًا لجوزفين.» ونقل بعض المؤرخين هذا القول الجارح على علاته، ولكن الذين رمقوا نابوليون بعين الإنصاف يرون أن باراس مع رغبته في إرضاء حبيبته السيدة تاليان — التي التمست جوزفين توسطها — لم يكن من السهل عليه أن يجعل القيادة العامة في جيش إيطاليا — تلك القيادة التي كانت المصلحة الوطنية العظمى منوطة بها — هدية زواج أو ينقلها من يد إلى يد على ذاك النمط من الخفة والطيش.

وزد على هذا كُلِّه أن باراس مع نفوذه ومقدرته على إغداق نعم كثيرة لم يكن قادرًا على التصرف وحده بأمر تلك القيادة؛ لأن القائد العام لم يكن يُعَيَّن إلا باتفاق آراء الغالبية في مجلس «الديركتوار»، وهو كان مُؤَلَّفًا من كارنو وباراس ورفيليير ليبو وريبل ولتورنور، وإذا رجعنا إلى مُذَكِّرات رفيليير ليبو — الذي اشتهر بتحامله على نابوليون — رأيناه يُؤَكِّدُ فيها إن «الديركتوار كان حُرًّا في اختياره لنابوليون؛ فهو لم يتأثر بشيءٍ لا من باراس ولا من أحد آخر …»

والواقع أن مجرى الحوادث هو الذي أفضى بالقيادة العامة إلى يد نابوليون، وتحرير الأمر أن نابوليون وضع خطة حربية لاكتساح أنحاء البيامون منذ ١٩ يناير من تلك السنة ورفعها إلى الحكومة، فأرسلتها إلى الجنرال شارير — وكان وقتئذٍ قائدًا عامًّا — فما اطلع عليها حتى أعادها إلى الحكومة وقال لها في كتاب: «إن الذي وضع هذه الخطة رجل مجنون، ومن يتصور خطة مثلها يجب عليه أن يأتي لتنفيذها»، بيد أنَّ كارنو أحد أعضاء الحكومة أدرك سرَّ الخطة وأيَّد نابوليون وتمكَّن من استمالة الغالبية إلى رأيه، وفي ١١ مارس من سنة ١٧٩٦ — أي بعد الزواج بيومين فقط — سافر نابوليون إلى مُعسكر الجيش الإيطالي وقلبه يتلفت نحو زوجه المحبوبة، وهناك كان استهلال الأعمال الحربية العجيبة التي استمرت نحوًا من عشرين سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤