الفصل الرابع عشر

كان لا بدَّ من تخديرٍ مسرحيٍّ حَمْلًا للشعب على دوام الإيمان بطبيعة فرعونَ الإلهية، وكان لا بدَّ من حروبٍ تتمُّ بنصرٍ عزيز، أو كان لا بدَّ من إقامة أعيادٍ كثيرة في أثناء السنة يُعِينُ عليها الكُهَّان حتى يَبْدُوَ فرعونُ مُغْرِيًا، وكان ملوكُ الدولة القديمة يطوفون فرسانًا مُزَيَّنِين بأذناب أُسدٍ بَهْرًا للناس.

وكان الجمهور المبهوتُ يُبْصِر في طيبة — وعلى طول شارع تماثيل أبي الهول — مرورَ مَوْكِبٍ من الأسرَى والكَهَنَة والمُشَعْوِذِين وأنواعِ الحيوان، ثم يَظْهَر مَحمِلٌ على أكتاف اثنيْ عشَرَ جنديًّا، ويَحُفُّ من حَوْلِ هؤلاء الجنود حَمَلَة مَذَابَّ١ ويتقدم المَحمِلَ عُدَاةٌ٢ يَدْحَرُون الحضورَ بالعِصِيِّ فيزيدون بذلك حُبَّ الاطلاع فيهم! ويَجْلِس فرعونُ في المَحْمِل صاحبًا لحيةً حادَّةً مستعارةً، وواضعًا على رأسه تاجًا مُزَيَّنًا بصِلٍّ٣ ذهبيٍّ منتصب أمام أعدائه، ويعلو الصِّلَّ تاجٌ مزدوجٌ رمزًا إلى مصرَ العليا ومصرَ الدنيا، ويَحمِل بيده صَوْلَجَانًا وسَوْطًا فيَقُوم هذان الرمزان في الوقت نفسه مقام المِذَبَّة عند هذا المصريِّ العمليِّ، ثم تأتي مَحَامِلُ النساء والأميرات وعَرَبَاتُهن وتأتي بِطانةٌ كما في الناي السِّحْرِيِّ.٤
وكانت السفينة الملكية الكبرى تَسِير على النيل مع شِراعها العظيم الذي يُمْسِكُه بالسارية الكبرى حبلٌ متينٌ فيستقرُّ فرعونُ تحته أمام حُجَيْرَتِه، ويَفْسَح الجُذَّافُ في المجال للحُجَيْرَات والحاشية والماشية فيَصْطَفُّون حَولَ حَيْزُوم السفينة.٥

وكان الوهم يُجَدَّدُ في كل عيد، وكانت تُنْصَب على جُدُر جميع المعابد صُوَرٌ عظيمة لفرعونَ وهو يَسْحَق أعداءه، وإذا ما مَلَكَت القومَ مَلِكةٌ بَجَّلَت نفسها بمثل صورة الإله في جميع الأمور الرَّبَّانية.

وهل كان كثيرٌ من المصريين يعتقدون ألوهيةَ من يَملِكونهم؟ كان القومُ البُسَطَاء بعضَ البَسَاطة في الدولة القديمة يُمَجِّدون — مثل إلهٍ — فرعونَ الجوَّالَ بينهم، الظاهرَ لجميعهم، الموزِّعَ للأجر والعقاب بينهم، ويَنهض مبكِّرًا فيطوف راكبًا حصانًا ويزور المقالعَ ويأمُرُ بحَفْر القَنَوَات، ويأكلُ وينام كسائر الناس ويخاطِر بحياته في المعارك، ويُعَدُّ خالدًا مع ذلك لأنه هوروس وإن كان يَعبُد الإله هوروس.

ويمرُّ الزمن، ويبلغ النظام المدني والدينيُّ من التعقيد، ويغدو المعنى الاجتماعي من النموِّ لدى الشعب، ما يَرَى فرعونُ بلا انقطاعٍ أن يوكِّد معه اكتراثَه ورحمتَه وتَبِعَتَهُ تِجاه الشعب وإخلاصَه نَحْوَ الدولة، وعاد فرعونُ لا يَفرِض نفسه على الجميع مثلَ إلهٍ لا يَصِلُ إليه سلطانُ النقد، بل أخذ يبدو مثلَ مَلِكٍ كريمٍ يوم فَيَضَان النيل — في العام الجديد — فيوزِّع العرباتِ الفضيةَ ويوزِّع تمثالَه العاجيَّ وتماثيلَ لأبي الهول على صورته وعُدَدَ أسلحةٍ وجِعَابًا٦ وسيوفًا ومَرَايَا من المعادن الثمينة، ومن النادر أن كان يُوقِدُ نارَ الحرب.
وليس التاريخُ من عَمَل الحرب في تلك الواحة، وما كان ذلك الوادي العجيبُ الواقعُ بين صحراويْن والعاطلُ من المَطَر والجارِ ليَحُضَّ على الفتوح أو ليَبتليَ الفاتحين، وكان لا مناصَ من البحث عن الذهب. أجل، كان كثيرٌ من الأدواتِ يَرِدُ إلى الدِّلتا بواسطة شعوب سورية. ولكن التجارةَ في قرونٍ كثيرةٍ ظلَّت وسيلةَ صلاتٍ بين مصر وآسيةَ الصغرى وشرقِ أفريقية، ولم تُعَانِ مصرُ سلطانَ الأجنبيِّ غير ثلاثمائة سنة من ٢٧٠٠ سنة، ولم يحتلَّ الإثيوبيون والليبيون مصرَ إلا جزئيًّا ولوقتٍ قصير، ولم يَبْقَ من الهِكسُوس،٧ الذين مَكَثُوا بمصرَ قرنًا فكان أمرُ عِرْقِهِم موضعَ جدلٍ بين العلماء، غيرُ رأيهم في قَرْنِ الخيلِ بالعَرَبَات الحربية وغيرُ أُحدُوثتهم المسلية القائلةِ: إن أحد ملوكهم الساكنَ في الدلتا طَلَبَ من أمير طيبة أن يذبح ما كان في النيل من بقر الماء لعدم نومه بسبب خواره.
figure
قرية على شاطئ النيل.

ولم يبق أثرٌ للعروق الثلاثة أو الأربعة التي غزت البلاد، ولم تنل مصر فائدةً من الفتوح التي قامت بها، ولم يأت المحاربون العظماء توتموزيس الثالث وأمنوفيس الثاني وسيتوس الأول بشيءٍ في سبيل مجد مصر، ولا يعرف المؤرخ غير خبر مآثرهم؛ أي أنهم بلغوا الفرات والنيل الأبيض، بيد أن العالم ينظر بعين الإعجاب إلى أعمدة معابد رمسيس الثاني الذي لم يقم في عهده؛ أي في سبعٍ وستين سنةً، بأي فتحٍ، والذي ترك شمال سورية للحيثيين كسبًا لصداقتهم، وما كانت الواحات لتسفر عن محاربين، وكان أحسن الجنود لدى أصحاب هذه الواحات من النوبيين وأسرى الآسيويين الذين يذهبون إلى الحرب غير آسفين على النيل غير مفكرين فيه.

ويعبر أستاذٌ٨ في تاريخٍ شعبيٍّ، في ضربٍ من الشعر المدرسيِّ، عن الرأي السائر حولَ الجنديِّ كما يأتي:

أَوَ تَظُنُّ أن نصيبَه أفضلُ من نصيب الكاتب؟ هو يُؤْخَذ في صِباه ويُحْتَبَس في ثُكْنَة، ويُضْرَب على بطنه وعلى حاجبه فيبدو كأنه كَسِير الرأس، ثم يُخْبَط كما يُخْبَط البرديُّ. وهل أقصُّ عليك نبأَ زحفِه إلى سورية؟ هو يُحَمَّل خُبْزًا وماءً كالحمار فيَظْهَر أحدبَ الظهرش، ثم لا يكون عنده غيرُ ماءٍ نَتِن، ثم يَلُوحُ العدو فيقع أسيرًا كالعصفور لتصلُّب أعضائه، وإذا ما قُيِّضَ له أن يعود إلى بلده كان كالخشب النَّخِر، وأُعِيدَ على حمار، وقد سُرِقَت ثيابُه منذ زمنٍ طويل لرحيل خادمه، فغيِّر رأيَك أيها الكاتب إنِّينه وقل إذن: إن نصيبَ الكاتب خيرٌ من نصيب الجنديِّ.

وفي أسطورةِ إلَهَةِ الحرب التي لها رأسُ اللَّبُؤة٩ سِيكْمِت تعبيرٌ عن كآبة فظاعة الحرب. فلما شابَ رَع أرسَلَها إلى الأرض لاستئصال أعدائه الناس، فانطلقت وغَمَرَت إحدى المدن بحَمَّامٍ من الدماء، فلما أبصر رَع ذلك وقتَ الصباح قال مذعورًا لخَدَمه: «أفضِّل حمايةَ البشر … فلتُغْمَر جميعُ الحقول بالمُسْكِر من السائل الأحمر.» وتعود الإلهة وتنظُر إلى خيالها في المائع وتَشرَب منه وتَسكَر فلا تَعرف الناس بعدئذٍ وتَدَعُهُم آمنين.
١  المذاب: جمع المذبة، وهي ما يُدْفَع به الذباب.
٢  العداة: جمع العادي، وهو الراكض.
٣  الصل: الحية الخبيثة جدًّا.
٤  الناي السحري: اسم رواية غنائية لموزار.
٥  حيزوم السفينة: مقدمها.
٦  الجعاب: جمع الجعبة، وهي كِنَانة النشاب.
٧  الملوك الرعاة.
٨  هو الأستاذ موره في كتاب النيل والحضارة المصرية Le Nil et La Civilisation Égyptienne.
٩  اللبؤة: أنثى الأسد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤